المصدر: الشؤون الأمنية والإستراتيجية
في أعقاب الهجمات التي وقعت الشهر الماضي في بيروت وبغداد وسيناء وباريس، وهذا الشهر في سان برناردينو، أخذ المعلقون يراجعون النقاشات التي جرت في وقت سابق من هذا العام حول ما إذا كان تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»/«الدولة الإسلامية») إسلامياً بالفعل، وفي هذه الحالة، ما الذي يجعله إسلامياً. تماماً كالأمس، نطرح اليوم الأسئلة الخاطئة. قد يكون ذلك نقاشاً نظرياً مثيراً للاهتمام، ولكنه غير مثمر لا على المستوى الأكاديمي ولا على المستوى الاستراتيجي. فنحن لن نتوصل قط إلى توافق حول هذه الأسئلة، وبالتالي إن محاولة الإجابة عليها لا تقربنا بأي شكل من الأشكال من فهم كيفية إنهاء هذه الظاهرة.
وإذا ما أردنا إيقاف تنظيم «داعش» – الذي نصب نفسه بنفسه كدولة إسلامية – من الاستمرار في التجنيد لصالح العنف، فإن السؤال الأفضل هو كيف يحوّل التنظيم مفاهيمه النظرية التي تعود إلى قرون مضت إلى تهديدات فعلية وراهنة؟
للإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نقر أولاً بأن تنظيم «الدولة الإسلامية» هو تنظيم سلفي. ترتكز السلفية على امتثال حصري لهذا اللاهوت السني الإسلامي الباكر. ثانياً، يجب أن نفهم الانقسام التاريخي للسلفية بين الجماعات العنفية واللاعنفية في القرن العشرين في ظل ظروف سياسية معينة. أخيراً، وربما بصورة أكثر إلحاحاً، يمكن أن نأخذ بعين الاعتبار العبر المستخلصة من هذا التاريخ لصالح التخطيط الاستراتيجي الذي نقوم به اليوم.
ونظراً لتشديد السلفيين – العنفيين وغير العنفيين على حد سواء – على إعادة تحديد الدين الإسلامي والممارسة الإسلامية، يصب معظم تركيزهم على إخوانهم المسلمين (الصوفيين، الشيعة، وحتى السنة غير السلفيين) من ناحية الترويج لما يعتبرونه تفسيرات «منحرفة» للدين.
إذاً لماذا يستخدم بعض السلفيين هذا النهج لمهاجمة الآخرين بعنف، بينما يقوم آخرون بذلك كلامياً فقط؟ هناك عامل نظري واحد فقط وراء هذا القرار: السبب الذي يدفع الآخرين، بنظر السلفيين المختلفين، إلى عدم تبني رؤيتهم العالمية. وبالنسبة إلى السلفيين اللاعنفيين، يعود ذلك إلى التضليل وسوء الفهم، إذ أن الآخرين لم يتعرفوا إلى آرائهم اللاهوتية. وهذا ما يعتبرونه «براءة نابعة من الإغفال». أما بالنسبة إلى السلفيين العنفيين، فيكمن السبب بالمقاومة المتعمدة لآرائهم، وهي بنظرهم شكل من أشكال الكفر، أي أنهم في قرارة نفسهم لا يؤمنون بعقيدة التوحيد. وهذا ما يعتبرونه «ذنب نابع من الاقتراف»، وبالتحديد اقتراف أخطر خطيئة في الدين، وهي انتهاك «وحدانية» الله.
إن هذا الانقسام قديم قدم الديانة بذاتها تقريباً، وقد شكّل مسألة أساسية وراء تطور اللاهوت الإسلامي الباكر. فمن جهة، كان هناك أحمد بن حنبل (المتوفي عام 855 ميلادية) والدائرة المحيطة به (أصحابها يُطلق عليهم “أهل الحديث”)، وهم يَعتبرون أن الإيمان بالدين يُمارس بواسطة «القلب واللسان والأعضاء». ومن جهة أخرى، تعتبر المدارس الفكرية الأكثر عقلانية أن هذا الإيمان بالدين يمارس فقط في القلب واللسان ولا ينبغي إثباته بأفعال الأعضاء.
لقد برز هذا النقاش في القرن العشرين كخط تصدع بين السلفيين العنفيين واللاعنفيين، الذين، وبخلاف السُنة الآخرين، يتماهون جميعهم ظاهرياً مع “أهل الحديث” في أيديولوجيتهم، ولكنهم عملياً خرجوا بخلاصات مختلفة حول التداعيات العملية لهذا اللاهوت. وقد سُجل الحدث الفاصل عام 1986، عندما وضع سفر الحوالي (مواليد 1950) اللمسات الأخيرة على أطروحته في “جامعة أم القرى” في المملكة العربية السعودية. ففي أطروحته، هاجم الحوالي – الذي، وبالرغم من أنه لم يكن من الجهاديين، اعتُبر لاحقاً حليفهم الفكري نوعاً ما – محمد ناصر الدين الألباني (المتوفي عام 1999) على خلفية اعتقاد هذا الأخير بأن عدم أداء الصلاة لا يدل على «الكفر»، بل يمكن أن ينتج عن الكسل أو الإفراط في النوم أو عن عامل غير عقائدي آخر. ووفقاً للحوالي، يدل إهمال المسلم للسلوك الإسلامي الصحيح على أنه لم يعد مسلماً. أما بالنسبة إلى الألباني، الذي أصبح لاحقاً «عميد» ما يُعرف بجماعة السلفية «السكينية» [أي التي تتبنى الهدوء واللافعالية السياسية] ، فإهمال المسلم لأداء الصلاة هو خطيئة ولكنه لا يجرده من صفة الإسلام.
وفي التسعينيات، تحولت هذه المواقف إلى جوهر نقاش جديد وأوسع حول مسألة التكفير. وعلى وجه التحديد، في أي ظروف يحق للمسلمين حرمان مسلمين آخرين من دين الإسلام، وبذلك تبرير ممارسة العنف بحقهم؟ من جهة، كان هناك السلفيون الذين يعتبرون، على غرار الحوالي، أن عدم أداء الصلاة وفقاً للأصول الإسلامية يجرد المسلم من هويته الإسلامية، وقد شكل هؤلاء النواة الفكرية للجهادية. وفي المقابل، كان هناك السلفيون السكينيون، وهم أبناء الألباني، الذين امتنعوا عن الربط بين الحاجة للتصرف وفق الأصول الإسلامية وأسباب عدم القيام بذلك.
https://www.youtube.com/watch?v=rAbxdtK2HCU
وأصبح ذلك مادة النقاش بين السلفيين العنفيين (أو الجهاديين) والسلفيين اللاعنفيين (السكينيين)، وكانت التسميات التي استخدموها لمهاجمة بعضهم البعض تكشف عن حساسيات كل من الجماعتين. ويمتنع جميع السلفيين السكينيين تقريباً عن الإشارة إلى الجهاديين بتسميتهم الأيديولوجية الملائمة «الجهاديون السلفيون»، ويستخدمون عوضاً عن ذلك عبارة «تكفيري» أو «متطرف»، في إشارة إلى تركيزهم الأوحد على استخدام التكفير كتبرير للسفك الغاشم للدماء. كما يعتبر السلفيون السكينيون أنهم أيضاً، يملكون مبدأي التكفير والجهاد، بيد أنهما مصانان في «منهجية»، أي أن هناك زمان ومكان لكل منهما. وتجدر الإشارة إلى أنه يتم الاستعانة بأسماء المذاهب الإسلامية الأولى بشكل شائع كتسميات لكل جماعة، إلا أنها تُستخدم من الناحية الاستراتيجية بشكل ازدرائي ولا تعكس، كما رأينا سابقاً، المواقف اللاهوتية الفعلية التي تعتمد عليها كل جماعة (وتتضمن الأمثلة على ذلك «الخوارج» للجهاديين و«المرجئين» للسلفيين السكينيين). بعبارة أخرى، يكمن تشبيه استخدامها باستخدام الغربيين العشوائي لعبارة «الفاشي» لوصف أي شكل من أشكال التعصب، بالرغم من استخدامها غير المراعي للتاريخ في كثير من الأحيان.
ولا يمكن إنكار الدور الهام الذي لعبته الظروف والضغوط السياسية فيما يتعلق بتوقيت هذه النقاشات الداخلية. وفي الواقع، لا بد من أن نتذكر في هذا الإطار أن السلفيين هم أناس أيضاً، وبالرغم من التزاماتهم الأيديولوجية، لا يجهلون الظروف السياسية المحيطة بهم، خصوصاً عندما تشكل هذه الأيديولوجية أساساً لأكبر تهديد إرهابي. فعندما عبّر الألباني عن موقفه السلفي المناهض للعنف خلال التسعينات في الأردن، كان حتماً مراعياً للظروف السياسية في هذا البلد المعتاد بشكل دائم على الاضطرابات السياسية. وقد طُرد الألباني نفسه من الأردن عام 1980 وجعل طلابه يتوسطون لصالحه لدى الملك حسين حتى وافق هذا الأخير على عودته إلى البلاد عام 1981.
وفي أعقاب أحداث 11 أيلول/سبتمبر، بات السلفيون الذين يدينون الجهاد بصراحة، يقومون بذلك سعياً وراء هدف واضح ألا وهو ضمان استمراريتهم.
ويتضح ذلك على سبيل المثال من خلال الجهات التي يستهدفونها في تصريحاتهم والتنازلات الأيديولوجية التي يقومون بها والتحالفات التي يشكلونها.
ففي الأردن، ينتقد طلاب الألباني صحافيين على خلفية ما يعتبرونه ربطاً غير دقيق لأيديولوجيتهم بالعنف.
وفي مصر، فبالنظر ربما إلى حملة القمع الواسعة النطاق التي يمارسها السيسي ضد الصحافيين، يستمر السلفيون في استنكار «الحملات الإعلامية» التي تطالهم والتي تشكل هاجسهم الأساسي.
وحتى أن السلفيين تنافسوا في الانتخابات في مصر، وهي خطوة تُعد انتهاكاً لإحدى قواعدهم الأساسية المتمثلة برفض المؤسسات الحديثة، إلا أنها تشكل بالنسبة إليهم آلية للصمود ضمن السياق الخاص بالسياسات المصرية في عهد السيسي. وفي الواقع، خلال العام الماضي، تمكن «حزب النور» السلفي في مصر من التعامل مع الاضطرابات السياسية في البلاد من خلال اعتبار نفسه حليفاً للدولة في مكافحة الإرهاب، بدلاً من الوقوف إلى جانب نظرائه السلفيين الموالين لمرسي في المطالبة بالإطاحة بالسيسي.
وباختصار، تبين هذه الأمثلة أن استمرارية الجماعات السلفية في ظل الظروف السياسية المحلية هي تعبيرات عن مهاراتها العملية بقدر ما هي تعبيرات عن التزاماتها الأيديولوجية.
ومع ذلك، فبما أنها تستخدم أيديولوجيتها في معظم الأحيان كتبرير للقرارات التي تتخذها، يمكن للمرء أن يستنتج أيضاً أنه، أسوةً بالانقسام الذي حصل بين السلفيين اللاعنفيين والسلفيين العنفيين في نهاية القرن الماضي، تُعتبر التداعيات العملية للأيديولوجية السلفية في القرن الحالي مشروطة بالسياقات المحلية بقدر ما هي مشروطة بمفاهيمها اللاهوتية الراسخة منذ أمد بعيد.
وبالعودة إلى السيناريو الحالي، فنظراً للتاريخ الحديث الذي يسلط الضوء على كيفية انقسام السلفيين بين عنفيين ولاعنفيين وتوقيته، هل هناك عبر يمكن استخلاصها فيما يتعلق بالاستراتيجية المتبعة لهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية»؟
إن الأيديولوجية السلفية – سواء لتنظيم «الدولة الإسلامية» أو للجماعات اللاعنفية – هي طائفية من الناحية اللاهوتية وحرفية من الناحية النصية.
وكما رأينا سابقاً، إن السؤال حول ما إذا كان هذا الواقع يؤدي إلى التحريض على العنف أم لا، لا يتعلق غالباً بالمفاهيم اللاهوتية التي يتم الترويج لها بقدر ما يتعلق بالزمان والمكان اللذين تُستخدم فيهما.
فخلال مرحلتها التأسيسية في القرن العشرين، كانت الضغوط التي دفعت ببعض الجماعات إلى إدانة العنف، ذات طبيعة مادية وليس أيديولوجية. وبالتالي، يكمن الأساس على ما يبدو في إلغاء الفرص السياسية لتطبيق الرؤية العالمية الطائفية للسلفيين.
ويعني ذلك عملياً أنه لا يمكن هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» من دون أن يتم التوضيح لمؤيديه أن رؤيتهم المجتمعية لا يمكن أن تتحول إلى صيحة حرب بأي شكل من الأشكال، ناهيك عن دولة قائمة.
وبالفعل، فبينما يدّعي التنظيم اكتساب مصداقيته انطلاقاً من عقيدته، تكمن جاذبيته الشعبية أساساً في قدرته على توفير الخدمات.
وبالتالي، إن الاستراتيجية المتبعة لوضع حد لانتشار أيديولوجية التنظيم ولنجاحاته من ناحية بناء الدولة يعتمد على قدرتنا على إعاقة مشروعه مادياً من خلال تكثيف الضغوط عليه وفي الوقت نفسه إعادة بناء المؤسسات الفاعلة المعنية بالحوكمة وإنفاذ القانون وتوفير الأمن لجميع المواطنين.
بقلم يعقوب أوليدورت هو زميل “سوريف” في معهد واشنطن وأستاذ مساعد في “كلية إليوت للشؤون الدولية” في “جامعة جورج واشنطن”.
نريد الإشارة إلى أن جميع بيانات الوقائع أو الرأي أو التحاليل التي تم التعبير عنها في هذه المقالة هي آراء الكاتب فقط ولا تعكس مواقف أو وجهات النظر الرسمية للحكومة الأمريكية