تأكيد الطائفة وإلغاء الدين
لا طائفة إلا وانطلقت من دين ما
الأديان سبب أول لوجود الطوائف. تبدأ هذه كمدارس لتفسير الدين وتتطور إلى جماعات تعطي الأولوية لتفسيراتها على كل شيء آخر.
يتحول الدين من علاقة مع الله إلى علاقة بين البشر، من علاقة روحية إلى علاقة طقوسية.
يستند الجميع، في زعمهم، إلى النص المؤسس. في العلاقة الروحية، يفترض ان يكون الفرد هو الأساس، وهو ما يبنى عليه.
يتراجع ذلك إذ تطغى العلاقة الجماعية والطقوس. تحل التفسيرات اللاحقة مكان النص الأساسي.
يفقد هذا النص المؤسس زخمه الروحي ويصير الرجوع إليه ترداداً وتكراراً.
الايمان الروحي يتحول إلى عقيدة أو عقائد. تنتقل الحقيقة من الايمان إلى العقيدة، تكمن في الجماعة. تسيطر الجماعة على الفرد.
الذين يسيطرون على العقيدة يسيطرون على الناس. تصير الطائفة مصدر سيطرة، تتنافس مع اشكال السيطرة الأخرى، الاقتصادية والسياسية، وتتنافس الطائفة مع الطوائف الأخرى.
يصير الخوف من الآخر متبادلاً. مكاسب طائفة تعتبر خسائر للطوائف الأخرى. المجموع صفر. ذلك يكبح تطور المجتمع.
تنغلق الطائفة على نفسها. نادراً ما يحدث الانتقال من طائفة إلى أخرى. من ينتقل يصير غير مقبول في الطائفة التي كان فيها، ومشكوكاً فيه في الطائفة التي انتقل إليها. ما كان يفترض ان يكون تحرراً في العلاقة مع الله، مع الكون مع الوجود، يتحول إلى جملة من القيود في الطائفة والعقيدة والمذهب. يفتقد الفرد إلى الحرية، تسيطر الجماعة، بالأحرى يسيطر من هم أولياء أمر الجماعة.
الطوائف هي التجسيد الفعلي الواقعي لطقوس الأديان. تشدد العقيدة على الطقوس، وهذه تحل مكان الروح والايمان والاتصال بالمطلق. يتلاشى الاتصال. ما يبقى منه يمر عبر حدود الطوائف وحسب قواعد محددة لتهذيب كاذب يتحول في أحيان كثيرة إلى حروب أهلية.
لا تناقش الطوائف عقائدها إلا ضمن حدودها، في مجالس مغلقة، وكأنها تخشى ان يقود النقاش الحر المفتوح إلى نتائج غير متوقعة.
لا تستطيع الطائفة ان تحافظ على بقائها إلا بأن تبقى جماعة مغلقة.
موضع الدين هو الضمير الفردي. لا تكتسب الحرية إلا بأن يتحرر الفرد من الجماعة وإن بقي في إطارها. يحصل التحرر بأن يكون للفرد قرارات حرة في كل شيء حتى في ما يتعلق بالانتماء والطقوس، سواء في إطار الجماعة أو خارجها. لا يمكن بناء مجتمع قوي من أفراد تابعين مستسلمين، رعايا. المجتمع القوي يتشكل من أفراد أحرار يربطهم الانتماء لدولة واحدة أو مجتمع واحد، شرط ان يتماهى المجتمع مع الدولة وان تخضع شروطه لمتطلباتها. وهذه حال البلدان التي في مجتمعها تديّن واسع وعميق دون طوائف تعيق عمل الدولة أو تقف حائلاً ضدها.
هذه بلدان لا يحتل الدين فيها كل الحيز العام، ولا يقف عائقاً قانونياً أو رادعاً دينياً ضد حرية الخيار الديني أو المذهبي. الضمير الفردي فيها هو السيد الحر المستقل داخل الطائفة وخارجها. الضمير الفردي فيها يمكن ان يكون متديناً أو غير ذلك، لكنه عندما يواجه الساحة العامة، ساحة الحوار والنقاش في القضايا غير الدينية، ينخرط فيها ويمارس نشاطه السياسي دون قيد ديني أو طائفي.
ولا يمنع ان يكون للجماعات الدينية في هذه البلدان تأثير سياسي. المهم ان فيها الضمير الفردي هو موضع الدين، هو الذي يقرر في شأن الدين وغيره، وهو غير ممتلئ بالدين. مجتمعات غير ممتلئة بالدين، بل فيها مكان للسياسة، وفيها السياسة محور الاقتصاد، وفيها السياسة إطار الحياة العامة. لا يخضع فيها الدين للسياسة بل يتحرر من السياسة الطائفية، ينقذ الضمير الفردي نفسه.
ليس الدين بحاجة إلى الساحة العامة، دونها يتحول حكما إلى طائفية تفرز بين الناس وتجعلهم جماعات متنافرة. ليس الدين بحاجة لأن يصير أداة قمع بيد أولياء الطوائف. هو بحاجة فقط إلى الضمير الفردي، ان يكون هذا هو مجاله الوحيد. ضمير فردي يمارس مهامه السياسية مهما كانت ميوله الدينية. ما يجعل الدين والمجتمع في أزمة، هو ان يمتلئ المجتمع بالدين، بحيث لا مجال للسياسة.
يشكل «داعش» حالة قصوى لوضع عام لدى الأديان في منطقتنا التي تخوض مجتمعاتها حروباً (وتخضع لمؤامرات أو تدخلات اجنبية، كما هي حال كل الحروب الأهلية). يشكل «داعش» حالة قصوى لمجتمع امتلأ بالدين، منقسم إلى طوائف، يخلو من السياسة، لا مكان فيه للدولة.
ما يسمونه «دولة إسلامية» هو كيان غير سياسي لم يوجد في الماضي ولا يمكن ان يتحقق في الحاضر والمستقبل. مهما ادعت السلفية، فإن هذا الكيان غير السياسي، ليس مستمداً من التراث بل من تحطيم وتدمير التراث، فراغ في الوعي يحتله الجهل المقدس، ادعاء القداسة المزيف.
الطائفة حالة من حالات امتلاء المجتمع بالدين.
هي أيضاً حالة قصوى. تقود الطائفة إلى الداعشية. لكل طائفة دواعشها.
التحرر من «داعش» يتطلب التحرر من الطائفة والطائفية والطوائف.
والحل؟ هو في الضمير الفردي، تحرر الضمير الفردي إلا مما يقتنع به. لم يكن «داعش» الا استجابة وحشية لدواعش أخرى طائفية تمارس بتهذيب أكبر ووحشية أقل المهام ذاتها.