تعرف على اشكالية كتاب نقد الخطاب الديني – نصر حامد أبو زيد

لتحميل كل مؤلفات ناصر حامد أبو زيد : اضغط هنا

Advertisements
Advertisements

عن المؤلف:
نصر حامد أبو زيد باحث وأكاديمي مصري متخصص في الدراسات الإسلامية. ولد في إحدى قرى طنطا سنة 1943، ونشأ في أسرة ريفية بسيطة، في البداية لم يحصل على شهادة الثانوية العامة التوجيهية ليستطيع استكمال دراسته الجامعية، لأن أسرته لم تكن لتستطيع أن تنفق عليه في الجامعة، لهذا اكتفى في البداية بالحصول على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية قسم اللاسلكي عام 1960.
حصل نصر علي الليسانس من قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة 1972 بتقدير ممتاز، ثم ماجستير من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عام 1976 وأيضا بتقدير ممتاز، ثم دكتوراه من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عام 1979 بتقدير مرتبة الشرف الأولى.
اتهم نصر حامد أبو زيد بالكفر وحكمت عليه المحمكة بضرورة انفصاله عن زوجته بتعلة أنه مرتد، فغادر مصر واستقر بهولندا.

نبذة عن الكتاب:
بدأت إصدارات هذه المجموعة بكتاب “نقد الخطاب الديني” الذي جاء بمثابة رد شاف على الهجومات التي كان قد تعرض لها نصر حامد أبو زيد، والتي يستفتح بها مؤلفها، مثبتا صحة الأطروحات والنتائج التي قدّمها من خلال تحليل الخطاب الديني في مستوياته واتجاهاته المختلفة، الرسمي منها والمعارض، المعتدل والمتطرف، اليميني واليساري، والسلفي والتجديدي، مضيفا على ذلك بعضا من تعليقاته على الضجة التي رافقت أطروحاته النقدية أو ما عرف بـ “قضية أبو زيد”، حين يؤكد أن موقفه كان دفاعاً عن حرية الفكر، والتقاليد العلمية الجامعيّة، في مواجهة الذين اعتبروا أن تحليلاته تشكّل تهديداً للدين، وخروجاً على الملّة. في المقابل يرى أبو زيد أن هدف الذين هاجموه لم يكن سوى الدفاع عن الدين الذي لا يستطيع شخص، مهما بلغت قوة مقولاته، أن يهدده، بل هو دفاع عن المصالح والمواقع التي تنتج مكانة وزعامة وأموالاً، وهي أمور لم تكن في حسبان أبي زيد الذي كان يدافع عن منهجه النقدي، وإصراره على القيم المعرفية في التصدي للتزييف والخلط.

قراءة في الكتاب:
تركز كتبه وتشترك في مجموعها بالانشغال على همّ التأويل والممارسات الهيرمونيطيقية على النصوص الدينية والتراثية لاستثمارها، ومن ثمّ تجديد الفكر العربي، [1] ينطوي هذ الهمّ بعبارة أخرى على همّ لغوي، ونطاقه الفلسفي يتموضع ضمن فلسفة اللغة التي يبدو كأنه يرى فيها عالماً واسعاً ممتلئاً بالمجهول، وفي الوقت نفسه يعجّ بالاضطرابات المرضية التي أودت بالخطاب الديني إلى نطاق منغلق، ولذلك فهو يقوم بعملية إسعاف لتلك النصوص من أجل بثّ الحياة فيها من جديد. من مؤلفاته: الاتجاه العقلي في التفسير، فلسفة التأويل، مفهوم النص، إشكاليات القراءة وآليات التأويل….إلخ.
عرض إشكالية الكتاب بتمفصلاتها في الفصول:
يتكوّن الكتاب من مقدمة وثلاثة فصول موزعة على الشكل التالي:
– مقدمة الطبعة الثالثة
الفصل الأول: الخطاب الديني آلياته ومنطلقاته الفكرية
الفصل الثاني: التراث في التأويل والتلوين: قراءة في مشروع اليسار الإسلامي
الفصل الثالث: قراءة النصوص الدينية: دراسة استكشافية لأنماط الدلالة

  • المقدمة:
    في عرض مقدمة الطبعة الثالثة يتحدث عن موضوع المد الإسلامي أو الصحوة حسب أصحابها باتجاهاتها:
  • اتجاه ينظر للظاهرة بإيجابية، يمثله رجال الأزهر ورجال الدين من المعارضة.
  • اتجاه يرى أنّ الظاهرة تعكس خصوصية ترفض التبعية وتكتفي بالجري وراء الأصول والاكتفاء بها، أنصار هذا الاتجاه ينتمون إلى اليسار السياسي والفكري المحتوي للفكر الماركسي والاشتراكي والقومي.
  • اتجاه رافض لشعار “الإسلام هو الحل”، ينافس الاتجاه الأول، وعادة يُطلقون على أصحاب هذا الاتجاه “التنويريين أو العلمانيين”.
    بغرض تحديد موضوع علمي للنصوص الدينية بعيداً عن الأيديولوجيا يقرّ أبو زيد أنّه لا بدّ من مناقشة الاتجاهات السابقة في معركة لا تقلّ شراستها عمّا خاضه طه حسين نتيجة كتابه “في الشعر الجاهلي” التي كانت في حقيقتها حرباً على العقل والخطاب التنويري، وقد بين ظرف معركته بضرورته التي دعا إليها بغرض إنتاج دلالات متحركة في قوله التالي: “ولأنّ النزال غالباً ما يتمّ بآليات السجال الأيديولوجي دون البدء في تحقيق وعي علمي بطبيعة النصوص الدينية، وبطرائق قراءتها وتأويلها، تظلّ الغلبة على هذا المستوى من السجال للخطاب الديني على الخطاب العقلاني. وقد آن الأوان للخروج من هذا المأزق، والتخلص من عقدة التأويل والتأويل المضاد للنصوص بتحديد طبيعة النص الديني وآلياته في إنتاج الدلالة”[2].
    يجب التجرأ على الأقوال المنادية بجوهرية الدين، حتى لا يكون الدين عائقاً أمام النهضة، رغم أنّ الدين ضروري لقيامها، ولذلك لا بدّ من الفصل في شأنه: فهل الدين هو كما يمارس بشكل نفعي أيديولوجي؟ أم الدين المؤول علمياً وموضوعياً بنزع الخرافة والأسطورة منه ليبقى منه ما هو قوة تدفع إلى التقدم؟ إنّ الإشكالية التي يمكن استنتاجها من خلال الكتاب والتي يبحث فيها أبو زيد يمكن ترجمتها من خلال السؤال التالي: ما هي أوجه المأزق التي أوقعنا فيها الخطاب الديني بشقيه المعتدل والمتطرف بصدد تعامله مع النص والتراث والواقع؟

في مدخل الفصل الأول “الخطاب الديني آلياته ومنطلقاته الفكرية” يميز مفكرنا بين نمطين من الخطاب هما المعتدل والمتطرف، وهما مختلفان درجة وليس نوعاً، يتفقان في المنطلقات والآليات، لكنّهما يختلفان في مسألة تكفير الحاكم والمجتمع، قد تبرّئهم ظاهرياً، لكن تدينهم باطنياً، نافية عن الحكام صفة الكفر مثبتة صفة العصيان، لأنّهم لا يطبقون مبادئ الإسلام وأحكامه رغم كونهم لا يردونها. إنّه خلاف هامشي لا سياسي، يرتبط بمجال تطبيق المبدأ، وليس بالمبدأ في حد ذاته.
قبل الحديث عن الآلية الأولى يتحدث عن ظاهرة التكفير وارتباطها بمفهوم الحاكمية والنص كمكون أساسي للخطاب الديني: “إنّ التكفير – في الحقيقة – يمثل أيضاً إلى جانب “الحاكمية” و”النص” عنصراً أساسياً في بنية الخطاب الديني بشقيه المعتدل والمتطرف على السواء، غاية الأمر أنّه واضح معلن في خطاب المتطرفين، كامن خفي في خطاب المعتدلين”[3].
تتجه بعض الخطابات الدينية إلى عدم تكفير الحاكم والمجتمع، لكنّها تصدر أحكاماً بمنع بعض الأعمال بحجة أنّها دمار للمجتمع تدعو للخروج عن الدين والنظام، وبذلك كان الفرار من التكفير إلى التكفير، ودرجته تكون على حسب قربه من السلطة، لقد ارتبط بمصطلح الحاكمية في الخطاب الديني المعاصر، كما ارتبط بالبنية الأيديولوجية للدولة المعتمدة في السياسة والاقتصاد، وبداية ذلك كان مع كتابات السيد قطب.
هذا التكفير يصدر عن الخطاب المعتدل، وقد طال أموراً ثانوية ذهبت بالجمال الذي تتمتع به بعض الفنون والآداب كالفن التشكيلي والرواية، وحجة تحريمها تكمن في خطرها على العقيدة، وكأنّ العقيدة هي الجانب الأضعف في كلّ حال.
بعد التكفير يتجه للحديث عن آليات ذلك الخطاب الديني الخمس والتي تتأسس عليها منطلقاته وهي:
1ـ التوحيد بين الفكر والدين: هذه الآلية ترتبط بآلية “اليقين الذهني والحسم الفكري” على اعتبار أنّها نتيجة، وبآلية “إهدار البعد التاريخي” من حيث الفهم والنص، فالأول يشمل الحاضر والثاني يخص الماضي، والتوحيد بينهما يعتمد على ذلك الإهدار، وانتحال امتلاك الحقيقة على أنّها الإسلام الصحيح أو اتجاه الخطاب المعتدل بإسلام واحد هو قول بغض النظر عن النية يترتب عنه أمران، يقول أبو زيد: “ولكنّ هذا الإصرار على وجود إسلام واحد، ورفض التعددية الفعلية، يؤدي إلى نتيجتين بصرف النظر عن نوايا هذا الكاتب أو ذاك. النتيجة الأولى: أنّ للإسلام معنى واحداً ثابتاً لا تؤثر فيه حركة التاريخ، ولا يتأثر باختلاف المجتمعات، فضلاً عن تعدد الجماعات بسبب اختلاف المصالح داخل المجتمع الواحد. النتيجة الثانية: أنّ هذا المعنى الواحد الثابت يمتلكه جماعة من البشر ـ هم علماء الدين قطعاً- وأنّ أعضاء هذه الجماعات مبرّؤون من الأهواء ومن التحيزات الإنسانية الطبيعية”[4] 2ـ ردّ الظواهر إلى مبدأ واحد: ذلك الردّ فيه إلغاء لفاعلية الإنسان وقوانين الطبيعية لصالح حاكمية إلهية سالبة، ومن مظاهره الهجوم على العلمانية وقذفها بالإلحاد متباكياً على تأصيلهما رغم أنّها نتيجة واقع لا يمتّ له بصلة، وهو شأن الماركسية والفرويدية أيضاً، وبالهجوم على العلمانية بالإزدراء من لفظ الدنيوية فإنّ الخطاب الديني يعاكس مبدأ الحركة الإسلامية المعاصرة القائل إنّ “الإسلام دين ودنيا”.
3ـ الاعتماد على سلطة “التراث” و”السلف”: بشكل لا يناقش ويوحدها الخطاب مع الدين معتمداً على الآليات السابقة، وحينما اختلط المنبع القرآني بثقافات أخرى توجه الخطاب إلى منهج انتقائي من التراث موظفاً اجتهادات مسوياً إياها بالإسلام رغم خطورتها، ومن أمثلتها ما يورده السيد قطب في نصوصه بشأن حد السرقة حيث يقول أبو زيد فيه متحدثاً في شرط المسروق الذي يقام فيه الحد: “أن يكون في مكان مغلق أو بتعبير الفقهاء: “أن يكون محرزاً وأن يأخذ السارق من حرزه، ويخرج به عنه”. وهذا معناه أنه لا يُعدّ سارقاً يقام عليه الحد كلّ من يهرب من البلاد بعد أن يستولي على أموال المواطنين (..) مادامت هذه الأموال لم تكن محرزة. وثمّة شرط آخر أشدّ خطورة وهو ألا يكون للسارق في المال المسروق نصيب، أي أن يكون المال مملوكاً ملكية خاصة للمسروق منه، وبدهي أنّ هذا الشرط لا يتوفر في بيت مال المسلمين، أو الخزينة العامة، فكلّ من يستولي على بعض هذا المال العام ـ أو كله- لا يقام عليه الحد، لأنّ “له نصيباً فيه ليس خالصاً للغير”[5]. لقد تحوّل الخطاب إلى شكليات أهملت أنّ المقصد هو: الإنسان.
4ـ اليقين الذهني والحسم الفكري: تتلاحم هذه الآليّة بشكل عضوي مع آلية “توحيد الفكر والدين”، وبها تمّ تكفير وتجهيل الخصوم مع ما يرافق ذلك من مزاعم امتلاك الحقيقية الشاملة، والرفض لكل قول لا يستند لتأصيل إسلامي، وفي هذا الحسم يلتقي الخطاب المعتدل بالمتطرف بشكل لا يتمايزان فيه.
5ـ إهدار البعد التاريخي: يمثله وهم تطابق المعنى الإنساني مع النصوص الأصلية مسبباً خطراً عقائدياً، إذ أنّ التوحيد بين الفكر والدين هو توحيد بين الإنساني والإلهي، وتوهم وصوله للقصد الإلهي، وأنّ الماضي يجب حلوله في الحاضر، وهو موقف يعكس في حقيقته الهروب من مشكلات الواقع الفعلية، معمقة اغتراب الإنسان في واقعه وخلوده إلى العجز، وحينما يتحدث الخطاب عن واقعية الإسلام يتجاهل واقع المسلمين الأوائل، فيتوجه إلى الصورة التي تصورها المسلسلات التلفزيونية الدينية، ومن ناحية يخلع عن المسلم كل ما يربطه بواقعه فيكون مصير المسلم أن يعيش خارج التاريخ، لأنّه لم يتصالح مع واقعه بأنماط فكره.
أمّا المنطلقان الفكريان اللذان يستند إليهما الخطاب فيتمثلان في: الحاكمية والنص.
فالحاكمية: ظلّ محايثاً للخطاب الديني فيظهر حيناً ويتخفى حيناً، إنّ رفض التعددية شكّل أساساً من أسس مفهوم الحاكمية في الخطاب الديني القديم والحديث إضافة إلى الأساس الثاني وهو الأخطر حين يقابل بين الإنساني والإلهي بشكل تغيب فيه حقيقة كبرى هي حقيقة التأويل الممارس من طرف الإنسان على كتاب إلهي بكماله منزل بلسان بشري، ولتوسيع تلك الهوّة يعيد الخطاب صياغة مفاهيم دينية لتصبّ في أيديولوجية “الحاكمية” التي ينجم عنها حق التشريع للعباد ومنهجة حياتهم.
بما أنّ مفهوم الألوهية هو المفهوم المركزي الذي تمّ أخذ مفهوم الحاكمية على أساسه، فهو بذلك الشكل على كونه ادعاء لحق الألوهية بخطابه الذي من خلاله يمنع التمرد على هذا المفهوم بدعوى أنّه تمرد الإنسان على الله، وبذلك يوقعنا الخطاب في عبودية البشر حسب رأي سيد قطب، لكن الحقيقة التي يقرّها صاحب الكتاب هي أنّ مفهوم التحرر الذي جاء به الإسلام والمرتبط بالتوحيد يدحض مفهوم الحاكمية الذي يلغي فاعلية الإنسان، ليذهب إلى إعادة صياغة العلاقات إلى ما هو أفضل دون اختزال العلاقة في العبودية، فالأصح أنّها علاقة في ناحية من نواحيها قائمة على تحرير الإنسان من وهم الأساطير.
بعد انقلاب السبعينيات حاول الخطاب الديني أن يضفي على نفسه شرعية مستغلاً الدين ونصوصه، فظهرت شعارات مثل دولة العلم والإيمان وغيرها، وصارت كلّ نعمة ينسب الفضل فيها إلى الحكم الذي امتلك كل شيء وصار مجرد الخروج عنه خيانة للوطن، ومناقشته هجوم، فارتقى لدرجة التأليه، وخصمه ملحد وكافر ولو كان شيخاً متديناً.
لقد تبين فيما بعد التعارض بين النظام والخطاب الديني، إذ أنّ هذا الأخير لم يكن ممولاً من الأول إلا لغرض تأييده ضد خصومه، والنظام السياسي الراهن تأويله للحاكمية يقوم على أساس احتكار سلطة الحكم، وهنا يقع الخلاف الذي أدى إلى وقوع صدام بين الخطابين الديني والسياسي على المفهوم نفسه: “إنّ نظامنا السياسي الراهن يقوم على أساس احتكار سلطة الحكم، وهذا تأويله للحاكمية وفهمه لها، وهو تأويل يختلف عن تأويل الخطاب الديني، ومن هذا الخلاف يقع الصدام، إنّ الاتفاق بين الخطابين السياسي والديني اتفاق جوهري، أمّا الخلاف فهو أمر ثانوي، وكلاهما يتأسس على مفهوم واحد”[6].
نتيجة للصدام تغيرت نبرة الخطاب السياسي دون مضمونه في السنوات الخمس الأولى بالثمانينات، لكن سرعان ما عادت إلى سيرتها الأولى التي تتفق فيها مع الخطاب الديني في تبني مفهوم الحاكمية القائم على احتكار الحقائق والقرارات، بل ويتجه به إلى إلقاء كلّ اللوم والعجز على المواطن المتهم بالجهل والتخلف ووصف الكمال في الحكم للنظام، فأقصى مفهوم الحاكمية بهذا المعنى الجماهير من مسألة تدبير شأن البلاد، واتجهت به إلى صياغة علاقاتها مع الدول المستغلة وإشراكها في استغلال شعوبها معلنة عجزها وتبعيتها لقوى الاستغلال العالمي بدعوى أنّها هي التي تملك أوراق اللعب الرابحة في الصراع العربي الإسرائيلي كما رُوج لأمريكا، هذا الأمر يكشف الجانب الديكتاتوري للمفهوم، إنّ صراع النظام السياسي مع مؤسساته وتياراته الدينية ليس إيديولوجياً، بل هو صراع من أجل حاكمية السيطرة على المجتمع، رغم إقرار الخطاب الديني بحاكمية الله في التسيير وليس للبشر التي تؤدي إلى العبودية.
أمّا النص: فإنّه يركز في هذا الجانب على “تاريخية المفاهيم التي تطرحها النصوص من خلال منطوقها”، وتاريخية النص نتيجة لتاريخية اللغة التي صيغ بها بدلالتها الاجتماعية التي لا تعني العجز عن التأثير على عصور لاحقة، إنّه يستعين بآليتين هما إخفاء ما هو ليس جوهرياً والكشف عمّا هو جوهري، الذي هو ليس ثابتاً بالنصوص، لأنّ لكل قراءة جوهرها الذي ينكشف في النص ممّا يعني تغير فهمها التشريعي، مع إقرار الخطاب أنّ ذلك لا ينطبق على العقائد والقصص، إنّ النصوص محكومة بتلك الجدلية كما أنّها محكومة بجدلية الثبات في المنطوق والتغير في المفهوم، والسبب أنّه صار مؤنسناً بتجسد النص تاريخياً ولغوياً، هذا عن النص المدون، أمّا بالنسبة إلى الشفاهي فإشكاليته أكبر لأنّ كلّاً من المنطوق والمفهوم غير ثابتين، لكنّ الخطاب الديني يجمد الاجتهاد الجميل حتى في النصوص التشريعية وفق شعار “لا اجتهاد فيما فيه نص”.
يرى الخطاب الديني أنّ النصوص بينة بذاتها، متجاهلاً الفارق الزمني بين عصر تنزيلها وما تلاه من عصور، وما رافق ذلك من إشكاليات تتعلق بالفهم والتأويل، متجاهلاً أنّ اللغة ليست بينة بذاتها، تتطلب تدخلاً لأفق القارئ لإنتاج الدلالة.
لم يكن القدماء يعبرون عن القرآن والحديث بالنص بل بالوحي، وقليلاً ما كانت تستخدم تلك الكلمة فقط للدلالة على جزء ضئيل من الوحي، وبعودته إلى نماذج من معاجم اللغة يقرّ أبو زيد بأنّ دلالة الكلمة المركزية هي “الإظهار” الذي يجمع مصطلحات: الرفع والشدة والبلوغ، ومنها المنصة وهي المكان المرتفع الظاهر هذا كان على مستوى الدلالة الحسيّة، أمّا على مستوى الدلالة المعنوية فنجد هناك الإسناد والتوقيف والتعيين يجمعها مصطلح “التحديد”، والمستويان يتداخلان في صياغة مفهوم النص في التراث. وبسبب التعدد داخل الثقافة الإسلامية وقع الاحتدام بين ما هو نص قابل للتأويل وما لا يقبل ذلك، وإذا كان النص يقترن بمفهوم القطع فهو إذن عزيز جداً، كونه تعبدياً نُقل بالتواتر، وما تمّ الأخذ عنه هو فقط ما بلغته قوة فهمهم، إذ يمكن أن يكون هناك نص آخر يعارض ما أتوا به في اللفظ ليقعوا بذلك في دائرة اللا تعبد به، ومن ناحية يذهب إلى علماء القرآن لترتيب درجات الوضوح الدلالي في القرآن في أربعة مستويات وهي:
1- النص الواضح ذو المعنى الواحد.
2- الظاهر ماله معنيان الأول راجح والثاني محتمل.
3- المجمل وهو ماله معنيان متساويان بالدرجة.
4- المؤول وهو ماله معنيان، لكن الراجح فيه بعيد عن المعنى.
الخطاب الديني بشعار لا اجتهاد مع النص ينكر على العقل الاجتهاد والتعبد، والمسألة التي يجب الأخذ بها بعين الاعتبار هنا هي أنّ القرآن له منطوق ثابت، وبتحول العقل البشري إليه يصبح “مفهوماً”، ويصير متعدد الدلالة، ويفقد ثباته متحولاً إلى الحركية والأنسنة، أي من التنزيل إلى التأويل، وهذا ما كان منذ لحظة النزول، إنّ النصوص تتيح الاجتهاد الذي يتطلب الإبداع.
يركز أبو زيد على واقعية النص لأنّه الأصل، وبإهدار الواقع في نص جامد يتحول كلاهما إلى أسطورة، ممّا يوقعنا في أسئلة عقيمة وفي دائرة مغلقة تمنع حركية النص التي تمكننا من استنباط الدلالات الملائمة لواقعنا وتاريخنا.
لا سبيل لنا إلا التأسيس للعقل بجميع وسائل الكفاح، وهو ما يردّنا إلى البعد التاريخي للنصوص الذي يهدره الخطاب الديني، كما أنّ التمسك الحرفي بدلالة النصوص، يؤدي فوق الإهدار للواقع والنص إلى تزييف كلي لمقاصد الوحي، والتزييف نفسه يكمن في ادعاء الخطاب الديني أنّه يحرر الإنسان من العبودية، بيد أنّه يسلمه إلى عبودية أخرى هي عبودية كهنة النصوص مجمداً النصوص وملغياً التاريخ واللغة.
ينتهي أبو زيد في الفصل الأول إلى نتيجة يعبر عنها القول التالي: “إنّ الخطاب الديني بكل مستوياته التي ناقشناها هنا من معتدل (حكومي ومعارض)، ومتطرف وتعليمي وتربوي وإعلامي، يشترك في آلياته وفي منطلقاته الفكرية على السواء”[7]، إضافة لهذا القول يقرّ أنّ خطاب الجماعات ما هو إلا انعكاس لواقع متردٍ، فالواقع لديهم عصيّ على الإصلاح، والعقل عاجز عن الإبداع إلا بالرجوع إلى حلول قديمة جاهزة.
في بداية الفصل الثاني “التراث في التأويل والتلوين: قراءة في مشروع اليسار الإسلامي” يعود بنا أبو زيد إلى أصل المصطلح المتموقع ضمن النصوص الدينية وتفسيرها في التراث العربي خاصة لتجاوز التراكمات الدلالية المؤدية لغموضه في ظل اختلاط التلوين بالتأويل، ونقطة التركيز التي سيتوجه إليها تتعلق بالقارئ وآليات القراءة التي أهدرت الموضوعية في النصوص، وهذه النصوص هي موضوع قراءة اليسار الإسلامي.
حين يتناول الدلالة اللغوية تحت عنوان “التأويل: الدلالة اللغوية والدلالة الاصطلاحية” يركز على بعدين: الأول يتعلق بدلالة صيغة الفعل الثلاثي “آل” ومشتقاته التي تعني العودة والرجوع. فيكون التأويل عودة إلى العلل الأولى والأسباب الأصلية، أمّا البعد الدلالي الثاني للصيغة الثلاثية للفعل فيأخذ معنى الوصول إلى الغاية بالرعاية والسياسة والإصلاح، قد تبدو الدلالتان متعارضتين، لكنّهما تتداخلان كما ورد في سورة يوسف: “ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال يا أبتِ هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً”[8]، فالتأويل هنا كان بمعنى تحقق المعنى الأول ببلوغ غاية تلك الرؤيا، فالتأويل إذن يجمع علاقة السبب والنتيجة.
أمّا بالنسبة إلى الدلالة الاصطلاحية، فعلماء القرآن يقارنونه بمصطلح آخر هو التفسير، مبينين أنّ علاقته به هي علاقة العام بالخاص، فالتفسير يتعلق “بالنقل” ويتعلق بالعلوم اللازمة للتوغل في داخل النص للوصول إلى التأويل، أمّا التأويل فيتعلق بـ”العقل”، ودون تلك العلوم تغيب الضوابط وتسقط الأيديولوجيا على النص لتنقله من “التأويل” إلى “التلوين”، وهو تعبير عن القراءة المغرضة.
إنّ القراءات ليست بريئة، لكن ليست كلها مغرضة، ولا بدّ من التمييز بين ما هو مغرض عن ما هو غير بريء، انعدام البراءة لها تأويلها الإبستيمولوجي كونها فعلاً معرفياً لا يأتي من فراغ، أمّا القراءة المغرضة فلا تأويل لها إلا في الأيديولوجيا، والتأويل يجب أن ينطلق من زاويتين:
الأولى: خاصة بزاوية التاريخ بالمعنى السوسيولوجي لوضع النصوص.
الثانية: تمثل السياق السوسيولوجي الثقافي كدافع موجه إلى التأويل.
تعتمد القراءة الحقة على جدلية خلاّقة بين الذات والموضوع، بخلاف القراءة المغرضة التي لا تنتج إلا التلوين الذي يعكس نزعة نفعية وضعية شكلية أيديولوجية.
بعد تمييز القراءة التأويلية عن المغرضة يتجه بنا في التأويل للتعرف على مضمونه المنتج في القراءة كيف يكون، وفي مضمون عرضه يقرّ أنه يمكن الاستعانة بتمييز المتصوفة بين الظاهر والباطن للتفرقة بين الدلالة والمغزى أو الأصل والغاية، يجب اعتمادهما في التأويل حتى لا نقع بالتلوين شرط التعامل معهما بشكل جدلي بعيداً عن علاقة الأعلى بالأسفل، فالظاهر يمثل الدلالة التي لا تتحدد إلا من خلال السياق الكلي للظروف التي أنتجت النص، أمّا المغزى فهو الباطن الكامن في جوف الدلالة، وهو جنيني مفترض في نهاية الأمر يدخل فيه الإبداع. وهذان الركنان ينفصلان في معرض التحليل ويندمجان في التركيب، والقراءة التأويلية المنتجة هي فقط القادرة على التمييز بين الطرفين.
يتوجه أبو زيد بعد ذلك لقراءة مشروع اليسار الإسلامي كخطاب ديني، وهو تيار ينتمي إلى مجال الفكر الديني مع سيطرة آليات الخطاب الفلسفي عليه، وهو كاليمين ينطلق معه من الثوابت المعرفية نفسها الخاصة بالنصوص الدينية.
يرتبط هذا التيار بحسن حنفي، مبرزاً أنّ ضرورة وجوده تعود لوجود واقع استعماري صهيوني ينبغي مواجهته، له إرهاصات في كتابات السيد قطب أوائل الخمسينات، وفي كتاب “اشتركية الإسلام” لمصطفى السباعي أحد أقطاب الإخوان في سوريا، وهي امتدادات للتأويل العقلاني للإسلام الذي طرحه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده تحدياً للطرح الحضاري الغربي، واستناداً إلى التراث العقلاني الذي تركه ابن رشد والمعتزلة، رغم ارتداد قطب إلى حاكمية جامدة معطلة.
وقع هذا التيار في مأزق يبينه القول التالي لأبي زيد: “لقد وقع اليسار الإسلامي في شقي الرحى فاتهم بالماركسية والعمالة من جانب النظام والمد الديني من جهة، واتهم بالتلفيقية والتبريرية من جانب قوى اليسار من جهة أخرى”[9].
حلولهم إزاء ما يواجهونه من أزمات وتناقضات تكمن في التوفيقية كهاجس يرتبط بالوحدة في الأمّة، وهي نوع من التقية كنهج سياسي وأحياناً تمارس كنهج سياسي إلى جانب التقية كنهج فكري.
ترتبط التوفيقية سياسياً بمفهوم الحزب الواحد، ظهرت لتنفي الانحياز البارز على السطح، رغم أنّ كتابات الستينيات تكشف عن ميل واضح للعلمانية التقدمية، ثم يتجه أبو زيد لنفي مغادرة حسن حنفي للتيار حين نزح بكتاباته في مرحلة السبعينيات والثمانينات إلى السلفية، لأنّه نزوح سطحي نتيجة متطلبات سياسية ضاغطة، ويبدو أبو زيد مدافعاً عن التيار حينما يذهب إلى أنّ تأرجح هذا التيار ونزوعه التوفيقي لم يكن لأغراض ذاتية نفعية، وهو ما يحسب لهذا التيار. أمّا انحياز التيار السطحي إلى السلفية فيعود إلى عاملين: الأول يتمثل في نجاح القوى الشعبية الإيرانية في الثورة الإسلامية ضد أعظم النظم الفاشية بالشرق الأوسط ممّا اضطر مفكري الشرق والغرب إلى إعادة النظر في منظوماتهم الفكرية، والعامل الثاني يتمثل في حادثة المنصّة بمصر التي قوبلت بالارتياح والخلاص المؤقت من جانب القوى الوطنية المصرية، هذه التوفيقية رافقها مظهر من مظاهر الحيرة فضلاً عن تردد التيار من علمانية تقدمية إلى سلفية، إنّه إصرارها على المزج بين السياسي والفكري والأيديولوجي والإبستيمولوجي، وهو مزج مرفوض التأويل.
منطلق خطاب اليسار الإسلامي هو إقراره بالحالة الحضارية للعالم العربي، وهي حالة نهضة تستلزم استراتيجيات، وبفشل استراتيجية الإصلاح الديني كان لا بدّ من نقدها إذ عجزت عن التنوير بسبب جمودها، لقد وصل هذا التيار مع آلياته إلى القضاء على فعالية التراث الذي يدعو إليه، لأنّه يقوم بعملية اختيار يرافقها عملية جوانب وإظهار أخرى ممّا يعرّضه إلى “التلوين”، والأمر الذي لم يعط للتيار مبرره في الوجود هو تصوره لعلاقة التناقض بين التيارين العلماني والسلفي، لكنّ الحقيقة في نظر أبي زيد أنّ كليهما يطرح مشروعاً خارج اللحظة الحضارية التي تمثلها النهضة، لكنّ الأول يسير بنا نحو المستقبل ومجاوزة الحاضر، والثاني يهرب من الحاضر مطالباً بالعودة إلى الماضي. فالأول يريد ابتداعاً، والثاني يريد اتباعاً، أمّا الطريق الصحيح فهو الإبداع.
الطرف العلماني يقودنا إلى المستقبل، والسلفي إلى الماضي، وكلاهما أسلوبه الوثب، وهذا يفضي بصاحب الكتاب للحديث عن فرع آخر من الفصل حول علاقة الماضي بالحاضر أو الأصل بالفرع، والتي تعني أنّ هناك طرفين كما نجد ذلك في أيّ علاقة جدلية، حيث يسمح طرف بإمكانية للتحليل من أجل تسكين يسمح بفهم الطرف الثاني، لكنّ اليمين الإسلامي أهمل العلاقة الجدلية وأهمل التفاعل بين الماضي والحاضر، وجعل الماضي جوهراً ثابتاً، على الحاضر أن يكون تابعاً له.
إنّ طرح اليسار أعمق، رغم عدم ارتقائه لآفاق جدلية، وذلك بما يتلاءم مع استراتيجيته التوفيقية، فالماضي يتدخل في تشكيل الحاضر بعد تحوله إلى مخزون نفسي لدى الجماهير كأساس نظري لبنية الواقع ممّا يمكنه من إيجاد تشابه بين القيم والمفاهيم السائدة في الثقافة الإسلامية، لكنّ هذا الاختزان عليه أن يكون عملية أكثر تعقيداً، وليس وثباً وتلويناً للحاضر بلون الماضي، وما نجده من إهدار للعقل فيه خلط بينه وبين الوجدان، ليس نتيجة وجود مثيل لها في التراث، بل بسبب انتقال تلك السلبيات بواسطة قوى تكرست بمساعدة إعلامية، لا يريد اليسار أن يكون الحاضر صورة عن الماضي، والتراث بالنسبة إليه يقع خارج دائرة القداسة، لأنّه منتوج بشري، رافضاً التوحيد بين الإسلام والتراث كما يرى نقيضه اليميني، وبالتالي فهو قابل للتجديد ممّا يتيح له فرصة إمكانية بناء آليات التغيير.
أمّا بالنسبة إلى الخلاف بين اليمين واليسار فهو مجرد خلاف سطحي، لأنّ كليهما يرى في التراث أنّه هو الحل، ويلتقيان في جعل الماضي أصلاً والحاضر فرعاً، اليسار بشعار “تجديد التراث هو الحل” واليمين بشعار “الإسلام هو الحل”، والعلاقة بين الماضي والحاضر هي علاقة معقدة تتجه من الماضي إلى الحاضر والعكس أيضاً، أي بشكل صاعد وهابط، ممّا يتيح لها حلّ أزمات العصر وإعادة بناء التراث، لكن لا يلبث بعد هذا الثناء أن يتجه به أبو زيد لطرح مجموعة تساؤلات حول عمل اليسار الإسلامي إزاء التراث: هل عملهم مشروع تأويلي، أو أنّه عمل غير مشروع، مغرض وتلويني؟
ينتهي صاحب الكتاب بعد ذلك في صفحات تالية إلى أنّ ما يسيطر على الخطاب اليساري للإسلام هو الوثب إلى الماضي للبحث عن علل لأزمات الحاضر، ويرى أنّه قد فشل في نقل خطابه من الإمكان إلى حالة التحقق بتوفيقيته التلوينية، وعلى كلّ فالرؤية التي يؤكد عليها في علاقة الماضي بالحاضر ينبغي ألا تكون قائمة على الفصل ولا على الوصل، بل بالجدل، فلكلا العصرين روحه المستقلة، الحاضر فيها هو نقطة البدء والالتماس.
إنّ مسألة العلاقة بين الماضي والحاضر تتعلق بالتراث، لكن: هل هو بناء شعوري أم بناء تاريخي؟
يركز أبو زيد على الحركة الصاعدة من الماضي إلى الحاضر لتجديد التراث من أجل تغيير وعي الجماهير والإصلاح، لكنها تفتقر للاستقامة، تتمّ عبر وسيط الشعور كما تتمّ الحركة الهابطة عبر وسيط المخزون النفسي للجماهير، وهنا ينكشف الأساس النظري لعمليات الوثب وآليات التجديد، وهو تصور اليسار الإسلامي للتراث على أنّه بناء شعوري، ينظر اليسار إلى الأفكار على أنّها أنماط مثالية لا تاريخية، وهنا يطرح أبو زيد ثلاثة أسئلة: “فالسؤال الأول هو هل أعطى التاريخ كل هذه الأنماط؟ هل كشفت الحضارة جوانب الموضوع؟ هل باستطاعة الباحث اكتشاف أنماط جديدة وكشف جوانب أخرى للموضوع؟ والسؤال الثاني هو إذا كانت الاتجاهات الفكرية أنماطاً مثالية للفكر البشري فهل هذه الأنماط حلول متزامنة أم متتالية في الزمان؟ أم أنّها جوانب مختلفة لموضوع واحد؟ والسؤال الثالث إذا كانت الفرق الكلامية تمثل اتجاهات فكرية فالسؤال هو: هل هذه الاتجاهات الفكرية أنماط دائمة للفكر الديني تتكرر في كلّ زمان ومكان؟”[10].
في هذا التصور يتحول التراث إلى مطلق كركيزة. وجوانب الشعور هي المعرفة والتصديق والإقرار، ولكي يتمّ التوحيد بين هذه الأبعاد في صورة واحدة هي الشعور، لا بدّ من عملية تحويل دلالي: فتمّ استبدال المعرفة بالفكر وهو الأساس النظري، والتصديق بالوجدان وهو يحول الفكر إلى وعي وتجربة معاشة، والإقرار بالقول وهو يعلن عن الموقف الفكري الشعوري ثم الدعوة إليه، لكنه يبقي على العمل دون تحويل وهو البعد الرابع وهو يحوّل كل شيء إلى واقع لتغيير العالم، أمّا رفض التيار اليساري لمنهج التحليل التاريخي فهو مبني على أساس الأحداث دون تجاوز البنى التحتية التي تحكمها، لكنه لا ينكرها أبداً. وفي عام 1980طُرح المشروع التجديدي مبنياً على ثلاث خطوات:
1- تحليل الموروث القديم وظروف نشأته، ومعرفة مساره في الشعور الحضاري.
2- تحليل الأبنية النفسية للجماهير، وإلى أي حد هي ناتجة عن الموروث القديم أو من الأوضاع الاجتماعية الحالية.
3- تحليل أبنية الواقع، وإلى أي حد هي ناشئة من الواقع ذاته ودرجة تطوره، أم أنّها ناشئة عن الأبنية النفسية للجماهير، الناشئة بدورها عن الموروث القديم.[11] يحتوي منهج الشعور المتبع لتحليل الوعي الاجتماعي مستويات إبستيمولوجية يستحيل الجمع بينها، واليساريون يبررون ذلك بالتوفيقية، في حين أنّها تلفيقية في عملية جمعهم، يأخذ فيها المنهج منحى مثالياً مغرضاً حينما ادّعى أهله إمكانية الكشف به عن الواقع الكلي، وهو القادر على تجديد التراث، وللانتقال إلى الحديث عن صورة التراث يطرح أبو زيد السؤال التالي: “ما هي صورة التراث كما يكشف عنها المنهج الشعوري التوفيقي؟”[12].
للإجابة عن السؤال يقرّ في البدء أنّ إعادة بناء العلوم التراثية هي الهدف النهائي لليسار الإسلامي لتثوير الواقع، والمسألة التي تواجه اليساريين هنا هي أنّه في علوم الحكمة لا يمكن التوحيد بين منظومتين معرفيتين فلسفياً، أمّا في علم الكلام فالعملية تنتهي بنا إلى القيام بعملية طلاء عكوفاً على الصورة الخارجية.
يحيل مصطلح التجديد إلى مفهوم إعادة البناء، لكنّها مجرد عملية طلاء للبناء القديم، لأنّه يفكك منظومات الفرق الفكرية ثم يعيد ترتيبها بشكل يبرز فيها الأشعري ويختفي المعتزلي منها.
الهدف من خلال “العقيدة والثورة” ـ وهو إنتاج يساري لحسن حنفي يركز عليه أبو زيد ـ هو بناء علم الكلام، وعلى العموم هاجس الخطاب اليساري في البحث عن بعدين داخل التراث هما التاريخ والإنسان، إضافة إلى بعد ثالث كثيراً ما يضاف هو “الصراع الاجتماعي” المختبئ وراء مصطلح “وحدة الجماعة” أو الخضوع “للإجماع”، والذي كثيراً ما لا يتجاوز تفسيره السياسي، ممّا يدل على تدخل العامل السياسي بالمعنى الأيديولوجي في تشكل الفرق الكلامية بأفكارها، فكان هذا المعنى الأيديولوجي هو المفسر لنشأة الفرق.
لقد انهار التحليل السوسيولوجي، رغم الإشادة بأهميته، ودخل المنهج التاريخي ضمن الشعور التطوري ولم يبقَ أمام اليساريين سوى الشعور البنائي، وذلك الإهمال يكاد يكشف عن توفيقيتهم ومثاليتهم، ثم إنّ الإقرار به يعني وقوعهم في تناقض لا حلّ له إلا بالتحليل التاريخي، ومن ثمّة التسليم بالمحتوى الأيديولوجي. أمّا في علاقتهم مع الجديد والقديم فالجديد يصرّون به على مجاورة القديم الذي يحتل الصدارة على مستوى العناوين، أمّا ضمن التحليل التفصيلي فالقديم يشغل الحاشية، والجديد يشغل المتن، وهذا الشأن الشكلي أيضاً لا يخلو من تلوين وطلاء.
الخطاب اليساري التجديدي عكس اليميني يدرك خطورة النسق الأشعري في بناء علم الكلام، كما يعي دوره التاريخي في إحداث تعارض بين حق الله وحق الإنسان، والتحليل التاريخي لنشأة الأفكار والفرق قادر على كشف البنى وتعددها في التراث، وبعض مظاهر التعارض السطحي بين العدل والتوحيد، ويكشف عدم تحقق التلازم بينهما في الحركات الفكرية المبكرة أطروحاتهم التي كانت تفتقر لتأسيس معرفي، لأنّها كانت بمعرض ردود صراعات، وهذا ما يفسر سبب التردد في تحديد العلاقة البنيوية بينهما، وسبب التردد هو نهجه التوفيقي، وهو ما يظهر في إبقائه على التعارض الشكلي بين العدل والتوحيد، ممّا أدى إلى فشل طموح التجديد، يختم هذا العنصر بسؤال حول نهج التجديد قائلاً: “ترى هل يمكن لنهج التجديد هذا أن يحقق على مستوى الأفكار الجزئية ما عجز عن تحقيقه على مستوى البناء العام”؟[13] بعد هذه المرحلة يتجه أبو زيد لتقويم النصوص، حيث يركز على المنهج الشعوري المتبع في التأويل اليساري الذي يعتمد الشعور كوسيط ذهني لممارسة التحويل الدلالي، أو بالأحرى التلوين، وهو في ذلك يقوم على خطوتين:
1- 1- الإتيان بنص قديم، واستنباط النقائص منه شعورياً لإكمال تحليل النصوص، ومادة ذلك الشعور تعبر عن البناء النفسي المعاصر.
2- 2- الانطلاق من أنّ تحليلات القدامى تتسم بكونها عقلية صورية، وهي بذلك غير كافية تتطلب إضافة جديدة منبعها روح العصر.
ينتهي المنهج الشعوري في التعامل مع النصوص إلى أنّها صور فارغة يمكن ملؤها وفقاً للمنهج، فارضاً تصوراً صورياً عدمياً، يهدر الدلالة الأصلية للنصوص التي يمكن أن تفصح عن دلالات متناقضة تمثل إيجابيات وسلبيات النص المتزامنة في اللحظة نفسها، لكنهما معرضان أيضاً للتلوين، متناسياً أنّ النصوص قوالب فارغة المضامين، يمكن ملؤها بمضامين وفقاً لمتطلبات العصر استناداً لمنهجهم الشعوري، وموضع العجز أيضاً في هذا المنهج يكمن في إخفاقه في اكتشاف دلالات الفكر المعتزلي ممارساً تلوينه، وهذا المنهج على هذا النحو لن يؤدي فقط لقلب الأفكار على رأسها، بل سيؤدي إلى تناقضات ضد التجديد.
ولأنّ التوفيقية هي الآليّة المعبّرة عن جوهر العمل اليساري، فما مدى نجاحها وإخفاقها؟
المشروع اليساري أقرب للإخفاق، لأنّه يجمد الحاضر لحساب الماضي، كما يوفق بين أطراف لم يتضح الخلاف والاتفاق بينها، فأخضع الفكر للسياسة وتغلب الأيديولوجي على الإبستيمولوجي، متجاهلاً السياق الاجتماعي والتاريخي للتراث بوصفه شعورياً مثالياً مفارقاً، ولذلك فمن الطبيعي أن تتحول عملية إعادة البناء إلى طلاء، والوقوع في التلوين بدل التأويل.
إنّ ذلك جزء من الحقيقة، والجزء الآخر أنّ ذلك المشروع نجح إلى حد ما في دراسة التراث، فهناك جهد في تأويل العقائد خاصة الألوهية من أجل تجاوز اغتراب الإنسان بالعالم مجسداً محاولة مشروعة لتحول اللاهوت إلى أنثروبولوجيا، وما يهمّ في تأويلهم هو التعامل مع العقائد الإسلامية بوصفها موجهات للسلوك أكثر من كونها عقائد تدل على المفارق “الله”، حيث يتحول المطلق إلى مبدأ معرفي خالص يسعى الإنسان لبلوغه مخلصاً العقل من التجسيد، وبدل أن يكون الوحي غيباً فهو شرع، والوجود الإنساني هو الأصل.
يتحول الوحي من علم إلهي إلى كونه علماً إنسانياً بمجرد قراءته وفهمه وتفسيره، وهذا يدفع للقول بـ”إنسانية الوحي”، ولتأكيد الفكرة كان التركيز على علاقة الوحي بالواقع كرسالة، وكبعد أفقي دون النبوة كبعد عمودي متعلق بأصل الوحي، إذ لا تهمّ طريقة الاتصال بين النبي والوحي بقدر ما تهمّ الرسالة التي كان يمكن الوصول بها إلى صياغة علمية تمثل جدلية الوحي/الواقع، والتي أهملها الخطاب اليميني بالتركيز على البعد الرأسي، لكنه في الوقت نفسه لا ينكر مرافقة حركة الوحي لحركة الواقع، ولا يعدل من رؤيته الميتافيزيقية، عكس اليسار الذي يشدد أكثر منه على اتصاله بالواقع. بل يكاد اليسار يُحوّل الميتافيزيقي إلى الفيزيقي والوحي إلى الطبيعة ليتعلق بالنشاط الذهني للإنسان في كل زمان ومكان، وليس مجرد حادثة طرأت في التاريخ ثم انتهت.
السؤال الذي يطرحه أبو زيد: ما الهدف من استمرارية الوحي؟ ألا يتعارض مع تاريخيته المطروحة؟ فضلاً عن صدامه مع السلفية، فإنّ ثنائية العقل والنقل لم تسلم من هاجس التوفيقية والتردد والتلوين ممّا قضى على إمكانياتها الخصبة ليفقد الوحي بُعده التاريخي، ويتحول إلى مبادئ مطلقة خارج التاريخ، وعلى هذا النحو يتحول العقل إلى تابع للوحي لا يعتمد على نفسه كونه معرّضاً للخطأ، وحتى لو كان قادراً على بلوغ الصواب فسبيله إلى ذلك طويل، ولذلك لا بدّ أن يترك كلّ شيء للوحي، وبذلك يتحد الخطاب اليميني مع الخطاب السلفي ويقع في قبضة اليمين، وبذلك يقع في عبادة النص. هذا التردد سيحتم عليه أن يقوده إلى نقد منهجه العقلي رغم قوله “احتمينا بالنصوص فدخل اللصوص”، قد يبدو هنا أنّ اليسار بلغ درجة دافع فيها عن النص والعقل معاً، لكنّ ذلك لم يكن بطريقة جدلية تامة، كما أنّ هناك ثنائيات كثيرة لم يتمكن المنهج اليساري من حلها، لذلك تظلّ مؤشرات نجاحه جزئية متناثرة، لكن لا يمكن إنكار أنّها كانت خطوة يمكن أن تقود إلى التنوير.
أما الفصل الثالث “قراءة النصوص الدينية: دراسة استكشافية لأنماط الدلالة” فيبين فيه أن الفكر الديني يسعى بتحليله وفهمه إلى كشف عناصر التقدم وعزل عناصر التخلف، بعكس الفكر الذي يكتفي فقط بالدفاع عن الواقع وتبريره، وما يريد العودة إلى الماضي ليسكن هناك فهو ليس بفكر لأنه لا يقتحم المجهول انطلاقاً ممّا هو معلوم، الفكر الديني ليس مقدّساً، فالقوانين البشرية تحكمه، وهنا يأتي المؤلف لضرورة التمييز بين الدين والفكر الديني، فالدين نص مقدّس ثابت تاريخياً، أمّا الفكر الديني فهو اجتهاد بشري يختلف بين العصور وبين كلّ بيئة، وهذا التسليم هو ما كافح رواد النهضة من أجله، لكن يطرح أبو زيد سؤالاً مؤلماً بالنسبة إليه: “كيف استطاع الفكر الديني المعاصر أن يخفي تلك الحقائق ويحاول أن يهيل عليها تراب النسيان لحساب إطلاقية تقارب حدود القداسة ينسبها إلى نفسه بطريقة غير مباشرة؟”[14].
قبل الإجابة عن السؤال يبرز أبو زيد مظاهر تلك القداسة التي تتجلى في مصطلح “الأسلمة” لجميع مظاهر النشاط الإنساني الذي ينطوي على دعوة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب لبعض العلوم والآداب والفنون، وما يلفت الانتباه هو أنّه لا أحد من مفكري الإسلام يعرض تفسيره الطبيعي والإنساني على أنّه الإسلام، كما لم يأخذ المسلمون تفسير حبر الأمّة عبد الله بن عباس تفسيره للرعد الذي يرجعه إلى أنّ مَلكاً يسوق السحاب بمقلاع من فضة بطابع القداسة بحيث لا ينبغي مخالفته في البحث العلمي، والأمر راجع إلى أنّ المسلمين فهموا أنّ أمر ذلك ليس من اختصاص النصوص الدينية بل من اختصاص العقل البشري، هذا الفهم أدى لإنجازات علمية يفخر بها الفكر الديني إلى اليوم، رغم أنّ أسلافنا كانوا مولعين بهاجس الأسلمة كما هو شأن المعاصرين، وخطورة الأسلمة تكمن في مد السيطرة ووضعها بين أيدي رجال الدين لينتهي بالأمر إلى ما يمكن تسميته بمحاكم التفتيش، وتصف غيرها من الأفكار بالانحراف والإلحاد خاصة الشيوعية والماركسية والعلمانية.
يعود أبو زيد إلى سؤال أساسي: “كيف أمكن لإنجازات النهضة والتنوير أن تنزوي في دائرة ضيقة مفسحة المجال لسيطرة خطاب ديني غاشم يسعى إلى إطفاء كل المصابيح الإنسانية التي جاءت الأديان السماوية لتقوي وهجها، وتمنحها زيتاً جديداً؟”[15]، يتفق أبو زيد مع ردّ ذلك إلى الطبيعة التوفيقية لتلك النهضة إضافة لهشاشة حامليها من الطبقة الوسطى الذين اختاروا تبعيتهم السياسية، دون تأسيس أفق معرفي جديد، ولذلك من الطبيعي أن يعود البعض منهم إلى السلفية، رغم أنّ خطاب التنوير كان ضد الدائرة السلفية.
إنجاز التنوير كان برفع القداسة عن الخطاب الديني القديم والحديث بوصفه تاريخية متطورة قابلة للتعدد، لكن ذلك لم يكن كافياً، ونظراً للصراع الأيديولوجي بين الخطاب التنويري والسلفي لم ينقطع التنويريون عن إنتاج السلفيين ممّا كرّس الرؤية اللاتاريخية للنصوص الدينية عند كلا الفريقين في إنتاج وعيهم التاريخي العلمي بالنصوص الدينية، وأبو زيد لا يعني بذلك علم “أسباب النزول” أو حقائق “النسخ”، بل إنّه يعتمد على إنجازات العلوم اللغوية خاصة في النصوص، وأنّ نقطة البدء والنهاية هي الإنسان.
النصوص الدينية نصوص لغوية تنتمي لثقافة محددة، لها فعاليتها الناشئة عن خصوصيتها، والعلاقة بين اللغة والكلام بصددها علاقة جدلية، وأصالة النصوص تقاس بما تحقق من تطور داخل نظامها اللغوي وفي الثقافة والواقع، مبدعة شيفرتها الخاصة لذلك السبيل.
بعد هذه المرحلة يطرح أبو زيد سؤالاً آخر يقول عنه: “سؤال يطرح إشكالية الفارق بين النصوص الدينية وغيرها من النصوص اللغوية التي تخضع بسهولة لمنهج التحليل طبقاً لنموذج تفرقة ديسوسير بين اللغة والكلام”[16].
هناك توهم الانفصال بين كلام الإله وكلام الإنسان الذي قد يصل إلى درجة التعارض بينهما، وهذا الوهم يعيق إخضاع الكلام الإلهي لمناهج التحليل العقلية الإنسانية، وهو توهم أسسه التصور الأشعري، هناك تشابه بين طبيعة نزول القرآن وطبيعة مولد المسيح لدى المسيحية داخل البناء العقدي للإسلام نفسه، بل ويتجه إلى أنّ لهما البنية نفسها على اعتبار أنّ المسيح كلمة الله كما القرآن كلام الله، الأول ألقي إلى مريم والثاني إلى محمد، أي أنّ مريم= محمد، والوسيط نفسه هو جبريل، وفي كلتا الحالتين تجسّد كلام الله بشكل ملموس في الإسلام بشكل نص وفي المسيحية بشكل بشر، وكلاهما يتحول الإلهي إلى بشري ويتأنس، كلاهما يقع في وهم الطبيعة المزدوجة لكليهما، وهذا فيه إهدار للحقائق الموضوعية والتاريخية للظاهرة، متمسكين بالأصل الميتافيزيقي المفارق، ومن ثمّة انعكاس موقف إيديولوجي في واقع تاريخي معين، ونفي الإنسان وتغريبه عن واقعه ليس لحساب المطلق بل لحساب الطبقة التي تحل محل المطلق.
القول بإلهية النص يعني أنّه لا قوة يمكنها فك شيفرتها إلا قوة إلهية مثلها، ممّا يعني استغلاقها أمام الإنسان، وعليه أن يرفع راية العجز أمامها، ومادامت بشرية اللغة والثقافة فإنّها نصوص تاريخية، واللغة بطبيعتها حركية تتطور مع الواقع والثقافة ممّا يحرك دلالة النصوص، غالباً ما تنقله من الحقيقة إلى المجاز، ولذلك مؤشرات في الكثير من عباراته، فالمجاز آلية من آليات القرآن. والخطاب الديني المعاصر لا يعارض التأويل المجازي لكن ذلك من بابه البلاغي فقط، لا ينطلق من فهم علمي للنصوص متمسكاً بالدلالة الحرفية للنص تمسكاً يكشف عن طابعه الأيديولوجي الذي ينكشف أيضاً في حال وثبه على المعنى الحرفي وفقاً لما يخدم أهدافه، كما هو الشأن في عبارة “لهو الحديث” الوارد في الآية 6 من سورة لقمان كمثال يأخذه أبو زيد، الخطاب الديني يأخذها بحرفية على أنّها “الغناء”، والأخطر هو استنتاجه أنّ الغناء حرام بكلّ أنواعه.
كان ينبغي الانتباه هنا إلى جانبي الدلالة، فهناك ما يفيد الخصوص وهناك ما يفيد العموم؛ فالأول يشير مباشرة إلى الواقع الاجتماعي والثقافي لإنتاج النص، والثاني يعي الجانب المتجدد والمستمر مع كل قراءة، والخاص يمكن بالتأويل المجازي أن يتحول إلى عام.
التمسك الحرفي يقوي المتشددين في مواجهة المعتدلين الذين لا يقدمون تأويلاً أو حلاً لتلك النصوص، من أمثلة ذلك أنّ القرآن استخدم كلمة الحسد ثلاث مرات مجازياً ومرّة بدلالتها الحرفية، وهذا يعبر عن تحويل دلالي في استخدام الكلمة لنقلها من الأسطورة إلى العقل، هذا تأويل من داخل النص، أمّا من خارجه فتحكمه، فتكون لمن أراد أن يتجاوز ذلك بآلياته اللغوية الخاصة، وهو تأويل مستكره نفعي أيديولوجي يوقع في التلوين.
الإصرار على الدلالة الحرفية يدل على إصرار الخطاب الديني على اختزال العلاقة بين الله والإنسان فقط في العبودية، المتأسسة وجودياً ومعرفياً على مقولة الحاكمية مستدعية إياها مكبلة الإنسان بشكل يجعل منه قابلاً لأيّ نظام يقتل إنسانيته، وفي ذلك التأسيس يلجأ إلى آليتين هما: الاحتماء الحرفي التاريخي بالعبودية لله وإلى آلية التوسيع الدلالي لما ورد في القرآن من حديث عن الحكم والتحكيم، وهما آليتان للوثب التاريخي والثقافي للعودة لعصر إنتاج النصوص مغيبة دلالتها.
ما يزال مصطلح العبودية موجوداً في الثقافة، رغم أنّ دلالته الاقتصادية والاجتماعية لم تعد موجودة، أمّا ذلك النقل إلى الحاضر فهو غير مجازي، فهو مجرد نقل أسماء لتدل على شخوص أخرى، لكنّ ذلك لا يعني الموت التام لدلالة العبودية، لأنّ أشكالها ما تزال موجودة في الواقع المعاصر مثل مسألة التمييز العنصري. وممّا يخفيه الخطاب الديني في العلاقة بين الله والإنسان علاقة الحب التي ظلّ ينبه إليها المتصوفة، وفي حقيقة الأمر العلاقة بين الله والإنسان ليست علاقة عبودية بل عبادية، فالعبودية تحويلها الدلالي يكمن في أنّها تشير إلى عدم الإخلاص في الإيمان، وبالتالي فهي لغير المؤمنين، أمّا العبادية فهي تخص المؤمنين أحراراً أم مملوكين، ومفردها “عبد”. ولذلك فالتحويل الدلالي القرآني يفرق بين الناس على أساس الإيمان، ولا مجال للشك في إلحاح النصوص على المساواة بين البشر.
إنّ إصرار الخطاب الديني على المعنى الحرفي لمعنى العبودية يسير عكس اتجاه الإسلام نفسه، ملغياً الحب متبعاً حركة ارتدادية إلى الماضي والإقامة فيه، بل ويتعمد إخفاء تلك الدلالات، إذن لا تأويل للخطاب الديني سوى الأيديولوجيا والوعي الزائف بغض النظر عن النوايا.
الدلالة التاريخية لا تثير كثيراً من الخلاف، أمّا التوقف عند دلالة المعنى وحدها فتجمد النص وتحوله إلى مجرد شاهد تاريخي، وكثيراً ما تختلف الدلالات لحد الصراع المختلط بالأيديولوجيا، زاعمين أنّ معناهم هو القصد، وبدخول القصد في المعنى نقع في التنجيم.
هناك فارق بين المعنى والمغزى، المعنى ذو طابع تاريخي، أمّا المغزى فمعاصر، وإذا لم يرتبط بالمعنى دخل في نطاق التلوين وابتعد عن التأويل، المعنى ثابت نسبياً، أمّا المغزى فمتحرك، قد يتشابه المغزى مع القياس الفقهي لكن ذلك ظاهرياً فقط لأنّ المغزى لا يرتبط بالمقاصد الكليّة للشريعة.
يقتصر الخطاب الديني على ما هو مذكور، أمّا الدراسات الحديثة فتبحث عن المسكوت، وهو إحدى آليات النص في التشكيل كونه جزءاً من بنيته الدلالية المعبرة عن البنية اللغوية الخاصة بالنص، وهو جانب من جوانب العلاقة بين النص والثقافة، إضافة إلى جانب التشكل المعبر عن تكون الثقافة التي يكشف عنها الخطاب الديني المتدرج في الأحكام. ومن جهة أخرى هناك أسئلة يتعمد الخطاب الديني إخفاءها، ليس لأنّه يجهلها بل لأنّها تتعارض مع مصالح السلطة التي يعبّر عنها.
تعقيب حول الكتاب ومضمونه الفكري:
إنّ كتاب نقد الخطاب الديني يمثل أحد الكتب الثلاثة المساهمة في ترسيم العقل في فكر أبي زيد، مع كتاب الخطاب والتأويل وكتاب الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، إنّها كتب ظهرت في ظرف ساده التكفير المسلط على الرجل نتيجة كتبه، فكانت هذه الكتب عبارة عن ردود موجهة لخطاب الخصوم ممارساً إزاءها مهمة التعرية فاضحاً أوجه العيب والقصور في خطاباتهم الدينية، هذا الكتاب كان عبارة عن ممارسة تعقيلية لحاجة شديدة في دحض الخصوم[17]، فكانت مهمة الكتاب الذي بين أيدينا على هذا النحو هي القيام بعملية مناظرة أو حوار بالحجة للدفاع عن التفكير ضد التكفير الممارس من طرف خطاب قاصر.
حين نذكر مع أبي زيد كلمة خطاب ديني نتجه بفكرنا إلى تلك الحساسيات الدينية والسياسية التي تترجمها التيارات الأصولية وتيارات الإسلام السياسي[18]، وهذا يعني أنّه إضافة للخطورة الكامنة في باطن الخطاب الديني فإنّ شدة خطورته، وفي الوقت نفسه صعوبة مواجهته، تتأتّى من كونه يعبر عن بعدين مقدّسين: الأول مقدّس غيبياً يمثله الدين الذي لا نقاش في مضمون خطابه كونه لا خطاب يعلو قداسة فوقه، والمقدّس الثاني: مقدّس سياسياً كونه يعبر عن السلطة الدنيوية العليا للدولة والمعبرة عن النظام الذي بيده ناصية مواطنيه التي تقع تحت رحمة قبضته، وكونها السيادة العليا الممثلة لهويّة البلاد.
ينتقد علي حرب رؤية أبي زيد النقدية من زاويتين:
الأولى: في أنّه قام بلعبة انقلبت ضده وأوقعته في مأزق، حينما حاول سحب بساط القداسة من تحت أقدام رجال الدين ومحاولة تأويلها بشكل علماني، وبما أنّه يرى من الدين ضرورة لمواكبة النهضة فإنّ فاعلية الدين كمشروع نهضوي لا تتمّ إلا من خلال أهله، رغم دعوته للنظر إلى الدين بشكل علمي وتنقيته من الغيبيات المفارقة والأساطير فإنّه كان يسعى إلى هذا المسلك في حقيقة أمره من أجل الدعوة لمصالحة الدين مع التوجه العلماني، لكنّ هذا المسعى في حقيقة أمره من منظور علي حرب هو خداع للذات، ولا يمكن الوصول إلى تسوية مع المؤسسات الدينية إلا إذا غلبت على أمرها، كما حدث في الواقع الأوروبي الغربي مع الكنيسة، أمّا بالنسبة إلى شأن تعاطي رجال الدين للسياسة من خلال خطابهم فهو أمر مشروع ما داموا مواطنين يحق لهم التعبير السياسي عن وجهات نظرهم، لكنّهم في هذه الحالة يتحولون إلى ساسة وليس إلى رجال دين[19].
الرؤية النقدية لعلي حرب يشوبها بعض القصور حينما ينفي الجهد العلماني في نقد الخطاب الديني وكأنه ليس شأنهم، بيد أنّ الخطاب الديني والعلماني خطابان قد يجتمعان في التعبير عن الواقع نفسه بمنظوريتهما الخاصة، وهذه الحالة تفرض عليهما التواصل والقيام بتأويل متبادل من طرف آليات كل منهما لاختبار مدى التماسك المنطقي وواقعية كل منهما من أجل حركة فكرية تمكننا من المجيء ببديل يمثل وسيطاً يجمع بين المتناقضات في تركيب مصحَّح ومصحِّح.
الثانية: يتبنى أبو زيد الواقعية كمنهج في التعامل مع النص، لكنه يبين لا واقعيته حينما حجب كلاً من النص والواقع، وانتهى بمنهجه إلى إهدار كينونة النص، لأنّ الواقعي يربط بين النص والواقع بوصف النص نتاجاً للواقع أو أداة لإنتاجه أو إعادة خلقه، فكان منهجه نافياً لحقيقة النص[20]، لكن في حقيقة الأمر ما كان ليكون هناك كتاب بعنوان نقد الخطاب الديني ما لم يكن هناك واقع عبَّر عن الأزمة التي مسّت الخطاب الديني بفعل رجال الدين والسياسة، ثم إنّ الخطاب الديني كنص تحوّل إلى واقع أثار موجة نقدية خلق مع تلك الموجة نصوصاً وُلِدت لتحاور وترد على كتاب نقد الخطاب الديني لأبي زيد بنصوصه، وهو ما يتجلى في نصوص كل من محمود علي مكي وعبد الصبور شاهين وتعقيب قسم اللغة العربية بالقاهرة والتي يوردها أبو زيد في حدود 56 صفحة كخطابات تضمنت نصوصاً نتجت لترد على نصوص نقد الخطاب الديني، وهي بهذا العمل إنّما نصوص/ وقائع أنتجت نصوص/وقائع أخرى على اعتبار أنّ كلاً من النص والواقع صورة للكائن نفسه من وجهة خصوصية الذات المتصلة بهما، وهنا نستغل المجال لذكر بعض تلك النصوص بصدد عرضنا لنصوص عبرت عن قراءات نقدية للكتاب:
فمحمود علي مكي يقول في تقريره: “لا تمنع طرافة هذه الدراسة وجدتها من أن نخالف صاحبها في بعض المعطيات التي يقدمها، مثل نظرته إلى الفكر الاعتزالي على أنّه الذي كان يمثل حرية الفكر والديمقراطية والعدل، فمن المعروف أنّ المعتزلة منذ أن ارتبطوا بالسلطة السياسية العباسية حاولوا أن يفرضوا آراءهم بالقوة، وعملوا على التنكيل بمخالفيهم في الرأي على نحو بعيد عن مبدأي حرية الفكر والديمقراطية ممّا أفقدهم مصداقيتهم، هذا وإن كنا نعترف بأنّ منهجهم العقلاني ومنهج من واصل مسيرتهم من فلاسفة المسلمين كان كفيلاً بأن يؤدي إلى منجزات حضارية أكبر وأكثر فاعلية لو قُدر لتلك المسيرة أن تستمر”[21]. الرفض بالنسبة إلى محمود علي مكي يكمن على مستوى الصورة الفكرية التي يتخيلها أبو زيد عن المعتزلة دون منهجهم العقلاني الذي يرى فيه نجاحاً ومكسباً، وطبيعة التحامل على الفكر المعتزلي الذي يمثله مكي الذي من خلاله كان التحامل على فكر نقد الخطاب الديني عبر عن رفض لوقوف خطاب أبي زيد على الأرضية المعتزلية بثقة يبدو من خلال قول “مكي” إنّها مبالغ فيها لا ينبغي أن تصل لذلك الحجم الذي يعمينا عن الجزء الأسود من فكر المعتزلة.
أمّا عبد الصبور شاهين، وبعيداً عن هدوء محمود علي مكي، فيتجه منذ بدايات تقريره إلى شنّ ضربات عنيفة وشرسة إلى ما أنتجه أبو زيد في هذا الكتاب فيقول: “وفي المقدمة يهجم الباحث على الغيب بأسلوب غريب، فيجعل العقل الغيبي غارقاً في الخرافة والأسطورة مع أنّ الغيب أساس الإيمان”.[22] ويقول: “وهو أيضاً يقع في مغالطة خطيرة حين يقرر أنّ العلمانية ليست في جوهرها سوى التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين، وليس ما يروج لها المبطلون من أنّها الإلحاد الذي يفصل الدين عن المجتمع والحياة (…)، ولا أدري إن كان ذلك جهلاً بمفهوم العلمانية، أو هو يضاعف من خطورة هذا الاتجاه بتزييف المفاهيم”.[23] هناك رفض من خلال القول السابق لأيّ جرأة على الغيب، كونه يمثل الإيمان، كما يرفض مفهومه للعلمانية الذي يسعى من خلاله أبو زيد لإقحامها في الممارسة العلمية والتأويلية الدينية، وأبو زيد من هذا المنطلق يمارس عملية تضليلية تغيب المعنى الصحيح للمفاهيم. أمّا تقرير لجنة قسم اللغة العربية فهو يتجه إلى النبرة نفسها والعبارات والنبرات نفسها التي أتى بها عبد الصبور شاهين.
خاتمة:
إنّ نقد الخطاب الديني ليس نقداً للقرآن كنص مؤسس بل إنّه نقد للنصوص التي تفتقر لآليات التعامل النصي مع النصوص المؤسسة للتراث لاستنباط الدلالات الحية المتحركة في التاريخ والمجتمع، وهذه هي الحركة التي يريدها أبو زيد أن تتجلى بعيداً عن الفكرة الأيديولوجية النفعية الذاتية من أجل أفكار إبستيمولوجية مؤسسة علمياً ومعرفياً، وهذا لا يتأتى إلا إذا مات التلوين والتنجيم والوثب على المعاني، ومات الاختزال للأفكار الإسلامية، وحين نتمكن من صناعة تأويلية ناجحة بعيداً عن التوفيق والتلفيق، ومن ثمّة تأسيس مناهج تعيد للعقل فاعليته في التاريخ والوحي، الذي هو لا هوتي الأصل والمعنى، وبشري اللغة والثقافة.
سفيان بقاش، مؤمنون بلا حدود، سبتمبر 2016

Advertisements

قائمة المصادر والمراجع المعتمدة:
القرآن الكريم
أ ـ المصادر:
ـ نصر حامـد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، سيتا للنشر، القاهرة، 1994، ط2
ـ نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط3، 2007
ب ـ المراجع:
ـ السيد ولد أباه، أعلام الفكر العربي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2010، ط1
ـ علي حرب، الاستلاب والارتداد، المركز الثقافي العربي، 1997المغرب، ط1
ج ـ الموسوعات والمعاجم:
مجموعة من الأكاديميين العرب، الفلسفة العربية المعاصرة، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2014، ط1
[1] ـ السيد ولد أباه، أعلام الفكر العربي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2010، ط1، ص 177
[2] ـ نصر حـامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط3، 2007، ص 10
[3] ـ المصدر نفسه، ص 19
[4] ـ المصدر نفسه، ص 31
[5] ـ المصدر نفسه، ص ص 44-45
[6] ـ المصدر نفسه، 82
[7] ـ المصدر نفسه، ص 114
[8] ـ سورة يوسف، الآية 37
[9] ـ نصر حامـد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، المصدر السابق، ص 131.
[10] ـ المصدر نفسه، ص 151
[11] ـ المصدر نفسه، ص 154
[12] ـ المصدر نفسه، ص 158
[13] ـ المصدر نفسه، ص 171
[14] ـ المصدر نفسه، ص 196
[15] ـ المصدر نفسه، ص 199
[16] ـ المصدر نفسه، ص 206
[17] ـ مجموعة من الأكاديميين العرب، الفلسفة العربية المعاصرة، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2014، ط1، ص 568
[18] ـ السيد ولد أباه، المرجع السابق، ص 181
[19] ـ علي حرب، الاستلاب والارتداد، المركز الثقافي العربي، 1997المغرب، ط1، ص ص 100-101
[20] ـ المرجع نفسه، ص 101.
[21] ـ نصر حامـد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، سيتا للنشر، القاهرة، 1994، ط2، ص 13
[22] ـ المصدر نفسه، ص 14
[23] ـ المصدر نفسه، ص 14

شاهد أيضاً

فقهاء يحرمون تقديم الزهور..فما السبب؟

هذه مقالة بقلم: د. عبدالخالق حسين أطرحها للنقاش مع ردود عدد من الشيوخ Advertisements Advertisements …