لا يزال سؤال تطبيق الشريعة والحدود حاضراً، وبقوة، في الوعي الإسلامي، منذ سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية في عام 1924، في استمرار للاتجاهات الرئيسة التي تناولت تلك المسألة في الفكر الإسلامي، من خلال أقوال وكتابات عدد من أهم الرموز والمفكرين المعاصرين.
فمع إعلان أتاتورك القضاء التام على نظام الخلافة، بدأت القوانين الوضعية المستمدة من قوانين فرنسا وبلجيكا وإنجلترا، تجد طريقها إلى الدول الإسلامية، وشيئاً فشيئاً حلت محل التشريعات الإسلامية في معظم الدول.
فكيف ينظر المسلمون إلى مسألة تطبيق الشريعة؟ وما هي آراء أبرز التيارات في هذا الخصوص؟
الاتجاه الإسلامي التراثي
ينطلق أصحاب هذا الاتجاه من فرضية إنه لما كان الله هو خالق الإنسان، ويعلم بسابق معرفته ما هو الأصلح للمجتمع البشري، فقد وضع شريعة وقانوناً إلهيين وأمر المؤمنين بتطبيقهما وتنفيذهما والرجوع إليهما، وحتى لو كانت بعض أوامر وحدود ذلك القانون غير متوافقة أو ملائمة مع الظروف الراهنة، فإن ذلك التعارض ما هو سوى تعارض ظاهري فحسب، ولا يستطيع عقل الإنسان القاصر العاجز أن يلتفت إلى ما يكمن وراءه من مصالح خفية باطنية.
ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن هناك مجالين تطبيقيين للشريعة: تطبيق ضيق، وهو المتمثل في اقامة الحدود فحسب، وتطبيق واسع، والمقصود به، بحسب ما يقول الدكتور صلاح الصاوي في كتابه “حوارات حول الشريعة والعلمانية”، حراسة الدين عقائداً وأخلاقاً وأحكاماً، وسياسة الدنيا به.
في طليعة رموز هذا الاتجاه، يأتي سيد قطب الذي كان من أهم الدعاة والمفكرين الإسلاميين الذين أصروا على تنفيذ أوامر وتعاليم الشريعة الإسلامية بحذافيرها وبشكل كامل دون تدرج أو إرجاء.
يقول في كتابه “في ظلال القرآن”: “إن النظام الإسلامي كلٌّ متكامل، فلا تُفهم حكمة الجزئيات التشريعية فيه حق فهمها إلا أن يُنظر في طبيعة النظام وأصوله ومبادئه وضماناته، كذلك لا تصلح هذه الجزئيات فيه للتطبيق إلا أن يُؤخذ النظام متكاملاً ويُعمل به جملة، أما الاجتزاء بحكم من أحكام الإسلام أو مبدأ من مبادئه في ظل نظام ليس كله إسلامياً فلا جدوى له”.
أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة، وأحد أهم منظري السلفية الجهادية في العصر الحديث، له الكثير من الكتابات والمؤلفات التي دعت جموع المسلمين لتطبيق الشريعة الإسلامية، ولعل من أواخر تلك الدعوات، الفيديو الذي ظهر فيه بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، حين دعا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر معتبراً أن “أهم التحديات على المستوى الداخلي هو الإصلاح التشريعي والقضائي ومن أهم الإصلاحات التشريعية المطلوبة تعديل المادة الثانية من الدستور بحيث تنص على أن أحكام الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع ويبطل كل ما يخالفها من مواد الدستور والقانون”.
من جانبه، يُعتبر تنظيم داعش من الحركات الإسلامية التي جعلت من مسألة تطبيق الشريعة وتنفيذ الحدود من أهم مطالبها بعد إقامة دولة لها، وقد مارس التنظيم عملياً تنفيذ حدود قطع يد السارقين ورجم الزناة وقطع رأس المرتدين بل وتبنّى بعض الآراء الفقهية الضعيفة، مثل تلك التي تقول بإلقاء المخنثين والمثليين من فوق أسطح المباني المرتفعة، واستند في ذلك كله لبعض الكتب الفقهية المعاصرة، مثل كتاب مسائل في فقه الجهاد أو فقه الدم لأبي عبد الله المهاجر، الذي يعتبر أهم المنظرين والمفكرين لتنظيم الدولة.
ويبين المهاجر في مقدمة كتابه مكانة الشريعة الإسلامية، بقوله: “لم أكتب هذا الكتاب لأولئك النافرين من شرع الله، المستهزئين بأحكامه، الكارهين لما أنزل… وإنما كتبته للخاضعين لأمر الله، المذعنين لأحكامه، المستسلمين لشرعه كاستسلام الميت بين يدي مغسله”.
الاتجاه العلماني الحداثي
يرى الكثير من المفكرين الإسلاميين الذين تأثروا بمبادئ ومعايير الحداثة والعلمانية الغربية، أن تطبيق الحدود مسألة تحتاج إلى إعادة تفكير ونظر، فالقرآن – بحسب فهمهم – لا يتضمن تطبيق تلك الحدود بالشكل الذي تقوم به بعض الدول الإسلامية ويدعو له عدد من رموز الفكر الإسلامي المتشدد.
أحد رواد هذا الاتجاه، المفكر المغربي الأشهر محمد عابد الجابري صاحب كتاب “نقد العقل العربي”.
يعترف الجابري بقوة شعار تطبيق الشريعة الإسلامية، ويفسر ذلك في كتابه “الديموقراطية وحقوق الإنسان”، بوجود رابطة قوية في معظم الدول الإسلامية ما بين الأنظمة السياسية والدين الإسلامي.
ويؤكد الجابري أن ذلك الارتباط قد أدى إلى أن الشريعة قد أضحت طوال التاريخ الإسلامي مجرد مظهر من مظاهر السياسة.
من هنا يقترح المفكر المغربي، أننا يجب أن نقفز فوق كل تلك الاجتهادات الفقهية التي تمت صياغتها في ظروف سياسية، لنصل إلى عصر الصحابة، حتى نتعرف على الوجه الحقيقي للشريعة.
طوال التاريخ الإسلامي، الشريعة لم تكن سوى مظهر من
مظاهر السياسة، شاء من شاء وأبى من أبي
ويخلص الجابري في نهاية بحثه العميق إلى أن مبدأ المصلحة هو المبدأ الأساس الذي قامت عليه الشريعة والحدود، ومن هنا فهو يقرر في كتابه “الدين والدولة وتطبيق الشريعة” أن المصلحة هي المعيار الوحيد للشريعة، وأنها مقدمة عن النص القطعي القرآني والنبوي، وأن ميدانها هو ميدان بشري وليس إلهياً.
ومعنى ذلك أن الشريعة ليست ثابتة، وأنه من حق المسلمين تغيير وتبديل أوامر الشرع ونواهيه في سبيل الوصول للمصلحة.
كان نصر حامد أبو زيد أيضاً من المفكرين الذين خاضوا معركة حامية ضد تطبيق الشريعة، فقد وصف دعوة التراثيين لتطبيق الشريعة والحدود بأنها دعوة مبنية على تصور سطحي ساذج.
في كتابه “نقد الخطاب الديني” يقول إنه بحسب تفسيرات الإسلاميين المعيبة للشريعة، فإنه “لا يعد سارقاً يقام عليه الحد كل من يهرب من البلاد بعد أن يستولي على أموال بعض المواطنين، وكذلك كل من يستولي على المال العام، ومن هنا فإنه ينحصر مجال تطبيق حد السرقة على النصابين وصغار اللصوص، وهذا هو الإسلام الذي يطرحه الخطاب الديني على الناس، ويبشرهم بأنه قادر على حل مشكلات الواقع”.
ومن العجيب أن نصر الرافض لتطبيق الحدود، قد اكتوى سريعاً بنيرانها، عندما تم اتهامه بالردة وجرى التفريق بينه وبين زوجته بعد صدور حكم قضائي أثار الكثير من الصخب والجدل في عام 1995.
وقد جاء في مسببات الحكم أن مؤلفاته قد تضمنت “هجوماً على مسألة تطبيق الشريعة، ونعت ذلك بالتخلف والرجعية، والزعم بأن الشريعة هي السبب في تخلف المسلمين وانحطاطهم”.
سيد القمني أيضاً هو أحد المفكرين الذين خاضوا معركة شرسة للمطالبة بالاستناد للقوانين الوضعية ورفض الحدود والشريعة الإسلامية، وبلغت معركته ذروتها عندما تعرض لتهديدات بالقتل من بعض أفراد التيارات الإسلامية المتشددة.
يعلل القمني موقفه الرافض للشريعة الإسلامية بقوله “ليس لدينا قانون وضعه الله في قرآنه… طوال 23 عاماً نزل خلالها القرآن كانت تصدر تشريعات اليوم وتنسخ غداً”.
كما يؤكد القمني على عبثية تنفيذ العقوبات البدنية الواردة في إطار الشريعة، في عصرنا الحاضر، فيقول “ماذا يعني أن تقطع يد إنسان؟ هذا كان أيام زمان… يجب أن نفكر جيداً، فهذه العقوبات كانت خاصة بزمانها ومكانها والدنيا تغيرت”.
الاتجاه التوفيقي
يتميز هذا الاتجاه بمحاولة التوفيق ما بين الاتجاهين التراثي والحداثي، ومعظم رموز هذا الاتجاه قد ظهرت في المجتمعات الأوروبية والغربية، مما جعلهم شديدي الحرص على تضييق الفوارق الواسعة ما بين هويتهم الإسلامية الأصيلة بما تتضمنه من تطبيق للشريعة من جهة وأسلوب الحضارة الغربية التي احتضنتهم وقدمت لهم فرص النجاح من جهة أخرى.
من أولئك الذين يعبرون عن هذا التيار، المفكر التونسي راشد الغنوشي، الذي تم نفيه في بداية التسعينيات من القرن الماضي إلى إنجلترا بسبب معارضته للنظام الحاكم، وظل هناك حتى نجاح الثورة التونسية في مطلع عام 2011.
كل ما تحتاجون معرفته باختصار عن الشريعة الإسلامية في القرن الـ21، من تطرف سيد قطب في ما يتعلق بتطبيقها، إلى رفضها من قبل مفكرين مثل ناصر حامد أبو زيد وسيد القمني، مروراً بالتوجهات الأكثر توافقية لطارق رمضان وراشد الغنوشي
شاركغرد
وظهرت أفكاره التوفيقية في ما يخص الشريعة والحداثة عندما صرح أثناء مشاركته في الانتخابات البرلمانية التونسية بأنه “ليس في برنامجنا تطبيق الشريعة، فأولويتنا هي إقامة نظام ديمقراطي حقيقي يضمن الحريات لجميع المواطنين من دون تمييز على أي أساس”.
معروف أن المفكر السويسري الجنسية المصري الأصل طارق رمضان هو أحد الرموز المهمة لذلك الاتجاه الذي يحاول الجمع ما بين الإسلام والحداثة، فطارق رمضان هو حفيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ورغم أنه يعيش مع عائلته في أوروبا منذ عشرات الأعوام، يُعتبر أحد أشهر المفكرين المسلمين المعاصرين إذ ينظر إليه في الغرب باعتباره مفكراً بارزاً.
وفي عام 2008 ظهر اسم طارق رمضان في استفتاء صحيفتين أمريكية وإنجليزية باعتباره ثامن أعظم مفكري العالم، واعتبرته صحيفة “تايم” من المؤثرين الأكثر أهمية في القرن الـ21، كما منحته الواشنطن بوست” لقب “مارتن لوثر الإسلام”، وذلك لجهوده في المزج ما بين الشريعة الإسلامية ومبادئ الحياة الغربية.
يقول حفيد حسن البنا إنه لا يوجد نظام حكم إسلامي، بل مبادئ إسلامية، وفي عام 2003 نادى بتعليق حدّ رجم الزناة، وأطلق دعوة لتجميد العمل بحِدود الشريعة الإسلامية. وفى عام 2005 أصدر بياناً يربط فيه تطبيق الشريعة بتوافر الشروط الموضوعية لتطبيقها ويدعو إلى تعليق فوْري لمبدأ العقوبات الجسدية (الحدود في الإسلام). ذلك أن ظروف تطبيق الحدود ليست موجودة في كل العالم الإسلامي.
وهنالك نموذج آخر يعبّر عن حالة المزج ما بين الشريعة والحداثة، هو نموذج المفكر التركي فتح الله غولن الذي انتقل للإقامة في أمريكا منذ عام 2008. قدم غولن نموذجاً إسلامياً صوفياً يدعو لاحترام المبادئ الغربية، وعمل من خلال “جماعة خدمة”، على نشر عدد من الإصلاحات التعليمية والاجتماعية والأخلاقية، ولم يتناول مسألة الشريعة والحدود، مستنداً إلى أن روح الإسلام ليست في السياسة بل في التربية والعلم والاقتصاد، وأن أي اصرار على تطبيق الشريعة في الوقت الحالي قد تنتج عنه أثار كارثية تعرقل تقدم الإسلام وتمكنه من قلوب المسلمين الموجودين في الدول الغربية على وجه الخصوص.ززز
لماذا لا يمكن تطبيق الشريعة في الدولة المدنية الحديثة؟
25/3/2017
من أكبر عوائق تطبيق الإسلام كنظام اجتماعي في الدولة العلمانية الحديثة، هو معضلة تقنين أحكام الشريعة الإسلامية داخل قالب منظومة التشريع الغربية، أو منظومة القانون الفرنسي في الحالة المصرية، وتقنين الشريعة هنا يعني إعادة صياغة الأحكام الفقهية والموروث الاجتهادي بمفردات قانونية غربية، وإلزامها بما يلزم من طرق إعداد وإصدار تلك القوانين.
فالشريعة الإسلامية في جوهرها روحية تعبدية، تتجه تشريعاتها المادية لتنظيم المجتمع حتى يتسنى إقامة أوامر الدين، وتحقيق مقاصده للناس، وإصلاح أحوالهم في الدنيا والآخرة. لذلك فالشريعة لا تعرف الحدود، لا الحدود الجغرافية فقط، بل أيضًا الحدود بين الدنيا والآخرة.. ولأن مقاصد التشريع الغربي في جوهرها مادية بحتة، تبحث في تحقيق النفع المادي العاجل للمجتمع، ولا تهتم بحال الناس في الآخرة ــ بل إن استدعاء مفهوم الآخرة في حد ذاته عند مناقشة التشريع الغربي، قد يبعث على التندر والاستخفاف عند مناصريه؛ لذلك فهيمنة التشريع الغربي بمفرداته على الإسلامي من شأنه أن ينتج عنه معضلة كبيرة.
مما يمتاز به النموذج اللامركزي التشريعي الإسلامي، هو قربه من الناس، لوجود كل قاضٍ في دائرته أو بلدته أو قبيلته، يراعي طبائعهم وأعرافهم، ويحترم خصوصيات ثقافتهم.
فعملية التقنين للشريعة الواسعة داخل القالب الغربي ينشأ عنها اجتزاء أحكام إسلامية، واختزال الواسع منها، والخروج بها عن مقاصدها الجوهرية لكي تتوافق مع مفاهيم بنية الدولة الغربية الحديثة، فتنشأ على إثر ذلك أحكامًا مشوهة، لا هي إسلامية نقية، ولا هي غربية تمامًا. ثم يأتي من بعد ذلك انتقاد تلك التشريعات الإسلامية اسمًا، من باب انتقاد تحكيم الشريعة، وربط عوار تلك القوانين بدعوى قصور الشريعة عن مواكبة العصر، ومن ثم نزع ما تبقى من فتات الشريعة المستبقية للهوية، بأسباب تبدو عملية ومنطقية.
وأحد أهم عوامل الاختلاف الأخرى بين الشريعتين، هو اختلاف نموذج السلطة التشريعية بين النظام الغربي والإسلامي. فنموذج السلطة التشريعية في الدولة العلمانية الحديثة، يتسم ـ كأغلب نماذج مؤسسات الدولة ـ بمركزية المصدر لتحقيق مفهوم “سيادة” الدولة، فالقوانين التي يحتكم إليها الناس ويتأثر بها المجتمع يصدرها البرلمان الذي يتكون من بضعة أفراد، سواء كانوا عشرات أو بضع مئات، يسهل التأثير عليهم ممن له سلطة الاستبداد في الدولة، سواء كان ديكتاتورًا عسكريًا أو حاكمًا طائفيًا أو مؤسسات اقتصادية كبرى، كلّ دولة حسب نموذجها الاستبدادي العلني أو الخفي.. بينما نموذج التشريع والقضاء الذي كان يعيش في كنفه المسلمون على مر مئات السنين، كان ممثلًا في المحاكم الشرعية، والتي يكون القاضي فيها فقيهًا شرعيًا بالدرجة الأولى، ويحكم في الأغلب الأعم بناءً على التراث الفقهي الموروث، وبناءً على اجتهاداته الشرعية في الاستنباط حسب كل حالة أمامه.
تلك الحالة من اللامركزية في التشريع وقوانين الفصل بين الناس، كانت عصيّة بطبيعتها على التأثر بالفساد التشريعي على مستوى التفاصيل التشريعية، وكان فساد قاضٍ معين، لا يؤثر على المجتمع ككل، بل يظل المجتمع محافظًا على اتجاهه واخلاقه، فيظهر فيه بسهولة من يشذ من القضاة برأي جائر. وذلك بالإضافة إلى أن اشتغال كل قاضٍ شرعي بالاجتهاد والاستنباط لما يُعرض عليه من مسائل، من شأنه أن يجعل عجلة الاجتهاد الفقهي والتجديد التشريعي الإسلامي مستمرة، تواكب العصر ومستجداته أولًا بأول ولا تتوقف، إذ يواجه القضاة الفقهاء مستحدثات جديدة تُعرض أمامهم، ويُطلب منهم أن يحكموا فيها بين الناس، فيُلزمهم هذا الأمر بالاجتهاد والتجديد، وإبقاء الشريعة نضرة تؤتي ثمارها بين الناس.
معضلة تطبيق الشريعة في الواقع المعاصر هي أعمق من مجرد تسلط حكام إقليميين مستبدين على بلادنا يمنعون وصول من يطبقها، بل تكمن المشكلة في تبني أفكار شمولية لتعمل من داخلها الشريعة.
ومما يمتاز به النموذج اللامركزي التشريعي الإسلامي، هو قربه من الناس، لوجود كل قاضٍ في دائرته أو بلدته أو قبيلته، يراعي طبائعهم وأعرافهم، ويحترم خصوصيات ثقافتهم، فيفتي لهم بقواعد الشريعة حسب ما يحقق بينهم مقاصدها، وليس حسب ما اختارته نخبة تشريعية بعيدة تمامًا عن تلك الدائرة المجتمعية، تصدر قانونًا ذا أثر اجتماعي فيُطبق على كل الشعب باختلاف عاداته وثقافته، في جو يتم فيه “تنميط” الإنسان بنزع خصوصياته عنه.
وفي النموذج الإسلامي أيضًا مرونة أحكامه حسب تغير الظروف بما يتماشى مع الشرع، وحسبما يتراءى للقاضي من أن حكمًا سابقًا قد نتج عنه العنت والتضييق على الناس، فيتغير بسهولة وسرعة ليحقق مصالحهم، بدلًا من أن ينتظر الناس نواب البرلمان لسنوات طويلة لتغيير قوانين أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك تعنتها وعدم تحقيقها لمصالحهم ومتطلبات حياتهم.
وفي النهاية، فمعضلة تطبيق الشريعة في الواقع المعاصر هي أعمق من مجرد تسلط حكام إقليميين مستبدين على بلادنا يمنعون وصول من يطبقها، بل تكمن المشكلة في تبني أفكار شمولية لتعمل من داخلها الشريعة حتى من أنصار تطبيق الشريعة أنفسهم! … وبالرغم من أن الله عز وجل أخبرنا (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، ومن ثم فلا حرج على المسلمين أن يستخدموا حلولًا وقوانين من أمم أخرى لمشاكل معاصرة يشترك فيها البشر؛ إلا أن هذا الاستخدام المحدد المنضبط يختلف تمامًا عن تبني مفاهيم شاملة كمنهج للمجتمع نعيش من خلالها، ويعيش تحتها الإسلام بمصطلحاتها وتحت شروطها التي تختفي فيها مقاصد تحقيق التقوى. وإن أغلب انحرافات الجماعات الإسلامية العاملة في السياسية تأتي من باب هذا الخلط بين الاستخدام والتبني، ومن الفصل بين (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، و(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).