العقل والدين*
بحث في الأصول الدينية للعقل عند دوركهايم
عندما كان دوركهايم يسعى إلى استخدام علم الاجتماع كوسيلة لبناء نوع من الأخلاق الوضعية، وجد نفسه أمام واقع لا يمكن القفز عليه، وهو الواقع الذي يضع الظاهرة الدينية في قلب البشرية.
وقد ظهرت المسألة “الدينية” عند دوركهايم سنة 1888 في دراسته للطوطم والطابو والزوج مقدس/ دنيوي في مقال نشره بمجلة الحولية السوسيولوجية،يحمل عنوان “تحريم زنا المحارم وأصوله”. غير أن بداية الاهتمام الفعلي بالدين بما هو كذلك دشنها مقال “تعريف الظواهر الدينية” الذي ظهر في المجلة نفسها عاما بعد ذلك؛ أي سنة 1899. ثم نشر في ذات المجلة مقال “في الطوطمية” (1901-1902)، ومقال “درس في أصول الحياة الدينية” في مجلة الفلسفةسنة 1907.
إلا أن كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية الذي صدر سنة 1912 يقترح تصورا جديدا للدين وللقوى الاجتماعية التي ينتجها. ويعتبر ذلك الكتاب ذروة المسار النظري لدوركهايم في تحليله للظاهرة الدينية.
كان دوركهايم يرمي من وراء كتابة هذا المؤلف إلى تفسير نشأة المجتمع وما يجعله ممكنا من جهة، ومن جهة أخرى إلى تسليط الضوء على دور المجتمع في انبثاق الفكر المنطقي. ويراهن دوركهايم في كتابه هذا على الدين كمفتاح لحل هاتين الإشكاليتين. إذ يؤكد دوركهايم على أن التمثلات الدينية تمثلات جمعية، وأن جوهر الديني هو التمييز القائم بين المقدس والدنيوي. فهذا التمييز يوجد في كل ديانات العالم؛ كما أن المقدس، هذا الكائن الجمعي واللاشخصي والمفارق، يمثل المجتمع نفسه. وعلى الصعيد الثاني، يبرهن دوركهايم على أن المجتمع هو مصدر الأفكار الأساسية الضرورية لكل فكر منطقي. ذلك، أن الحياة الاجتماعية هي التي تخول للفرد اكتساب مقولات الفهم، كالزمن والمكان والعدد، إلخ، والمفاهيم الضرورية للفكر المنطقي.
يهدف هذا المقال إلى تقديم التصور البديل الذي اقترحه دوركهايم لشروط إمكان المعرفة بهدف تصحيح ما اعتبره أخطاء المذهبين التجريبي والقبلي في طرحهما لنشأة الأفكار الأساسية للفهم البشري. كما يسعى المقال من وراء هذا الهدف إلى بيان علاقة الدين بنشأة المجتمع كما طورها دوركهايم في كتابهالأشكال الأولية للحياة الدينية على وجه الخصوص.
لذلك، يبدأ مقالنا بمقطع يتناول علاقة الديني بالاجتماعي في سوسيولوجيا دوركهايم، وكيف دشن علم اجتماع الدين لحظة نشأة علم الاجتماع نفسه. وفي المقطع الثاني، سنعرض لتصور كل من المذهب التجريبي والمذهب القبلي لنشأة المعرفة البشرية، وخصوصا مقولات الفكر في علاقتها بالفطرة والتجربة. يلي ذلك نقد دوركهايم لهذين التصورين وعرض مقاربته السوسيوتجريبية لانبثاق مقولات الفهم من خلال الممارسات الجماعية للطقوس الطوطمية.
الاجتماعي والديني في العلم الاجتماعي الدوركهايمي:
يندرج اهتمام دوركهايم المبكر بالظاهرة الدينية في سياق نشأة علم الاجتماع ذاته. ذلك أن الصرح المعقد لكل النظريات السوسيولوجية للآباء المؤسسين قام على مساءلة أصل الواقع الاجتماعي ووضعه الأنطولوجي، وهي المسألة التي جعلت الدين منطلقا لها. وفي هذا السياق، يشير شمويل تريغانو إلى أن السوسيولوجيا، التي نشأت في القرن التاسع عشر في خضم التغييرات التي أحدثتها الثورة الصناعية والثورة العلمية والثورة السياسية وما صاحبها من انتشار العلمنة والتحديث، كرست معظم جهودها في بدايتها لتحليل الظاهرة الدينية (Trigano, 2001: 9). وبذلك يكون علم الاجتماع الديني هو ما دشن لحظة ولادة النظرية السوسيولوجية ذاتها.
في هذا السياق، انبثقت سوسيولوجيا إميل دوركهايم (1858-1917) الوفية للتقليد الفرنسي، وخصوصا الفلسفة الديكارتية المنشغلة بالبحث عن الأصول. ذلك أن دوركهايم عكف على الإجابة على أسئلة متعلقة بنفس الموضوع: كيف نشأ المجتمع؟ ما هي القوانين التي تتحكم في الحياة الجماعية؟ كيف أمكن لعدد كبير من البشر، الذين يتمتع كل فرد منهم بحياة داخلية خاصة، أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا بنفس الطريقة، بمعنى ما مصدر “أساليب الفعل والإحساس والفكر” الجماعية؟ (Trigano, 2001: 10).
للإجابة على هذه التساؤلات، تبنى دوركهايم منهجا تجريبيا، حاول من خلاله استخلاص تلك الإجابات من دراسات ميدانية، تناولت بالأساس الحياة الدينية لما يسمى بالمجتمعات “البدائية”، وخصوصا الممارسات الطقوسية الطوطمية. وينطلق دوركهايم، في اختياراته النظرية والمنهجية، من أطروحة أساسية يكون المجتمع بمقتضاها متسما بطابع القداسة. وتتكثف هذه الأطروحة في المنطوق الدوركهايمي الشهير “الله هو المجتمع” الذي استنتجه بالخصوص من دراسته للديانة الطوطمية.
في كتابه الأشكال الأولية للحياة الدينية، يعبر دوركهايم عن قناعته بأن الدين يشكل الرحم الذي ولدت فيه الحضارة ويعتبر الشكل البارز للحياة الاجتماعية. فالدين في رأي دوركهايم “يتضمن في ذاته منذ البداية كل العناصر التي أدت إلى انبثاق مختلف تمظهرات الحياة الاجتماعية. إذ انحدر العلم والشعر من الأساطير والحكايات؛ وانحدرت الفنون التشكيلية من الزخارف الدينية وحفلات القداس؛ وخرج القانون والأخلاق من رحم الممارسة الطقوسية. فلا أحد يستطيع فهم تصورنا للعالم، وتصوراتنا الفلسفية للروح والخلود والحياة، إن لم يكن على دراية بالمعتقدات الدينية التي تمثل صورها الأولية”.[1]
وللبرهنة على صدق هذه الأطروحة، انطلق دوركهايم من التأكيد على أن الميزة الجوهرية للدين هي التمييز بين المقدس والدنيوي. يقول دوركهايم: “إن جميع أشكال الإيمان الديني المعروفة، بسيطة كانت أو معقدة، تحمل خاصية مشتركة: إنها تقتضي تنظيم الأمور الواقعية أو المثالية التي يتصورها الإنسان في نظامين متقابلين يطلق عليهما عادة اسمين مختلفين، هما المقدس والدنيوي”(Durkheim, [1912] 1968: 50).وخلاصة هذا التعريف للدين هو تشديد دوركهايم على فكرة أنه حيثما يوجد “مقدس” مختلف عن “الدنيوي” يوجد دين، وبالتالي فإن الطوطمية تشكل دينا حقيقيا، معارضا بذلك أطروحة فرايزرFrazerالتي لا تعتبر الطوطمية دينا، لأنها تفتقد إلى كائن روحي وإلى صلاة، وبالتاليفهي في رأيه مجرد عدة سحرية.
لا يمكن فصل “الاجتماعي” عن “الديني” في علم الاجتماع الدوركهايمي، كما يتجلى ذلك بوضوح في مقاربته للطوطمية؛ فالطوطم هو في آن واحد رمز للإله ورمز للعشيرة. ذلك أن “إله العشيرة الذي هو مبدأ الطوطمية، لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير العشيرة نفسها، لكنه مجسد في أقنوم (رمز) ومقدم للمخيلات في شكل أنواع محسوسة من النبات والحيوان التي تستخدم كطواطم”. هكذا إذن فإن المجتمع، في رأي دوركهايم، “يتوفر على كل شيء يسمح له بأن يثير في العقول، بفضل الفعل الذي يمارسه عليها، الإحساس بالألوهية، نظرا لأن المجتمع يمثل بالنسبة لأعضائه ما يمثله الإله بالنسبة للمؤمنين به”.
شكلت الظاهرة الدينية منذ الكتابات الأولى لدوركهايم مفتاح إشكالية هذا الأخير المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية، لدرجة إثارة نقد أحد تلامذته، ج. لابي J.Lapie الذي كتب إلى سيلستان بوغلي C.Bougléرسالة يقول فيها، إن دوركهايم “يفسر كل شيء في هذا الوقت بواسطة الدين: تحريم الزواج بين الأقارب مسألة دينية، الألم والمعاناة لهما منشأ ديني، كل شيء ديني…”[2]
علاوة على ذلك، فإن علم الاجتماع كما تصوره دوركهايم يرتبط بعلم اجتماع المعرفة مادام المجتمع البشري يتعرف على ذاته ويعرف العالم انطلاقا من الدين (Trigano, 2001: 19). إذ أن الموضوع الأساسي في علم الاجتماع الديني لدى دوركهايم هو إثبات كون العملية التي تنتج تمثل المجتمع لذاته لا تنفصل عن عملية تكونه ذاتها. فقد كان دوركهايم، كما أشرت إلى ذلك من قبل، منشغلا بفهم كيف يمكن لعدد كبير ومتنوع من الأفراد أن ينتجوا تمثلا مشتركا يوحدهم. ولذلك طرح أسئلة، ظل بعضها بلا إجابة، حول المضمون التجريبي للتمثلات الجماعية. وقد أدى به سعيه إلى العثور على إجابة صادقة تجريبيا على تلك الأسئلة إلى الانطلاق من ظاهرتين غير منفصلتين ليبين كيف ينشأ المجتمع: أولا، ظاهرة الممارسات الملموسة التي تربط الأفراد فيما بينهم، مانحة واقعا ملموسا لعلاقة التضامن التي توحدهم؛ ثانيا ظاهرة الطبيعة الاجتماعية للمعرفة (Ogien,2007: 137).
في كتابه الأشكال الاجتماعية للفكر، يشير ألبير أوجيان (Ogien, 2007: 25) إلى أن هناك تصورين للاجتماعي لدى دوركهايم: تصور مفارق يمنح لضمير جمعي مستخرج من المجتمع سلطةَ ممارسةِ الإكراه على السلوكات الفردية، وتصور محايث يكمن أصلا في المعرفة بما أنها تعبر عن الأشكال الأولية للالتزام الاجتماعي. ويعني ذلك أن دوركهايم يعتقد أن شروط المعرفة لا تفلت من البحث التجريبي.
هذا البحث التجريبي في شروط إمكان المعرفة يجد ميدانه المفضل في الممارسات الدينية الطوطمية. وقد فصَّل دوركهايم الكلام في هذا الموضوع في كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1912، والذي شكل منطلقا ما أصبح يعرف في الأدبيات السوسيولوجية بـ “دوركهايم الثاني” الذي كرس أعماله التي تبتدئ بكتاب الأشكال الأولية وما بعدها، لبناء نظرية سوسيولوجية للمعرفة، والذي أضحى موضوعا لإعادة تقييم معاصرة يمكن أن نلاحظ فيها ما يمكن أن نطلق عليه “أعراض فتغنشتاين” (Ogien (2009): 19).
المقولات في المذهبين التجريبي والقبلي:
تجدر الإشارة في البداية، على خلاف الرأي الشائع، إلى أن المقولات لم تعالج على يد الفلاسفة القبليين فقط، بل حظيت بنفس القدر من الاهتمام من قبل الفلاسفة التجريبيين أيضا. والاختلاف بين هؤلاء وأولئك يتمثل في تصورهم لمصدر هذه المقولات.
أي دارس للفلسفة لم يسمع عن مقولات أرسطو؛ أي هذه “الأصناف المتنوعة” التي أراد هذا الفيلسوف أن يرجع إليها كل مواضيع فكرنا، حيث تشمل المقولة الأولى كل الجواهر، بينما تشمل المقولات التسع الأخرى كل الأعراض”؟ (Arnauld & Nicole 1965: 49). وكلمة “مقولة” (catégorie) مشتقة من مصدر القول، وهي ترجمة للفظ اليوناني categoria التي تعني “العلاقة”. وقد لاحظ أرسطو أن المعرفة ترتكز على عشرة أسس، أطلق عليها اسم “المقولات”، وهي: الجوهر substance، الكم quantité، الكيف Qualité، الإضافة relation، المكان lieu، الزمان temps، الوضع position، الملكية possession، الانفعال action، الفعل passion.
مع ديفيد هيوم D.Hume بلغ الهجوم على المذهب العقلي أوجه في القرن الثامن عشر، وخصوصا في كتابيه الأساسيين رسالة في الطبيعة البشرية (1739-1740) وبحث في الفهم البشري (1748) اللذين يهدفان إلى تحليل أصول أفكارنا. ومعلوم أن الفلاسفة التجريبيين كانوا يستخدمون مفهوم “الفكرة” بالمعنى الذي يعزوه له ديكارت؛ أي المحتوى الذهني الذي ندركه مباشرة (كوتنغهام، 1997: 90).
انطلق هيوم من قبوله الموقف التجريبي لجون لوك الذي بمقتضاه تكون أفكارنا مستقاة من التجربة. ويقسم هيوم محتويات الذهن إلى المعطيات الحسية التي يتم إدراكها مباشرة، ويطلق عليها “الانطباعات”، من جهة؛ والأفكار أو المعاني التي تمثل نسخا باهتة للانطباعات من جهة أخرى. ويقصد هيوم بالانطباع “كل مدركاتنا الحسية حين نسمع أو نرى أو نشعر أو نحب أو نكره أو نرغب أو نريد”. فالانطباعات إذن، ظواهر أو حالات وجدانية أولية، ولذلك فإنها تمثل إدراكاتنا القوية والواضحة. أما الأفكار (المعاني)، فإنها تمثل صورا للانطباعات، وبالتالي فهي أقل منها وضوحا وقوة. فالأفكار لا تختلف عن الانطباعات إلا في ضعف “القوة والحيوية التي تقع بهما على الذهن”.
لا ينكر هيوم وجود العقل أو الذهن الذي يمارس الانطباعات والأفكار ويمتلكها ويتذكرها ويقيمها. غير أن العقل في رأيه “مجموعة من الإدراكات الحسية المختلفة التي توحدت معا بشتى الارتباطات…عندما أتغلغل فيما أسميه “نفسي”، أعثر دائما على إدراك حسي معين أو آخر، كالحرارة أو البرودة، الضوء أو الظل، الحب أو البغضاء، الألم أو اللذة. ولا أستطيع أبدا، أن ألاحظ شيئا غير الإدراك الحسي”. وإذا كان هيوم يعتبر “علاقات المفاهيم” مجرد تحصيلات حاصل، (مثل: ضِعْف اثنين هو أربعة)، فإنه يرجع مجموع “قضايا الواقع” إلى التجربة، ويعتبر من المستحيل الوصول إليها بمحاكمات قبلية. إن الاستدلال في البرهنات العقلية التي تكشف عن العلاقات بين الأفكار أو المفاهيم استدلال برهاني استنباطي لا يحتاج إلى التجربة. أما الاستدلال في البرهنات العقلية التي تكشف عن العلاقات بين أمور الواقع، فإنه استدلال استقرائي يقوم على التجربة كما هو الحال في العلوم الطبيعية التي ترتكز على العلاقة بين السبب والنتيجة.
وبالمقابل، يشدد المذهب العقلي على أن مصدر المعرفة البشرية هو العقل، وعلى أن هذا الأخير مسلح بمجموعة من الأفكار الفطرية التي تساعده على تنظيم الإدراكات الحسية. وهذا سبب تسمية هذا المذهب بالقبلية (Apriorisme). وبالفعل، كان إيمانويل كانطKant، شأنه شأنلايبتسLeibniz، يصر على أنه يجب استخدام القدرة الفاعلة للعقل في معالجة وفهم أبسط إحساس. فالعقل يلامس العالم، وهو مسلح قبليا بما يسميه كانط “مفهوماتالعقل”. ومقاربة العالم دون الاعتماد على هذه المفهومات ليست “تجريبا”، بل هي مجرد إدراك حسي مباشر يطلق عليه كانط “الحدس”. صحيح أن كانط لا ينكر كون الانطباعات الحسية ضرورية لمنح محتوى لتجربتنا، وبالتالي لا ينكر أن التجريبيين محقون في هذه النقطة. إذ بدون معطيات حسية، لن يكون للعقل شيء يفكر فيه، وبالتالي سيكون فارغا من المحتوى.
غير أن كانط يطرح سؤالا جوهريا في كتابه نقد العقل الخالص: ما مصدر “المفهومات” التي بواسطتها يختبر العقل العالم؟ يجيب كانط إن كل المفهومات مستقاة من اثني عشرة “مقولة” أساسية، كمقولتي الجوهر والسببية. ويؤكد كانط أن هذه المقولات هي أفكار قبلية؛ أي فطرية وسابقة على التجربة، وتعتبر الشروط المسبقة الضرورية لقدرتنا على اختبار العالم. وإذا كان العالم سيبدو لنا على النحو الذي بدأ به؛ أي إذا كنا سنفهم العالم بطريقة ما، فيجب أن يتطابق فهمنا مع هذه المقولات: “إن الصحة الموضوعية للمقولات بوصفها مفهومات قبلية تقوم على أنه بمقدار ما يتعلق الأمر بشكل الفكر، لا يمكن أن تصبح التجربة ممكنة إلا من خلالها. وهي ترتبط بالضرورة والقبلية والتجربة، بسبب أنه لا يمكن التفكير في أي موضوع من التجربة إلا بواسطة تلك المقولات”.
استدلال دوركهايم على الطابع الاجتماعي للمقولات:
يؤكد دوركهايم على أن علم اجتماع المعرفة كما يتصوره هو نفسه يقوم، أفضل من البدائل الفلسفية (التجريبية والقبلية)، بتعليل عمومية وكونية وضرورة وصدق مقولات الفكر التي تشكل الشرط الأساسي لإمكان المعرفة. وللبرهنة على صدق دعواه، يعمد دوركهايمإلى نقد كل من المذهبين التجريبي والقبلي وبيان تهافتهما في تفسير صدق تلك المقولات. ذلك أنهما، وفقا لنقد دوركهايم، يفسران نشأة المعرفة بالعلاقة القائمة بين الفرد والواقع المادي، وبالتالي، فإنهما لا يقدمان أي برهان تجريبي لعملية المعرفة. ولذلك يؤكد دوركهايم على أن علم الاجتماع يبقى وحده القادر عل تجاوز المأزقين من خلال المحاججة على أن المعرفة ظاهرة اجتماعية.
فمن جهة أولى، ينطلق المذهب القبلي من مسلمة أن المقولات لا يمكنها أن تكون مشتقة من التجربة، بل إنها تمثل شرطا “سابقا منطقيا” لها. والظاهر أن دوركهايم يعتبر الشرط السابق منطقيا مكافئا للشرط السابق سيكولوجيا أو للشرط الفطري. غير أن المذهب القبلي، حسب دوركهايم، لا يفسر خصائص مقولات الفهم، وهي العمومية والكونية والضرورة. فالقبليون لا يفسرون شيئا عندما يقولون إن قدرة العقل على تجاوز التجربة وعلى إدراك العلاقات بين الأشياء ملازمة لطبيعة العقل البشري نفسه. بينما كان أولى بهم، تبعا لدوركهايم، أن يفسروا لنا من أين يستمد العقل هذه القدرة. وبعبارة أخرى، إذا كانت الفلسفة القبلية تعتبر المقولات “معطيات عديدة بسيطة، غير قابلة للاختزال، ومحايثة للعقل البشري بفضل تكوينه الخاص” (Durkheim, [1912] 1968 :18) فإنها لم توضح مصدر هذه المقولات السابقة على التجربة. فما زال من الضروري تفسير “القدرة المدهشة” للعقل على تقديمِ شكلٍ لتجربتنا. لذلك ظل دوركهايم غير مقتنع بالبرهان المتعالي القائل، إن المقولات تجعل التجربة ممكنة: فقد اقترح القبليون أن العقل البشري فاض عن العقل الإلهي. ومن البديهي أن يستبعد دوركهايم هذا الحل، لأنه لا يمكن التحقق منه تجريبيا. علاوة على ذلك، يعلن دوركهايم أنه حل خاطئ، مبرهنا على ذلك بكون ثبات العقل الإلهي وعدم قابليته للتغيير يتعارضان مع تنوع أشكال المقولات عبر الزمان والمكانDurkheim, [1912] 1968:20-21)). لذا يبقى السؤال مطروحا: كيف يمكن لخطاطات مفهومية (مقولات الفهم) أن تفرض شكلا على الواقع وتترك في نفس الوقت لهذا الواقع خاصيته كموضوع معرفي؟(Ogien, 2007: 24).
ومن جهة ثانية، يعلن دوركهايم عن رفضه للمقاربة التجريبية الكلاسيكية لشروط إمكان المعرفة لكونها تفشل في تفسير كونية وعمومية وضرورة المقولات. يعتقد دوركهايم أن المقولات هي “الأرضية المشتركة التي تلتقي فيها جميع العقول” (Durkheim, [1912] 1968 :19). وعليه، فإن الطابع الكوني لمقولة معينة تفسره خاصيتها ككيان يمكن،مبدئيا على الأقل، إيصاله وتبليغه لكل العقول(Durkheim, [1912] 1968: 619 n1). أما الطابع الضروري للمقولات، فإنه يتمظهر في كوننا عاجزين عن تفاديها. والحال أن المذهب التجريبي، حسب دوركهايم، يفشل في تحليل هذه الخصائص الخاصة بالمقولات نظرا، لأنه يقيم هذه الأخيرة على انطباعات حسية وإحساسات تتميز بخصائص نقيضة تماما: فالإحساسات خاصة وخصوصية، وهو ما يتعارض مع العام والكوني. كما أن الحرية التي نتمتع بها فيما يتعلق بإحساساتنا تتعارض مع طابعها الضروري. هكذا إذن، إذا لم تكن كونية المقولات وضرورتها سوى مظهرين خادعين لا يطابقان شيئا في الأشياء ذاتها، كما يتضح من خلال معالجة المذهب التجريبي الكلاسيكي لها، فإن هذا الأخير يعجز عن تفسير كيف يتمكن مجموعة من الأفراد عبر مجموعة من الأحاسيس من إدراك موضوع ما بطريقة متطابقة (23: 2007Ogien,).
كان هدف دوركهايم من توضيح فشل التجريبية والقبلية في تفسير نشأة المعرفة البشرية هو تقديم تصور بديل لهما يتمتع بالصدق التجريبي ومبرهن عليه تجريبيا. وارتأى أن قبول فكرة الأصل الاجتماعي للأفكار الأساسية التي تقوم عليها المعرفة سيفسر كل الصعوبات التي اعترضت البدائل الفلسفية الكلاسيكية. هذا الاقتراح الدوركهايمي يرتكز على الفكرة التي سبق لدوركهايم أن عرضها في مقال “التمثلات الفردية والتمثلات الجماعية” (1892): لا يمكن تفسير ظاهرة المفاهيم المشتركة، التي يسميها دوركهايم “التمثلات الجماعية” على أساس الفعل الفردي حتى وإن كان معتبرا في سياق جماعي.
صحيح أن دوركهايم احتفظ باعتقاد الفلسفة القبلية بأن معرفتها تتكون من نوعين مختلفين من العناصر: تجريبية ومفهومية، وأنها تصدر عن مصدرين مختلفين، وأنه لا يمكن اختزالهما في بعضها البعض. غير أن علم اجتماع المعرفة الدوركهايمي يرفض أن يكون لهذه العناصر مصدر فردي كما هو الحال عند كانط، بل يذهب أبعد من ذلك، عندما يماهي بين المقولات والتمثلات الجماعية. فالأفكار العامة والمفاهيم، بما فيها المقولات، تعتبر في رأي دوركهايم تمثلات جماعية تهم علم الاجتماع، بينما تمثل التمثلات الفردية موضوع علم النفس.ويعتبر دوركهايم التمثلات الفردية أفكارا خاصة مستمدة من الإحساسات، في حين تنشأ التمثلات الجماعية من “انصهار” التمثلات الفردية أثناء فترات “الانفعال الجماعي”.
يتحدث دوركهايم عن أربع مصطلحات دون أن يتحمل عناء تحديد الاختلافات بينها: التمثلات الجماعية، والمفاهيم، ومفاهيم التصنيف، والمقولات (Pickering, 1993: 52).كما يلاحظ أن دوركهايم يستخدم في مناسبات عديدة لفظ “مفاهيم” في مقابل عبارة “المفاهيم المجردة”. ومن الواضح أنه يستخدم لفظ “مفاهيم” بمعنى “التمثلات” ويستبدلهما بعضهما ببعض (Durkheim, [1912] 1968: 621). إن المفاهيم، حسب دوركهايم، تشبه من حيث خصائصها التمثلات الجمعية: فهي خارج الزمن، وخارج الفرد، وقادرة على أن تكون كونية، وهي من إنتاج المجتمع، وأعلى من المفاهيم الفردية (Durkheim, [1912] 1968: 625, 437). أما مفاهيم التصنيف، فإنها نوع خاص من المفاهيم أو التمثلات الجمعية، وتستخدم لتصنيف التجربة الفردية والاجتماعية.
يسلط وليامز بايكرينغ (Pickering, 1993) الضوء على مفهوم المقولة لدى دوركهايم من خلال التمييز بين أهداف التفسير في كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية وأهداف التفسير في مقال “في بعض الأشكال البدائية للتصنيف”. ويلاحظ بايكرينغ أن كتاب الأشكال الأولية هو وحده الذي يعالج المقولات بمعناها الكانطي. بينما يعالج المقال مفاهيم التصنيف فقط، كمفاهيم تصنيف اتجاهات المكان والوحدات الزمنية. ليست مفاهيم التصنيف هي المقولات، وإنما تعني الطرائق التي تتمثل بها مختلف المجتمعات مقولات الزمان والمكان والصنف. وعندما يقول دوركهايم إن المقولات ليس لها شكل محدد، وإنما يتغير شكلها عبر الزمان وتبعا للمكان، فإنه يعني بذلك تلك الطرائق في تمثل المقولات.
وإذا كان بايكرينغ يستحضر مقولات الزمن والمكان والصنف، فإن وارين شماوس (Schmaus, 1998: 180) يؤكد على أن تمييز بايكرينغ بين المفاهيم المشتركة كونيا والطرائق المختلفة في تمثل هذه المفاهيم المشتركة يمكن أن يعمم ليشمل كل المقولات. فمقولة السببية مثلا يتم تمثلها أيضا بطرائق مختلفة في أماكن وأزمنة مختلفة. ويرى دوركهايم أنه في المجتمع الواحد تتنوع تمثلات مفهوم السببية بتنوع العوامل الاجتماعية، كالمستوى التعليمي، ومن تخصص علمي إلى آخر(Durkheim, [1912] 1968: 625, 527). هكذا، فإن مقولات الزمن والمكان والصنف والسببية توجد في كل المجتمعات، لكن هذه المفاهيم تكون موضوع تمثلات بطرائق مختلفة.
يقول دوركهايم في مقدمة كتابه الأشكال الأولية للحياة الدينية: “تقدم دراسة الظاهرة الدينية أداة لإحياء المشكلة التي عولجت إلى اليوم على يد الفلاسفة فقط” (Durkheim, [1912] 1968: 12). ذلك أن “أهم الأفكار البشرية، كالزمان والمكان والجنس والنوع والقوة والسببية والشخص، وباختصار هذه الأفكار التي أطلق عليها الفلاسفة اسم المقولات وتتحكم في النشاط العقلي، تطورت في قلب الدين” (Durkheim, [1912] 1968: 35). وفي ذات السياق، يؤكد روبين هورتون على أن دوركهايم يعتبر اللحظة التي ولد فيها الدين هي اللحظة التي ظهرت فيها إمكانية كل أشكال الفكر العليا (Horton, 1973: 260). وبالفعل، “إن أعظم خدمة قدمها الدين للفكر هي أنه أسس أول تمثل لما يمكن أن تكون عليه علاقات القرابة بين الأشياء” (Durkheim, [1912] 1968: 340).مثلما أن الدين قادر على “تحرير العقل من خضوعه للمظاهر الملموسة، وبالتالي تعليمه كيف يتحكم فيها والربط بين الأشياء التي تفرق بينها الحواس”(Durkheim, [1912] 1968: 340).
إن الاستدلال الحاسم في علم اجتماع المعرفة لدى دوركهايم، والمتعلق بالبناء الاجتماعي للمقولات، يتمثل في كون القوى التي تختبرها الجماعة أثناء “الفوران الجماعي” لا يمكن للأفراد المشاركين في هذا الفوران أن يؤولونها إلا كقوى فاعلة خلف الأشياء الملاحظة نفسها ومتحكمة كليا في كوسمولوجيتهم. ذلك أن الفعل المتبادل بين الضمائر الفردية ينشط في التجربة الدينية الجماعية لدرجة أنها تتحول إلى تمثلات جماعية تمارس، بعد نشأتها، إكراها على إدراكات الأفراد أثناء حياتهم اليومية. (Joas, 1984: 568).
يرى دوركهايم أن الطبيعة البشرية هي جمع بين الكائن الفردي والكائن الاجتماعي. هذه الثنائية توازي التمييز الذي تقيمه كل الأديان بين كيانين مختلفين، هما الجسد والروح، اللحم والنفس. وتجد هذه الثنائية تعبيرات فلسفية لها لدى ديكارت وكانط اللذين عارضا بين الإحساسات (sensations) والمفاهيم (concepts)، أو بين الشهوات الحسية والسلوكات الأخلاقية (Jones, 2005: 81). ويعتقد دوركهايم أن مفاهيمنا “تمارس عنفا” على إحساساتنا، وأن سلوكاتنا الأخلاقية تزعج غرائزنا وميولاتنا. ويرجع ذلك، حسب دوركهايم، إلى أننا “لا نستطيع أبدا أن نكون في وفاق تام مع ذاوتنا، حيث لا يمكن لنا أن نتبع واحدة من طبيعتينا إلا وعانت الأخرى. وبالتالي، فإننا مجبرين على أن نعيش دائما منقسمين ضد ذواتنا” (Durkheim,[1912] 1968: 8).
ولا يخفى أن هذه الثنائية الديكارتية هي ترجمة للتمييز بين المقدس والدنيوي، وهو تمييز يتوقف كله على أسباب اجتماعية. فالمجتمع لا يمكن أن يوجد دون أن يتسرب إلى العقول الفردية، ولا يمكنه أن يتسرب إلى العقول الفردية دون أن يرفع الفرد فوق ذاته. فالفرد يوجد سجين “وجودين”: الأول ينحدر من كياننا الفيزيقي ويعبر عنه وينعكس في الإحساسات والشهوات التي يسعى الفرد إلى تحقيقها؛ وينحدر الثاني من المجتمعويعبر عنه، ويؤدي إلى انبثاق العقل والفعل الأخلاقي اللذين بدونهما لن يكون المجتمع ممكنا. ويمكن أن نعبر استعاريا على ذلك بالقول: إن الإله (أي المجتمع) يتوقف وجوده على البشر (أي الأفراد)، مثلما يعتمد البشر (الأفراد) على الإله (المجتمع) فيما يخص أفضل صفاتهم؛ وعندما يتم الاعتراف بذلك، يستنتج دوركهايم، فإن مهمة علم الاجتماع الدين تصبح واضحة: تفسير طبيعة وأصل القوى التي تقوم عليها الأفعال الاجتماعية(Jones, 2005: 80). هاهنا تظهر الصعوبة التي اعترضت دوركهايم في تفسير العلاقة السببية بين الضمائر الفردية والضمير الجمعي. وقد انتابت دوركهايم شكوك في إمكانية البرهنة على وجود هذه العلاقة السببية بين الضمائر الفردية والضمير الجمعي التي يعتبرها نوعين من الكائنات المتمايزة من حيث الطبيعة (Ogien, 2007 :23). إذ كيف “يتسرب” المجتمع إلى العقول الفردية؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب فهم مصدر القدرة على تشكيل تمثلات متطابقة مع الآخرين؛ أي يجب فهم كيفية نشأة الفكر المنطقي.
في مقال “علم الاجتماع الديني ونظرية المعرفة” (Durkheim, 1909: 757-759)، يؤكد دوركهايم بدون تحفظ على “الدور الأساسي” الذي تلعبه بعض التمثلات الجماعية؛ أي المقولات. وتتميز هذه الأخيرة بكونها أسمى المفاهيم، لأنها “تتحكم في كل المفاهيم الأخرى وتتجاوزها…إنها تتحكم في النشاط المنطقي برمته” (Durkheim, 1913: 37). فمن وجهة نظر تراتبية، يعتقد دوركهايم أن وظيفة المقولات تتمثل في “التحكم في مجموع المفاهيم الأخرى واحتوائها؛ إنها قوالب دائمة للحياة العقلية” (Durkheim,[1912] 1968: 628). وبخصوص مصدرها، حاول دوركهايم البرهنة على أن المقولات لا تنتج من العقول الفردية ولا تُفسَّرُ بها، بل إنها “نتيجة للتاريخ وللفعل الجماعي” (Durkheim, 1909: 758).
كان دوركهايم يرغب في أن يوضح أن محتويات المعرفة ليست وحدها مبينة اجتماعيا، وإنما أشكال فعل المعرفة ذاتها أيضا: فمقولات المكان والزمان والقوة والسببية والشخص والجنس يكتسبها الفرد، انطلاقا من مشاركته في الحياة الاجتماعية: “شيد البدائيون المجال العالمي على منوال المجال الاجتماعي، بمعنى على منوال المجال الذي يشغله المجتمع وكما يتمثله المجتمع؛ ويعبر الزمان على إيقاع الحياة الاجتماعية؛ ولم تكن فكرة الجنس (genre) في البداية سوى مظهر آخر لفكرة الجماعة البشرية؛ كما استخدمت القوة الجماعية وفعاليتها كنموذج أصلي للقوة والسببية، الخ.” (Durkheim, [1909-1912] 1969: 677-681).
يقدم دوركهايم هذا التشاكل بين التنظيم الاجتماعي والبنية المنطقية اعتمادا على أمثلة مستمدة من الدراسات الاتنولوجية حول القبائل الأسترالية “البدائية”.وانطلق خصوصا من الممارسات الطقوسية في الديانات الطوطمية التي يعتبرها أحد أشكال الدين الأكثر أولية وبدائية. هذا المتن الإثنولوجي سمح لدوركهايم بطرح نظريته حول انبثاق الاجتماعي (الأخلاقي) من الديني، استنادا إلى مسلمته الأساسية المتمثلة في رفض التفسير الفرداني الخاص بالفلسفات الكلاسيكية (المذهبين التجريبي والقبلي) وبالفلسفة البراغماتية. ذلك أن تفسير الصدق التجريبي للمعرفة التي تمثل شكلا آخر من الاجتماعي، لا يمكن أن يحصل إلا من خلال الجمعي، وخصوصا من خلال التجربة المباشرة للقوة الأخلاقية التي يولدها الإنجاز الجماعي للممارسات الاجتماعية ذات الطبيعة الطقوسية.
في دراسة رائدة حول نظرية المعرفة عند دوركهايم(Rawls,1996; 2001)، عكفت عالمة الاجتماع الأمريكية آن وورفيلد راولس على دراسة نظرية المعرفة عند دوركهايم التي اعتبرتها الاستدلال الذي أهمله شراحه. وأقامت راولس مقاربتها على مفهوم “الممارسة”، وخصوصا على تعريف دوركهايم للظاهرة الاجتماعية كمجموعة من الأصوات والحركات المسموعة والمرئية. وبالفعل، تشير راولس إلى أن دوركهايم تساءل في كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية عن المصدر الذي تنبثق منه المعتقدات، وأنه برهن على أن التمثلات والمعتقدات يسببها الانجاز الجماعي للممارسات الطقوسية. تكتب راولس: “بالنسبة لدوركهايم، ليست الممارسات الاجتماعية مجردة وليست مجرد منتوج للأفكار والتمثلات والمعتقدات، بل إن الأفكار والتمثلات والمعتقدات ظواهر ثانوية. إن المجتمع بالنسبة لدوركهايم مكون أساسا وقبل كل شيء من ممارسات منجزة بشكل ملموس، تنبثق منها قوى اجتماعية حقيقية يختبرها المشاركون بشكل جماعي. إن بعض هذه القوى الاجتماعية تنتج أفكارا أساسية يستشعرها جميع المشاركين في الطقس، وهي الأفكار التي يسميها دوركهايم مقولات الفهم”.
إن لجوء دوركهايم إلى فكرة “الممارسات الطقوسية”، وخصوصا الطقوس المحاكاتية les rites mimétiquesالتي تمارس بشكل جماعي في الديانات الطوطمية الأسترالية، يمَكِّن من ضمان صدق تجريبي لعلم اجتماع المعرفة. وإذا كان من غير المقبول تفسير المعرفة بنوع من السببية المادية، فقد ابتكر دوركهايم نوعا آخر من السببية، وهي السببية الأخلاقية التي تنبثق من الانفعالات التي يولدها في كل فرد مشارك التحقيق المشترك للنشاط الجماعي.
يطلق دوركهايم في الأشكال الأولية مصطلحات عديدة على الانفعالات: “أحاسيس” feelings، “مشاعر”sentiments، “انطباعات حسية” sensations، “إثارة ذهنية”، انطباعات impressions.ويدرج كل هذه الكلمات في الكلمة émotions (انفعال). ويتحدث دوركهايم على انفعالات نوعية، مثل “السعادة” و”الراحة” و”التبعية” و”الاحترام” التي يؤكد أنها تطابق فكرتي الوحدة الأخلاقية والقوة الأخلاقية (Rawls, 2001: 8).
يفسر دوركهايم انبثاق الانفعالات بأطروحة “خاصية القدرة التوليدية للدين” التي استعارها من الفلسفة البرجماتية (Jones, 2005: 93). وقد استلهم وليام جيمس نفسه هذه الظاهرة التفسيرية من عالم النفس الفرنسي شارل فيري (Ch. Féré) الذي كان مهتما بمفعول المثيرات الحسية على النشاط العضلي، ورتب سلسلات من التجارب التي استخدم فيها جهاز “قياس القوة” لقياس قوة الانقباضات العضلية ليد شخص تحت تأثير العديد من المثيرات. ويشير جيمس في كتابه مبادئ علم النفس (1890) إلى أن أقصى قوة تبقى ثابتة نسبيا من يوم لآخر؛ لكن إذا تلقى الشخص إثارة حسية (انطباعا حسيا)، كالحرارة والبرودة والوخز والحكة والإثارة الكهربائية للبشرة، فإن قوة الانقباض تزداد عادة. وأصبح مفعول التقوية هذا يحمل اسم “توليد القوة” (Jones, 2005: 93).
فصَّل وليام جيمس الحديث عن هذه الخاصية التي تجعل من الدين “قوة توليدية” في كتابة الضروب المتنوعة للتجربة الدينية (1902)، وضرب لها مثالا بحالة سان أوغسطين الشاب كمثال كلاسيكي لما سماه “تنافر الشخصية” أو “الذات المنقسمة”.[3]
في هذا السياق، طرح دوركهايم تصوره للدين كظاهرة لها قدرة على إنتاح الانفعالات أو الانطباعات، مثل “انطباعات الابتهاج، والسلم الداخلي، والسكينة، والحماسة التي تعتبر بالنسبة للمؤمن دليلا تجريبيا على صدق معتقداته”(Durkheim,[1912] 1968: 4). وقد دافع دوركهايم على فكرة “خاصيةالقدرة التوليدية للدين” (وفكرة “ازدواجية الطبيعة البشرية”) في اللقاء الذي نظمته الجمعية الفرنسية للفلسفة بتاريخ 4 فبراير 1913. فالإنسان الذي يكون أمام ربه، يقول دوركهايم، “يكون لديه إيمان بالحياة، وحماسة للحياة، وهي حماسة لا يجربها في الأوقات العادية. حيث تكون لديه قوة أكبر لمواجهة مشاق الوجود، ويكون قادرا على القيام بأمور عظيمة ويبرهن عليها بسلوكه”(Durkheim,[1912] 1968: 5). لكن هذه النتائج لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كان الإله حاضرا في ذهنه “بواسطة طاقة كافية للتمثل الذي يعبر عليها حتى تكون فعالة”. هكذا، يجب أن تكون الآلهة “محط إيمان، ومحط إيمان مع ثقة جماعية”، حيث “لا يمكن لثقة كل فرد على حدة أن تكون قوية إلا إذا كانت مشتركة بين الجميع” (Durkheim,[1912] 1968: 6).
إن أوضح مثال عن واقعة المكوِّن الانفعالي للمقولات، في رأي دوركهايم، هما مفهوما المقدس والدنيوي اللذين يلفهما عنصر انفعالي. بل يذهب دوركهايم إلى حد الحسم في أنه “ربما ليس هناك تمثل جماعي غير هذياني بمعنى من المعاني” (Durkheim,[1912] 1968: 325).
هذه الانفعالات التي يشعر بها المشاركون في الطقس الجماعي تنتج لديهم شعورا بقوة مجهولة ولا شخصية، توجد داخل كل فرد منهم دون أن تنصهر به: “يمكن القول إنها الإله الذي تعبده كل ديانة طوطمية. إلا أنه إله لا شخصي، لا اسم له، محايث للعالم، منتشر في عدد لامتناه من الأشياء” (Durkheim,[1912] 1968: 269). لكن يجب ألا نسيء تقدير هذا التصور ونعتبره مجرد تعبير استعاري. بل بالعكس، إن هذه القوة واقعية: “إن كل الكائنات التي تتوحد في نفس المبدأ الطوطمي تعتبر نفسها بذلك وكأنها مرتبطة أخلاقيا بعضها بعضا؛ إذ تشعر بأن عليها إزاء الآخرين مجموعة من واجبات المساعدة والتطوع…” (Durkheim,[1912] 1968: 271). وتتمثل “واقعية” هذه القوة الأخلاقية في قدرتها الخلاقة للإلهي وتضمنها لمبدأ الفعالية، سواء الفعالية الطقوسية أو السحرية، كما وضح ذلك هوبيرHubert وموسMauss من خلال فكرة “المانا”. إن هذه القوة، في رأي دوركهايم، هي المجتمع ذاته. هكذا، فإن الإله والمجتمع يولدان لدى الأفراد إحساسا بتبعية كلية ودائمة. إنهما مبدآن مفارقان، مختلطان، يمارسان الإكراه والسلطة الأخلاقية.
إن القوة الدينية، الجماعية والمجهولة، يمثلها الطوطم الذي يعتبر في رأي دوركهايم شعارا. إنه مصدر المقدس وحامله. فالقوى الدينية، حسب دوركهايم، قوى أخلاقية تفعل في كل فرد. فهي “تترجم ليس فقط الطريقة التي بها تؤثر الأشياء المادية على حواسنا، بل تترجم أيضا الطريقة التي يؤثر بها الضمير الجمعي على الضمائر الفردية” (Durkheim,[1912] 1968: 319). وباختصار، يمكن أن نستخلص مع دوركهايم أن هذه القوة الأخلاقية هي المجتمع. هكذا، فإن الدين يشكل نسقا من التمثلات يمكّن الأفراد من بناء صورة عن المجتمع، ومن أن يقيموا مع هذا الأخير علاقات منظمة ومضبوطة.
إذا أردنا صياغة هذا التصور الحلزوني والمعقد للدين كمصدر للمعرفة وللمجتمع في عبارة بيانية واضحة، يمكن القول إن الأفراد يجتمعون في البداية ليكونوا “تجمعا” agrégationيتميز بالعرضية والحيوانية. وعندما ينخرط هؤلاء الأفراد مجموعين في طقس طوطمي، فإنهم يتحولون إلى مشترك (communauté) من خلال انبثاق مجموعة من الانفعالات والمشاعر المشتركة كحالات داخلية، مثل مشاعر التجاور والتشابه والتلاؤم والتنافر والوحدة الأخلاقية والقوة الأخلاقية. هذه الأخلاق المنبثقة في شكل رغبات وتوقعات ومعتقدات تؤدي إلى ولادة المقولات الأساسية الضرورية لنشأة أية معرفة جماعية، مثل مبادئ المنطق ومبادئ العقلانية وقواعد اللغة التي تتبلور في “أساليب للفعل والتفكير والإحساس” القائمة على مؤسسات اجتماعية ومنطقية.
هكذا يعتقد دوركهايم أنه صحح أخطاء المقاربات الفلسفية الكلاسيكية لنشأة المعرفة المتمثلة أساسا في عجزها عن تقديم أي برهان تجريبي على صدق تلك المعرفة، نظرا لأنها استندت في برهناتها على علاقة الفرد بالعالم المادي. ويكون دوركهايم بذلك قد وضع أهم لبنة في صرح علم الاجتماع كعلم تجريبي طبيعي يستجيب لمطلب السببية كمطلب علمي ضروري لكل تخصص معرفي يريد أن يكون علما.
البيبليوغرافيا:
-Arnauld A. et Nicole P., (1965), La logique ou l’art de penser, Paris, Presses Universitaires de Presses.
-Durkheim E. & Mauss M., «De quelques formes primitives de classification (contribution à l’étude des représentations collectives) » L’année Sociologique n° 6 (1903), in Marcel Mauss, Œuvres, t. II, éd. de Minuit, 1974, p. 13-89
-Durkheim E., (1909), «Sociologie religieuse et théorie de la connaissance », Revue de Métaphysique et de morale, VII, pp. 733-758. Texte repris comme introduction pour Les formes élémentaires de la vie religieuse, coll. «Quadrige », Presses Universitaires de Presses.
-Durkheim E., (1912) (1968), Les formes élémentaires de la vie religieuse, Paris, coll. «Quadrige », Presses Universitaires de Presses.
-Durkheim E., (1913), «Révision: Lévy-Bruhl- Les fonctions mentales dans les sociétés inférieures », Année Sociologique, XII, pp. 33-37
-Durkheim E., [1909-1912] (1969), Recension de Lévy-Bruhl, Les fonctions mentales dans les sociétés inférieures, Paris, Presses Universitaires de Presses.
-Horton R., «Lévy-Bruhl, Durkheim and the Scientific Revolution », in R. Horton & R. Finnigan (eds.), Modes of Thought: Essays on Thinking in Western and Non-western Societies, London: Faber.
-James, W. [1902] (1958), The Varieties of Religious Experience: A Study in Human Nature, New York: New American Library.
-Joas H., (1984), «Durkheim et le pragmatisme. La psychologie de la conscience et la constitution sociale des catégories », Revue Française de Sociologie, Vol. 25, n° 4, pp. 560-581
-Jones R. A., (2005), «Practices and Presuppositions: Some Questions about Durkheim and Les Formes élémentaires de la vie religieuse, in J. C. Alexander & P. Smith (eds), The Cambridge Compagnon to Durkheim, Cambridge, Cambridge University Press.
-LaCapra D., (2001), Emile Durkheim. Sociologist and Philosopher, Aurora, Colorado: The Davies Group, Second Ed.
-Ogien A., (2007), Les formes sociales de la pensée. La sociologie après Wittgenstein, Paris, Armand colin, coll. «Individu et Société».
-Ogien A., (2007), Les règles de la pratique sociologique, Paris, coll. «Pratiques théoriques», Presses Universitaires de Presses.
-Pickering W. S. F., (1993), «The Origins of Conceptual Thinking in Durkheim: Social or Religious ?», inS. Turner (ed.), Emile Durkheim. Sociologist and Moralist, London and New York, Routledge.
-Rawls A. W., (2001), «Durkheim’s Treatment of Practice. Concrete Practice vs Representations as the Foundation of Reason», Journal of Classical Sociology, Vol. 1(1), pp. 33-68
-Rawls A. W., (1996), «Durkheim’s Epistemology: The Neglected Argument», The American Journal of Sociology, Vol. 102, No. 2 (Sep., 1996), pp. 430-482
-Schmaus W., (1998), «Durkheim on the Causes and Functions of the Categories », in N. J. Allen, W. S. F. Pickering & W. Watts Miller (eds.), On Durkheim’s Elementary Forms of Religious Life, London and New York: Routledge.
-Trigano S., (2001), Qu’est-ce que la religion? La transcendance des sociologiques, Paris, Flammarion.
-كوتنغهام ج. (1997)، العقلانية فلسفة متجددة، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، حلب، مركز الإنماء الحضاري.
*- نص المداخلة الذي ألقي في الندوة التي نظمتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث تحت عنوان: “إشكالية الدين والتدين: أسئلة، مقاربات، نماذج”،بتاريخ 5 ـ 6 أكتوبر2013، الرباط، المغرب.
[1]- نقلا عن:
LaCapra D., (2001), Emile Durkheim. Sociologist and Philosopher, Aurora, Colorado: The Davies Group, Second Ed., p. 236
[2]- مذكور في:
Bernard, P. (éd (1979), «les durkheimiens», Revue Française de Sociologie, vol 20, n° 1, p.39
[3]- يتمثل هذا الانقسام حسب وليام جيمس في التعارضات التي ميزت حياة سان أوغسطين: أمه المسيحية وأبوه الوثني، رحلاته الجسدية من قرطاج إلى روسا ثم إلى ميلان، رحلاته الفكرية من المانوية إلى الشكية ثم إلى الأفلاطونية الجديدة، هذه التنافرات جعلت “ذاته الفطرية بيتا منقسما على نفسه”. ويختم جيمس قراءته لهذا الانقسام في ذات سان أوغسطين بالحدث الشهير الحاسم الذي وقع في حديقة ميلان عندما سمع صوت طفل يقول “خذ واقرأ”، ففتح الانجيل عشوائيا وقرأ المقطع الذي بدا أن الله بعثته له ليخفف عنه الصراع الروحي. ويلاحظ جيمس أن انقسام الإرادة يفسره افتقار الرغبات إلى “هذه اللمسة من القوة التفجيرية، من خاصية القوة التوليدية التي تسمح بتفجير القذيفة، والتي تنبثق في حياتهم كقوة فعالة تقمع ميولاتهم الدنيا إلى الأبد” (James, [1902] 1985: 145).
البحث في الوسم
حسن أحجيج الحياة الدينية دوركهايم
دوركايم و الدين والمجتمع “الرد على إميل دوركايم .. من كتاب ( الأشكال الاساسية للحياة الدينية) ..”
الرد على اقتباسات من كتاب “التيارات الأساسية في الفكر الاجتماعي”
تأليف ريموند أرون
اسم الكتاب الإنجليزي:
Main Currents in Sociological Thought
Raymond Aron.
ترجمة samird
)مقالة من الكتاب وليس الكتاب كاملاً)
اقتباس:
الأشكال الأساسية للحياة الدينية“ هو الكتاب الثالث لدوركايم وهو بلا شك أكثر كتبه أهمية وعمقا وأصالة، وهو برأيي الكتاب الذي تتجلى فيه روح المؤلف.
في هذا الكتاب يضع دوركايم نصب عينيه هدفا وهو تطوير نظرية عامة عن الدين، والتي تبلورت من خلال تحليل المؤسسات الدينية الأكثر بساطة وبدائية. من هذه الجملة فحسب نتعلم عن أحد الأفكار الرئيسية لدوركايم : من الجائز ومن الممكن أن نطور نظرية عن الأديان المتطورة اعتمادا على دراسة الدين في أشكاله الأساسية والبدائية. فالطوطمية(1)تكشف ماهية الدين. كل استنتاجات دوركايم من أبحاثه عن الطوطمية ترتكز على فرضية أنه من الممكن إدراك ماهية ظاهرة اجتماعية ما بناء على معاينة أشكالها الأساسية.
هناك سبب إضافي للأهمية البالغة للطوطمية في نظرية دوركايم. فهو يعتقد أن العلم، في أيامنا هذه، يحتل مركز السلطة الثقافية والأخلاقية العليا في المجتمعات الفردانية والعقلانية. من الممكن أن نذهب إلى ما هو أبعد من العلم ولكن دون أن نكفر بأهميته أو أن نلغي قيمة الأشياء التي يعلمها. ومع ذلك، فإن المجتمع الذي يحدد ويكوّن ظروفا لانتشار الفردانيةوالعقلانية، يحتاج، كأي مجتمع آخر، إلى معتقدات جماعية. غير أنه يبدو أن الدين التقليدي، والذي لم يعد يلبي متطلبات الروح العلمية، لن يستطيع تلبية متطلبات هذه المعتقدات والإيمان.
والاستنتاج يبدو بسيطا عند دوركايم بل ومدهشا، إذا سمح لي أن أستخدم هذه الكلمة: أليس العلم ذاته هو من اكتشف أنالدين في أساسه هو تعبير عن المجتمع في صورة أخرى أو لباس آخر؟ وإذا كان صحيحا أن البشر، على مر التاريخ، عندما سجدوا للطوطم أو لله ، فهم قد مجّدوا في الواقع فقط واقعهم الجماعي الذي أخذ شكل الدين، وبذا يمكن الخروج من المتاهة. علم الدين يثبت أنه من الممكن بناء المعتقدات اللازمة للإجماع مجددا، صحيح أن العلم لا يكفي لتوليد إيمان جماعي، ولكنه يبقي فسحة أمل في أن المجتمعات المستقبلية تستطيع أن تكوّن لنفسها آلهة جديدة، حيث أن كل آلهة الماضي لم تكن سوى المجتمع بصورة مغايرة.
بهذا المفهوم يعطي دوركايم في كتابه “الأشكال الأساسية للحياة الدينية“ حلا لمشكلة التناقض بين الدين والعلم. فالعلم بحد ذاته، منذ أن اكتشف الماهية الحقيقية للأديان، فهو لا يكوّن دينا جديدا ولكنه يعزز الثقة في قدرة المجتمعات على أن تكوّن لها، في كل عصر، الآلهة التي تحتاج إليها. “المصالح الدينية ليست إلا صورة رمزية للمصالح الاجتماعية والأخلاقية.”
الرد: لو كان الدين عبارة عن إيمان جماعي ، لماذا اذا الاختلافات بين المتدينيين واختلاف مستوى ايمانهم والصراع المستمر بينهم ؟ أليس هو صاحب الفكرة في أن العلم اكتشف ان الدين تعبير عن المجتمع ؟ هل هذا يعني أن دوركايم هو العلم ؟ هل هو عالم ام فيلسوف ؟ ومعنى كلامه هو أن الدين جاء بعد تكون المجتمع ، بينما الأديان هي التي كوّنت المجتمعات وبالتالي الحضارة والمدنية ،
اقتباس: أود القول أن من بين كل مؤلفات دوركايم، فإن كتابه “الأشكال الأساسية للحياة الدينية“ هو منتَج مساوٍ في قيمته ل“أسلوب السياسة الإيجابية” لأوغوست كونت. دوركايم لا يصف دين المجتمع بالطريقة التي وصف فيها “كونت” دينه الإنساني بتفصيل بالغ. بل هو يقول بوضوح أن “كونت” أخطأ في ادعائه بأن فردا واحدا يستطيع إنشاء دين وفرضه. حيث أنه إذا كان الدين إنتاجا جماعيا، فإن الادعاء بأن عالِم اجتماع واحد يقدر أن يكوّن دينا لا يستقيم مع هذه النظرية. ومع ذلك، إذا أراد دوركايم أن يثبت أن موضوع الدين ليس سوى المجتمع بصورة أخرى، من الممكن عندها أن نقارنه ب”كونت“،حيث أراد أن يؤسس دينه المستقبلي، زعم أن الإنسانية، حين قضت على الآلهة الغيبية، فهي تحب نفسها، أو الخير الكامن فيها باسم الإنسانية.
من الممكن بحث “الأشكال الأساسية للحياة الدينية“ من خلال ثلاثة نقاط معاينة، حيث أن الكتاب يحوي ثلاثة أنواع بحوث. فهو يحوي وصفا وتحليلا مفصلا عن مجموعة العشائر Clans وعن الطوطمية في داخل بعض القبائل الأسترالية، مع ذكر طفيف للقبائل الأمريكية. وفيه نظرية عن ماهية الدين التي تعتمد على بحوث الطوطمية الأسترالية. وفي النهاية يعطي تفسيرا سوسيوجيا للصور المختلفة للفكر الإنساني، أي مقدمة في علم الاجتماع الإدراكي.
من بين الثلاثة أفكار يحتل الأول أكبر مساحة، وهو البحث الذي يصف مجموعة العشائر والطوطمية. ولكن لن أتعمق فيه زيادة عن اللزوم إذ بالإمكان أن نلخص بإيجاز توصيفات دوركايم عن الموضوع.
الموضوع الثاني، أي تطوير نظرية عامة عن الدين اعتمادا على البحث الذي أجرته عن الطوطمية، هو ما يهمنا هنا. وفي هذا الكتاب يستعمل دوركايم نفس الأسلوب الذي اعتمده في كتبه السابقة، بداية هو يعرّف المشكلة، ثم يقوم بتفنيد النظريات حول نفس الموضوع والمخالفة لنظريته. وفي النهاية تأتي المرحلة الثالثة، والتي يبدي من خلالها الطبيعة الاجتماعية في ماهية الأديان.
حسب دوركايم، ماهية الدين هي تقسيم العالم إلى ظواهر مقدسة وظواهر زمنية دنيوية. لبّ الدين ليس الإيمان بإله غيبي:
فهناك أديان، وحتى متطورة للغاية، دون أي إله. معظم المذاهب البوذية لا تؤمن بإله على هيئة البشر. لا يجدر أيضا تعريف الدين بمفاهيم ومصطلحات غامضة أو فوق-طبيعية،
حيث أن هذه المصطلحات تم تكوينها في مراحل متأخرة جدا. فالفوق-طبيعي ليس له وجود إلا بالنسبة للطبيعي، ولنصل إلى فهم واضح للطبيعي لا بد من منهج تفكير إيجابي وعلمي.
إذن مصطلح الفوق-طبيعي لا يستطيع أن يأتي قبل مصطلح النظام الطبيعي، والذي بحد ذاته مصطلح تطور في فترة متأخرة جدا.
العموم الديني مبني على تقسيم العالم إلى قسمين: المقدس والدنيوي. والمقدس مكون من مجموعة اشياء، من عقائد وطقوس. وإذا كان بين هذه الأمور المقدسة علاقات تنسيق وخضوع،
بحيث تكوّن منظومة موحدة نوعا ما وليست جزءا من أية منظومة أخرى من نوع مشابه، فإن هذا المجموع من العقائد والطقوس يشكّل دينا.
الدين مؤسس على الفرضية القائلة أنه في البدء كان المقدس، وبعد ذلك تم تنظيم العقائد حول المقدس وفي النهاية تأتي الطقوس والعادات، التي تنبع من العقائد بقدر ما من المنطق.
“الدين هو مجموعة من العقائد والعادات التي يوجد بينها علاقات متبادلة، مرتبطة بأشياء مقدسة، أي لأشياء منفردة ومحرمة،
العقائد والعادات توحد كل المؤمنين بها تحت قيادة أخلاقية واحدة تسمى كنيسة“
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص65)
وبذا تمت إضافة مصطلح جديد لمصطلح المقدس ولمنظومة العقائد لنستطيع تمييز الدين عن السحر الذي لا يحظى بالضرورة إلى الإجماع المتواجد لدى أتباع الكنيسة.
الرد: هل الشيء يكتسب صفة القداسة وهو غير غيبي ؟ ما الذي يجعل نصف العالم مقدس وبدون إله ؟ على العكس تماما مما يقوله دوركايم ..
الفكرة المركزية هي وجود إله غيبي تتفرع من هذه الفكرة الطقوس والعبادات والمعاملات والأخلاق التي تشرف عليها الكنيسة . والبوذية وثنية ، البوذا وسيط عند الإله ، ويقول أنا الحقيقة ، وأصنامه موجودة في المعابد ، وهي مثل اصنام العرب الذين قالوا أنهم يقربونا إلى الله زلفى ، هم اشخاص معظمين لهم اصنام ترمز إليهم . والبوذا يعتقدون أنه خالد ، وأنه أكثر شخص مر بالتناسخ ، أي هو خالد ، وكيف يكون ديناً وهو ليس فيه إله ؟ المقدسات تأخذ قداستها من القوى الغيبية التي تتجلى عليها ، لأن الاشياء الغير مقدسة هي في مقدور الإنسان ولذلك لا يقدسها ، لا دين بدون إله يشع القداسة على الاشياء المقدسة في الدين وتربط به الأخلاق والعبادة ، النظام الإجتماعي لا يتقاطع مع الدين ..
الدين هو الإدانة لله بأن تدين له بكذا ، أي أنت مدين ، والإله دائن ، والإله يدينك بسبب دينك ، هل يوجد مقدس بدون قوى مركزية غيبية ؟ إذا لم يكن هناك إله ، فالظواهر الإجتماعية تسمى عادات وتقاليد ولا تسمى ديناً ، وهي التي ينطبق علها الكلام بأنها هي المجتمع ، وكل مجتمع بشري له عادات وتقاليد وله دين ، والعادات والتقاليد لا تخذ صفة المقدس الديني ، لكنها تأخذ صفة الإعتبار الإجتماعي والخوف من نقد المجتمع ، وهي التي تمثل المجتمع وتاريخ المجتمع ..
والموضوع الديني له بعد مع ميتافيزيقي والخوف والرجاء ، أما التقاليد بعدها إجتماعي ، وخوف ورجاء من المجتمع ، فالبوذية لست عادات وتقاليد لأن لها معابد واصنام مقدسات ، العادات والتقاليد ليس لها مقدسات ، مثل البخور أو قهوة الضيف ، هذه محترمة وليست مقدسة ، أي لا يفعلها بدافع ديني ، وهناك فرق بين الدوافع الدينية والدوافع الاجتماعية .
اقتباس: بعد أن عرّف دوركايم الدين هكذا، فهو يرفض في المرحلة التالية من دراسته، كل التفسيرات التي سبقته في هذا المضمار، التفسيرات التي تظهر في الفصل الأول من كتابه،
ألا وهي الانيمية animisme والطبعانية naturisme، والتي تظهر المفاهيم الرئيسية في الأديان البدائية.
حسب الأنيمية، فالإيمان الديني معناه الإيمان بالأرواح، والتي هي عبارة عن تجسد الشعور الداخلي الذي يحس فيه الإنسان بطبيعته المزدوجة – الجسد والنفس.
أما الطبعانية فأن المعبودات هي تجسد لقوى الطبيعة.
إن تفسير هذه النظريات ورفضها يأخد مدى طويلا، ولكن هناك فكرة واحدة في أساس نفدهما، وهي أنه لو تبنينا التفسير الأنيمي أو التفسير الطبعاني،
فإن دوركايم يعتقد ان موضوع الإيمان يذوب في هذه التفسيرات دون أن يتم إمساكه. فإذا كان الدين معناه حب الأرواح اللامحسوسة، أو قوى الطبيعة التي لبست شكلا معينا بسبب الخوف البشري،
فإنها أشبه بما يكون هذيانا جماعيا. وحقا: أي علم هذا الذي تكون نتيجته الفورية ذوبان حقيقة موضوع بحثه الأساسي.
بالمقابل، يحاول دوركايم أن ينقذ واقعية الدين بواسطة تفاسيره، إذا كان الإنسان يحب تجسد مجتمعه، فهو بذلك يحب واقعا ملموسا. أي شيء ملموس وواقعي من قوة الجماعية ذاتها؟
فالدين هو شعور داخلي ثابت وأعمق من أن يكون غير متوافق مع واقع ملموس. فإذا لم يكن هذا الواقع الملموس إلها، فيتوجب عليه أن يكون على الأقل واقعا موجودا في الدرجة التي تلي الإله، ألا وهي المجتمع.
إن هدف نظرية دوركايم حول الدين هي تأسيس حقيقة موضوع الإيمان من دون الاعتراف بالمضمون الذهني للأديان التقليدية. فهذه الأخيرة محكومة بالفناء في أعقاب التطور العقلاني والعلمي.
ولكن ذات العقلانية من الممكن ان تنقذ ما يحاول دوركايم هدمه لأول وهلة، فهو يبين أن البشر لم يمجدوا في الواقع شيئا سوى مجتمعهم .
الرد: لماذا كان المتقدمين يمجدون مجتمعهم بل ويعبدونه ، بينما المتأخرين يلعنون مجتمعهم ؟ أليس الإنسان هو الإنسان ؟ هل يوجد إنسان راضي عن المجتمع قديما او حديثاً لدرجة العبادة ؟ كل إنسان يرى في فهمه وتفسيره وسلوكه أنه أصح والأصوب في المجتمع ، فكيف يذوب بهذا المجتمع ويهيم به هذا الهيام ؟
أفراد المجتمع متفاوتون ومختلفون في مصالحهم بل ومتضادون ، ولا يجمعهم إلا الخطر ، وإذا كانت العادات والتقاليد ، وهي من إفراز المجتمع ، تشكل دائماًعبأ ثقيلاً على الفرد ، ويتمنى زوال الكثير منها ، فكيف سيؤله المجتمع ؟
اقتباس: لقد اعتمد دوركايم في بحثه عن الأمينية والطبعانية على مفاهيم تايلور Sir Edward Burnett Tylorوسبانسر Herbert Spencer، الذين كانا الأشهر في عصره.
نقطة الانطلاق في هذه المفاهيم هي ظاهرة الأحلام. ففي الحلم يرى الإنسان نفسه كأنه موجود في مكان لا يتواجد فيه حقيقة؛ فيخيل إليه عندئذ أن لديه شبيه ازدواجي لذاته ولجسمه،
وحينها من السهل عليه أن يتخيل أن هذا الشبيه الازدواجي ينفصل عنه وقت الموت، ليصبح روحا محلقة، أو ملاك طيب أو شرير.
إضافة لذلك فإن من الصعب على الإنسان البدائي أن يفرق بين الأشياء الحية والجمادات، لذا فهم يسكنون أرواح الموتى أو الأرواح المحلقة في أجسام محسوسة وحقيقية.
وبذا تتكون طقوس الأرواح العائلية وعبادة الآباء. من هذه الازدواجية بين الجسد والنفس، والتي مصدرها الحلم، تطور الأديان البدائية خليطا واسعا من الأرواح المحيطة بنا،
والتي تفعل الخير أو الشر.
في تفنيده المفصل، يفند دوركايم هذا التفسير عن طريق مهاجمة مركباته، واحدا تلو الآخر. لماذا يجب إعطاء الحلم هذه الأهمية؟ وإذا فرضنا ان الإنسان يدرك ذاته ككائن مزدوج،
لماذا يجب إضفاء القدسية على هذه الازدواجية؟ لماذا يجب السجود له وإعطاءه أكبر من قيمته؟ عبادة الآباء، حسب دوركايم ليست طقسا بدائيا، وليس صحيحا أن القبائل البدائية تسجد للأموات بشكل خاص.
عبادة الأموات ليست ظاهرة أولية.
بعد أن حدد دوركايم أن ماهية الدين هي المقدس، ليس من الصعب عليه أن يقف على نقاط الضعف للتفسير الأنيمي. هذا التفسير يستطيع أن يشرح تكوّن عالم الأرواح؛ وحقا، عالم الأرواح ليس عالما مقدسا.
الاساس وهو المقدس، يبقى غير مفهوم حسب التفسير الأنيمي. لا الطبيعة ولا عالم الأرواح تكتسب قدسية بذاتها. فقطالمجتمع هو واقع مقدس بذاته، فهو ينتمي إلى المنظومة الطبيعية، ولكنه يتسامى فوق الطبيعة.
وهو أيضا المصدر لظاهرة الدين، والتبرير للتفرقة الطبيعية بين المقدس واللامقدس.
هنا يؤسس دوركايم العلم الحقيقي للأديان، والذي يحافظ على موضوع بحثه، على النقيض من العلوم الزائفة التي تميل إلى تذويبه:
“لا يجدر أن يخطر بالبال أن مجموعات من الافكار مثل الدين، والتي أدت دورا مهما للغاية على مر العصور، وعليها اعتمدت الشعوب في كل الأزمنة لأجل الحصول على القوة المطلوبة لبقائها،
لا يعقل أن تكون مجرد نسيج من الأوهام. نحن نعرف اليوم أن القضاء والأخلاق وحتى التفكير العلمي تولدت من الدين، وامتزجت به خلال فترة طويلة وبقيت متداخلة فيه.
كيف يمكن لرؤيا وهمية أن تشكّل بطريقة صلدة ولفترة زمنية طويلة فكر ومعرفة البشر؟
علم الأديان يعترف بالطبع بالمبدأ القائل أن الدين لا تعبر عن شيء غير موجود في الطبيعة، لأن العلم ليس إلا للظواهر الطبيعية فحسب.
السؤال الذي يتوجب الإجابة عليه هو من أي مملكة طبيعية جاءت هذه المحسوسات، ولماذا عبّر عنها البشر في هذه الطريقة المميزة للفكر الديني.
لذا، كي نستطيع أن نسأل السؤال، يجب أن نتفق أولا أن التعبير هنا عن أشياء ملموسة وحقيقية.
عندما اعلن فلاسفة القرن الثامن عشر أن الدين هو غلطة كبيرة تولدت في خيال الكهنة، فهم استطاعوا على الأكثر أن يفسروا استمرارية وجودها كمصلحة للكهنة في تضليل الشعوب.
ولكن إذا كان صحيحا ان الشعوب هي التي صنعت هذا الفكر المغلوط وكانت هي ضحيته، كيف استمر هذا الغش والتضليل أن يتواجد كل هذه الفترة من التاريخ…
أي علم هذا الذي نتيجته الرئيسية تؤدي إلى إلغاء الموضوع الذي يبحث فيه؟“
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص98-99)
هذه جملة رائعة، ولكن أعتقد أن من ليس بعالم اجتماع أو ليس بعالم اجتماع من المذهب الدوركايمي، كان سيجيب قائلا:
هل علم الدين الذي يسجد فيه الناس للمجتمع، يحافظ على موضوع بحثه أم يؤدي إلى اختفائه؟ دوركايم، كعالم فذ، يعتقد أن علم الدين يبرز اللامحسوسية في الغيبي وفوق-الطبيعي.
ولكن هل يمكن أن نجد واقع الدين بعد أن سلبنا منه غيبيته؟
حسب رأي دوركايم، الطوطمية هي الدين الأكثر بساطة. وهذه الفكرة تلعب دورا مهما للغاية في فكره. فمن هذا الادعاء يتبين الفهم التطوري لتاريخ الدين.
فحسب الفهم اللاتطوري، تعتبر الطوطمية دينا واحدا من بين كثير من الأديان الأخرى ولا شيء غير ذلك. فإذا كان دوركايم يزعم أن الدين -الدين بأل التعريف-
الأكثر بساطة أو الأكثر أساسية، فإنه يقول بشكل غير مباشر أن الدين ينبع من مصدر واحد.
إضافة لذلك، لأجل فهم ماهية الدين حسب هذه الحالة الخاصة والمميزة للطوطمية، يجب تقبل الفكرة القائلة بأن شعورا داخليا واحدا تم اختياره بعناية،
يمكن أن يعبر عن ماهية ظاهرة مشتركة لكل المجتمعات. نظرية دوركايم عن الدين لم تتطور نتاجا لدراسة عدد كبير من الظواهر الدينية.
بل إن ماهية الدين يمكن فهمها بناء على حالة خاصة، تعدّ معبرة عن ماهية وجوهر كل الظواهر المشابهة والتابعة للنوع ذاته.
دوركايم يحلل هذا الدين الأكثر بساطة، عبادة الأوثان، بمساعدة المصطلحات كلان clan وطوطم. الكلان هو مجموعة من الاقارب لا تتصل بصلة الدم بالضرورة.
إنه مجموعة من الناس، وربما كانت الأبسط، تعبر عن هويتها بربط ذاتها بنبتة أو بكائن حي معين. عند القبائل الأسترالية يتم انتقال الطوطم الكلاني،
أي الطوطم المرتبط بالكلان، عن طريق الام بشكل عام. وليس لهذا الانتقال قانونية ثابتة، فعدا عن الطواطم المرتبطة بالكلان هنالك طواطم شخصية
وطواطم لمجموعات أكثر تطورا مثل الفراتريات phratry (مجموعة من الكلانات المرتبطة ببعضها) أو روابط أخرى تتكون بطريق الزواج.
لدى القبائل الأسترالية التي بحثها دوركايم، لكل طوطم إشارة أو رمز خاص. فتقريبا بكل كلان هنالك أغراض، مثل قطع خشبية أو حجارة مصقولة،
ترمز للطوطم وتحمل جزءا من القداسة المرتبطة به. من السهل علينا فهم هذه الظاهرة. ففي المجتمعات المعاصرة يوجد للعَلَم قيمة مساوية للchuriga عند الأستراليين.
فهو يحمل جزءا من القداسة التي يملكها الوطن. وتدنيسه مرتبط بظواهر معينه يحللها دوركايم في كتبه. الأغراض الطوطمية التي تحمل رمز الطوطم،
يجب أن تثير سلوكا يحمل طابعا دينيا، مثل الفرائض (افعل) أو المحرمات (لا تفعل). ففي حالة النواهي يتوجب على المنتمين للكلان أن يمتنعوا عن أكل الطوطم
أو لمسه أو لمس الأغراض التي تحمل قدسيته. وفي حالة الفرائض عليهم إبداء التبجيل والاحترام للطوطم بطريقة معروفة ومحددة.
وهكذا تكوّن في المجتمعات الأسترالية عالم من المقدسات يشمل أولا النباتات أو الحيوانات التي تشكل طوطما بذاتها، ثم بعد ذلك تأتي الأغراض الرامزة للطوطم.
وفي النهاية تنتقل القدسية لأفراد المجتمع نفسه. ويمكن الإيجاز بالقول، أن الواقع بكليّته ينقسم إلى فرعين أساسيين: الأشياء الدنيوية، تلك التي ننهج تجاهها سلوكا “اقتصاديا”،
حيث أن النشاط الاقتصادي هو نشاط دنيوي بشكل ظاهر؛ وفي المقابل هناك عالم متكامل من الأشياء المقدسة، نباتات، حيوانات، صور هذه النباتات والحيوانات،
وأفراد يرتبطون بهذه المقدسات في أعقاب انتمائهم للكلان. أي أن هذا عالم تم تنظيمه بقدر معين من المنهجية.
لأجل تفسير الطوطمية، يفند دوركايم أولا، كعادته، التفسيرات التي تفسر نشأة الطوطمية من دين أكثر بدائية. فهو يدحض التفسير الزاعم أن الطوطمية تطورت من عبادة الآباء،
أو التفسير الذي يرى في عبادة الحيوانات ظاهرة أكثر قِدَما. كذلك هو يرفض الفكرة القائلة أن عبادة الطوطم الشخصي سبقت عبادة الطوطم الكلاني،
أو الفكرة القائلة أن عبادة الطوطم المحلّي – نسبة الطوطم إلى مكان معين – كانت هي الظاهرة الأولى. فهو يعتقد أن عبادة الطوطم الكلاني كانت هي الدين الأول،
سواء كان ذلك من ناحية تاريخية أو منطقية. هذه الفرضية مهمة جدا، حيث أنها تبين الأسبقية أو الأولوية، للعبادة التي يوليها الأفراد للمجتمع بذاته.
المصدر الأول للطوطمية هو الاعتراف بالمقدس، والمقدس هو قوة مستعارة من المجتمع نفسه وهو أقوى من كل أفراده.
فيما يلي بعضا من نصوص دوركايم، والتي سوف توضح نظريته بشكل أفضل من ملاحظاتي عليها:
“الطوطمية ليست دينا لحيوانات معينة، أو لبشر معينين أو أوثان معينة، ولكنه قوة مجهولة غير شخصية، تتواجد في كل واحد من هذه الكائنات،
ولكنه لا يمتزج مع أي منها. ليس هناك من يمسك به بكامله، ولكن كل واحد منهم يشكل جزءا منه. فهو لا يتعلق بالأغراض أو الأفراد التي يتجسد بها،
فهو موجود قبلها، ويبقى بعدها. فالأفراد يموتون؛ والأجيال تتبدل، ولكن القوة تبقى جديدة أبدا، حيوية ومخلصة لذاتها. فهي تحرك جيل اليوم كما حركت
جيل الأمس وستحرك جيل الغد. فإذا أدركنا هذه الجملة بمفهومها الأوسع، يمكن القول أن الإله الذي يعبدونه في كل الطقوس الطوطمية،
ليس إلا إلها غير شخصي، من دون اسم، ومن دون تاريخ، ينطبع في عالم مشتت ويتواجد في أغراض غير معدودة.”
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص269)
هذه القطعة، والتي هي غاية في الجمال، تلائم تقريبا كل دين، توضح فكرة دوركايم بشكل مذهل: كل العقائد أو العادات الطوطمية تتشابه في ماهيتها لكل المعتقدات
ولكل العادات الدينية.
يعترف الأستراليون بقوة مجهولة تتواجد خارج العالم الزمني الدنيوي، هذه القوة المجهولة واللاشخصية والتي تتجسد دون تمييز في نبتة أو كائن حي أو في رمز لنبتة أو لكائن حي.
تجاه هذه القوة المجهولة، المنطبعة في العالم والمتواجدة فوقه في ذات الوقت، يتوجه الأستراليون بعبادتهم وعقيدتهم. من السهل إسقاط هذه التعابير على أي دين متطور آخر.
ولكن، هنا يدور الحديث عن الطوطمية، والذي كان شكله الأول، بحسب دوركايم، هو طوطمية الكلان: لكي يكون هناك شيء مقدس، لا بد من أن يميز الفرد بين ما يتبع للدنيا
وبين ما يختلف عنه اختلافا جوهريا في ماهيته، ولذلك يكون مقدسا. هذه التفرقة تلائم الإدراك للإنسان البدائي، حيث أنه كجزء من المجتمع، يحس بوجود شيء ما يقف خارج حدود فردانيتهم.
هذا الشيء هو قوة المجتمع الذي كان موجودا قبل أن يولد الأفراد وسيبقى بعد موتهم، وحتى دون أن يعرفوه فهم يؤدون تجاهه طقوس العبادة.
الرد: الأستراليون يقولون بأنفسهم بقوة مجهولة تتواجد خارج العالم الزمني الدنيوي، هذه القوة المجهولة واللاشخصية والتي تتجسد دون تمييز في نبتة أو كائن حي أو في رمز لنبتة أو لكائن حي ، ودوركايم يريد أن يخبر أصحاب الدين بشكل أفضل عن معرفتهم هم لدينهم ، ويقول : لا.. ليس هذا الاصل ، بل أنتم عبدتم المجتمع ، بسبب القوة التي تشكلها المجموعة ، والتي لا يملكها الفرد ، وهذا نموذج لدين بدائي ، أثبتوا أنهم يعبدون قوة غيبية ، مما يعني أن عبادة الطوطم ليست دليلاً على فكرته التي يصر عليها ..
ولو كان الامر كذلك ، فمن المعروف أن أي تجمع يكون قوة ، سواء في البشر أو قطيع من الحيوانات ، فالطوفان ليس إلا قطرات من الماء تجمعت وشكلت قوة مدمّرة ، إذاً عليهم أن يعبدوا كل تجمّع ، لأن كل تجمع يملك قوة لا يملكها الفرد ، وكلامه سيكون صحيحا لو أن الافراد لا يحسون إلا بقوة واحدة هي قوة المجتمع ، والحقيقة هي أن أقل قوة يمكن ان يدركها المجتمع هي قوته هو ..
فقوى الطبيعة مثلاً لا تقارن بقوة المجتمع ، قوة البركان والفيضان والصاعقة التي تعصف بالمجتمع برمته أحيانا ، هو تصوّر أن الفرد لا يرى إلا قوة المجتمع الغير متمثلة في الفرد ، فعبد قوة المجتمع كأول قوة يصادفها ، مع أن قوة المجتمع لا تحدث إلا قوة العادات والتقاليد والسلطة ..
ودوركايم ربما تأثر بخلفيته اليهودية التي تصر على قوة تماسك المجتمع اليهودي وانغلاقه على نفسه وسيطرته على افراده عبر العصور ، بينما وضع المجتمع اليهودي يشبه وضع المجتمع الغجري في الغرابة والإنكفاء على الذات ، وصعوبة التمازج ، مما يشكل قوة ضاغطة على الأفراد .
: اقتباسينتشر لدى شعوب مالينيزيا مصطلح “مانا” mana والمساوي في قيمته للمصطلح “واكن” wakan لدى قبائل “سو” ول”أوريندا” orenda لقبيلة إيروكوي.
وفيما يلي تعريف كودرينغتون R. H. Codrington :
الشعب المالينيزي يؤمن بوجود قوة تختلف تماما عن أية قوة محسوسة، تنشط في عدة أشكال، خيّرة أو شريرة،
ومن الجدير للفرد أن يضع يده على هذه القوة ويسيطر عليها. هذه القوة تسمى “مانا“.
يخيل إلي أنني أدرك مفهوم هذه الكلمة لدى السكان المحليين… هذه القوة هي بمثابة تأثير غير فيزيائي أو حتى فوق-طبيعي؛
ومع ذلك فهي تتجلى بواسطة قوة فيزيائية، أو بواسطة أي نوع من القوة أو السيطرة؛
ال”مانا” ليس مرتبطا بغرض معين؛ ومن الممكن نقله لأغراض من أنواع شتى…
الغاية الوحيدة للدين المالينيزي هي الحصول على “مانا” من أجل استغلاله لأهداف شخصية، أو لكي يستغله الآخرون.
أليس هذا هو المصطلح ذاته عن القوة المجهولة والمشتتة والتي رأينا بودرها حاليا في الطوطمية الأسترالية؟“
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص277)
في هذه القطعة، المصطلح المركزي في تفسير الدين هو قوة مجهولة ومشتتة أو منتشرة diffuse . المثال مأخوذ من المجتمعات المالينيزية. ولكن مجرد وجود نقاط التقاء في التحليلات
التي أجريت على عدة مجتمعات، يقوّي، برأي دوركابم، نظريته القائلة بأن مصدر الدين هو في التمييز بين المقدسوالدنيوي، هذه النظرية تكون فيها القوة المجهولة والمنتشرة، متواجدة
فوق الأفراد، وقريبة منهم في نفس الوقت، وهي القِبلة الذي يتوجهون لها بالعبادة.
ولكن لماذا يتحول المجتمع إلى قِبلة للعبادة ومقصدا للعقائد؟ عن هذا السؤال يجيب دوركايم أن المجتمع، من حيث جوهره، له جانب مقدس.
“بشكل عام، ليس هتاك شك بأن المجتمع من حيث قوة تأثيره، يلبي كل المتطلبات التي تثير لدى الخلائق الشعور بألوهيته؛ ذلك أن المجتمع بالنسبة لأفراده يشكل ما يشبه الإله للمؤمنين.
الله قبل كل شيء هو كيان يتخيله الإنسان على أنه أفضل منه بنواح عدة، ويخيل إليه أن هناك علاقة تبعية تربطه به. هذا الإله من الممكن أن يكون شخصية ذات وعي وإدراك مثل
“زيوس” أو “يهوه” ومن الممكن أن يكون قوى مجردة ومبسطة كما هو الحال في الطوطمية؛ في كل هذه الحالات، يعتقد المؤمن أن عليه أن يسلك سلوكا معينا يفرضه عليه المبدأ
المقدس الذي يرتبط به. كذلك المجتمع، يثير لدينا إحساسا من علاقة التبعية الأبدية. ولأن له طابعا مختلفا، يختلف عن طبعنا كأفراد، فهو يطمح في أن يحقق غايات خاصة به:
ولكن، بسبب عدم قدرته على تحقيقها بدون وساطتنا، فهو يطلب بصرامة مساعدتنا. فهو يطلب أن ننسى مصالحنا وأننصبح خدما له، فيما هو يفرض علينا متاعب وحرمانا وتضحيات،
بدونها تصبح الحياة المشتركة مستحيلة. ولذا نحن ملزمين بالخضوع لقواعد سلوكية وتفكيرية لم نصنعها ولم نرِدْها، وحتى أنها تتناقض أحيانا مع ميولنا ومع رغباتنا وغرائزنا الأساسية.
ومع هذا، لو تنازلنا وضحينا لأجل المجتمع بسبب قوة إلزامية من طرفه، من الممكن أن نفكر فقط بوجود قوة فيزيائية يجب الخضوع لها بالضرورة، وليس بفكرة وجود قوة أخلاقية
كتلك المقصودة في العبادة عند الأديان الأخرى. إن سيطرة وقوة المجتمع لا تتعلق بتفوقه من حيث قوته الفيزيائية التي يستطيع تشغيلها، ولكنها ترتبط بالقوة الأخلاقية التي يملكها.
فإذا انصعنا لأوامره، فليس ذلك بسبب كونه مسلحا يستطيع التغلب على مقاومتنا، وإنما بسبب احترامنا له.”
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص295-296)
يثير المجتمع لدينا شعور الربوبية. فهو يمثل أمرا مفروضا علينا وكذلك واقعا خاصا يقف فوق كل واحد منا، يتتطلب منا الاحترام والإخلاص والخضوع.
المجتمع كذلك يشكل أرضية خصبة لنمو العقائد ، لأن الأفراد المتقاربين والذين يعيشون بتوافق معا، يستطيعون في لحظات التسامي أن يخلقوا الألوهية.
فيما يلي فقرتان مثيرتان للاهتمام، وتظهران المميزات المذكورة آنفا. في إحداها يصف دوركايم مشاهد التسامي التي يحسها الأستراليون المنتمين للمجتمعات البدائية،
وفي الُثانية، يتطرق للثورة الفرنسية كصانعة ممكنة للدين.
الرد: الثورة الفرنسية وعلى مدى ثلاث قرون لم تصنع أي ديانة كما توقع دوركايم ، ولا يبدو أنها ستصنع في المستقبل ،
اقتباس: ها هي الفقرة عن الأستراليين:
“مع حلول الليل كانوا يقومون بعدة مسيرات، يرقصون ويغنون تحت ضوء المشاعل؛ والحماسة العامة تأخذ بالتعاظم. وفي لحظة ما، يمسك كل من المساعدين الإثني عشر
شعلة ملتهبة بيده، وأحدهم يمسك شعلته على هيئة حربة، ثم يبدأ بالتحرش بمجموعة من المشاركين. ويتم صد ضرباته بالعصي والرماح. عندها يختلط الحابل بالنابل.
يقفز الرجال وينتصبون، مطلقين صرخات وحشية؛ الشعلات يخفت ضوءها ثم يتوهج مجددا كلما اصطدمت برؤوسهم وأجسامهم، ويتناثر الشرر في كل اتجاه.
“الدخان والشعلات الملتهبة، ومطر الشرر المتناثر، والجماهير التي ترقص وتصرخ، كل هذه الأشياء تكوّن مشهدا بريامتوحشا لا يمكن توصيفه بالكلمات“
على حد قول سبانسر Spencer وغيلن Gillen (باحثي القبائل الأسترالية الذين اعتمد دوركايم على أبحاثهم)
ليس من الصعوبة بمكان أن نرى كيف أن الإنسان، حين يصل إلى هذه الدرجة من التسامي، لا يعود مدركا لذاته. ذلك أنه يحس أنه مسيّر ومنجرف في أعقاب قوة خارجية،
تجعله يفكر ويسلك سلوكا غير معتاد، من الواضح أن لديه الانطباع أنه ليس هو ذاته. يخيل إليه أنه كائن جديد: الزينة التي يتزين بها، وأنواع الأقنعة التي يغطي بها وجهه،
تجسد، بشكل ملموس، هذا التغيير الداخلي الذي يشعر به. وحيث أنه في نفس الموقف، يشعر جميع زملائه ذات الشعور بالتغيير، ويترجمون إحساسهم لصرخات، حركات
وسلوك مغاير، لأول وهلة يبدو أن كل شيء يحدث في عالم خاص يختلف بماهيته اختلافا جوهريا عن العالم الذي يحيون فيه على الدوام، وكل ذلك في بيئة حافلة بقوى عظيمة
جدا تخترقهم وتغيرهم. كيف يمكن لهذه الأحاسيس من هذا القبيل، وخاصة أنها تتكرر لعدة أسابيع، أن لا تزرع فيهم الإيمان بوجود عالمين منفصلين لا يوجد بينهما وجه شبه؟
الأول هو العالم الذي يدير فيه حياته اليومية. أما العالم الثاني فهولا يستطيع دخوله إلا إذا أقام قبل ذلك اتصالا مع القوى العجيبة التي تثير حماسته إلى حد الجنون. الأول
هو العالم الدنيوي الزمني، والثاني هو عالم الأشياء المقدسة.
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص311-313)
الرد: دوركايم لم يناقش نقطة لماذا يقدّسون البدائيون تلك المقدسات ؟ أو بمعنى أوضح : لماذا جعلوها مقدّسة ؟ لو كانت المقدسات جميلة مثلاً ، لكان السبب هو الجمال ، أو أنهم قدسوها لأنهم يخافون منها ، لقلنا ان السبب هو الخوف ، أو لأجل المنفعة في أشياء كثيرة غيرها مفيد أيضاً .
اقتباس: يبدو لي أن هذه القطعة هي التعبير القاطع عن وجهة نظر دوركايم. لنتخيل مجموعة كبيرة من الناس يرقصون ويصرخون في الوقت الذي يؤدون فيه طقوسا تشبه العيد أو العبادة، هذه المجموعة
هي مجموعة متقاربة بسبب العادات المشتركة أو الأفعال المتشابهة. الطقوس، والتي هو عبارة عن فعالية جماعية، تجعل كل فرد منهم يخرج من نطاق ذاته. تجعله جزءا من قوة المجموعة.
الطقوس تجعلهم يحسون بوجود شيء ما، ليس له قاسم مشترك مع روتين الحياة اليومية المتعبة والمملة. هذا الشيء الخاص والمميز والذي هو طبيعي وفوق-طبيعي معا، هو ذات القوة الجماعية.
الرد: بل بالعكس ، هو يشعر بأنه هو ذاته ، وأن الشخص العقلاني الذي “هو” غريب عنه ، مثل حالة السكران ، فهو يكون هو على حقيقته ، بدليل أنه يفشي اسراره التي يتحفظ عليها في حالة الصحو ، أي يكون اقرب إلى ذاته ، والعبادة تأتي مع الحب ولا تأتي مع الخوف والكره ، والقوة التي يمثلها المجتمع ، تشكّل قوة كريهة على الفرد ، لا تستحق أن تخلق ديناً ..
وحالة النشوة الجماعية تنتج تقارب مع النفس ومع الآخرين وإنسجاماً مؤقتاً معهم ، وحالما تقف الفرقة مع العزف ترجع الخلافات لأنهم عادوا إلى عقولهم ، وابتعدوا عن شعورهم ، لأن الشعور مشترك ، والرجوع إليه يوحد الناس ، وهذه الحالة متكررة ، ولم يفكر أحد بأن يخلق منها عبادة ، ولا يحس الفرد الفرد أنه تغيّر ، بل يحس أنه اقترب من نفسه أكثر ، لأنه لو كان لديه هذا الإحساس لأستنكر نفسه وخاف منها ، ولم يسر كل هذا السرور ..
ولا أدري كيف خطرت على بال دوركايم هذه الفكرة البعيدة المعتسفة ، والإعتساف ليس له حد ، فتستطيع أن تجعل من أكل الموز أو كسر الجوز مثلاً سراً لوجود الدين ، فهذا الشيء الغريب الذي يشبع الحجر ، عندما كسره البدائي وجد فيه مادة حلوة ، وعندما قشّر الموز الذي كان طعمه مراً وجد حلاوة في داخله ، فقفزت إلى ذهنه أن كل شيء مختفي يحمل مفاجئات سارة ، وبالتالي عبد إلهاً مختفياً لا يزال يدعوه لكي يحصل على المفاجئات السارة ، وهكذا من الموز إلى العبادة التي جعلت لها قوانين وطقوس وكنائس . وربما كلمة mosqueأتت من الموز ، وهكذا .
اقتباس :
وهو أيضا شيء مقدس. هذه الظواهر من الانفعال الحماسي هي مثال للعملية النفسية الاجتماعية التي تتولد منها الأديان.
قبل ذلك يورد دوركايم ذكر عبادة الثورة. في فترة الثورة الفرنسية اجتاح الأفراد نوع من الحماس الشبه-ديني. كلمات مثل “أمة” “حرية” و”ثورة” كانت مشحونة بقيم قداسية، يمكن تشبيهها
في القيمة الموجودة في الchuringa عند الاستراليين.
“إن ميل المجتمع لوضع نفسه في مكان الإله أو أن يوجد ألوهية خاصة به، قد ظهرت ببروز إبان السنين الأولى للثورة. في تلك اللحظات من الانجراف الحماسي، تحولت
بعض الأشياء، الدنيوية بطبعها، إلى أشياء مقدسةـ وذلك تحت تأثير الرأي العام؛ والقصد هو للوطن والحرية والحكمة. كل دين يميل لأن يكوّن لنفسه أيديولوجية خاصة به
وكذلك رموزا وهياكل وأعياد خاصة. كانت هناك محاولة لإضفاء صبغة رسمية لهذه التطلعات الطبيعية عن طريق عبادةالفهم والحكمة و الوجود السامي.
هذا الدين الجديد صمد لفترة وجيزة فقط، ولكن الحماس الوطني الذي جرف بدايةً جماهير غفيرة من الناس، أخذ يتضائل شيئا فشيئا. وعندما اختفى السبب، لم تستطع النتيجة
أن تصمد طويلا. ورغم استمراريتها القصيرة، ما زالت هذه التجربة تثير الاهتمام لدى السوسيولوجيين. بالإمكان إيجازها بأننا أدركنا أنه في حالة خاصة تحول المجتمع،
مع آرائه ومبادئه الرئيسية، بشكل مباشر ومن دون أن تحدث فيه تغييرات من أي نوع إلى غرض حقيقي للعبادة“
(Ibid. pp. 305-306 )
ومع ذلك ستحصل ثورات وانتفاضات جديدة، وسيحين الوقت لتنجرف المجتمعات المعاصرة مرة أخرى في الجنون الديني، لتتكون منه أديان جديدة. (مذكرات طقوس هتلر في نيرنبرغ تجعلنا
نضيف: لسوء الحظ!)
الرد: هذا الكلام ، يثبت أن الإلحاد ليس إلا جنوناً دينياً ، أم أنه سيستثنى من القاعدة ؟ والدين يقتضي الإيمان ، إذاً ليس الإلحاد عقلانياً ولا علمياً ، دوركايم يخلط بين المقدس والمحترم ، المقدس ياتي من الدين ، والدين على نوعين : دين إيجابي ، ودين سلبي .
الديانات ذات المعبودات ديانات ايجابية ، والالحاد ديانة سلبية ، لأن فكرة وجود إله من عدمها فكرة مركزية تنظّم كل الحياة ، فالذي لا يعبد إلها موجوداً فهو يعبد عدم وجود إله وما يقتضيه ذلك ، لأن هذا الإعتقاد سيرتب وينظم حياة المعتقد كلها ، مثلما يفعل الإله مع المعتقد بوجوده ، بعبارة أخرى ، هو يعبد (عكس الإله) الذي هو الشيطان ، واذا كان الإله هو رمز الخير وقد تخلى عنه ، اذاً فهو يعبد عكسه بالضرورة ، لكن أفراد الثورة الفرنسية لهم دين ، قبل الثورة أو بعدها ، وهو المسيحية ، وهذه المبادئ محترمة فقط وليست معبودة أو مقدسة .
وعدم وجود إله يسد فراغات كان يملؤها وجود الإله ، فالإله ووجوده يقتضي أملا بعد الحياة ، وعدم وجوده يقتضي عدم وجود الامل ، مما يعني الإنصباب على الدنيا ، فكل ملحد يحب الدنيا ويخاف من الموت لأنه لا أمل عنده في الآخرة ، ماذا تعني الدنيا عند الملحد ولا غاية من وجوده ، وليس له رسالة يتبناها ، ومصيره التلاشي ، وبلا عودة للحياة ابداً ، ماذا تعني له إلا المتع والشهوات وأكبر قدر منها و اياً كانت .
ولكن بدون أن تسبب أضراراً مباشرة ، فهو يعيش ما دام هناك شيء يستمتع به ، وإلا فالحياة عبث ولا قيمة لوجود الإنسان وليس له قضية ، لكن المتع هي الشيء الوحيد الذي يستطيع العيش لأجله ، وليست الأخلاق التي يعيش من أجلها ، والملحد لا يمكن أن يعيش من أجل الأخلاق ، لأنه لو عاش من اجلها لتعارضت مع المصلحة والمتع ، والمتعة دائماً في تعارض مع الأخلاق وهي شعار الملاحدة المرفوع ، والتي تُلطَّف بكلمة مصالح . وما لا يتعارض مع المصلحة ، فهو يدعمها قطعاً .
ولو افترضنا وجود شخص بهذا الشكل ، فإذاً لماذا يعيش وقد حيل بينه وبين الشيء الوحيد الذي يعجبه وهو المتع ، مثله مثل المريض الميؤوس منه ، والحياة ليس فيها أي شيء ممتع ؟ فليس له أمل في الشباب ولا في الصحة ولا في الآخرة ، فلماذا يضيّق على نفسه إلا أن ينتحر أو يقتلوه قتلاً رحيماً ، وحياته لها حد والأخلاق ليس لها حد ، إذاً فلا إلتزام بالأخلاق . هذا هو ملخص حياة الملحد .
بينما المؤمن يستطيع العيش من أجل الأخلاق ، ويصبّره الأمل ، والمتعة التي تعطيه إياها الأخلاق لإلتزامه بها ، والمتزايدة مع التقدم في سلم الأخلاق ، والتي لا يعرفها الشخص العادي الذي لم يقتحم سلم الأخلاق . ومنطقياً لا يذوقها الملحد لأن مصلحته تمنعه من الإغراق في سلم الأخلاق .
وإذا قال الملحد أن الحياة جميلة وتستحق العيش فهو يقصد المتع والمتع فقط ، سواء كانت حسية أو معنوية لا تتعارض مع المصلحة ، لأن إختيار المصلحة حتمي بسبب عدم وجود إله ، وما المصالح إلا التي تجذب المتع والشهوات ، فالمصالح هي وسائل حفظ الشهوات واستمرار تدفقها ، ومن هنا نرى الفكر الإلحادي مصرّ على المصالح ، لأن الدنيا ليس بها ما يزيّنها إلا هي ، فالتحول للمادية حتمي إذا إنعدم وجود الإله ، وبالتالي تنصنع شخصية الملحد ، والتي بخلاف ما كانت عليه عندما كان مؤمناً .
بمعنى آخر : إن عدم عبادة الله ، تتحول مباشرة وبالضرورة إلى عبادة الطاغوت ،
ووجود إله يحد الطغيان ويلزم بالتوازن ، بينما عدم وجوده يعني عدم إلتزام بالتوازن ،
والأخلاق يُعاقب من يتركها في وجود إله ، وفي عدم وجوده لا يعاقب تارك لأخلاق ، وبالتالي لا يتم الحد من الطغيان ،
وبالايمان بوجود ، فالايمان هو من يتحكم بقرارات الانسان ، وبعدم الإيمان فالمصالح هي من تتحكم به ، والمصلحة لا حد لها ، أي طغيان ،
والشهوات في ظل الايمان منظَّمة ، وبعدم وجوده تكون منفلتة ، أي طغيان ،
الإنسان بوجود إله يعرف أنه عبد لله وليس سيداً أو إلهاً ، وبعدم وجود إله يحل الإنسان محل الإله ، وهذا طغيان ،
لأنه ليس بإله ولا يعرف شيئاً ، وهو لا يعرف نفسه ولا يدرك ما حوله تماماً فكيف يكون إلهاً ؟ سيكون إلهاً أحمق .
وبوجود إله ، الفرد يأخذ ويعطي ، وله حقوق وعليه واجبات ، وعدم وجود إله فهو يأخذ من الطبيعة ولا يعطي ، وهذا طغيان ،
الخروج عن الدين – ايا كان الدين – فهو طغيان ، فهو يعني انطلاق الشهوات وانطلاق الكبرياء المكبوتة .
ووجود إله يجعلك ترى الكون منظم ، وعدم وجوده يجعلك ترى الكون فوضى وبالتالي تُناط بالإنسان مهمة إصلاحه وترتيبه بموجب مصالحه طبعاً ، وكلٌّ سيرتب في هذا الكون على مصالحه هو ، والمصالح بطبيعتها تتعارض ، وبالتالي تكون عبثية حقاً ، والإنسان عاجز في الحقيقة ، وهذا يثبت أن قضية وجود الله من عدمه قضية مركزية أساسية .
والإيمان يقتضي الطاعة والانقياد للسنن الكونية ، وعدم وجود إله يعني التمرد على الطبيعة وقوانينها ، المادية والمعنوية ، وهي ليست قضية هامشية ، بل هي مسألة المسائل وأهم القضايا . ليس أن تكون مؤمنا بوجود إله أو غير مؤمن ولا تتغير الشخصية، بل ستتغير الشخصية الفردية والمجتمع من خلال وجود إله أو عدم وجوده ، فهي إذاً قضية لها ما بعدها .
والملحد يؤمن بحتمية المصالح عنده ، بينما المؤمن الصادق ليست لديه حتمية للمصالح .
والملحد يرى أنه لا توجد ثوابت ، وبالتالي هذا الإعتقاد يُشعِر بالخوف وعدم الثقة .
والملحد يرى نفسه إلهاً وبالتالي سيتغير وضعه وسيقوم بالتغيير لما حوله من سنن الله وقوانينه ، كما فعل فرعون الملحد ، عندما قال : ( لا أريكم إلا ما أرى ، ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد ) ، وفرعون لا يعبد أحداً ولا يعبد نفسه ، إذاً فهو إله ، كما أعى ذلك نيتشه الملحد ..
باب الألوهية مفتوح عند عدم وجود إله ، وهذا يدل على أنه موجود ، لأن غيابه يترك فراغاً لا بد أن يُملأ ، وغير الموجود لا يترك فراغاً إذا غاب . والملحد اعتبر نفسه إلها وعلى ذلك له ان يتحكم حتى في الخلقة والجينات ويعدل فيها ، وله حق التمرد على كل الثوابت التي كان يثبّتها الدين ، بما فيها الأخلاق ، وهذا ما يفعلونه ، فلا يوجد إله ، وبالتالي يكون هو النائب عن هذا الإله ، أي هو الإله .
وما دام هو كذلك فلا بد أن بظهر بمظهر العليم الخبير المدبر المهيمن القادر على كل شيء ، وهذا ما يحاولون ان يظهروا عليه ، بأن العلم قادر على كل شيء ، وسوف يتم التحكم من خلال العلم بكل شيء ، ويتم الكشف عن حقيقة كل شيء ، وهذا لا يزال في إطار الإدعاءات ولا يعني شيئاً ، فقط لسدّ حاجات الإله ، كما إدعى فرعون سابقا أنه عليم بكل شيء ، وأنه لا يهدي الناس إلا إلى سبيل الرشاد ، وإذاً فالإلحاد يصنع الشخصية الفرعونية
هذا الإله الإنساني يعاني من الجهل والضعف ، لدرجة أنه لا يفهم شيئاً واحداً بصفة شاملة ، ولا يعلم من الغيب ولا نقطة ، ولا يعلم من المستقبل ولا جزئية ، ولا يعلم من اين أتى ، ومع ذلك مصرٌّ على الألوهية .
((الملحد هو الذي يقدّس ، مثله مثل الدينيين ، يقدّس المادة ورموزها وشخصيات إلحادية ، والعلم التجريبي ، الملحد يصارع الأديان بعنف ويحاربها جميعاً ، بل حتى لا يفضل بعضها على بعض ، وانهزام الدين وتخطئته هو دائماً شغله الشاغل ، ويفرح اذا تخلى احد عن دينه ، بينما هو لا يستفيد من وراء ذلك شيئاً ، فهو اذاً ينتصر لمن ؟ ويكافح لأجل ماذا ؟ بالرغم من أنه لا يعبد أحداً ؟
كل تصرفاته واقواله تعتبر مجهوداً حربيا ً ضد الدين ، ما مصدر هذه الطاقة ؟ كل هذا نصرةً للعلم ؟ كيف ذلك وثلاثة أرباع العلم اقامه المؤمنون في عصرنا هذا ؟ وكل العلم قام به متدينون في عصور ما قبل الإلحاد ؟ فلماذا كل هذا الخوف على العلم إن كان حقاً ؟
وهو يمارس الدعوة إلى الإلحاد ، ويفرح الملحد إذا قمت بشيء يخالف الدين ، ويمهد لك أن تكمل البقية ، ويشجعك بأية وسيلة تخالف بها دينك ، ويرفع من قيمتك إذا خالفت الدين ويقربك إليه شخصياً ، ويوسوس إليك عن طريق الافكار التشكيكية ، ويكرهك بالإلتزام الأخلاقي ويقلل من شأن الأخلاق ، ويشجع على ممارسة المتع والشهوات ، بل ويمدح ذكائك وشجاعتك إذا خالفت مبادئك ، ويبتعد عنك بطريقة غامضة إذا التزمت بمبادئك وحاولت كشف نيته ، وبذلك هو يشبه الشيطان .
والشيطان إدّعى الألوهية ، إذا فالديانة الإلحادية نستطيع تسميتها بالديانة الألوهية ، فهو دين إلهي ، أي يحوّلك إلى إله ، أي مثلما فعل الشيطان وفعل فرعون ، وهذا الدين جديد له اصوله القديمة . ))
اقتباس:
أنري برغسون (Henry Bergson) ينهي كتابه “مصدرا الأخلاق والدين” بهذه الجملة: “الكون هو ماكنة تنتج الآلهة“دوركايم كان سيقول: المجتمعات هي ماكنات تنتج الآلهة، ولكن لكي ينجح
هذا الجهد الإبداعي، من الضروري أن يهرب الأفراد من حياتهم اليومية، ويخرجوا من داخل ذاتهم وينجرفوا في حماسة مصدرها وتعبيرها معا هما تسامي النفس للحياة المشتركة.
التفسير الاجتماعي للدين، كما يراه دوركايم، يلبس إذن صورتين: الأولى تشدد على الفكرة أن الأفراد حسب الطوطمية يسجدون لمجتمعهم، دون معرفة أو لأن المقدس يرتبط قبل كل شيء
بالقوة الجماعية الغير شخصية التي تمثل المجتمع ذاته. حسب التفسير الثاني، تميل المجتمعات لإنتاج الآلهة أو الأديان عندما تكون في حالة تسام تنبع من قوة الحياة المجتمعية.
لدى القبائل الأسترالية، يحدث هذا التسامي أثناء الطقوس التي نستطيع مشاهدتها حتى هذه اللحظة. بينما في المجتمعاتالمعاصرة، يقول دوركايم، من دون أن يؤطر نظرية محددة،
يحدث هذا التسامي أثناء الأزمات السياسية والاجتماعية.
يطور دوركايم من هذه الأفكار الأساسية تفسيرات لمصطلحات “النفس”، “الروح” و “الله”. ويتابع التطورات الذهنية لأشكال التمثيل الديني. الدين يعني مجموعة من العقائد، والعقائد ذاتها
يتم التعبير عنها بالكلمات، أي أنها تأخذ شكل فكر يحوي قدرا ما من المنهجية. دوركايم يبحث عن المدى الذي تصل إليه المنهجية في الطوطمية. فهو يريد أن يبين حدود المنهجية الذهنية في الطوطمية،
إضافة إلى إمكانية الانتقال من الطوطمية إلى الأديان الأكثر حداثة.
يوضح دوركايم أهمية نوعين من الظواهر الاجتماعية: الرموز والطقوس. عادات اجتماعية كثيرة لا تُوجَّه بالضرورة تجاه الأغراض ذاتها وإنما أيضا تجاه رموز هذه الأغراض. في الطوطمية،
لا تقع المحظورات على الحيوانات والنباتات الطوطمية فحسب، وإنما على الأغراض التي رسمت عليها الحيوانات والنباتات أيضا. وبشكل مشابه، لا تتوجه سلوكياتنا الاجتماعية اليومية تجاه
الأشياء ذاتها فقط وإنما على رموز هذه الأشياء أيضا. لقد تطرقت سابقا إلى كون العَلَم رمزا للوطن. الشعلة تحت قوس النصر بباريس هي ايضا رمز. المظاهرات الجمتهيرية مع أو ضد سياسات
معينة هي أيضا أفعال موجهة تجاه الرموز وتجاه الأشياء في آن واحد.
الرد: هذا يعني أن دوركايم جعل من كل شيء إجتماعي ديناً ، واي محبة إجتماعية لشيء يعتبره ديناً ، وحب الوطن وما يرمز إليه من علم وشخصيات واشعار يعتبر ديناً ، وعلى هذا ستكثر الأديان بكثرة الاشياء المشتركة بين الناس ..
الذي ضلل تفكير دوركايم هو رؤيته للناس وهي تعظّم هذه الاشياء ، لأنه يعتقد أن الدين عبارة عن تعظيم فقط ، فلو نقص الماء في العالم لصار مُعظّماً ، وتعظيم الوطن بسبب أن الفرد لو خرج عن وطنه لضاع ، ولما وجد من يحميه ويحفظ حقوقه مثل أهله وقومه..
هذه التعظيمات المرتبطة بالمصالح لا تعني العبادة ، بل تعني الخوف عليها لأنها غير متوفرة بشكل دائم في كل مكان ، فلو ان الفرنسي يعيش في غير فرنسا كما يعيش في فرنسا ، لما عظّم فرنسا ولما عظّم علمها ، ولو ندر الورد في العالم لقُدّست البقايا منه ، ولقلت أن الناس يعبدون الورد ، فهو لم يفهم فكرة الدين كاملة ، بل فهم التعظيم والتقديس فقط ، ولهذا فكل ما رأى الناس تعظم شيئاً ، إعتبره دينا ، ولأنه نابع من المجتمع ..
فتصوّر أن الفرد يعبد المجتمع ، متمثلاً بالاشياء التي عظّمها المجتمع ، فالفرنسي لا يعبد فرنسا بل يعبد المجتمع الفرنسي ، إذا افترضنا معه أنهم يعبدون أساساً .
الدين في حقيقته عبارة عن دَين وعهد وأمانة ومسؤولية وتسليم ، وليس فقط تعظيماً وتقديساً .
اقتباس: لقد طور دوركايم نظرية معقدة عن الطقوس الدينية، يوضح من خلالها أنواعها المختلفة وأدوارها العامة. وهو يفرق بين ثلاثة أنواع من الطقوس: طقوس سلبية وطقوس إيجابية وطقوس يسميها طقوس الكفارة.
تهتم الطقوس السلبية بالممنوعات بشكل رئيسي: حظر الأكل واللمس تتطور كعادة التقاليد الدينية الزاهدة والمتقشفة. بينما الطقوس الإيجابية هي طقوس اتحاد مع الرب، هدفها، مثلا، زيادة الخصوبة.
عادات الأكل تتبع أيضا للطقوس الإيجابية. يبحث دوركايم أيضا في طقوس المحاكاة والتقليد أو التمثيل، وفيها يحاكي المؤمنون أمورا يتمنون حدوثها. كل هذه الطقوس، سواء كانت سلبة أو إيجابية أو طقوس كفارة،
تلعب دورا اجتماعيا مهما. هدفها هو الحفاظ على بقاء المجتمع، وتحديث الشعور بالانتماء للمجموعة والمحافظة على العقيدة والدين. لا وجود للدين ألا بواسطة العادات، والتي هي رموز للعقائد وأيضا وسيلة لتجديدها.
نهاية، يستنتج دوركايم من بحثه عن الطوطمية، نظرية اجتماعية للإدراك. فهو لا يحصر نفسه في محاولة فهم عقائد وعادات القبائل الأسترالية، ولكن أيضا يحاول أن يفهم أنماط التفكير المرتبطة بالعقائد الدينية.
الدين ليس فقط النواة البدائية التي نبتت وتفرعت منها القواعد الأخلاقية والدينية بالمفهوم الضيق للكلمة، ولكنه أيضا النواة التي تتطور منها التفكير العلمي.
هذه النطرية الاجتماعية للإدراك تفترض برأيي ثلاث فرضيات:
1- الأشكال البدائية للتصنيف ترتبط بتصورات دينية عن الكون، نتجت من تمثيلات صنعتها المجتمعات المختلفة لنفسها، ومن ثنائية العالم الزمني الدنيوي والعالم الديني أو المقدس.
دوركايم يؤسس هذه الفرضية بعدة أمثلة.
“بشكل مجرد، لم يكن ليخطر ببالنا تقسيم الكائنات في العالم إلى مجموعات متجانسة، تسمى أنواعا أو أجناسا، لولا واجهنا المثال عن المجتمعات الإنسانية، ولولا كنا نتطرق إلى الأشياء نفسها كـأنها
أعضاء في المجتمع الإنساني، حيث لأنه قبل ذلككانت التصنيفات الإنسانية والمنطقية مختلطة ببعضها البعض. من جهة أخرى، هذا التصنيف هو أسلوب للتقسيم إلى مجموعات بترتيب هرمي.
هناك مجموعات مسيطرة، وهناك مجموعات خاضعة لها؛ تتعلق الأنواع وخصائصها المميزة بالأجناس والصفات التي تعرّفها. بكلمات أخرى تتواجد الأنواع المختلفة من نفس الجنس في المستوى نفسه.”
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص210)
بشكل عام، يعتقد دوركايم أنه تم تقسيم العالم إلى مجموعات تسمى أجناسا، لأننا رأينا قبالتنا المثال الذي يقدمه المجتمع الإنساني. في المجتمعات الإنسانية هنالك تقسيم منطقي لمجموعات، يقع بشكل مباشر على الأفراد.
عادة التقسيم هذه، يتم توسيعها لتمتد إلى الظواهر الطبيعية، وذلك لأننا نرى العالم على صورة المجتمع.
التصنيفات لمسيطرين وخاضعين، تتطور من محاكاة الهرمية الموجودة في المجتمع. فكرة الهرمية، الضرورية للتصنيف المنطقي للأجناس والأنواع، كان بالإمكان استعارتها، في الواقع، فقط من المجتمع نفسه.
“لا منظر الطبيعة المحسوسة، ولا أنظمة التخاطر التفكيري، كان باستطاعتهما إعطاءنا هذه الفكرة. الهرمية هي ظاهرة اجتماعية صرفة. فقط في المجتمع هناك علوي، سفلي ومساوٍ. لذا،
ورغم أن هذه الحقائق لا يمكن إثباتها، فإن مجرد تحليل هذه المصطلحات يكفي لكشف مصدرها. لقد استعرناها من المجتمع ثم أسقطناها على الصورة التي نرى فيها عالمنا.
المجتمع هو من زودنا بالخلفية التي تطور بناء عليها الفكر المنطقي.”
(Ibid. p. 211 )
الرد: بل هذا أساسه من العقل والمادة ، فالإنسان الذي عاش بمفرده في الغابة ، يصنف الاشياء كمجموعات على حسب نفعها أو ضررها بناء على الشكل أو التشابه أو الخواص ، فهو يعرف أن الحيوانات الكبيرة مصدر خطر بالنسبة له ، والصغيرة من النوع الذي لا يخيف بشكل عام ، ويعرف أن كل شيء يتحرك بسرعة هو مصدر خطر ، وأن الاشياء شديدة الحرارة هي مصدر خطر ، وكل شيء له رؤوس مدببة هو مصدر خطر ، سواء كان أشواك أو حجارة ..
إذاً هو بموجب عقله يستطيع أن يصنّف ما يراه ، والحقيقة أن تأثير الفرد على المجتمع بشكل عام ، هو أكبر من العكس والذي تبناه دوركايم ، لأن الأفكار السائدة في المجتمع نبتت في راس فرد واحد ..
والإدارة السياسية يقوم بها فرد واحد ، ولو كان المجتمع هو الضاغط والأقوى لما قاده الفرد ، والعادات والتقاليد يسنها افراد ، فيبتلعها المجتمع ، فالمجتمع مثل القطيع الذي يتحكم به الاطفال ، والمجتمع إذا لم يؤثر الفرد فيه ، أثّر فيه ، وكون الأفراد النابهين يتطالولن على المجتمع بشكل مستمر ..
فهذا يعني أن المجتمع غير مقدس ، ولو كان مقدسا لما اجترأ أحد على تغيير ثوابت المجتمع ، ولكن المجال مفتوح دائماً ، وايضاً المجتمع غير محصّن ، ولو كان مقدّساً بالدرجة الكافية لحُصِّن ضد أي تغيير ، لكن الواقع هو غير ذلك .
فالأفراد يُبدؤون ويعيدون ويثبتون ويمسحون في هذا المجتمع بشكل دائم ، مثل مصمم الموضة ، فهو يعلم وهو جالس في غرفته نه سيرى الآلاف من الناس تلبس هذا الموديل الذي يصنعه الآن ، إذاً تحكم الفرد بالمجتمع أكبر من تحكم المجتمع بالفرد ، وكتابات دوركايم بحد ذاتها هي كتابات فرد غيرت فكر المجتمع الغربي ..
وكتابات فرويد جعلت الصور العارية تعلّق في شوارع أوروبا ، فاين هي قوة المجتمع ؟ القوة للفرد وليس للمجتمع ، ولهذا الأمم تبحث عن العباقرة ، ولا تبيع عبقريها بآلاف من الناس العاديين ، وهنا يتم الإختيار : بين الفرد العبقري مقابل عشرة آلاف من الافراد العاديين ، والمجتمع يكون قوياً إذا تحرّك ، ولا يتحرك إلا بفرد ، وهذا قانون ، إذاً فقوة المجتمع مأخوذة من قوة الفرد ، والمجتمع يحركه فرد (قانون) ..
وأي فترة ازدهار لأي مجتمع تجد وراءها فرداً ذكياً ، حتى في السياسة تجد مثلاً حاكماً نابهاً يغيّر البلد ، ثم يأتي بعده حاكم غبي فيبرد الإزدهار ، وعند الرجوع إلى أي حضارة ستجد اسماء افراد منها ولا تجد أسماء المجتمع ، ومن هنا مأخذٌ على الديموقراطية ، لأنها تُحكّم المجتمع في الفرد ، والمجتمع دائماً يبحث عن القواد والعباقرة ومن يكون بعد هذا القائد ،هكذا ..
ولو كان المجتمع قوي لما إعتاز كل هذا العوز للفرد ، وكل مجتمع ينتظر فرداً ليغيّر من واقعه ، فمن ينتظر المسيح ومن ينتظر المهدي ، وهكذا . وغالباً ما تجد المجتمع يخاف من فرد ، ومن هنا جاءت تهم الهرطقة والإحراق للأفراد ، وكون المجتمع يخاف ويرتعد من فرد يفكّر ، لا يثبت قوة المجتمع التي ادعاها دوركايم ، ولم يثبت أن مجتمعاًُ فرض أفكاره على الفرد وهو لا يريدها ، وكل ما حاول المجتمع أن يضغط على الفرد وهو لا يريد ، كلما طور الفرد مضادات وخرج بنظريات غالبا ما تحرف مسار المجتمع كله ..
إذا الفرد بسهولة يضع بصماته على المجتمع بينما المجتمع بصعوبة يضع بصماته على الفرد ، آن الأوان ليوجد علم الفردية مقابل علم الإجتماع . وكل من يتبنى فكر المجتمع دائماً ما يكون ضعيفاً أمام الفرد الحر ، ولم يدعم المجتمع ثقة ذلك الفرد المتبني بنفسه ، بينما الحر الآخر أكثر ثقة بنفسه بالرغم من مخالفته للمجتمع ، والهرمية تعني سيطرة الفرد ، ولم يبنيها المجتمع بل بناها الفرد ، وبكفاحه استطاع أن يضع نفسه على راس الهرم ، وليس المجتمع هو الذي وضعه ، بل بكفاحه وذكاؤه ، والمجتمع عبارة عن ميدان مفتوح للنابهين والاذكياء ليضعوا بصماتهم على المجتمع ، ومن هنا صار حب الشهرة ، لأن المجتمع لا يرشّح أحداً لشيء ..
بل الفرد يفرض نفسه على المجتمع ، فالمجتمع مثل الأرض ، بحسب نشاط من يعمل عليها ، فكأن المجتمع إمرأة والفرد رجل ، والأديان في المجتمعات تبناها أفراد ، وتجد الفكرة المنتشرة بين الملايين تجد مصدرها من راس واحد ، والفرد بالتالي في المجتمعات القديمة هو يعبد فرداً وليس مجتمعاً، وكذلك في المجتمعات المتطورة هو يقدّس أفراد ، فالمجتمع يتجه للفرد ، وليس الفرد يتجه للمجتمع . وما الحضارة التي نعيشها الآن إلا مجهودات أفراد وليست مجهود مجتمعات ..
إذاً فالقوة هي في الفرد وليست في المجتمع ، لأن العباقرة وهم أفراد ، هم من يغيرون مجرى المجتمعات وبالتالي التاريخ ، أما تأثير المجتمع على الفرد ، فهو بشكل عام تأثير كابت ولا يحسّ الفرد بأن المجتمع يفهمه ويعيه ، ومن الصعب أن يفهم المجتمع الفرد ، ولكن العكس ممكن ..
إذاً فالذي يعي أكثر ، يتحكم اكثر ، والمجتمعات كما ترى في مجتمعات الغرب تظل مبهورة واسيرة بعظمة وقوة فرد ، وليست مبهورة بقوة شعب أو مجتمع ، بل تجد الشعب يقف عند لوحة بيكاسو أو المولانيزا ، أي تعظيم مجتمع لأفراد ، ولم تقم أية ثورة أو حركة إجتماعية لا ووراءها فرد ، فهل كانت البروستانتية لولا مارتن لوثر الفرد ؟ وبما في ذلك الأديان ، لأن الاذكياء دائما يؤثرون في الأقل ذكاء ، والأقل ذكاء هم الأكثر في المجتمع ، والأكثر ذكاءً هم الأقل ، إذاً فالمجتمع يتحكم به أفراد .
-2 : اقتباس يدعي دوركايم أن فكرة مثل السببية مصدرها هو المجتمع، ولا يمكن أن تطون قد نبتت من مصدر آخر. الإحساس بالحياة الجماعية يولد فكرة القوة. المجتمع هو من يولد في البشر الإدراك
بوجود قوة هي فوق الأفراد.
الرد: وهل بدون المجتمع لن يعرف الإنسان فكرة السببية ؟ هل الاشخاص الذين عاشوا بمفردهم في الغابات ، لم يكونوا يعرفوا السببية ؟ وإذا آلمته يده أو رجله ، فهو حينئذ لا يعرف أن سبب ألمه هو صخرة وطئها أو حشرة لدغته ؟ هذا هراء .
السببية تفرض نفسها وهذا تحايل من دوركايم على العلم والفلسفة ليسقط قانون السببية الذي هو اساس المعرفة . وما كان هذا منه إلا حرباً على الإيمان بالله . الذي يبدأ بقانون السببية . ويكفي الإيمان علمية أنه يبدأ بقانون السببية .
3-: اقتباس في النهاية يحاول دوركايم جاهدا أن يثبت أن النظرية الاجتماعية للإدراك، كما يصفها هو، توفر الوسائلالمطلوبة للتغلب على نظريات معاكسة مثل الإمبيرية empirism والأبريورية apriorism،
التناقض المشهور الذي يناقشونه في الفلسفة التي تدرس في المدارس، والذي درسه دوركايم في الكلية في مساق الفلسفة، والذي سندرسه لاحقا.
الإمبيرية هي النظرية التي تكون بحسبها الأصناف، والمفاهيم عامة، ناتجة مباشرة من تجربة حسية. بينما حسب الأبريورية، وضعت المصطلحات والأصناف في الروح الإنسانية منذ البدء. ومع هذا، يزعم دوركايم أن الإمبيرية خاطئة لأنه لا يستطيع أن يفسر كيف تنبع الأصناف والمفاهيم من معطيات الحواس، وكذا الأبريورية خاطئة لأنه لا تفسر شيئا، لأنها تضع في الروح الإنسانية، كمعطى أساسي وأولي، ماهية الشيء الواجب تفسيره. الدمج بين الطريقتين يتأتى من خلال تدخل المجتمع.
من الواضح بالنسبة للأبريورية، أن الحواس وحدها غير كافية لتوليد الأصناف أو المفاهيم، وأن هناك أمرا آخر غيرالحواس في الروح الإنسانية. ولكن، لم تفهم الإمبيرية ولا الأبريورية أن لهذا الأمر، والذي هو أكثر من معطيات حسيةـ يجب أن يكون له مصدر وتفسير. الحياة الجماعية هي تمكّن من تفسير الأصناف والمفاهيم.
المفاهيم، بحسب النظرية العقلانية، هي تعبيرات غير شخصية، لأنها تعبيرات جماعية. والتفكير الجماعي يختلف بطبعه عن التفكير الفرداني، والمفاهيم هي تعبيرات تفرض نفسها على الأفراد لأنها تعبيرات جماعية. إضافة لذلك، تلبس المفاهيم زياتعميميا، كونها تعبيرات جماعية. ففي الواقع لا يهتم المجتمع بالأفراد وبالأمور الخاصة. فهو الجهاز الذي تستسلم بواسطته الأفكار للعمومية، وفي الوقت ذاته، تجد الأفكار فيه السلطة النموذجية للمفاهيم والأصناف.
“المفاهيم هي الطريقة التي يعبر فيها المجتمع لنفسه عن الأشياء“
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص626)
للعلم سلطة عليا علينا لأن المجتمع الذي نحيا فيه يريد ذلك.
“من الضروري أن تأخذ المفاهيم سلطتها من قيمتها الموضوعية وحسب، حتى حين تكون مبنية على
أسس غير علمية. فصحتها غير كافية لتصديقها. إذا لم تكن متلائمة مع العقائد الأخرى، مع الأفكار
الأخرى، وباختصار مع مجموع التعبيرات الجماعية، فسيتم رفضها. ولن تقبلها الخلائق،
وفي النهاية ستكون كأنها لم تكن. إذا كان اليوم كافيا لتصديق أمر ما، حمله لختم علمي، فهذا لأننا نثق بالعلم.
هذه الثقة لا تختلف بماهيتها عن الإيمان الديني. فالقيمة التي نعطيها للعلم تتعلق في النهاية، بالمفهوم
الذي نبنيه لأنفسنا بطريقة جماعية عن طبيعته وعن دوره في الحياة؛ معنى هذا، أن العلم يعبر عن
رأي عام معين. بالطبع، من الممكن أن نرى في الرأي العام موضوعا للبحث وأن نحوله إلى علم؛
هذا هو أساس اهتمامات السوسيولوجيا. ولكن، علم الرأي العام لا يشكل الرأي العام؛ فهو يستطيع أن
يوضحه ويجعله معروفا أكثر، لا غير. يستطيع العلم أن يصنع تغييرا في الرأي العام؛ ولكن العلم سيبقى
متعلقا بالرأي العام حتى لو خيّل إليه أنه يملي قوانينه؛ حيث أن العلم يستقي من الرأي العام القوة
اللازمة للتأثير عليه.”
(Ibid. pp. 625-626 )
لو اختفى الإيمان بالعلم، على سبيل المثال، من مجتمع معين، فإن كل الإثباتات العلمية الحالية ستصبح بلا فائدة. هذه حجة مفهومة ضمنا، وسخيفة في نفس الوقت. حيث أنه من الواضح أن الإثباتات العلمية لن تقنع أحدا في اللحظة التي يتوقف الناس عن الإيمان بقيمتها. ولكن الحجج لن تفقد صحتها، حتى لو افترضنا أن الناس قرروا التصديق بكون الأبيض أسود، وكون الأسود أبيض. إذا كان الحديث يدور عن الإيمان كظاهرة نفسية سيكولوجية، فإن دوركايم محق تماما؛ أما إذا ما كان الحديث يدور عن الحقيقة من منظور منطقي أو علمي، فيبدو لي أنه مخطئ تماما.
خلا هذا البحث أكثرت من الاقتباسات، لأنني لم أكن واثقا من نفسي.أجد صعوبة معينة في اختراق نمط تفكير دوركايم، على ما يبدو بسبب انعدام الولع اللازم للفهم.
المجتمع بحسب دوركايم، هو واقعي ومثالي في آن واحد، ويصنع المثال من جوهر ماهيته. عندما أنظر للمجتمع على أنه مجموعة من الأفراد كما هو حال الكلان في المجتمعات الأسترالية – حيث أن المجتمع كواقع محسوس، يمكن إدراكه من الخارج، يتكون من الأفراد ومن الأغراض التي يستخدمونها – في هذه الحالة، أراه غير صحيح أن هذا المجتمع ، الذي هو واقع طبيعي، يمكن أن يكون أرضية خصبة لنمو العقائد. من الصعب أن نجد عادات دينية تكون خاصة بأفراد وحيدين. إضافة لذلك فإن كل الظواهر الإنسانية تعكس بعدا اجتماعيا، ولا يوجد دين معين خارج المجموعات التي ولد بها، أو خارج الجاليات المسماة كنائس. ولكن، إذا أضفنا لذلك كون المجتمع مثاليا عدا كونه واقعيا، وأن الأفراد الذين يعبدونه، فإنهم يسجدون لواقع غيبي، من الصعب علي تقبل ذلك؛ حيث أنه إذا كان محتوى الدين هو حب المجتمع القائم والمحسوس، يبدو لي أن هذا الحب هو نوع عبادة الأوثان، وفي هذه الحالة يكون الدين رؤية وهمية كما هو الحال في التفسير الأنيمي أو الطبعاني.
هناك إمكانيتان:
الإمكانية الأولى: أن المجتمع المتوجه إليه بالعبادة هو مجتمع موجود ومحسوس، يتكون من أفراد، وهو غير كامل لأن أفراده غير كاملين؛ وفي الحالة هذه فإن الأفراد الساجدين له هم ضحايا رؤية وهمية تماما كأولئك الساجدين للأشجار،الحيوانات، الأرواح أو الأنفس. إذا اعتبرنا المجتمع واقعا طبيعيا، فإن هذا التفسير لدوركايم لا “ينقذ” موضوع الدين أكثر من أي تفسر آخر.
الإمكانية الثانية: أن المجتمع كما يراه دوركايم ليس مجتمعا واقعيا، ولكنه مجتمع يختلف عن المجتمع الذي باستطاعتنا معاينته، وبهذه الحالة نترك مجال الطوطمية وندخل مجال الدين الإنساني على هيئة مفهوم أوغست كونت. فالمجتمعالمتوجه إليه بالعبادة ليس واقعا محسوسا وإنما واقع مثالي يعبر عن المثال المتحقق بشكل غير كامل في المجتمع الحقيقي. وإذا كان الأمر كذلك، فليس المجتمع هو الذي يفسر تكوّن مفهوم “المقدس”، ولكن مفهوم “المقدس” الذي تكون في الفكر البشري، هو الذي يغير وجه المجتمع، كما يستطيع تغيير وجه كل واقع آخر.
يقول دوركايم أن المجتمع ينتج الدين في الأوقات التي تلتهب فيها الحماسة. هنا نتحدث عن حالة خاصة منفردة. فالأفراد موجودون في حالة نفسية يشعرون من خلالها بقوى غير شخصية، وهي جوهرية وغيبية في آن واحد.هذا التفسير للدين يؤدي إلى تفسير سببي بحسبه يساعد الحماس الاجتماعي بتولد الدين. ولكنهنا يسحب البساط من تحت الفكرة القائلة أن التفسير الاجتماعي للدين يمكّن من إنقاذ موضوع الدين بالقول أن الإنسان يسجد لما هو مستحق للعبادة. أيضا، نحن نخطئ بحديثنا عن المجتمع بصيغة المفرد، حيث أنه بحسب دوركايم نفسه هناك مجتمعات، بصيغة الجمع. إذا كانت العبادة موجهةنحو المجتمعات، فستكون هناك أديان قبلية أو قومية. وفي هذه الحالة تكون ماهية الدين ليست فقط إرساء الإخلاص المتشدد في نفوس الخلائق تجاه مجموعات صغيرة وتوجيه الإخلاص الفردي نحو مجتمعه، ولكن أيضا، توجيه كراهيته نحو المجتمعات الأخرى.
يبدو لي أن ليست هناك إمكانية لتعريف ماهية الدين كعبادة الفرد للمجموعة، فحسب رأيي، السجود للنظام الاجتماعي هوماهية الكفر بالذات. الزعم بأن الأحاسيس الدينية موجهة نحو المجتمع بهيئة أخرى، هذا الأمر لا يعني إنقاذ التجربة الإنسانية التي تحاول السوسيولوجيا شرحها، ولكنه تقليل من قيمتها.
الرد: هذا أمر غريب ، فتاريخ تكوّن الأديان واضح ، هل المسيحية كانت موجودة قبل عيسى ؟ وهل كان العرب مسلمون قبل وجود محمد الفرد ؟ الم يقاوم المجتمع بقوته عيسى ومحمد ؟ اين قوته ؟
فهذا فردٌ عاكس المجتمع وغيّر دينه ومواقع القوة فيه . ثم لماذا هذا التأكيد على الاساس العاطفي للتدين والدين ؟ هذا ما يجعل الماديين يكرهون العواطف كما يثبت دوركايم ، وما تزال الفلسفات الإلحادية المادية تُثبِت العداء للمشاعر الإنسانية وما ينتج عنها ، لأن المال والقوة لا يأتيان عن طريق العواطف .
العقل هو الذي يفتح الشعور ، ولو سألت أحد الأفراد ممن مر بفترة تدين في حياته ، لقال لك أن أحداً أقنعني ولم يقل أنه بكى عندي أو رقص ، أو أحسسنا بالدين في حالة من الرقص والغناء كما يقول دوركايم . وما يثبت هذا أن ترك التدين يبدأ من فكرة أو أفكار ، وما ينتهي به الشيء يدل على ما بدأ به (قانون) ، مثلما يبدأ القمر بالهلال وينتهي بالهلال .
الحقيقة أن ما يقوله دوركايم هو ما وقع به ، لأنه يعبد المجتمع ، وهو اساس الديانة الإلحادية ( عبادة قوة المجتمع) . والقرآن يدعو الناس للتفكير والتأمّل العقلي والتدبر في الكون حتى يجعلهم مؤمنين عن طريق العقل . الشعور لا ينفتح إلا بفكرة ، مثلما تجد أناساً يتحدثون بسرور ، ثم يأتي من يحدّثهم بافكار ، فيحوّلهم إلى خائفين ، بل ربما يجعلهم يتركون المكان .
والخطباء مؤثرين في الناس لأن الخطبة تعتمد على الإقناع والتاثير ، والإقناع لا يكون إلا بافكار ، وعلى هذا يكون الإيمان قائم على اساس عقلي وليس عاطفي ، يكفيك أن تعلم بأن كل دين يقوم أول ما يقوم على قانون السببية العقلي : (من أوجد الكون؟) ، ( من خلقني؟) ، (أنا عاقل ، والعاقل لا يخلقه إلا أعقل منه) ، (عندي شعور بالحب والجمال ، وهذا لا يخلقه إلا من هو أجمل منه ) ، (العاقل يقول : المادة لا تخلق حياة تحس وتأكل ، ففاقد الشيء لا يعطيه ، وأنا لم أخلق نفسي) .. هكذا يبدأ التديّن ، يبدأ التديّن من المنطق .
ولهذا الملاحدة يحاولون أن ينقضوا الدين بالمنطق وليس بالعواطف ، لأنه بناء منطقي . ولأنهم لا يستطيعون أن يهدموا المنطق ، فيبدأون بالبحث عن خطأ في معلومة ذكرها الدين ، ولو كانت جانبية ، مثل خلق الإنسان من طين ، ونظرية التطور التي تحاول نقض الدين من خلالها ، من أجل أن يشككوا بالدين ويفتحوا الباب للمتضايقين من وضع التدين في مجتمعهم ، وايضاً لفئة أخرى تحب الإنفلات والشهوات المادية ، لكي يلحدوا بلا يقين أيضاً ، والداعية الملحد يعلم أن ليس كل الناس سيستجيبون له ، بسبب أنه لا يملك الدحض الكامل للمنطق الديني ..
ويكتفي بمن ينضم إليه من اصحاب الضغوط النفسية وطلاب المتعة المنفلتة . كل خطاب ملحد هو مقال تشكيكي وليس مقالاً علميا داحضا ، وهو يعلم بذلك .
لو كانوا يملكون الأدلة العقلية الكاملة لما اتعبوا انفسهم ونوّعوا في اساليبهم ، لكان يكفي إحالة أي مؤمن إلى كتاب واحد يدحض كل الإيمان علمياً . ذلك الكتاب لم ولن يملكوه ، ويبقى الموضوع إختيارياً ، فالنفوس الخيرة يريحها وجود إله حكيم يكافئ الطيبين ويأخذ حق المظلومين ويحمي الفضائل . والنفوس السيئة تريد أن لا يوجد قيّم على الكون كي يظلموا كيف شاءوا وينتهكوا الأخلاق كما يشتهون ، بدون حساب وجزاء ، على مبدأ ( إذا غاب القط إلعب يا فأر) . والملحد يستغرب من المؤمن الذي يصرّ على الإلتزام بالدين وبالنظام الأخلاقي ..
ويتساءل : اليس لهذا الإنسان شهوات مثلي ؟ لماذا لا يحب الإستمتاع بالطول والعرض ؟ ويحب أن يقيّد نفسه ؟ ناسياً أن متعة هذا الإنسان معنوية وأخلاقية أكثر من كونها شهوانية ، وهذا هو الإختلاف الوحيد بين البشر . وبموجبه لن تلتقي الفئتان ابداً ، لأن الإنسان روح وجسد ، منهم من يؤثر الروح ومنهم من يؤثر الجسد .