بناء الدولة بالإنجاز والتجاوز
الفضل شلق/ عن السفير
الدولة القديمة سلطة تتغيّر حدودها وأنظمتها بقدر ما يتغيّر حكامها. الدولة الحديثة ثابتة إلى درجة كبيرة، لا تتغيّر حدودها وأنظمتها إلا نادراً. الأصل في كلمة «دال» هو التغيّر والتحوّل، اختلف المعنى الآن وصار إلى الثبات.
تنشأ الدولة عبر التاريخ بالغلبة، غلبة داخلية لسلالة أو جماعة، أو غلبة خارجية كالاستعمار والانتداب وما قبلهما. الغلبة تقرر السلطة أي النظام. تتحول السلطة، في العصور الحديثة، ومع تقادم السنين إلى دولة. مع مرور الزمن تكسب السلطة شرعية، بحكم العادة المتحولة إلى رضا. لا تُكتسب الشرعية إلا برضا الناس. ولا تصير دولة إلا بهذا الرضا. مع الزمن يتحول رضا الناس إلى تماه مع السلطة المتحولة إلى دولة، مع الفرد الذي يتحول خضوعه إلى انتماء طوعي.
تصير السلطة دولة بـ «إدخال» السلطة وقوانينها في الفرد.
تصير الدولة وقوانينها جزءاً من الفرد الذي يستبطن الدولة، ويصير أوسع منها؛ تصير هي جزءاً من كيانه، ومن شخصيته وسلوكه اليومي. لا تعود الدولة كياناً خارجياً، كياناً فوقياً ذا رعية؛ يصير الفرد مواجهاً مشاركاً في الدولة؛ تصير هي منه وهو منها.
يتحول الخضوع إلى انتماء، والانتماء إلى وطنية. لا تنشأ الوطنية قبل نشوء الدولة، بل بعد صيرورتها وتتحول إلى كيان سياسي. لم يكن في العصور الموغلة في القدم أوطان لأنه لم تكن هناك دول.
في التحول من الرعية (الخضوع للسلطة)، إلى الدولة والاندراج في القانون بالخلاص من عشوائية السلطة، والتحول إلى كيان سياسي معروف القوانين والأساليب، تتحول السلطة إلى دولة، وهذا ترتيب حديث؛ نشأ في الغرب في القرون الماضية القريبة، ولم يحدث إلا بعد تطور طويل ودام وحروب وكثير من الخراب والدمار. الكثير من جمهوريات أوروبا يحكمها ملوك فقدوا سيطرتهم وعشوائيتهم؛ انتقلوا من الاستبداد إلى نظام لا يسيطرون فيه بل تقرر الانتخابات من يلي السلطة الحقيقية. الكثير من ملوك أوروبا هؤلاء ليسوا في الأصل من البلاد التي يجلسون على عروشها، بل مستوردون من بلاد أخرى مثل ملك إسبانيا وإنكلترا واليونان. لم يعد الملك هو الدولة (السلطة) بل صار أداة لها؛ حاجة رمزية لها.
كي تصير السلطة دولة، عليها أن لا تبقى غريبة عن الفرد والمجتمع، بل تتماهى معهما. المؤسسات والقانون والأجهزة سلطات ضبط. ليست هي ما يقرر وجود الدولة. ما يقرر ذلك هو التماهي مع الفرد والمجتمع. ذلك هو معنى الشرعية. الشرعية أي رضا الناس هي وحدها مصدر وجود وبقاء واستمرار الدولة.
ينتظم الناس في الدولة عندما تكون منهم ولهم. يطبقون القانون لأنهم أدخلوه في ذاتهم، والمخالفة تكون خارج السياق.
الدولة الحديثة هي السلطة والمجتمع في واحد. عند ذلك تصير السلطة دولة وتصير إطاراً ناظماً للمجتمع، تصير وعاء للمجتمع، تصير كياناً له. لا دولة مع عشوائية الاستبداد ولا مع خضوع الرعية بل مع المواطنية، مع المواطن الذي له على الدولة بمقدار ما للدولة عليه؛ مع صيرورة الفرد إلى الدولة. وصيرورة الدولة إلى الفرد، بل مع استبطان الفرد للدولة. بهذا الاستبطان يصير الفرد أوسع من الدولة.
الشائع هذه الأيام، في كل العالم، استخدام تعبير الأمة ـ الدولة. وعينا السائد ذو تركيز الجزء على المتعلق بالأمة، في حين يتوجب التركيز على الدولة كي يكون كياننا السياسي حديثاً. لسبب أو لآخر لم ندرك خطر مفاهيم الأمة، سواء كانت عربية أو إسلامية على الدولة. مفاهيم الأمة جعلت كيان الدولة العربية، من المحيط إلى المحيط يتعثر. يتعثر التطور نحو الدولة لأن مفاهيم الأمة تعشعش في أذهاننا. خطورتها هي في أنها تجعل الدولة كياناً خارجياً غريباً عن المجتمع.
الدولة شرط لما عداها. لا شروط على الدولة مهما كان نظامها. يتغير النظام ضمن الدولة حسب الظروف والحاجات. التغير يصيب النظام لا الدولة. لذلك يمكن القول إن الدولة تجريد مطلق لا نعوت له. تحدث التغيرات والتحولات ضمن حدودها بناء على رغبات أبنائها.
الدولة لا دين لها؛ هي تجريد. الناس لهم دين. فصل الدين عن الدولة بديهي. في تاريخنا العربي والإسلامي كان الدين مفصولاً عن الدولة دائماً. عندما كانت الخلافة ذات سلطة سياسية في العصور الأولى، لم يكن لها مغزى ديني. كانت تستخدم الخلافات الدينية. وعندما صارت الخلافة لاحقاً رمزاً دينياً، لم يعد لها سلطة سياسية؛ لكنها لم تكن سلطة أو دولة علمانية.
الدولة هي موضع السياسة، بمعنى إدارة المجتمع. لا دولة ولا مجتمع يخلو من تعدد الأديان والمذاهب والطوائف والإثنيات والاتجاهات والآراء. يتطور المجتمع في إطار الدولة. يحدث ذلك بالتجاوز. لا يمكن التجاوز دون تراكم تسويات. الثورة حدث ينقضي حين يقع. لا ثورة مستمرة. هناك مجتمع يتطور في إطار الدولة بفعل التسويات. تعبر الثورة عن سحب الشرعية من النظام. لكن المجتمع يستمر ويتقدم بالتسويات، بالسياسة، بالحوار. نظام الاستبداد يضع حداً للسياسة، يلغيها.
الدولة الحديثة ديموقراطية بطبيعتها، لأن فيها المجتمع، لها ومنها؛ فيها رضا الناس لهم وعليهم؛ فيها السياسة حواراً وتسويات. على الأقل تحمل الدولة الحديثة إمكانية الديموقراطية إذ لا تخاف من شعبها. السلطة الاستبدادية هي التي تخاف من شعبها. يزداد هذا الاحتمال الديموقراطي مع التنمية الاقتصادية.
تبنى الدولة بالإنجاز والتجاوز. تعبير «تبنى الدولة» يتضمن التحول من نظام أو سلطة إلى دولة. تعبير الإنجاز يعني التنمية الاقتصادية المرتكزة على العمل والإنتاج، وليس فقط الاستثمارات الخارجية. بالعمل والإنتاج يكتسب الناس معنى جديداً لحياتهم، يستردون كرامتهم ويزداد الرضا عن الذات وعن الدولة المدخلنة في ضمير الناس، ويتضاءل تأثير الطائفية في الوعي السياسي.
تتعلق الطائفية بالحصص والتوزيع. كل طائفة يزداد تشنجها، بالأحرى تميل أكثر إلى التماسك نتيجة الشعور بالغبن أو ما يسمى الحرمان. مع المشاركة في الدولة سياسياً وإنتاجياً، مع ازدياد حصة الطائفة في التوزيع الاقتصادي يتراجع منسوب التشنج، وتميل الطائفة إلى التخلي عن نفسها كطائفة. لا تزول الطائفية من النفوس أو النصوص إلا بزيادة العمل والإنتاج وما يصاحبهما من شعور بالكرامة والمعنى والاعتزاز بالذات.
نعم، نستطيع التجاوز، تجاوز الوضع الطائفي، إذا كان ديدننا الإنجاز والتجاوز. وما التجاوز إلا تراكم سلسلة تسويات في مجتمع منتج لا في مجتمع مفلس.
الوعظ والإرشاد ضروريان. لكن الدولة لا تتأسس من جديد إلا على العمل والإنتاج. تكاد الطائفية تصبح مشكلة مستعصية مع ازدياد الهوة الاقتصادية بين الطبقات، وحين تصبح الطبقة الرأسمالية العليا أكثر تموضعاً في طائفة أو طوائف دون الأخريات.
يختلط أمر الطوائف والطبقات عندنا، ويؤدي هذا الاختلاط إلى الحؤول دون بناء الدولة، إلى الشعور بعدم الرضا لدى بعض اللبنانيين الذين ينتظمون في طوائف تعتبر نفسها محرومة. يزول الحرمان بالإنجاز، بالعمل والإنتاج يؤسس التوزيع العادل عليهما؛ ولا أمل بالخروج من الطائفية إلا بالتنمية، أي بمشاركة الجميع في العمل والإنتاج، في بناء الدولة، في انغراز الدولة في ضمير الفرد. عندما يجد الفرد في الدولة ملاذاً تتوقف الطائفة عن أن تكون هي الملاذ.
عندما يصير العمل حقاً وواجباً تتلاشى المزابنة الطائفية، وتزول الوساطة بين الدولة والفرد. يصير الفرد هو الدولة، والدولة هي الفرد. بالأحرى تزول الروح الجماعية للطائفة وتسيطر الفردانية على وعي الناس. عندها يصير التنوع ميزة لا نقمة.
ليس في لبنان طبقات تعي نفسها؛ هناك طوائف تعي نفسها. جرى تدمير العمل النقابي منذ التسعينيات. لكن بناء الدولة يعتمد على تحول الوعي لما هو طائفية إلى ما هو طبقي. فالانتماء الطائفي بطبيعته قسري؛ يقرر عند الولادة. أما الوعي الطبقي فهو اختياري يعتمد على كيفية نظر المرء إلى نفسه. لا بد أن تعود النقابات لتصبح شريكاً في النظام السياسي من أجل بناء الدولة.
ولا بد للطبقة العليا، طبقة الـ1% أو عشر الواحد في المئة من الناس من اعتبار أن المشكلة الأكبر ليست الفقر بل هي الثروة وتركزها بيد القلة.
ولا بد أن تعترف بأحقية النضالات المطلبية بالمشاركة في صنع القرار، وأن حق العاملين بزيادة الأجور، حق طبيعي وأقل كلفة من الخوات التي تدفع للطوائف وزعاماتها. إذا كانوا يتحدثون عن شراكة وعن ميثاقية فإن الأجدر أن يكون العاملون والموظفون وشتى الفقراء شركاء. الصراع الطبقي ليس اقتتالاً ولا حرباً أهلية، هو نضال لانتزاع حقوق لا مكاسب. هذه الحقوق هي واحدة من الوسائل الأهم لبناء الدولة.