أزاميل/ متابعة: نشرت إيلاف مقالا تولى الرد على تصريح لمستشار الرئيس الإيراني فيما يتعلق بالعراق، ونظرا لأهمية هذا الرد واحتوائه على مفردات تاريخية وثقافية عديدة، نعيد نشره هنا متأملين إمكانية إعادة مناقشته من قبل المثقفين والسياسيين والقراء، نظرا لأهميته الكبيرة، وخطورته المتوارثة منذ آلاف السنين، دون ان يحسم أو يناقش بشكل موضوعي حتى الآن.
وفي رأينا أولا: أن تصريح المستشار الإيراني يحمل نسبة كبيرة من الحقيقة، وهو لا يشير إلى تبعية العراق لإيران بل على العكس تماما، إنه إعتراف وتقرب وشعور بحاجة ماسة ودائمة للانتماء لبغداد، انه اعتراف باهميتها وتبعية إيران التاريخية لها وللعراق عموما.
ثانيا: ان الرد يحمل في جزء كبير منه طابعا سياسيا راهنا، ودينيا، ورأينا ان الامر يتطلب ماهو اكثر من هذا موضوعية وتحليلا و بعدا عن التأثر بالتيارات والخلافات السياسية وتداعياتها الإعلامية والشعبية والأهم “التعصبية”!.
التاريخ ليس فارسياً!
عمار السواد
“العراق ليس جزء من نفوذنا الثقافي فحسب، بل من هويتنا، وهو عاصمتنا اليوم.. وهذا أمر لا يمكن الرجوع عنه لأن العلاقات الجغرافية والثقافية القائمة غير قابلة للإلغاء، ولذلك فإما أن نتوافق أو نتقاتل” هذا ما قاله علي يونسي مستشار الرئيس الايراني للشؤون الدينية والاقليات، في سياق حديثه عن التاريخ الامبراطوري لايران ودورها المركزي منذ بدايات نشأته.
ورغم ما يثيره التصريح من صدمة باعتباره كلاما وقحا يكشف علانية وبدون خجل عن الطموحات الايرانية المتغلغلة في عمق ثقافة وذهنية نظام يمزج بين الدين والقومية، الا أنه ليس غريبا عن نرجسيتها المعتمدة دائما على هذه الطموحات، والمسكونة بوهم التاريخ الساساني قبل الفتح الاسلامي. ان الذهنية الفارسية، سواء في هذا الزمن او في عهد الشاهنشاهية، ترى العراق، افغانستان، باكستان، الخليج، مساحات من اسيا الوسطى والقفقاز، حدودا للجغرافية الحضارية لفارس التي اتخذت اسم ايران في عهد رضا خان.
وبحسب مطلعين تحاول إيران منذ سنوات أن تعمل على التأسيس ثقافيا لهذه الحدود وتكريسها وفق طرح وحدوي يمتد من شرق المتوسط الى عمق شبه القارة الهندية. وهناك مركز كبير للدراسات والبحوث المعنية بالهوية القومية للثقافة والحضارة الاي
الا أن كل هذا التأسيس رغم ما يبدو عليه من خيلاء وثقة، يعاني من نقطة اساسية تصاحب الحضارة الايرانية، هي أنها متأثرة بثقافة ما بين النهرين أكثر من كونها مؤثرة فيها. فالامبراطورية الفارسية نشأت على مزيج من ثقافة رافدينية وهندية. كل المنجز الحضاري العراقي لأكثر لاربعة الاف سنة تم اقتباسه وتلبسه من قبل الساسانيين منذ احتلال كورش لبابل في القرن السادس قبل الميلاد. فليس صعبا أن نرى التشابه الكبير بين التماثيل الاشورية والبابلية ووريثاتها الساسانية التي ظهرت في عصر متأخر. بل إن عيد النوروز الذي يعد عيدا قوميا، هو بالاساس عيد الربيع الذي احتفل به السومريون قبل وجود شيء اسمه فارس. الفرق الرئيسي ان الارض الصخرية لايران تحتفظ بملامح ما تم اقتباسه وتلبسه من العراق الطيني، باسثتناء المنطقة الشمالية التي تمركز فيها الاشوريون وصنعوا فيها حضارتهم الصخرية الضاربة بعمق في آثار بلاد فارس.
الامبراطوريتان الفارسية والرومانية هما حاملتان للثقافتين والحضارتين العراقية والمصرية، قبل أن يكونا مؤثرتين في واديي ما بين النهرين والنيل. وليس مصادفة ان يتخذ الفرس قلب العراق “طيسفون” عاصمة لهم، والروم والاغريق مصر قاعدة انطلاق نحو الشرق. والفرق هنا ان الروم، الناجين من الفتح الاسلامي والمحافظين على بقائهم شمال المتوسط، حضارة منتصرة، يسهل أن نجد فيها اصولها الثقافية وعلى رأسها الثقافة المصرية، اما الفرس فهم وجود مهزوم تلاشى جغرافيا لقرون طويلة، فاختفت معالم تلك الاصول وعلى رأسها الثقافة العراقية.
ورغم أهمية الرموز ذوي الاصول الفارسية، من فلاسفة وفقهاء ومتكلمين وعلماء، في الثقافة خلال العصر العباسي، الا أن الاطار الجغرافي والمجتمعي والتاريخي عراقي والبيئة الحاضنة هي ما بين النهرين، وتحديدا بغداد. فالحدود الجغرافية للثقافة الايرانية لا تمتد الى العراق، بل العكس تماما، ان اصول ثقافة ما بين النهرين وروحها متسعة لتشمل امبراطوريتهم وتاريخهم. لهذا هناك قلق مستمر من هذه الخلفية والحقيقة المعاكسة لما يروجون له. واذكر هنا حوارا دار مع طالب فلسفة ايراني في التسعينات، كان يتحدث عن الحضارات الاصيلة، استغربت أنه كان يتعمد عدم الاشارة الى الحضارات السومرية والبابلية والاشورية، بل يتحدث عن الروم ومصر واليونان والصين، فقلت له لكنك ترفض الاقدم من كل هذا، فرد، ان هذه “تلاشت على يد الحضارة الفارسية”. لكنها لم تتلاشى، بل انها اخترقت جسد حضارته، لهذا يحاول ان يقفز عليها، لأن الاقرار له نتائج لا ترضي الطموحات.
والامر لا يقتصر على التاريخ القديم او العباسي، بل يمتد الى بدايات قيام الدولة الصفوية، التي اعتمدت على الفقه “الشيعي” المتمركز في النجف لتكوين ايديولوجيتها. لذلك حاولت بعد ان استقرت واعتمدت التشيع، ان تسيطر بشكل كامل على هذا المركز الحيوي، وتحويله من مركز عراقي الى مركز فارسي. وليس مصادفة ان المرجعيات المؤثرة بعد وفاة الشيخ جعفر كاشف الغطاء، قبل قرنين، باتت مرجعيات من أصول ايرانية، عدا بعض الاستثناءات. وهذه نقطة تحول تنطلق من قلق تغيير مسار التأثر بالعراق الى تأثير مضاد به.
ان مزج التاريخ مع الحاضر بطريقة “يونسي” وعموم الذهنية المتحكمة في ايران، قفز على التاريخ وعلى الحاضر نفسه. ففي الوقت الذي يصبح العراق تحت نفوذ ايران السياسي، فإن نظرية ولاية الفقيه على الطريقة الايرانية لا تلق الكثير من القبول في الاوساط الدينية العراقية، بل ان اطروحات ايرانية تزامنت مع الحركة الخضراء دعت الى مراجعة ولاية الفقيه على اساس اراء الفقهاء في العراق، بمعنى أن يكون تدخل الفقيه محدودا في الحياة السياسية. وهذه التصريحات تتناسى دائما ان قوة الحضارة الفارسية دائما تولد عند ضعف الحضارة في الجار الغربي. والقوة هنا ليس على طريقة الغلواء القومي العروبي التي انطلق منها طاغية النظام السابق، بل على أساس الخصوصية العراقية الاقدم من اللغة العربية والتاريخ الاسلامي.
وسط كل هذا، الخيار ليس حرب حزب البعث، وليس الوفاق على طريقة ولاية الفقيه، انما الاحترام، وهذا لن يتحقق الا اذا استعاد العراق عافيته، وسيفعل، مهما حاول الجيران أن يتخلصون منه، كل حسب طموحاته. وفي حربنا ضد داعش، التي صنعتها بها انظمة اقليمية لمواجهة ايران بها في العراق، لكنها دفعت الايرانيين لمزيد من النفوذ، لا يمكن أن ننسى عراقيتنا.
فمن يريد ان يستخدم التاريخ عليه أن يتذكر أنه بدأ هنا في أوروك وأور، والحرف الاول خط في ارض الطين العراقية، وأولى القوانين سنت في بابل، وليس في فارس. التاريخ الذي يعتمد عليه الغرور الايراني، لم يبدأ عندما سقطت بابل، انما قبل أن يولد كورش باربعة الاف من السنين.
- عن: موقع إيلاف.