يوسف المنجد
تتشبث بالوعي الإسلامي صورة نمطية ضيقة عن مفهوم الشريعة تحصرها في الجانب الجزائي العقابي (إقامة الحدود)،ومظاهر التدين الشكلية من عبادات ولباس وبُعْدٍ عن الاختلاط والمحرمات. ولعل السبب الذي يكمن خلف تكوُّن تلك الصورة وتمكنها هو ما أشرنا إليه في مقالتنا السابقة، من أن مصطلح تطبيق الشريعة انطلق بداية كردِّ فعل على تطبيق القوانين الوضعية ؛ أولا من قبل الاستعمار الغربي، وثانيا من قبل الحكومات الوطنية التي تشكلت بُعيد الاستقلال. أي أن المصطلح وُجد كمقابل للقوانين الوضعية، وكردِّ فعل على شيوع التساهل في العبادات والتعاطي مع المحرمات الشرعية، وتوفير البيئة المشجعة عليها. وربما لهذا السبب أيضا اقترنت الشريعة منذ ذلك الوقت مع كلمة (تطبيق)، والتي نرى أنها لا تتناسب مع شريعة ذات مصدر رباني تتسم بالرحابة والسعة لتغطي رحابة وسعَةَ الحياة.
فكلمة التطبيق تتناسب أكثر مع النظريات، التي من طبيعتها الافتقار إلى التطبيق كي يتم التثبت من صوابها أو خطئها، أما الشريعة فهي تنتمي إلى عالم الحقائق الإيمانية لا النظريات، وبالتالي، فهي تُمتَثل وتُلتزم وتُتَّبَع من باب الإيمان اليقني بها. (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).- الجاثية 18، أي أن الذي يتناسب مع الشريعة هو الالتزام والاتباع وليس التطبيق.
كذلك يعني التطبيق التنفيذ الكلي والفوري والآلي لكل أحكام الشريعة، وهذا منهج مخالف للشريعة، نفسها لأنه لا يراعي المحل الذي يتم إنزال الحكم عليه، فالشريعة كما نعلم لم تنزل دفعة واحدة، وإنما تنزلت بطريقة تدريجية تتناسب مع الحالة المجتمعية من حيث التقبل والتهيؤ. (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) -الإسراء 106، وهذه السياسة في التنزيل على المحل هي من الشريعة نفسها، فالشريعة لا يجوز تنزيلها إلا بوسائلها الشرعية والتي منها التدرج ومراعاة المحل.
أيضا التطبيق يتلاءم أكثر مع القوانين، لأنه يعني الفرض من الخارج، أكثر من الدافع الداخلي، ومن ثم فإن في إقرانه بالشريعة مساواة لها مع القوانين الوضعية، التي في الغالب تتوسل بالعقوبات الرادعة لضمان التزام الناس بها. أي أن الالتزام بالشريعة، مع كلمة التطبيق لن يكون نابعا من قناعة المؤمنين بها، ولا من إرادتهم الذاتية، وإنما سيتم بقوة تنفيذية تجبرهم عليه. الأمر الذي يسلبها ميزتها التربوية، ويفرغها من مضمونها الرسالي الذي يستهدف بناء نفوس الناس وتهذيبها، ليأتي الالتزام بها بدافع ذاتي حقيقي. وبالتالي فالتطبيق بما يوحيه من إكراه، يتعارض مع المبدأ القرآني، الذي يؤسس على القناعة : (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) – البقرة 256.
كما أن كلمة التطبيق توحي أن الشريعة شيء جامد غير قابل للاجتهاد ولا التلاؤم أو التوافق مع الزمان والمكان،فكل شي جاهز وناجز، ولا ينقص سوى البدء في التنفيذ. وكأن الله أنزل الشريعة على آلات جامدة ثابتة لا يعتريها أي تغيير، ولا يطرأ عليها أي تبديل أو تطوير، ولا تتأثر بأي ظرف. في حين أن الشريعة في حقيقتها – حتى في جانبها القانوني – تتصف بالمرونة التي تمكنها من التلاؤم مع مختلف البيئات والظروف (بالنسبة للعموم – المستوى المجتمعي)، وكذلك التناسب الذي يراعي كل حالة بظروفها وطاقاتها (بالنسبة للخصوص – المستوى الفردي). (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) – البقرة 286، (إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) – البخاري-كتاب الإيمان -باب الدين يسر..
تلك الصورة النمطية الضيقة عن الشريعة، أسهمت مع تقادم الزمان على تطبيق القوانين الوضعية، ووقف العمل بالأحكام الشرعية، وما نجم عنه من ترسخ العديد من العادات والأعراف المنافية لها، إضافة إلى تصدر بعض الجماعات الإسلامية الراديكالية إلى تطبيق الشريعة بعيدا عن إطار الدولة، أسهمت بتشكيل مخيلة خاصة لدى الناس – على اختلاف توجهاتهم – عن الشريعة، فالمتدينون التقليديون صار همهم الشاغل هو السعي لتطبيق الحدود، عاقدين الآمال عليها في حل مشكلات الأمة بمختلف أنواعها، وحتى شعار (الإسلام هو الحل)، يقصدون به في الغالب أن تطبيق الحدود، كفيل بحل مشكلات الأمة السياسية والاقتصادية والأخلاقية.
والدولة لا تكون في نظرهم إسلامية، مهما أشاعت من قيم العدل والمساواة ومهما حققت لمواطنيها من الحرية والكرامة ما لم تطبق الحدود، وفي المقابل يعتبرون دولة ما إسلامية، مهما ظلمت وطغت واستبدت ونكَّلت بمواطنيها، وأذاقتهم الويلات، لمجرد أنها تطبق الحدود. أما غير المتدينين من المسلمين، وكذلك غير المسلمين فقد ارتبطت الشريعة في أذهان الكثيرين منهم بمشاهد مفزعة عن قطع الأيدي وجذ الأعناق ورجم الزناة، وأناس يجلدون في الشوارع، ونساء يلفهم السواد القاتم من قمة رؤوسهن وحتى أخمص أقدامهن…إلى آخر ما هنالك من سلوكيات صارت تقفز إلى الأذهان بمجرد ذكر كلمة الشريعة، فساهمت في تنفير نسبة كبيرة منهم، ليس فقط من مصطلح تطبيق الشريعة، بل من الدين ذاته في الكثير من الأحيان .
والنتيجة أن مصطلح تطبيق الشريعة، والذي كان الهدف من إطلاقه إعادة تفعيل الشريعة، واستئناف العمل بما تم تعطيله منها، قد أسهم من حيث لا يدري ولا يريد من أطلقه، في إلحاق الأذى بالشريعة وبالمنتسبين لها في الداخل الإسلامي وفي الساحة الدولية على حد سواء، بحيث صار يُنظر إلى الإسلام كدين وحشي قادم من مجاهل التاريخ، وصارت كلمة الشريعة تقترن، إن لم نقل تترادف مع مصطلح الإرهاب، وما يوحيه من إجرام ومعاداة للحياة ومصادمة لحقوق الإنسان وقيم الحضارة.
إزاء هذا الوضع المؤلم صار لازما على مفكري الأمة وشبابها الواعي، العمل على زحزحة هذا الفهم المشوه وخلخلة بنيته وفك الارتباط بينه وبين الإسلام، ومن ثم رد الاعتبار لمفهوم الشريعة كنظام رباني سِمَتُه الأساسية أنه دين رحمة:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين)- الأنبياء:107، ودين حرية : (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)- البقرة 256، ودين تكريم للإنسان :(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) – الإسراء 70 ،ودين مساواة بين البشر وتعاون وتعارف :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)- الحجرات 13,
حقيقة الشريعة :
إذا عدنا إلى المصدر الأساس للشريعة وهو القرآن الكريم سنجد أن كلمة شريعة لم ترد فيه سوى مرة واحدة في قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)- الجاثية 18، ووردت كلمة قريبة منها وبمعناها تقريباً وهي الشِّرعة في قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) – المائدة 48، ووردت الكلمة بالفعل شَرعَ،(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا)- الشورى 13، والفعل شرعوا،(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) – الشورى 21.إلى آخره. وهذه المعاني كلها تفيد، وتحمل في ثناياها المعنى اللغوي للكلمة وهو الطريقة والمنهج الذي يُسلك ويتَّبع، فهي قريبة من كلمة السُنَّة من هذه الناحية.
ولكن المعنى الاصطلاحي والشرعي الوارد في مختلف استعمالاته في القرآن الكريم يفيد أن الشريعة هي ما شرعه الله وما وضعه لعباده، وما سَنَّه وما اختطه لهم ليسيروا عليه، فهذه هي الشريعة بمعناها الواسع، وهي كما تشير بعض الآيات التي ذكرتها تبتدئ من العقيدة نفسها، فقوله تعالى وهو ينتقد ويشنع على المشركين : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) – الشورى 21، وهي عبادات شركية وطقوس ومعتقدات اعتبرها أيضاً شرائع شرعت. فإذن الشريعة هي “كل ما شرعه الله ووضعه وأمر به واختطه نهجاً لعباده ابتداءً من عقيدتهم وانتهاء بسلوكهم اليومي”.* (الدكتور أحمد الريسوني – برنامج الشريعة والحياة.قناة الجزيرة)، وتتباين بالتالي بشدة عن المفهوم الذي أرساه المصطلح في وعي الإنسان المسلم وغير المسلم أيضا، والذي قزَّمها في مجموعة من الحدود ذات الطبيعة القاسية، والتي لم ترد في الشريعة بحسب قول الكثير من العلماء إلا على سبيل الردع، وكحدٍّ أقصى لا يتم اللجوء أليه إلا في حالات خاصة ونادرة.
الشريعة إذا،هي كلمة مترادفة مع كلمة الإسلام، وهي من ثم شاملة لكل ما في الإسلام من عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات، وبالتالي فهي لم تُلْغَ من حياة المسلمين – كما يوحي مصطلح تطبيق الشريعة- لأن الإسلام لم يتوقف يوما في حياة المسلمين، وإنما الذي حدث أن هناك بعض الجوانب منه قد عُطِّل العمل بها، وهي محصورة بالجانب القانوني (الدستوري والجزائي)،أما بقية جوانبه فهي ماتزال مستمرة.
وزيادة في توضيح هذه النقطة يمكننا أن نميز ثلاث حالات للشريعة لجهة الواقع التطبيقي لها:
الأولى : قسم من الشريعة، وهو الأوسع، استمر المسلمون بتطبيقه حتى يومنا الحاضر، وهذا يشمل العقائد والعبادات والأخلاق، حيث كان التفلت من الالتزام به فرديا ونسبيا، وفي بعض الأحيان مجتمعيا ووقتيا، أما على مستوى الأمة ككل فهو مستمر.
الثانية : وقسم منها (وهو الجانب الدستوري) أُقْصِيَ عن ساحة الالتزام والعمل، وبالتالي عن ساحة الوعي الإسلامي، في وقت مبكر من عمر الأمة الإسلامية، وبالتحديد، من اللحظة التي تم فيها القضاء على الخلافة الراشدة واستبدالها بالملك العضوض بحسب التوصيف النبوي، حيث تم إيقاف العمل بحكم الشورى كأسلوب لتداول السلطة بالاختيار من الأمة، كما تم تقليص العمل بقيم أخرى كثيرة كالحرية والمساواة والعدالة، والتضييق عليها إلى حد إلغائها بالكلية في كثير من الفترات. وفي المقابل تم إدخال أحكام أخرى إلى دائرة الشريعة وهي منها براء كشرعية حكم المتغلب، وحرمة الخروج على الحكام مهما جاروا وظلموا ما دام أنهم لم يُظهروا كفرا بواحا… إلى آخر ما هنالك من أحكام تصبُّ بمجملها في خدمة الاستبداد وترسيخ وجوده. وهذا الجزء المعطَّل من الشريعة لا يكاد يلتفت إليه سوى القليل، ولا يفكر فيه جلُّ من يرفعون شعار تطبيق الشريعة للأسف ، مع كونه القسم أو الجانب الأساس لباقي أقسامها.
الثالثة : وتشمل الجانب القانوني الجزائي (الحدود) والمعاملات (البيوع والتأجير والشركات والدَّين والرهن…) وهو القسم الذي تم حصر مفهوم الشريعة به من خلال مصطلح تطبيق الشريعة، وهذا القسم بقي مطبقا حتى لحظة إلغاء الخلافة العثمانية ودخول البلاد العربية تحت وطأة الاستعمار الغربي.
لذلك نجد أن من الظلم الشديد للشريعة، أن يتم اختزالها بهذا الجانب الأخير، والذي لم يوجد في الأساس إلا ليشكِّل سور حماية للأقسام والجوانب الأخرى،والذي يفتقر ويفتقد حال غيابها أو تغييبها إلى الشرعية، وتصبح المطالبة بالبدء به، كحال من يريد بناء بيت فيبدأ من السقف. فحد السرقة،- على سبيل المثال – لا يصح أن يطبَّق ما لم تترسخ أولاً عدالة توزيع الثروة في الدولة، وقيام الأخيرة بواجبها في خلق فرص العمل وإيجاد مؤسسات الضمان الاجتماعي والصحي، ومن ثم تأمين الكفاية الاقتصادية للمواطنين التي تشبع حاجاتهم الأساسية و تحقق لهم الاستقرار والكرامة، وتدفع عنهم حالة الفاقة والعوز،التي قد تجر البعض منهم إلى سلوك سبل الجريمة لتأمين حاجاته، وهو الأمر الذي قام به الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين أوقف العمل بحد السرقة في عام الرمادة، لمَّا عجزت الدولة عن تأمين حد الكفاية وصار الناس في حالة من المجاعة،التي تجعل الإنسان يتصرف وفقا لغرائزه لا مبادئه. و الأمر نفسه ينطبق على بقية الحدود والتي في مجملها تترتب على جرائم ومخالفات تنجم عادة عن تدهور الوضع الدستوري والاقتصادي في البلاد، حيث يفتقر الناس إلى الإحساس بالعدالة،تلكم القيمة التي تشكل صلب الشريعة ومقصدها :(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز).]الحديد 25 [فغاية إنزال الشريعة بحسب هذه الآية هي قيام الناس بالقسط الذي سبق (الحديد) الذي يرمز فيما يرمز، إلى القانون الذي يستهدف حماية المقصد ويضمن عدم الحيدة عنه وهو (القسط).وهو مصطلح واسع يشمل العدالة وما يتفرع عنها من مساواة وتكافل ورحمة وكل ما يملئ قلوب الناس إحساسا بالأمن والحماية.
إن الشريعة نظام كامل، ولا أقول متصالح مع الحياة، بل متكامل معها ومتناغم ، وأي نظام يفتقد التوازن والتناسب بين مفرداته، يتعرض للتشويه مهما كان في الأصل جميلا ورائعا، وبالذات إذا ما تم النظر إليه عبر مرآة محدبة تضخِّم جزءا يسيرا منه على حساب بقية الأجزاء، فالذي يلحقه التشوه في هذه الحالة ليس فقط ذلك الجزء الذي تضخم، وإنما بقية الأجزاء وبالتالي النظام ككل، وهذا بالضبط ما جناه شعار تطبيق الشريعة على الإسلام.