زهير الجزائري
ألاحق الفساد ويلاحقني حيث ما اتجهت وأينما ذهبت. أحسه مثل زجاج ناعم بين أسناني وأنا أكزهما من الغضب. أحسه تحت قدمي في هذه الشوارع التي بلطت قبل أيام ثم عراها المطر . في الجسر الذي عُبد للمرةً الثانية أو الثالثة ثم عاد فانكشف زلقا وخطرا للمرة الثانية أو الثالثة . تتلوى قدمي من كثـرة الحفر وانا امشي على الرصيف الذي جدد للمرة الثانية دون أن يسأل أحد عن المقاول الذي جدد الأولى وربما هو نفسه وراء انخسافات الثانية.
الفساد مندفن حتى في الجمال المفترض، موجود في الزهور التي زرعت حديثا على جانبي الشارع وأعرف أنها ستذبل وتستحيل حطبا مما يتطلب مقاولة جديدة لاستبدال الحطب بزهور جديدة ستتحول حطبا . بين الزهور والزهور يختفي الفساد الذي يفسد متعتي بالجمال .
يختفي الإحساس بالفساد ولا يعود في لحظة تقبله كقدر. طوال حياتي في سوريا كنت أمانع في دفع الرشوة المعهودة عند كل دخول للبلد. هذه الرشوة المعتادة سماها الدكتور صادق جلال العظم( إعادة توزيع الدخل). لم يكن تمنعي مقاومة أو رفضا للفساد، فهو واقع حال ، إنما حياء أمام كرامة الآخر . أشعر اني أتعالى على المرتشي وأهين كرامته حين أدس بضع دولارات في يده. لدي تصور دائم أن الآخر سيصرخ بي: لم تهينني؟
ذات مرة خرجت لصالة الاستقبال منتصرا لأنني نجحت في الدخول دون أدفع الرشوة . في السيارة كان صديقاي يكتمان ضحكتهما وأنا أروي لهما قصة انتصاري: يستطيع الأنسان بالتمنع أن يصل حقه الطبيعي . الإثنان كانا يتبادلان الضحك لأنهما دفعا الرشوة بدلاً عني عندما خرج الشرطي لهما في صالة الأستقبال جزعا لأنني لم أفهم أصول اللعبة.
في المرة الثانية وجهني عقيد عراقي التحق بالمعارضة أن أهيئ المبلغ ١٠دولارات . تعرقت يدي من الحرج وأنا أقترب من الضابط. بنفس الحرج سألت العقيد :
-هل لك أن تقدمها نيابة عني؟
بحزم العسكري دفع يدي وأمرني:
-تعلم ان تقدمها بنفسك!
قبلت نصيحته بأن اتعلَّم الثقة بالنفس، وبذلك كسرت الحاجز الأول وصرت أقدم المبلغ مرفقا مع صورتي في جواز السفر.
حين نفقد الإحساس بالفساد يحل القرف محل الغضب.القرف شخصي وساكن بينما الغضب قابل للتحوّل الى فعل . حين تتعود على الفساد يحل نوع من الأريحية في العلاقة بين الراشي والمرتشي.
اتذكر سائق السيارة حيدر، يشعر دائما بأن عمره سرق منه، لم يصبح كاسبا ولا تعلم في مدرسة. مع ذلك لا يلوم أحداً غير نفسه. لديه ،كما تعلم من مهنة الحياة، فراسة عجيبة في معرفة آثار الفساد . نمر في شارع فلسطين فيشير بإصبعه دون ان يلتفت ” هذه العمارة الجديدة يملكها ثلاثة ضباط يعملون في الجوازات”، وفي شارع ابو نواس يشير الى عمارة أخرى ” هذه لصاحبك الناطق الرسمي” في الجادرية ” هذا الفندق للحزب الفلاني”. لا يدري ولا يتقصد تعذيبي . كان يقدم لي خدمة كصحفي. يحدد الأماكن ومالكيها كحق مكتسب باعتبار الفساد نوعا من الشطارة مقتديا بالمثل الذي يقول “الشاطر من يخلي بالسلة عنب”. يقول هذا المثل كمن يلومني لأن بعضا من أصدقائي وضعوا في السلة عنب، بينما بقيت بلا سلة ولا عنب. لم يعد الفساد وقد اعتاد أن يرى عماراته تتمدد على الجانبين رذيلة، إنما صفة في العقل. هناك عقل أخلاقي راكد، مقابل عقل عملي يعرف كيف يكذب وكيف ينهب . العقل الثاني هو الذي يقود الدولة ويحركها ، بينما الأول يبدو راكداً في زمن مضى كان للأخلاق فيه قيمة.
الاعتياد والتراكم يخلق حقائق جديدة. هذه الحقائق تقرر، وهي على الأرض، ماهو خطأ وما هو صحيح، ماهو مفيد وما هو غير صالح للاستعمال. يعرف الفاسدون هذا فيعملون على جعل الفساد حقيقة من إسمنت على جانبي الطرق التي نسير فيها، فنقبلها كلما اعتدنا وجودها.
الفساد يأكل التاريخ
في جمعة مشمسة تركت شارع المتنبي وسرت في شارع الرشيد في طريقي الى المظاهرة. أتلمس خطواتي القديمة في هذا الشارع الذي حسبت نفسي أعرف دكاكينه وسطوح فنادقه. كدت أحفظ تسلسلها، من محلات جقماقجي في ساحة التحرير حتى كعك السيد عند الميدان . أسير في الشارع فتقطع مساري عمارة نغلة للوقف السنّي ، بناية حمراء براقة وسط شارع غطاه تراب الزمن. لون صادم وفج يكشف روحا نغلة لا تابه للعام والسياق. لانها لا تعرف الشارع ولا تاريخه، لا ترى ماحولها، إنما ترى نفسها بمرآة نفسها، كما جار سيئ السمعة، قوي ومخيف دخل المحلة فجأة في زمن الحيتان ، يعرف قلة ذوقه ويدرك ازدراء جيرانه ، لكنه يعرف أيضا أنه الأقوى . كائن من الأسمنت المسلح، في حزامه مسدس ، بين جيران من الطابوق الهش. بأسناني أوشك أن أمزق هذه البناية ، لكن لا أمزق غير نفسي.
تسقط الدمعة الأولى وأنا أرى واجهة السينما التي رأيت فيها فلم (من الآن والى الأبد) تمثيل روبرت مونتكمري وخرجت منه باكيا . أتحسس التاريخ وراء البيوت المتداعية وعيني تخضل بالدمع . ثمة صوت خافت وبعيد يستنجد بي من البيوت التي توشك أن تهوى ولا أستطيع نجدتها.
أوصلت شكوى البيوت واستنجادها لوزير الثقافة بالوكالة الذي دعاني لمناقشة مشروع بغداد عاصمة للثقافة . قلت له وأنا أنمي غضبي :
-قبل أن تجعلوها عاصمة للثقافة أعيدوها أولا عاصمة .
حدثته عن شارع الرشيد فقرب أذنه مني دون أن ينظر إلي ورأيت رعشة جفونه خلف النظارة الداكنة وهو يتهيأ للرد . تغيرت لهجته من الوزير المخطط إلى المواطن الشاكي من إهمال الدولة للثقافة والمثقفين:
-تحدثت طويلا وقدمت المذكرات، هل تعرف ماذا خصصوا لي لأعادة الحياة لهذا الشارع؟… قدر كم؟ ٨ ملايين دولار فقط . تصور! ماذا أصلح بها ؟ بيت ، بيتين ؟!
في منطق الوزير لا يساوي شيئا تصليح بيت أو بيتين ، وهو إحياء لتاريخ. ما قصر الوزير فأحال المبلغ لوزارة الدفاع لشراء اسلحة لن تفعل شيئا فيما بعد، والأسوأ انها صارت بيد العدو.
أسير في متاهة أروقة الوزارة فأرى حشدا طويلا من موظفين لا اعرفهم ولا أعرف صلتهم بالثقافة، ضاقت بهم الغرف والطاولات فخرجوا للممرات يترقبون انتهاء الوقت دون أن يفعلوا شيئا ، في نهاية الممر صديقي الستيني منزوٍ في غرفته وأمامه على الطاولة نضدة من كتب فرنسية يترجمها. رأسه منكب على الكتب كأنه يريد ان ينفي وجوده هنا. يرفع وجهه الشاحب ويغلق الكتاب. لدى صديقي هذا سيل من الملاحظات المريرة عن عمل الوزارة، مع ذلك لديه سياق متصل من مقترحات لتطوير عملها. أسأله لم لا ترفعها او تنشرها؟ لديه جواب قاطع لا يسمح بالتكرار :
-لااااا ينفع !
حين يتراكم الفساد يكتسب صلابة القدر.الغضب يبدأ بالتلاشي ويتحوّل الى أسى. و حين نفقد الإحساس به يتحوّل الى بديهية . البديهية تكمن في تبرئة الفاسد ضمنيا بالقول (الكل فاسدون ) فيضيع الواحد في الكل. يعرف الفاسد هذه البديهية فيعمل على تحويل الفساد الى مؤسسة من طبقات تبدأ من القمة نزولاً لشريحة اوسع من الفاسدين الصغار الذين يتحكمون بالمواطنين. المواطنون يتجاهلون حقهم الطبيعي توافقا مع الفساد الذي صار واقعا، يصبحون فاسدين ومفسدين . حين يصبح الفساد قدرا تتحول النزاهة إلى حلم غير قابل للتطبيق.
الفساد والروتين
لا يتمسك الفاسدون بالروتين حباً به ، فهو يتعبهم قدر ما يتعب المراجع . اعجب وانا أراجع بصبر الموظف الذي يتكدس حوله المراجعون وهم يصرخون وتتقاطع اصواتهم ويفسدون عليه الهواء . ثم اكتشف ان الروتين القاتل هو التعذيب المنشط للصفقات الخلفية في المقهى القريب من الدائرة حيث يأتيك جواز السفر بسهولة وبمنتهى الممنونية بعد دفع الرشوة. مرة كنت في دائرة هجرة أحاول الدخول على المدير مباشرة فصدمتني صورة فلاح جنوبي جالس على تخت الانتظار تحت سقف من الصفيح الساخن، جالس بصبر عجيب، قدم على التخت وآخرى على الأرض، يحرك خرزات مسبحته وينظر للأفق أمامه بصبر عجيب دون أن يستعجل الوقت أو يأبه بالزمن. وأنا انظر إليه ذاب غضبي وطويت اعتراضاتي على الروتين القاتل وخيل لي ان هذا الرجل ينتظر المستحيل.
أنهى مدير الدائرةً اجتماعه وطلب حضوري. استقبلني باحترام بعد أن قرأ ورقة التوصية من الوكيل. مع ذلك بقي يقلب اوراقي ببطء. لا حاجة للاستعجال فليس للوكيل حزب يسنده. خلال انتظاري وأنا اسمع صوت الأوراق دخل ثلاث مرات شاب يرتدي نعلا وفي طرف فمه سيكارة. لم يسلم ولم يعتذر وهو يقتحم غرفة المدير متجها مباشرة للطابعة. يطبع الأوراق وهو يدندن. يأخذ الختم من أمام المدير، يختم الأوراق ويخرج مباشرة للمراجعين:
-هذا هو ضالتي!
قلت لنفسي وسحبت نفسي كما الحية من غرفة المدير ابحث عن هذا الثعلبان الذي يختصر الزمن والروتين. هو المدير الحقيقي وما هذا الذي كنت في غرفته سوى صنم.
صدام وأحفاده
لم يكن صدام حسين فاسدا ولم يسرق المال العام لأنه وبكل بساطة رأى أن الدولة وما فيها من خيرات ملكه وملك عائلته. يُعير رعاياه بأنهم كانوا حفاة قبل أن يمتلك البلد وناسه . لقد صاروا يلبسون الأحذية،ويستحمون بالصابون بفضل ( المكرمات) التي يغدقها عليهم من أريحيته. كان يفاخر بأن الحصار لا يؤذيه هو بالذات لأنه يأكل لحم غزال. لم يحتج الناس على ذلك لأنهم اعتادوا على ان يعتبروا خيرات البلد، وأولها النفط ملك الحكومة، لا حاجة بهم لمعرفة مداخيله وأين تذهب، فتلك من أسرار الدولة. يعرفون فقط القليل الذي يترشح منها لصالحهم كمكرمات من الدولة الريعية. لم يخف صدام ثروته ، إنما يتباهى بها كأطار للهيبة. قصوره الموزعة في المدن معروضة للناس كمظهر للهيبة. قريبا من العمادية رأيت واحدا منها على قمة جبل . يحب الرجل أن يعيش في أعشاش النسور . يراه المسافر من بعيد كقلعة من المهابة والغموض . يحب أن يستعرض مظاهر ثرائه أمام رعاياه . بعربة من الذهب مر بين جمهوره الجائع وهو يهتف له ( بالروح، بالدم). رضوخ الجمهور عزز اعتقاده بأن سلطته ابدية، سيأتي بعده أولاده.
عقابه للفاسدين في دولته كان شديدا حد القتل وبتر أعضاء الجسم. في عينكاوه تعرفت صدفة على رجل أعمال كان بعثيا. الأناقة الرثة تفوح من مكتبه ومن قيافته . حركاته كانت سريعة كطير قلق. لم اتنبه لشيء غريب في وجهه حتى غاب عنا للحظات. خلال ذلك انحنى ابن أختي جعفر ليهمس في أذني:
-هل لاحظت أذنه؟
-…
– قطعها صدام…
لم يلحق ليخبرني السبب. عندما عاد الرجل ولاحظ نظرتي أدار أذنه وقربها لي:
-نعم قطعها صدام ، وكان على حق ، لأني لم أعرف حدودي.
لم يكمل الحكاية عن حدوده، إنما انشغل بمكالمة هامة.
يحب هذا البعثي جلاده ويشعر بالعار لأنه تجاوز على حدود دولة القائد وأملاكه. هذا هو المواطن المثالي في الدولة الريعية.
على عكس صدام يشعر الذين خلفوه بأن سلطتهم قصيرة، وعما قريب سيأتي من سيأخذها منهم. ضيم الحرمان الطويل لم يولد عندهم شعورا بأن الدولة دولتهم، على العكس تبدت هذه الدولة غنيمة موقتة ينطبق عليها قول الكرخي ( بغداد مبنية بتمر، فلش وأكل خستاوي!). عليهم إذا ان يستعجلوا بالوصول على اكبر لقمة ممكنة قبل أن تتفلش دولة التمر بكاملها.
الرجل الذي استضافتي في بيته يشعر ان صفقة ملابس الجنود التي أفلتت منه كانت على طرف اللسان ثم أفلتت منه في حركة التناهب السريعة.
لغة الفساد
معاملة الخروج من سوريا بالنسبة للعراقيين أصعب من معاملة الدخول. تحتاج لموافقة دائرتين، الأمن والمخابرات. قبل سفري بيوم واحد كنت اتابع معاملة الخروج وقد بقيت ساعة واحدة على نهاية الدوام. ادخل وأخرج والمسؤول مشغول بمكالمة طويلة او بالتدقيق في معاملة أخرى .
إذا رفع رأسه سيجيبني باختصار:هاه، بعدك هنا؟
رأني فراش شاب يعمل قرب مكتبه، وبعد سوْال وجواب قال لي وهو يفرك أصابعه: -حرك إيدك شويه!
-كيف؟
– الجارور؟
للمرة الأولى أسمع كلمة (الجارور) بواو مشددة كواحدة من مفردات الفساد . وللجارور هذا فلسفته الخاصة في دهاليز الفساد. فالمرتشي لم يستلم الرشوة بيده ، وهذا يخفف مخاطر القانون عليه . لا أحد شهد عملية التسليم والاستلام ، وحتى لو شهد، هناك راشٍ فقط أسقط النقود في صندوق محايد هو شيء وليس شخص، لذلك لا يمكن الحكم على شيء. ذهبت للغرفة للمرة العاشرة ولا اعرف كيف امتدت يدي العرقانة لتسقط الليرات في الجارور. ما أن سقطت حتى سقط الختم على جوازي.
تطلب الأمر فترة طويلة لأفهم لغة الفساد ورموزه. صرت جزءا منه ، أسأل قبل دخول الدوائر عن الوسيلة الأسرع لإنجاز المعاملة دون الدخول في الطوابير الطويلة.
الجارور واحد من مفردات قاموس الفساد. بعد سنوات صرت اتعلَّم هذه المفردات. وهي مفردات مشتقة من كل جوانب الحياة. من الميكانيك مفردة ( إدهن القايش!) تعبير عن ماكنة قديمة هي جهاز الدولة التقليدي الذي يعمل ببطء كما الروتين ، تحتاج للمال كزيت يسرع المحركات. ومن الميكانيك أيضا مفردة ( المحروقات ) وهي الرشاوى التي أصبحت جزءاً من تكاليف إنجاز معاملة.
من الطبيعي ، يستخدم الفاسدون مفردتي (الطري واليابس) سمعت الثانية وأنا أغادر واحدة من دوائر الدولة بعد أن اكملت معاملتي فخورا بإنجازها. الموظف الذي ( ساعدنا) في إنجاز المعاملة ركض خلفنا وهمس في أذن صديق رافقني ( هذا صاحبك يابس)، ويعنيني بالذات، وفي هذه المرة على ما أتذكر سمعت الكلمة المرافقة ( إكرامية) .
هناك مفردة غنية وحساسة ( هذه المعاملة ينراد لها ناطوح أو سابوح). الناطوح هو رجل الدولة او الحزب الذي يقتحم الدوائر فيهب الجميع لتلبية طلباته، والسابوح هو المحترف الذي يتحرك كالسمكة بين الموظفين وينجز المعاملة بالمزج بين المديح والترفيه. هو الذي يستخدم عبارة (إنت خوش ولد وإحنا نستاهل). وقد رأيت في واحدة من الدوائر سابوحا بعمامة سوداء.
طوال طفولتي وصباي كنت أقبل يد السيد وأرفع وجهي لأرى هالة النور حول وجهه. لم أصدق والدي أبداً وهو يتحدث عن أحابيل بعضهم ( تحت العمامة شيطان). لم أقرأ آنذاك قصيدة الشرقي وهو يصف مسبحة واحد منهم ( شيطانه كخيطها بين الثقوب قد سلك). لدي اعتقاد ثابت بأن الله يشكل لهم ضميرا إضافيا. كيف يقرأون كتاب الله ووصاياه ثم يرتكبون المعاصي، وكيف يواجهون ربهم عند الصلاة، وكيف يقبلون شباك الصريخ ولا يقتدوا بالمدفون فيه؟
العمامة ، وهي رمز للمقدس وصارت رمزا للسلطة، سلطة المقدس، يستخدم العمامة لإنجاز المعاملات لا لوجه الله ، إنما مقابل ثمن .
أحيانا يتذرع المفسد بأنه مجبر على الرشوة فيحيلها لمن هو أعلى في الدولة والحزب فيسميها( حصة السيد). الدين نفسه يصبح غطاء شرعيا للفساد، حين يسمي الفاسدون الرشوة ( هدية)، (ما بها؟٠ نبينا محمد قبل الهدية) .
هناك مفردات مشتقة من حركة التعامل اليومي بين اثنين لا ثالث لهما، مثل ( فيدني وأفيدك) وقد حورتها الطبقة الدينية الحاكمة الى ( إخدمني مولانا وأخدمك) .
في عالم الفساد تزداد الكلمات رمزية وتتوالد كل يوم كلمات جديدة ، كما تتكيف الكلمات القديمة لمعاملات الفساد. ماركس وصف الكلمات بأنها (نقود الذهن). في عالمنا الحالي، وكلما تطور الفساد تحل الكلمات وهي وعود، محل النقود كوسيلة تعامل، أما النقود نفسها فتغيب كدليل ملموس إنما تتحول الى تحويلات بنكية لا يراها الإثنين.
الفساد والمحاصصة
هناك لغة مختلفة اكثر رمزية وإيحاء خلال الصفقات الكبرى بين الطبقة السياسية الدينية. المالكي حتى وهو في الحكم استخدم كلمة ( الملفات) بكثرة كنوع من التهديد لخصومه وحلفائه . لديه ملفات كما يصرح دائما ( لو كشفها ستقلب العملية السياسية برمتها رأسا على عقب). الملفات ، كما يفترض، أدلة قانونية على أشخاص استثمروا مناصبهم في الدولة للحصول على منافع شخصية من مال عام. ولكنها لا تذهب للقضاء إنما تبقى في الأدراج خارج أُطر الدولة الرسمية لتتحول الى اداة تخويف. ففي أجواء السرية حيث تخفى المعلومة عن الناس وتجري الصفقات فوق في اجواء مغلقة. و في محيطات غير مستقرة ، خلال ، قبل أو بعد حرب أهلية. وتتركز هذه الملفات عند الكوادر التي تقود العمل الأمني في السلطة. استخدم المالكي الملفات لتهديد خصومه الفعليين والمحتملين . وحين يشيع الفساد ويصبح القاعدة وليس الإستثناء يصبح كل واحد في اجهزة الدولة ، خاصة في المراتب العليا متورطاً ، بشكل أو بآخر بقضية فساد، وبدلا من أن تستخدم الملفات كدليل قانوني ، يوظفها الحاكم المطلق ضمنيا كوسيلة ضغط لكسب ولاء المسؤولين الفاسدين وتوحيدهم تحت سلطته بواسطة الخوف.
وبين الفرقاء الذين يوحدهم الفساد تتعمم مقولة ( طمطملي واطمطملك، أو إسكت وآنه أسكت ) وهي المفردة التي تكاد تشكل الشعار المشترك للأحزاب الحاكمة. كلنا شركاء في الفساد، ولذلك ينبغي للملفات ان تبقى في الأدراج لتخفى عن الطرف المتضرر، وهو المواطن. وقد أرسل لي الصديق الناقد جاسم العايف حوارا طريفا يجري بين أطراف في العملية السياسية يكشف التباسات هذه العلاقات التبادلية بين الفاسدين:
( انتو دزوا المسودة مال القانون ..اشلون ما تصير.. وانه اكيفهه الكم دستورياً)،(معود هاي الصفقة ما رست علينه واحنه دفعنه الك نقدي رجع المدفوع؟..: ميخالف المدفوع اعتبروه عربون المحبة.. الجايه عليكم .. بس الجديد بسعر أعلى) .
تحولت المحاصصة الطائفية الى محاصصة في املاك الدولة وخيراتها ولكل طرف حصته ووجوده . وكل طرف يعرف حدوده وحدود الآخر. وعبارة (هذي مالتنه) هي لتذكير طرف آخر بان هذه حدود مملكته ولا ينبغي التجاوز عليها، لأنها محمية بسلاح مليشياته.
الفاسد وابنه
كثير من الأسئلة تداعت في ذهني وأنا ادخل بيت احد الفاسدين. بإلحاح منه ووعد بأن يقول شيئا يهمني. الوعد ينطوي على إنجاز. والإنجاز هو أن يعطيني معلومات تكمل مقالا كتبته.
أعرف بأن الذي دعاني هو واحد من منظومة الفساد التي تتحول الى دولة داخل الدولة، بل هي الدولة نفسها. كان قد أضاف لبيوته العديدة بيتا جديدا في شارع الأميرات . كمن عرف تداعي الأسئلةً وهي تسرع رمش عيني. قبل ان أسأل بدأ هو الجواب:
-لقطة! اشتريته في زمن الرخص من صديق اضطرته الظروف للهجرة. و قال إنه باع حزمة بساتين ورثها عن أجداده ليشتري هذا البيت الذي يؤطره في لوحة الفساد . البيت يكشف مالكه حديث النعمة . اللون الذهبي الذي يغلف الأثاث يشعرك بأنك جالس فوق كنز مسروق، والتيجان العالية خلف رأسك توحي بالسلطة. لم اشعر بالراحة أبدا خلال الساعة والنص . افتقدت الخمرة في غرفة تصدرتها آية ذهبية على قماشة من حرير (نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا). بمهارة الثعلبان كان يتابع نظري ويهتم بأن يجد حكاية لكل قطعة من أثاثه . مأمن نعمٍ حديثة ، هكذا يريد أن يقول ، هناك حكاية خلف كل قطعة.
عدا القطعة المكتوبة ليس على الحيطان لوحة تكسر البياض. أعرف أن الرجل غير متدين، لكنه استبعد اللوحات المجسدة مداهنة للطبقة التي تزوره والتي تعتبر الرسم من المحرمات. حين سقطت عيني على الرفوف الفارغة في مكتبته أراد رأيي بالكتب التي ستضاف لمكتبته ، بعضها موجود هنا . مولع كما رأيت بالمجموعات الكاملة ذات التغليف الأنيق والتناسق في الحجم .. كتب للزينة ستبقى صامتة على الرفوف و لن تفتح أبدا. الكتب تفتح الأحاسيس والمخيلة، ولا يريد الفاسد أحاسيس تفتح ثغرة في ضميره ، وما حاجته للمخيلة وقد تكرس كل وقته لأمور عملية مربحة .’مأمن قصص عن الكتب ، لقد وجدت هكذا.
حين يقترب مني أختنق برائحة عطر ثقيلة لا أستعيدها بأنفي إنما تهجم علي وتغتصب حواسي. الأشياء مزدحمة وتبعث لمعانا، ومامن فراغ يوحي بالتأمل والمراجعة ، كل الأشياء كبيرة وبرَّاقة تداهم عيني ولا تحتويها. حتى العصير الذي قدم لي جارح الحلاوة.
قصة الفساد موجودة حولنا في فضاء البيت وكل قطعة فيه ، مدلاة من سقف الغرفة مع حبات الكرستال في الثريا، يحركها الهواء فتبعث دينناً خافتا ومتصلا كأنه يكرر حرف السين في كلمة ( فسسسسساددد) ، في الوسائد الكثيرة التي أتكيء عليها فتخدش جلد يدي وانا انقلها من قلق وجودي هنا ، في السجادة الإصفهانية التي تدغدغ قدمي ” ماذا تفعل هنا!؟” في الآية المطرزة. هل تحمل الأشياء فعلا كل هذه المعاني، أم مخيلتي الخبيثة التي تترسم الفساد فيما تراه؟
هو الذي فتح موضوع الفساد الذي يأكل الدولة ومستقبل اولادنا. يهاجم الفساد ويروي لي بعض وقائعه من موقع المسؤول. كان يتحدث بتفصيل عن صفقة ملابس الجنود ، ويعني بالتحديد زوجة مسؤول أعرفه دون أن نذكر اسمه. وراء حماسة الصوت إحساسا بالغبن لأن الصفقة أوشكت أن ترسو عليه. في داخلي يتردد السؤال على طرف لساني كطعم مر أوشك أن أبصقه” وأنت!؟” شعرت إني بصمتي هذا مشارك في الكذب لأن الصرخة في داخلي وإني أخونها بالصمت. صرت اشعر انني سجينه، سجين هذا البيت الذي يفضحني قدر ما يفضحه لمجرد إني هنا. أردت ان أرى وجهي وأنا انظر إليه: الفضول ، أم القرف؟ وجهي صار يفضحني ” هل يعرف وهو يلاحق كلماته أو يستحضرها إنه يكذب؟”، وهل يدرك انه يكذب على ذاته بقدر ما يكذب عليّ ، هل يمكن للأنسان ان يؤذي بالكذب ذاته وهي ما أكثر ما يحب!
الكاذب يعرف الحقيقة، وإن كان لايعرفها كلها، فهو يعرف بعضها، يعرف ما يفكر فيه وما يعتزم قوله. يعرف الفرق بينهما، أي إنه يعرف أنه يكذب . لكن هذا الكذوب فقد البوصلة. صار يتحدث بلا فواصل، ولكثرة ما تحدث يقود نفسه الى أخطاء سيحاسب نفسه عليها، سيقاد الى الاعتراف بكذبه،
لا اعرف كيف يحتمي هو نفسه عارفا إني سأذهب بعد قليل للمظاهرة . لقد تدرع جلده مثل سلحفاة تخفي رأسها تحت مادة متغضنة . يتحدث دون توقف ونادراً ما يتنفس ، ليس في ذهنه موضوع محدد، إنما تقوده التفاصيل والهوامش ، مع ذلك لا يتوقف ليسمع رأيي كأنه بتواصل حديثه يطفئ أسئلتي . يرى ملل وجهي فيرفع صوته أعلى فاعلي. التفاصيل أدخلته في متاهة لا يعرف كيف الخروج منها .
وهو يتحدث لفت انتباهي الإبن في الغرفة الأخرى وليس بين الغرفتين باب . كنت اعتقد أن الأبن يشكل ضميرا إضافيا للوالد . تذكرني به قصيدة بلند الحيدري توبة يهوذا:
يا صغاري
أنا أدري
كلما التف شتاء حول ناري
ذكروا إسمي وإثمي
خنجر يوغل في قلب صغاري
امام الأبناء ينبغي للوالد أن يخفي ذنوبه وَيكشف ما هو مثالي فيه. فكرت كيف يفكر الابن بوالده . العشرون هي سنوات المثل . من المؤكد انه سمع سيل الكذب هذا مرارا ولذلك لا يبدو منتبها لكلمات الوالد. لا يصدق أم ابتعد مللا من حديث مكرور. يقلب قنوات التلفزيون بقلق كأنه يطفئ بالصور سيل الكلمات . المهم اي امر يشغله عن الحديث والتدقيق فيما وراء الكلمات. رأيت في حركاته قلقا مكبوتا. هل سأله واحد من صحابه عن سر الثراء السريع ، ام سمع وشوشة زملائه خلفه. المتظاهرون في ساحة التحرير في عمره تماما ، هو الذي سيوصلني بالسيارة اليهم . سألت نفسي كيف يواجه الفاسد أسئلة إبنه؟ هل يخجل أو يتحرج من احتمال معرفة ابنه بتفاصيل صفقاته القذرة؟ فيما بعد عرفت أن الأب يطفئ اعتراضات الأبن قبل أن تتحول الى أسئلة. ليس هناك أي حوار جدي بين الإبن والأب ، ليست هناك هناك نصائح ابوية للإبن لفقدان المصداقية ، الصفقة حلت محل الحب بين الإبن والوالد . الوالد يغدق على الإبن سيلاً من الأشياء ، أحدث موديلات الموبايل مع أكسسواراتها ، أحدث السيارات مع إكسسواراتها ، أحدث البدلات بحيث يبدو الإبن جزءا من ديكور البيت ، بعضا من المظهرية المعلنة للفساد.
منقول من صحيفة المدى العراقية