قراءة في مقالة أدونيس: (رهبة، رهاب، إرهاب عبد القادر أنيس 2010 / 1 / 30 بقلم عبد القادر أنيس
نبهني الحكيم البابلي مشكورا إلى مقال أدونيس المرفق (رهبة رهاب، إرهاب) فعدت إليه وقرأته وشخصيا وجدت أن تعليقات بعض أصدقائنا غير منصفة في الحكم عليه في كثير من الجوانب. المقال في رأيي، في غاية الحصافة.
فهو أولا يشدد على البيئة العربية الإسلامية مفرخة الإرهاب. وهو ثانيا يشدد على نفاق بعض الحكومات الغربية التي تعميها مصالحها أحيانا كثيرة عن التعامل مع القضايا العالمية بحصافة. وهو أخيرا يشدد على الدور السلبي البغيض للمقدس عندنا الذي لا تزال شعوبنا رهينة له يمسك بخناقها ويوجهها نحو التيه والضلال. ّ ((«الإرهابي» الذي لا يحاربون فيه إلاّ سلاحه «الظاهر»، ٌ مؤمن ّأولاً، وقبل ّكل شيء، إيماناً كاملاً بمطلقه الديني.
نقرأ من المقال َ لذلك، لا تجد حقيقتها إلا فيه، ولا تجد خلاصها إلاّ به.)) ٌ مؤمن ّ أن ٌ المعنى الأخير لوجوده نابع ُ من هذا المطلَ ّ ق. أن حياتَه، تِ ْبعاً َ ، لا يعمل على ه ْدم كل ما يناقضه؟)) ُ ، لا يستسلم ّ لكل ما يعزز هذا الإيمان؟ لماذا، إذاً ونقرأ في المقال: (( لماذا، إذاً وأنا بدوري أؤكد أن من يقرأ الإسلام لا بد أن يكون أحد اثنين: ملحدا خرج من قراءته الذكية للدين إلى الحرية والتسامح والعلمانية والديمقراطية وحكم عن وعي على الدين بأنه أساطير الأولين ولا بد أن ينحصر التعامل معه في هذا الباب فقط. أو يكون مؤمنا مصدقا لما جاء فيه ومن واجبه الشرعي العمل به عملا لا بد أن ينتهي إلى الجهاد ورديفه الإرهاب.
أما من يزعم غير ذلك من المسلمين فهو لا يعرف الإسلام أصلا ويكتفي بما لقنه إياه وكلاؤه من رجال الدين ومعلمي المدارس من إسلام مدجن منتقى مصفى حسب الطلب. وأنا شخصيا راودتني في شبابي، لما كنت تحت تأثير هذا الدين، نزعات تمرد ضد الواقع وكنت من أشد المعجبين بالقول المنسوب إلى علي بن أبي طالب: (عجبت لمن يدخل بيته ولا يجد قوتا كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه) وبأحاديث وآيات كثيرة اعتقدت أنها كل الدين.
ولو صادف أنني وجدت في طريقي من قادني إلى الإرهاب فلعلني كنت فعلت غير أنني صادفت من وجهني يسارا ضد الدين بوصفه رديف الاستبداد وخادمه وحليفه رغم أن هذا المنحى هو أيضا قد قاد إلى الانغلاق والاستبداد والقمع في في غير ما مكان.
طبعا أنا اليوم مقتنع باللبرالية الديمقراطية كأفضل الحلول السلمية لإدارة جميع أنانيات الناس ولتنظيم أنفسهم والدفاع عن حقوقهم، بل أعتبرها من صميم اليسار بما كان يعنيه من تقدمية وحرية وحداثة. أما الجهاد على طريقة القاعدة بل حتى على طريقة حزب الله وحماس أو الثورة على طريقة الدرب المنير فهي ضلال في ضلال ولا تساهم إلا في زرع الأوهام في خلاص لا يأتي عن طريق العمل والعلم والإبداع والتنظيم، لأن أغلب الثورات انتهت إلى إقامة أنظمة استبدادية أبغض من تلك التي ثار الناس ضدها.
ولعلني، إذا صدق فهمي لأدونيس، لا أشاركه مواقفه تجاه الإرهابيين حتى وهو يدينهم ويدعو إلى استئصالهم، كما لا أشاركه في أحكامه على مواقف البلدان الغربية ولا حتى فهمه لمأساة الفلسطينيين لأن استعصاءها على الحل في نظري يعود أصلا إلى اصطباغها بالطابع الديني والرفض المتبادل بالإضافة إلى التناحر المرير أيضا كما هو حال الصراع الفلسطيني الفلسطيني حاليا والعربي العربي دائما.
وتقديري أن العالم كان ومازال وسيظل عالما نيتشويا البقاء فيه للأقوى والأصلح والأقدر على الإبداع والإنتاج والتنظيم. وإذا كان معذبو العالم يعانون فهم يتحملون مسؤولية معاناتهم إلى حد كبير، فلا أحد يحرر أحد. وحتى الحياة الغربية الرغدة مقارنة بحياتنا الشرقية الخالية من أي طعم، طبعا لمن حالفه الحظ منا وملك ذوقا سليما وحسا مرهفا، فهي ليست منة من حكوماتهم بل هي محصلة نضالات بشر لا تأخذهم سنة ولا نوم منذ بداية نهضتهم وهم يدافعون عن المكتسبات التي حققوها بالدماء والدموع والتي لا تزال تهددها قوى الماضي البعيد والقريب من رجال دين قروسطيين وقوميين عنصريين ومصرفيين جشعين يتغذون من الأزمات التي يتسببون فيها ولا يجب أن ننتظر منهم تخليصنا من أوبئتنا الروحية والمادية ما دمنا غير جاهزين لقبول حلولهم.
ولهذا أشكك في جدوى قوله: ((لماذا لا ينظرون، في هذا الأفق، الى «براكين» الإرهاب: الفساد، الفقر، الأمية، البطالة، القمع، الطغيان، العدوان الخارجي على جميع المستويات، الكارثة الإنسانية المتواصلة منذ أكثر من نصف قرن، في فلسطين، والنزعة ّ ، وتوسعاً، واستملاكاً َ ، وط ْرداً، وسجناً، وقتلاً، ولا مبالاة))ً. َ ، وع ْزلاً الجامحة في السياسة الإسرائيلية تشريداً، وتهديماً فأنا لا أعتبر الإرهاب رد فعل للفساد والفقر والأمية والبطالة والقمع والطغيان والعدوان الخارجي.
فهذا شرف لا يستحقونه. الإرهابيون ليسوا ثوارا من أجل قضايا إنسانية دنيوية علمانية كهذه. ويكفي أن نعرف أن من قاموا بـ(مأثرة) نيويورك كانوا في أغلبيتهم ينتمون إلى أسرة ميسورة الحال، واستفادوا من رعاية كبيرة ومنح دراسية وأمامهم مستقبل زاهر لو أنهم سلكوا سبيل التحصيل العلمي ولم يكونوا من الصنف المؤمن الذي أشرت إليه آنفا. وحتى في الجزائر، بحكم أنني عايشت مأساتها، فإن برامج الإرهابيين الإسلاميين وحلولهم هي أبعد عن أن تكون تعبيرا عن ((«براكين» الإرهاب: الفساد، الفقر، الأمية، البطالة، القمع، الطغيان، العدوان الخارجي على جميع المستويات)).
لقد مارسوا بمنهجية مقصودة القمع والتقتيل والسبي والذبح ضد مواطنين وقعوا بين المطرقة والسندان متهمينهم بالنفاق والابتعاد عن الصراط المستقيم. لهذا أقول إن من يؤمن إيمانا عميقا أعمى بما جاء في الكتاب والسنة فليس له خيار آخر إلا الجهاد والإرهاب مستهديا بنصوصهما، ويمكن بسهولة مدهشة أن يصنف جميع الناس مسلمين وغير مسلمين في خانة أعداء الله الذين يجوز فيهم الجهاد والإرهاب كونهم من قبيل الساكت عن الحق شيطان أخرس، باعتبار الحق في صفهم وغيرهم الباطل بما في ذلك من لم يؤيدهم أو يعارضهم .
وشخصيا لو كنت أنتمي إلى هكذا إيمان فلن أتردد لحظة واحدة في العمل على تعجيل رحيلي لأنتقل إلى جنات عرضها السموات والأرض، تجري من تحتها الأنهار، خالدا فيها أبدا، فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة، فيها حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فيها.. فيها.. ُام ُ الإسلام الجهاد في سبيل الله». ّ أم َ تي» (حديث)، وإلى القول السائر: «سنَ َ ر ْهبَانيّةُ ِ ولقد اكتفى أدونيس بسوقه («عليكم بالجهاد فإنَّهُ وأنا بدوري أضيف غيضا من فيض حول ما ورد عن الجهاد من أحاديث وآيات لا تزال حية تفعل فعلها في حياتنا: نقلا من موقع إلكتروني باسم “أنا المسلم” !!! ((فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة ” أخرجه مسلم في صحيحه ، وفي لفظ له ” تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة”.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ما من مكلوم (مجروح) يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي؛ اللون لون الدم والريح ريح المسك ” متفق عليه، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم” رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي العمل أفضل ؟ قال إيمان با�韀 ورسوله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور .”
وعن أبي عبس بن جبر الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ما أغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار. رواه البخاري في صحيحه ، وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه به مات على شعبة من نفاق ” وأيضا آيات الجهاد والقتال والنفير وهي كثيرة تزيد على السبعين، مثل: ٌور َّ ر ِح ٌيم} سورة البقرة: 218( َ و ّ�韀 َ ُغفُ ـئِ َك يَ ْر ُج َون َ ر ْح َم َت ّ �韀ِ ْولَ ُ َ و َج َ اه ُدواْ فِ َ ي سبِ ِ يل ّ �韀 ِأ ِذ َ ين َ ه َ اج ُرواْ َ والَّ ِذ َ ين َ آمنُواْ َّن الَّ ِ ( إ َّ الصابِ ِر َ ين} سورة آل عمران 142( ِ م ُ نكْم َ ويَ ْعلَمَ ِذ َ ين َ ج َ اه ُدواْ ِم ّ �韀 ُالَّ َّما يَ ْعلَ َ ولَ َجنَّةَ ْ ْم أَن تَ ْد ُخلُواْ ال ْم َ ح ِسْبتُ (أَ ِهْم ْمَو ِال ُم َج ِ اهِد َ ين بِأَ ْ ال ِس ِهْم فَ َّض َل ّ�韀ُ ِهْم َوأَنفُ ْمَو ِال ُم َج ِ اه ُد َون فِي َسبِ ِ يل ّ�韀 ِبِأَ ْ ْوِلي َّ الض َرِر َوال ُ ُمْؤ ِمنِ َ ين َغْي ُر أ ْ ِ اع ُد َون ِم َن ال قَ ْ ِوي ال يَ ْستَ (لاَّ ْج ًر َ ا ع ِظ ًيما} سورة النساء: 95( ِ اعِد َ ين أَ قَ ْ ُم َج ِ اهِد َ ين َ علَى ال ْ َى وفَ َّض َل ّ �韀 ُال ُح ْسنَ ْ َ و َع َد ّ �韀 ُال َ و ُكـلا�韀 ِ اعِد َ ين َ د َر َجةً قَ ْ ِس ِهْم َ علَى ال َوأَنفُ لَّ ُكْم تُْفِل ُح َون} سورة المائدة: 35( َ و َج ِ اه ُدواْ فِ َ ي سبِ ِيل ِه لَعَ َو ِسيلَةَ ْ ِيه ال لَ ِ ّ �韀 َ َو ْابتَغُواْ إ ِذ َ ين َ آمنُواْ اتَّقُواْ َها الَّ يُّ (يَا أَ آمنُواْ ِذ َ ين َ ْوِليَاء بَ ْع ٍض َوالَّ ـئِ َك بَ ْع ُض ُهْم أَ ْولَ ُ أ َص ُرواْ َّونَ آوواْ ِذ َ ين َ َوالَّ ِس ِهْم فِي َسبِ ِ يل ّ�韀ِ ِهْم َوأَنفُ ْمَو ِال بِأَ َو َج َ اه ُدواْ َو َه َ اج ُرواْ آمنُواْ ِذ َ ين َ َّن الَّ ِ (إ ُهم ِّميثَ ٌ اق ْوٍم بَ ْينَ ُكْم َوبَ ْينَ َعلَى قَ ِلاَّ ْص ُر إ ْي ُكُم النَّ لَ َ نص ُر ُوكْم فِي ِّ الد ِ ين فَعَ ِ ِن ْ استَ َوإ َه ِ اج ُرواْ ِهم ِّمن َش ْيٍء َحتَّى يُ َولاَيَتِ َما لَ ُكم ِّمن َه ِ اج ُرواْ ْم يُ َولَ َون بَ ِص ٌير} سورة الأنفال: 72( َو ّ�韀 ُبِ َما تَ ْعَملُ َ و ِر ْز ٌق َ كِر ٌيم} سورة الأنفال: ُه َّ م م ْغِف َرةٌ ُمْؤ ِمنُ َون َ حق�韀ا لَّ ْ ـئِ َك ُ ه ُم ال ُولَ َص ُرواْ أ َّ ونَ ِذ َ ين َ آوواْ َ والَّ َ و َج َ اه ُدواْ فِ َ ي سبِ ِ يل ّ �韀ِ َ و َه َ اج ُرواْ ِذ َ ين َ آمنُواْ َ(والَّ (74 (74
كيف لا يتحول البعض من أبنائنا الذين يحقنون لسنوات طويلة في مدارسنا ومساجدنا بهذا الكلام إلى إرهابيين؟ لهذا فقد أبدع أدونيس عندما كتب ((كذا لا يرون منه إلا سلاحه. لا َ يرون من هذا السلاح إلا فعلَه ِّ المخرب. أَما تلك الطاقة الداخلية التي ِّ تحركه، فلا يعبأون بها. هكذا، يطاردون َ السلاح ويُهملون ّ «الروح» التي ُ تقوده ّ وتوجهه. يحاربون َّ «الرهبةَ» وينسون َّ «الرغبة». َ
يقفون عند «الإرهابي» في الإنسان، اختزالاً، وتبسيطاً، لا يقفون عندما يخبئهُ «إرهابهُ» من َّ «الرغبة»، إنسانياً، ومن َّ «الر ُّ غيبة»، و «الر ْغبَى»، دينياً)). أفلم تكن غالبية الشباب الذين شاركوا في غزوة نيويورك سعوديين نهلوا من نفس التربية التي لا تزال مدارس ومساجد هذا البلد وغيره يفرضونها على ناشئتنا، ومع ذلك لا أحد يضايق هذه الحكومات بصورة جدية مثلما هب الجميع لمحاربة الإرهاب بعد أن طرق أبوابهم بل المضحك المبكي أن الغرب قد ساهم من خلال تكنولوجيا المعلومات في توسيع تأثيرها عبر الفضائيات وأنترنت وغيرها.
ولعل هذا ما أحبط أدونيس وهو يلاحظ بعين المراقب النبيه ما يسود العلاقات الدولية التي يشرف عليها العالم الغربي من نفاق وتشوه. ولن يلقى سؤاله آذانا صاغية ((لماذا لا يخطر في بالهم أن القضاء على الإرهاب، إن كانوا يريدون ذلك حقاً، لا يبدأ ِ من مطاردة السلاح، وإنما يبدأ بالعمل على الخلاص من هذا كلّه؟)). هل لدى من يعنيهم أدونيس الرغبة والإرادة للضغط الكافي على العالم الإسلامي حتى تتوقف مدارسه ومساجده وفضائياته ومواقعه الإلكترونية عن حقن الناشئة بنصوص الإسلام الإرهابية؟ ّ ((«الإرهابي» الذي لا يحاربون فيه إلاّ سلاحه «الظاهر»، ٌ مؤمن ّأولاً، وقبل ّكل شيء، إيماناً ويبدع الكاتب مرة أخرى وهو يكتب كاملاً بمطلقه الديني. ٌ مؤمن ّ أن المعنى الأخير لوجوده ٌ نابع من هذا ُ المطلَق. ّ أن حياتَه، تِ ْبعاً لذلك، لا تجد حقيقتها إلا فيه، ولا تجد َ ، لا يعمل على ه ْدم كل ما يناقضه؟)) ُ ، لا يستسلم ّ لكل ما يعزز هذا الإيمان؟ لماذا، إذاً َ خلاصها إلاّ به)).
((لماذا، إذاً ويستمر الكاتب في إتحافنا بنظراته الثاقبة مثل: ِق «الإ ّ رهابي» أو ُّ «الر ّ هابي»، الى الحياة العربية الإسلامية في واقعيتها المرئية والملموسة؟ ألا ((لماذا لا ينظرون، في هذا الأفُ يكاد ُّ السبَات الذي يُهيمن عليها أن يكون َّ أشد خطورةً من الفوضى؟ الأول دليل ِ الجمود واللامبالاة والتعفّن. الثانية دليل ق ٍ لق وحيوية، ُّ ب على السبَ ِ ات يحتاج ٍ وإن كانت دليل استهتار ُ ولا م ّ بالاة. ويمكن السيطرة على الفوضى، بحيث يحل محلها الاستقرار. غير أن التغلّ الى ثورةٍ ليست الحياة العربية، الآن على الأقل، مهيّأةً لها)). أتوقف هنا حتى لا يطول مقال إلى حد الملل رغم أن في كل فقرة من الفقرات السابقة واللاحقة نظرات عميقة ثاقبة بقدر ما هي مثيرة للإعجاب بقدر ما تثير الاعتراض شأنها شأن كل فكر مبدع
نص مقال أدونيس
رَهبة، رُهَاب، إرهاب
- 1 –
لا خلافَ، مبدئياً، على محاربة الإرهاب. القضاءُ عليه أمرٌ تفرضه ضرورة القضاء على كلّ ما هو مظلمٌ ووحشيٌ في الإنسان. واستئصاله، إذاً، ضرورةٌ مُطلقة.
لكن، هناك اختلافٌ على طرق المحاربة. خصوصاً أن بعضها يُمارَس، اليوم، عشوائياً، بحيث تبدو كأنها إرهابٌ آخر. خصوصاً أنّ الإنسان يكاد أن يُعامَل، اليومَ بوصفه إرهابياً، أو نصيراً للإرهاب، أو متعاطفاً، أو شريكاً. ثمّة نزوعٌ متزايدٌ لعولمة الإرهاب: حَرْباً بهِ، وحَرْباً عليه.
الإرهابُ لا يُحارَبُ بالإرهاب.
- 2 –
يجرّدون الإرهابيَّ من ظروفه كلها. من عوامل التاريخ، ومن دوافع النفس. من العلاقات والمصائر. من الأحلام والطموحات مِمّا يشغل الفكر والعقل والقلب. من الهزائم والخيبات والانسحاقات. ينظرون إليه كما لو أنّه كتلةٌ صَمّاء. كأنّه مجرّد قنبلة، مُجرد حجَر، مُجرد فَخّ.
هكذا لا يرون منه إلا سلاحه. لا يرونَ من هذا السلاح إلا فعلَه المخرِّب. أَما تلك الطاقة الداخلية التي تحرِّكه، فلا يعبأون بها. هكذا، يطاردون السلاحَ ويُهملون «الرّوح» التي تقودُه وتوجّهه. يحاربون «الرَّهبةَ» وينسون «الرَّغبة». يقفونَ عند «الإرهابي» في الإنسان، اختزالاً، وتبسيطاً، لا يقفون عندما يخبئهُ «إرهابهُ» من «الرَّغبة»، إنسانياً، ومن «الرَّغيبة»، و «الرُّغْبَى»، دينياً. لا يُصغون الى ما يُصغي إليه: «عليكم بالجهادِ فإنَّهُ رَهْبَانيّةُ أمّتي» (حديث)، وإلى القول السائر: «سَنَامُ الإسلام الجهادُ في سبيل الله».
- 3 –
«الإرهابيّ» الذي لا يحاربون فيه إلاّ سلاحه «الظاهر»، مؤمنٌ أوّلاً، وقبل كلّ شيء، إيماناً كاملاً بمطلقه الديني. مؤمنٌ أنّ المعنى الأخير لوجوده نابعٌ من هذا المُطلَق. أنّ حياتَه، تِبْعاً لذلك، لا تجد حقيقتها إلا فيه، ولا تجد خلاصَها إلاّ به.
لماذا، إذاً، لا يستسلمُ لكل ما يعزّز هذا الإيمان؟ لماذا، إذاً، لا يعمل على هَدْم كل ما يناقضه؟ ولئن أعوزه السلاح الآليّ، فإن عنده سلاحاً آخر: جسده نفسه – ذلك السلاح الحيوي، الطبيعي، الذي لا «يَسْتَوردُه»، والذي هو وحده صانعهُ، وسيّدٌ عليه، والذي لا مَردَّ له، ولا غالبَ حتى الموت نفسه. ماذا أقول: الموتُ نفسه جزءٌ من هذا السلاح.
- 4 –
لماذا لا ينظرون، في هذا الأفُقِ «الإرهابيّ» أو «الرُّهابيّ»، الى الحياة العربية – الإسلامية في واقعيتها المرئية والملموسة؟ ألا يكاد السُّبَات الذي يُهيمن عليها أن يكون أشدَّ خطورةً من الفوضى؟ الأول دليل الجمودِ واللامبالاة والتعفّن. الثانية دليل قلقٍ وحيوية، وإن كانت دليل استهتارٍ ولا مُبالاة. ويمكن السيطرة على الفوضى، بحيث يحلّ محلها الاستقرار. غير أن التغلّب على السُّبَاتِ يحتاج الى ثورةٍ ليست الحياة العربية، الآن على الأقل، مهيّأةً لها.
لماذا لا ينظرون، في هذا الأفق، الى «براكين» الإرهاب: الفساد، الفقر، الأمية، البطالة، القمع، الطغيان، العدوان الخارجي على جميع المستويات، الكارثة الإنسانية المتواصلة منذ أكثر من نصف قرن، في فلسطين، والنزعة الجامحة في السياسة الإسرائيلية – تشريداً، وتهديماً، وعَزْلاً، وتوسّعاً، واستملاكاً، وطَرْداً، وسجناً، وقتلاً، ولا مبالاةً.
لماذا لا يخطر في بالهم أن القضاء على الإرهاب، إن كانوا يريدون ذلك حقاً، لا يبدأ من مطاردة السلاح، وإنما يبدأ بالعمل على الخلاص مِن هذا كلّه؟
لماذا لا يلاحظون أنّ هذا كلّه لا تريده ولا تعمل له – لا الأنظمة العربية أو الإسلامية، ولا الأنظمة الأجنبية، ولا إسرائيلُ، طبعاً؟
لماذا لا يرون، استناداً الى ذلك، أن كلامهم على السلام لا يُنظَر إليه إلا بوصفه غطاءً آخر للحرب المتواصلة التي لا يتمزّق فيها إلا جسمان: الجسم العربي، بخاصة، والجسم الإسلامي، بعامة؟
لماذا لا يعقلون أنَّ حربهم على الإرهاب لن تُفهَم إلا بوصفها حرباً على البشر أنفسهم، وعلى ثقافتهم، وعلى منجزاتهم، وعلى طموحاتهم، وعلى حقوقهم؟
لماذا لا يفهمون أن كل ما يعزّز إنتاج السلاح، وما يدمّر طاقات البشر ومواردهم ومصادرهم، إنما هو خميرة الإرهاب الأولى؟
لماذا لا يتأمّلون في هذه البداهة: الإرهاب الحقيقي، في هذا المنظور، كامِنٌ في هذه الحَرب الغاشمة الجاهلة على الإرهاب، الحرب التي تمارسها الولايات المتحدة، «زعيمة العالم الحر»، وحلفاؤها غرباً وشرقاً، مسلمين وعرباً؟
- 5 –
غير أن «الساحر» لا يجيب، لا يقدّم حلولاً. السّاحرُ «يوهم» و «يموّه». «يُخيِّل»، و «يشبّه»، و «يصطنع».
هكذا، سوف يتّخذ هذا «الساحر» من الإرهاب «ذريعة» و «واجهة» لحربٍ أخرى يفرض فيها سيطرته وهَيْمنتَه. يغزو، دون «غزو». يحتلّ، دون «احتلال». يدعم الأنظمة الحليفة، دون «دَعْمٍ»، ودون «تَحالُف».
ثم تقدّم «وقائعُ» الإرهاب الوسائلَ التي تكتمل بها «الحبكة»: الانغلاق الديني، الأعمال «النضالية» التي لا تميّز بين البريء والمجرم، بين الطفل والكهل، أو حتى بين «المؤمن» و «الكافر». ويَسهل عند ذاك القولُ بعبثية النضال العربي أو الإسلامي، أو بوحشيته. و «الأخطر» يسهلُ القول: الأفقُ مغلقٌ في وجه أولئك المجانين الذين يتصوّرون أنّ في الإمكان بناءَ مجتمعٍ عربيّ جديد، ومختلفٍ عمّا هو، اليوم. وليس عليهم إلاّ أن يزدادوا يقيناً بأن «العصر الذهبي» الذي يحلمون به لن يكون إلا عصراً آخر من الحجر.
- 6 –
خطأٌ، في ظنّي، تشبيهُ الأصوليات الإسلامية، بتجلياتها المتعددة والمتنوعة، بالأصوليات الأخرى: القوموية الوحدوية، والشيوعية المؤسسية، واليساروية. وبأنها، خصوصاً، حلّت محلّها، مالئةً الفراغ الذي تركته في المجتمعات العربية والإسلامية. هذا تفسيرٌ «غربيٌ» محضٌ، بالمعنى السياسي السيئ والسلبي. وهو لذلك تبسيطي، اختزالي، سطحي.
الأُصولية في هذه المجتمعات هي المادة والتربَةُ والواقع. هي الأساس. غير أنها كانت، لظروف تاريخية، «نائمة» أو «مُنوَّمة». والتاريخ لا ينام. وها هي مثله «تستيقظ». ولم يكن الدين، بحصر المعنى، مُنَبِّهها الأول، إذ ليست هناك قراءات جديدة دينية – روحية لهذه الأصول، في ضـوء الانقلابات المعرفية والعلمية الكبرى التي عرفتها العصور الحديثة، على مستوى الكون.
كانت السياسة، بصورها الأيديولوجية المغلقة، هي ذلك المنبّه. ولهذا يمكن القول إن تلك الأصوليات تمثّل اتجاهاتٍ سياسية – أيديولوجية تلبس، بطبيعتها، لبوس الدّين. وليست الكثرة بين المسلمين والعرب، هي التي تنهض بأشكالها وممارساتها العنفية، سواء في النظر أو العمل. تنهض بها، على العكس، قلّةٌ قليلة، قياساً الى الجمهور، العربيّ – الإسلامي، الضخم والذي لا يميل إجمالاً، إلى العُنْف.
وصَف إسخيلوس، المسرحي الإغريقي الكبير، بلسان بروميثيوس، المحرّر، سارقِ النار، أناسَ العالم القديم قائلاً: «كانوا يُبصرون دونَ بصيرة، ويسمعون دون أن يَعُوا، ويعملون دونَ تفكير». هذا ينطبق تماماً على أولئك «الغربيين» الذين يزعمون أنهم يحاربون الإرهابَ «الإسلاميّ»، ويقودون سياساتِ هذه الحرب التي تُلزمنا بأن نضيف الى ما يقوله إسخيلوس جملةً أخرىً تُختصُّ بهم: «ويقتلون ويهدمون، دون وازعٍ أو رادع». تلزمنا كذلك بأن نستنتج: إنّ بناة الحضارة في «العالم الأول»، إذ يزعمون أنهم يقضون على الإرهاب في «العالم الثالث»، إنما يقضون، عملياً، على البشر.
لهذا لا نعجبُ من أَنّ هؤلاء لا يُحسون بسيرورة البشَر في هذا «العالم»، ولا بصيرورتهم. لا يُحسّون بالمآسي والخيبات التي تنهش أعماقهم. لا يحسّون بالحياة التي يعيشونها كأنها هاويةٌ بلا قرار، تقذف بهم الى لا قرار. لا يُحسّون بهَوْل الخواء الذي يجوّفهم، ويحوّلهم الى كائناتٍ من الهباء. لا يُحسّون بالسجون، المادية والروحية، التي تطبق عليهم من جميع الجهات.
وكيف لا ينبتُ الإرهاب إذاً في مثل هذا العالم الذي لا يتوقف قادته عن المطالبة بالحرية والتحرر، ولا يمارسون في الواقع إلا نَشْرَ العبودية، وتمجيدَها، وإلا الطغيان؟
الإرهاب هو حيث لا مكانَ للإنسان وحقوقه.
والعالَمُ الذي لا حقوق فيه للإنسان، ليس عالماً للإنسان.
- 7 –
خاتِمة – إشارة:
سمّاني بعض الكتبة والمُسْتَكْتَبين «وَهّابياً» لأنني كتبتُ عن الحركة الوهابيّة، من أجل فهمها، وفهم موقعها في حركة الثقافة العربية – الإسلامية،
وسمّوني «كردياً» لأنني زرت إقليماً عراقياً، اسمه كردستان،
وسمّوني «خمينياً»، لأنني كتبتُ عن الثورة الإيرانية، ضد نظامٍ إمبراطوريّ،
ألن يُسَمّوني، إذاً، الآن «إرهابياً»، لأنني أكتب عن الإرهاب، من أجلِ فهمه، وفهم «موقعه»، خصوصاً، في حركة التحرر من هيمنة «الغرب»؟
ولن أُفاجأ. فالفكر العربي، في نزعته الغالبة (سياسياً وأيديولوجياً) فكرٌ «طَوطميّ».
عن الحياة اللندنية