كتب عمار السواد تحت عنوان ولاية الفقيه والسلفية ضد الغرب
إحدى ملامح “صراع الحضارات” الذي نظّر له الباحثان الامريكيان فوكوياما وهنتنغتون نهاية القرن الماضي، هي إعادة المسلمين الى نزاعاتهم الأساسية، اذكاء جذوتها مجددا، بعد أن تراجعت الى حد كبير مع قيام الدول العربية والمسلمة الحديثة، وسقوط الخلافة ونهاية الصراع الصفوي “القاجاري” ـ العثماني، ودخول الوهابية السعودية منحى جديداً بفعل القفزة النفطية والمصالح الاستراتيجية التي تستدعي وضع حد لغلواء الرغبة السلفية بغزو العالم الإسلامي.
ان القرن العربي والشرق أوسطي الماضي لغاية ربعه الأخير، اتجه لصراعات من نوع آخر، أقرب لروح العصر، بعيدا عن تداعيات العلاقة مع الإسلام، لكن البعد التاريخي لهذا الدين، وارتباطه بالعروبية التي لم تجد لنفسها تعريفا يتجاوزه، أعاد الأمور مجددا الى لحظة دينية بامتياز. هزيمة الناصرية في 67، وانتصار الثورة الدينية في إيران، وحرب أفغانستان الدينية بمواجهة “الالحاد” الشيوعي، وتغيير دفة الصراع مع إسرائيل من قومي بمواجهة الديني الى ديني بمواجهة الديني مع تأسيس حزب الله وحماس، وتفكك المنظومة الشيوعية، وانهيار المشروع القومي مع احتلال نظام صدام للكويت، وقيامة تنظيم القاعدة، أعاد المنطقة الاغنى بالنفط الى صراعها القديم نفسه، الدين ضد الدين “الحروب الصليبية” او الدين ضد الكافر “حروب الفتوحات”. ان الصراع ولد قبل أن يكتب عنه الباحثان الامريكيان، سواء انتصار الرسمالية عند فوكوياما او صدام الحضارات عند هنتنغتون، ليكلل تصورهما بتفجيرات سبتمبر التي نعيش هذه الأيام ذكراها.
في كل هذه التطورات التي بدأت مع الربع الأخير من القرن الماضي، يلاحظ أن المسلمين يبحثون في دينهم عن صيغته العالمية التي صار عليها منذ آية “غلبت الروم” وبالأخص منذ انطلاق الفتوحات في عهد الخليفة أبو بكر. وتاريخيا ظل الإسلاميون “السنة” هم حملة هذه الفكرة، أصحابها الرئيسيين او الوحيدين قياسا الى غيرهم من المذاهب الإسلامية. حتى رمز “التشيع” الامام علي بن ابي طالب، لم يكن ذا نزعة توسعية في الفتوحات، لأن المعارك التي خاضها معارك داخلية صرف. والدول الشيعية التي ظهرت في العراق وبلاد فارس ومصر، لم تكن ذات سمة عالمية انما اعتمدت على النزاعات المذهبية الداخلية. فالعالمية عند الشيعة سابقا ارتبطت بظهور المهدي.
لكن مع انطلاق الثورة الدينية الإيرانية، واحتلال شبانها المتطرفين للسفارة الامريكية، وما جرى لقوات المارينز في لبنان ثمانينات القرن الماضي، غيّر مسار الشيعية السياسية، من نزاعها المحلي الى نزعة عالمية. امام خميني حين رفع شعار “الموت لأمريكا” أعلن النهاية الفعلية للمحلية الشيعية، واراد طرح نفسه باعتباره شخصية عالمية. وحتى في العراق كان للحوزة الصدرية رأي مقارب للتصور الإيراني. فالسيد محمد الصدر رفع شعاره “كلا كلا أمريكا” واستعرت هذه التوجهات مع رفع السلاح ضد الأمريكيين نهاية 2003.
في المقابل ولدت السلفية الوهابية من رحم ارهاص داخل البيت الإسلامي. كانت فكرة “انحراف” المذاهب الإسلامية السنية و”شرك” المذاهب الإسلامية الشيعية، قاعدة جوهرية في الحركة الوهابية. فدعوة محمد بن عبد الوهاب لم تكن تنظر الى المسيحية واليهودية، ولا للاستعمار وعلمانية ثورات الحرية في فرنسا وأمريكا ولم تكن معنية كثيراً بالشيوعية العالمية، إنما ركزت اهتمامها على عناصر داخل الدين الإسلامي. وساعدها ذلك على التحالف مع الملك عبد العزيز بن سعود ذي التوجهات المتصالحة مع الغرب، فهي لم يعنها كثيراً التوجهات الانفتاحية للسعودية على العالم “الكافر” بقدر ما عناها الصراعات ضد المذاهب الأخرى، وتحديدا المذهب الشيعي في العراق والنزعة المركزية لدى التسنن المصري. لكن ومع حدوث أول متغير داخل السعودية نفسها، بظهور جهيمان العتيبي، ثم حرب “الإسلام” ضد الشيوعية في أفغانستان، وقيامة القاعدة، دخلت السلفية مرحلتها الجديدة، وأخذت جزءا كبيرا من الوهابية لصالحها. وخرجت من دائرتها المحلية الى روح الإسلام العالمية.
هذا الصعود بين التشيع العالمي الناشئ والسلفية العالمية الناشئة، ولّد صراعاً بين وليدين يريد كل منهما أن يكون الممثل الشرعي لعالمية الاسلام، خصوصا وان حركة الاخوان المسلمين المصرية بدأت تفقد بريقها، لصالح وريثيها ولاية الفقيه والوهابية العالمية.
هنا نمط جديد لصدام الحضارات، نمط صراع بين قوتين جبارتين تمتلكان نفوذا وسعا، هو صراع تمثيل الإسلام في الحرب العالمية، وما مؤتمر غروزني في روسيا الذي أعلن عدم سنية السلفية، وفتوى مفتي السعودية الذي أعلن عدم اسلام الإيرانيين، الا تكريس لهذا الصراع، والتموضع. لكن هذا الامر خلق نمطاً من الأسئلة يبدو أن الجانبين مع حركة الاخوان غير قادرين على الإجابة عنها؛ هل الإسلام مؤهل فعلا لأن يخوض هذا الصراع ضد قوى حضارية منسجمة مع زمنها؟!
ان عودة الإسلام الى عالميته، أفقده توازنه، لأنه لم يحسم نزاعاته الداخلية بعد. بمعنى آخر لا وجود لممثلين موحدين عنه في هذه العالمية. وبمعنى ثالث أن تنازع قواه الداخلية كفيل بخلق حالة نفور منه.
لقد توحدت أوربا في الحروب الصليبية تحت علم ريتشارد قلب الأسد، وهزمت حين تفرقت عنه، وتوحد المسلمون ضد الامبراطوريات تحت راية الخلافة، وهزموا حين تفرقوا عنها، بينما توحدت بريطانيا وفرنسا تحت سايكس بيكو في الاستعمار وكادا ان يهزما بالحرب العالمية الثانية، لكن أمريكا انقذت الوحدة. لذلك، الجامع الديني لا يستطيع الصمود كثيرا امام الخلافات الداخلية “المقدسة” بينما نجحت القوى غير المعنية بالدين بالتغلب على عناصر اختلافها لتبقى موحدة ضد عدوها.
والان اتحد العالم غير المسلم ضمناً، حول الموقف من التطرف الإسلامي، بين أمريكا وأوروبا وروسيا، ما ساعد على اذكاء الصراعات لدى الخصم الحضاري الإسلامي المفترض، ولم يوحده!
المصدر: إيلاف