أحمد دعدوش
تعريفات
المعرفة: مصطلح يدل على إدراك صور الأشياء أو صفاتها أو إدراك المعاني المجردة (مثل الصدق والحرية) سواء كان لها وجود موضوعي أو في الذهن فقط.
العلم: حسب تعريف أهل المنطق هو إدراك الشيء أو المعنى على ما هو عليه في الواقع، أي أنه المعرفة الصحيحة التي تتطابق فيه الصورة الذهنية للشيء مع واقع هذا الشيء. أما “العلم” بالاصطلاح الشائع اليوم فهو ترجمة غير دقيقة لكلمة science التي تتعلق بنتائج العلم التجريبي فقط.
الخبرة Experience: هي تراكم المعارف التي يكتسبها الإنسان في حياته عبر نشاطه الذاتي وتفاعله مع عناصر البيئة المحيطة به، فهي مجموع المعارف العملية لكل فرد على حدة، وتعد لدى المدرسة البراغماتية المصدر الأساسي للمعرفة الإنسانية.
اليقين: هو الجزم بأن معرفة الشخص لأمر ما هي مطابقة للواقع قطعا (أي علم) مع وجود الدليل القاطع على ذلك. واليقين يورث الطمأنينة في القلب لأنه لا يحتمل وجود النقيض، وهو ما طلبه إبراهيم عليه السلام عندما قال {رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260].
الاعتقاد: هو الجزم بأن المعرفة مطابقة للواقع قطعا ولكن دون تقديم دليل قاطع، وهذا هو “الإيمان”. وفي حال كون الاعتقاد خاطئا أصلا فهو “اعتقاد فاسد”، ولكنه قد يكون صحيحا بالرغم من عدم تقديم الدليل.
الظن الراجح: هو الذي يكون أقل وثوقية من اليقين، فتتراوح نسبة الوثوق فيه ما بين 99% و51%.
الشك: هو الذي تتساوى فيها الاحتمالات تساوياً تاماً، فلا يكون لبعضها رجحان على بعض، وتكون نسبة الوثوق فيه 50%.
الظن المرجوح: هو الظن الوهمي، ويسمى “وهماً”، وهو ما كانت نسبة الوثوق فيه أقل من 50%، وإذا وصلت النسبة إلى الصفر فهو باطل بيقين.
هل المعرفة ممكنة؟
قبل بحثنا عن المعرفة وأدواتها، يجدر بنا التعرف على آراء الفلاسفة في إمكانية الوصول إلى المعرفة أولا، حيث اختلفت العقول كعادتها في الإجابة عن هذا السؤال إلى درجة تقديم أطروحات في غاية الغرابة.
ربما كان السفسطائيون في اليونان هم أول من شكك في إمكانية تحصيل المعرفة، وكانوا على ثلاثة آراء، هي:
1- اللاأدرية: هم الذين يشكّون في إمكانية معرفة وجود الأشياء وخواصها، فهم يعتبرون أن التوصل إلى اليقين أمر مستحيل ويقدحون في كون الحواس والعقل مصادر موثوقة للمعرفة، وهكذا يمتنعون عن الجزم بأي شيء.
2- العِنادية: هم الذين يقولون إن أي قضية بديهية أو نظرية لا بد أن يكون هناك ما يعارضها، فيجزمون بأنه لا توجد حقائق في الكون.
3- العِندية: هم الذين أنكروا حقائق الأشياء، وزعموا أنه لا توجد حقيقة موضوعية، فما يراه أي شخص موجوداً فهو عنده موجود، ولا يصبح موجودا عند غيره حتى يراه كذلك، فالوجود والعدم والحق والباطل والمعايير كلها نسبية تتعلق بكل شخص على حدة، وهو ما يلخصه بروتاغوراس بقوله “الإنسان هو معيار كل شيء”.
بيرون
يعد الفيلسوف بيرون من أشهر الشكاك في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، فقد رحل مع جيش الإسكندر الكبير إلى الهند، وتلقى الفلسفة هناك على يد طائفة من الهندوس تسمى “الفلاسفة العراة”، الذين ما زال لهم وجود حتى اليوم في الهند وهم لا يرتدون أي ملابس تستر عوراتهم، ويُعتقد أنه أخذ عنهم بعض آرائهم عن التشكك ثم نقلها إلى اليونان.
رأى بيرون أن جميع الأديان والأساطير من حوله غير مقنعة، فقرر بذلك أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها وأنه ينبغي على الفيلسوف أن يبحث عن الطمأنينة لا الحقيقة، وكي لا يبقى الإنسان بلا عقيدة نصح أتباعه بأن يقبلوا الأساطير السائدة في بلادهم وزمانهم دون اكتراث لمدى صحتها.
انتهى الأمر بفلسفة نيرون إلى السلبية، حيث قرر أن أفضل ما يفعله الإنسان هو أن يقبل الحياة كما هي دون أن يحاول إصلاح العالم، وحتى دون أن يبذل جهدا في تجنب الأخطار ومعالجة الأمراض.
ومع أن النزعة الشكية انتشرت في اليونان وكادت أن تخرب العقول إلا أن الفيلسوف سقراط تمكن من الرد عليهم وتسخيف منهجهم، ثم تصدى لهم من بعده أفلاطون وأرسطو، فأنقذوا بلادهم من السقوط في العدمية، إذ يمكننا أن نتخيل مصير أي مجتمع ينتشر فيه هذا النوع من الشك الذي ينفي اليقين ويجعل المعرفة أمرا مستحيلا، بل ويترك معيار الحكم على الأخلاق والمعارف إلى الفرد ذاته بنسبية مطلقة.
السفسطائية “sophism”
هي حركة فكرية انتشرت في اليونان، وتحديدا في مدينة أثينا، خلال النصف الأخير من القرن الخامس قبل الميلاد، واشتهرت بنقل اهتمامات الفلاسفة من التأمل في القوانين الطبيعية والكونية إلى شؤون الإنسان الأخلاقية والسياسية، حيث كان الإنسان موضع اهتمام الأدباء وليس الفلاسفة، وتزامن ذلك مع قيام حروب دامية بين اليونان والفرس وبين أثينا وإسبرطة، وتزعزع الحكم الديمقراطي الأثيني، وتسلط الأرستقراطيين على الحكم مما جعل الأخلاق والسياسة وحقوق الناس هي القضايا المصيرية التي تستحق اهتمام الفلاسفة.
هنا ظهر فلاسفة الجماعة السفسطائية، وعلى رأسها “بروتاغوراس” و”جورجياس”، الذين سخِروا من الاهتمام بالقضايا الميتافيزيقية (الدينية والأسطورية) وركزوا اهتمامهم على السياسة والفصاحة والنجاح الدنيوي، وأصبح معيار الحق والعدل لديهم مرتبط بمدى قدرة الإنسان على المناظرة والجدل والمواهب الخطابية في إقناع الجماهير.
ميشيل دي مونتين
في القرن السادس عشر، أعاد الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين إحياء مذهب الشك، وكان له أثر كبير في إدخال الشك في فكر الحداثة، حيث تأثر به بعض المفكرين الذين انتهى بهم الحال إلى العدمية، ثم طوّر الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم (توفي عام 1777م) فكرة الشك وقال إن المعرفة ليست مؤكدة بل مبنية على تصور الإنسان وإدراكه للأشياء.
استبعد هيوم مفهوم المعرفة الفطرية والمبادئ العقلية (البديهيات) وزعم أنها مكتسبة من العادة والتجربة وليست فطرية، كما أنكر الرابطة الضرورية بين السبب والمسبب (السببية) وحولها إلى رابطة ظاهرية ناتجة عن الألفة والعادة، فيقول مثلا إننا نعتقد بأن قطعة الفحم تشتعل عندما تُلقى في النار لأننا اعتدنا على رؤية ذلك كلما جربناه، ولكن ما الذي يضمن لنا أن التجربة ستنجح في المرة التالية؟
ومن الواضح أن نفي السببية يعني السقوط في نسبية مطلقة واستحالة الوصول إلى معرفة حقيقية أو يقينية، ما دفع بعدد من كبار الفلاسفة للرد على هيوم، وعلى رأسهم الألماني إيمانويل كانط (توفي عام 1804م) الذي يُعتبر اليوم بمثابة المنقذ للعقل الغربي من السقوط في الشك العدمي.
وفي مناقشة طويلة ومعقدة، أقام كانط حجته على أن شكية هيوم لن تؤدي إلى الشك في قيام عالم موضوعي بل إلى زعزعة اعتقادنا بضرورة السببية فقط، فينبغي أن ننطلق من مسلّمة بوجود تعاقب موضوعي بين الحوادث مستقلا عن إدراكاتنا الحسية، ثم نسأل: كيف نميز بين التعاقب في أفكارنا والتعاقب في الحوادث الموضوعية؟
الرد على الشك الفلسفي
وللرد على الشكاك والريبيين، نقتبس بإيجاز من كتاب الدكتور راجح الكردي “نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة” النقاط التالية:
1- ركز الشكاك طعنهم في الحواس كمصدر وحيد للمعرفة وأنها أساس البديهيات، وقد رد عليهم أفلاطون بأن أخطاء الحواس لا يصح الإستناد إليها في إنكار العلم لأنه يمكن تصحيحها، سواء باستخدام حاسة أخرى أو بالتجربة مع العقل والبرهان. كما أنه من الممكن جدا تصحيح أخطاء الحواس والتمييز بين حواس كل شخص على حدة بمنهج عقلي سليم تمحص فيه الحقيقة، فما تقدمه الحواس المختلفة من نتائج قد تكون مختلفة ولكنها ليست متناقضة، بينما يزعم الشكاك أنها متناقضة.
2- اختلاف الآراء جائز ولكن اتفاق الناس على أمور أساسية من البديهيات والمسلمات المعقولة والمبادىء ليس مستحيلا، مثل الاتفاق على الفضائل الأخلاقية والحقائق الرياضية.
3- هناك قضايا تتضح صحتها في العقل بمجرد تصورها بدون برهان، وهي قضايا بديهية أولية ومطلقة، فمن ذا الذي لا يصدق أن الكل أكبر من الجزء؟ ومن الذي يطلب دليلا عليه؟
أما الشك المطلق الذي ينفي إمكانية التعرف على الحقيقة نهائيا، فيردّ عليه الدكتور الكردي بما يلي:
1- إذا أراد الشاك إثبات مذهبه والبرهنة على صحة قوله فهذا يتطلب منه الاعتراف بأنه يستطيع أن يعلم شيئا علما يقينيا، وهذا يناقض دعواه بامتناع اليقين.
2- الشاك إما أن يعلم وجوب الشك في كل شيء وهذا يعني أنه يعلم علما يقينيا بأنه ينبغي أن يشك في كل شيء، ويعلم من ثم علما يقينيا بأنه لا ينبغي الشك في كل شيء، وإما أن يعلم علما يقينياً أن مذهبه راجح فقط، فلديه مرجح يأخذ به. وإما أن يعترف بأنه لا يعلم علما يقينيا ولا راجحا وحينئذ فهو لا يضع الشك كمذهب ويقر بالعجز.
3- الشك نفسه يتضمن ثلاث بديهيات يأبى العقل الشك فيها، وهي: وجود الذات المفكرة (ذات الشخص الشاك نفسه فهو يعلم يقينا أنه موجود ويفكر)، وعدم جواز التناقض (لأنه يعلم ما الشك وما العلم وما الجهل وما اليقين وما الإنسان… إلخ، فهو يقر أن اليقين غير الشك وأنه من غير المستطاع أن يجمع بين الإثبات والنفي معا)، وكفاية العقل لمعرفة الحقيقة (فهو يعول على عقله في طرح مذهبه).
لودفيغ فتغنشتاين
يقول الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين إن الشك يستلزم مرجعاً، ما يعني أن الشك المطلق لغو، فهو استخدام خاطئ لكلمة الشك التي يستخدمها الشخص العادي عند المقارنة مع اليقين. وعندما كان يتحدث هيوم عن الشك مستخفاً بوجود العالم المادي وبالمعرفة الإنسانية فهو لم ينتبه إلى أنه قد تعلّم الشك نفسه من لغة الإنسان العادي، وكان عليه أن يستخدم لغة أخرى خاصة لا يفهمها إلا هو بناء على مفهومه المطلق للشك.
الشك المنهجي
إذا كان الشك الفلسفي -الذي تحدثنا عنه أعلاه- مذهبا مستقلا يقوم على إنكار المعرفة فإن الشك المنهجي يجعل من الشك مجرد وسيلة للوصول إلى اليقين، ويتطلب ذلك من الباحث أن يجرد عقله عن كل المعلومات والأفكار والمعارف، وينطلق تدريجيا بالتأمل والتفكير نحو اكتساب الحقائق المجردة.
أرسطو
أوصى أرسطو (توفي عام 322ق.م) في وقت مبكر بضرورة الشك المنهجي، وقال إن هناك علاقة ضرورية بين الشك والمعرفة الصحيحة، لأن المعرفة التي تعقب الشك أقرب إلى الصواب.
كان أبو حامد الغزالي (حجة الإسلام المتوفى عام 1111م) أيضا من رواد هذا الشك، ففي كتاب “المنقذ من الضلال” تحدث عن تجربته مع الشك عندما بدأ بالشك في الحواس لعدم قدرتها على كشف الكثير من مظاهر الزيغ، ثم أخذ يشك في العقل نفسه إزاء نتيجة خوضه في المناظرات الفكرية العميقة مع شتى التيارات الفكرية السائدة، حتى وصل به الأمر إلى المرض النفسي والجسدي (الاكتئاب)، حيث كان يعاني من صعوبة في الكلام وفقدان الشهية للطعام، واستمر على هذا الحال ستة أشھر، ولم ينته إلا بعد أن قذف الله في صدره نور الحقيقة، فاستعاد عقله الثقة بالبديهيات والحقائق الأولى، ورجع إليه إيمانه بالمحسوسات والمعقولات. وقد دفعته هذه التجربة إلى الميل نحو الكشف الصوفي بعد أن كان من المؤيدين للمنهج العقلاني، لكن الأرجح أن تخلى عن المنهج الصوفي في المرحلة الأخيرة من حياته.
في القرن السابع عشر سار الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت على خطا الغزالي، وقال إنه ينبغي علينا أن نطرح كل ما في داخل عقلنا من معارف، ونشك في جميع طرق العلم وأساليبه، حتى نصل إلى العقل مجردا خالصا. وقد مارس بنفسه هذا النهج في التأمل وطرح الاعتقاد بوجود كل شيء، حتى وصل إلى حقيقة واحدة يجب الإيمان بها وهي أنه يفكر، واستنتج منها المقولة الأولى للمعرفة “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، ثم استنتج من تلك الحقيقة حقيقة وجود الله وبقية الحقائق الأخرى.
طبيعة المعرفة
بعد الانتهاء من نقض الشك الفلسفي المطلق، والاعتقاد بإمكانية المعرفة واليقين، تفرعت مذاهب الفلاسفة في طبيعة معرفة الإنسان للأشياء وكيفية إدراكه لها إلى تيارين رئيسين، ثم حاول البعض إنشاء تيار توفيقي ثالث، ونوجزها بما يلي:
1- الواقعية: هو تيار يشمل مذاهب عديدة، وتعتقد جميعها بوجود عالم خارجي للموضوعات (الأشياء) مستقل عن الذات العارفة (الإنسان)، فمعرفة العقل للأشياء مطابقة للاشياء كما هي في الواقع، وهذا يعني أن المعرفة هي الصورة المنعكسة للعالم الخارجي في العقل.
ومن مذاهب هذا التيار الاعتقاد بصحة إدراك الحواس بشكل تام، وهو ما ثبت خطؤه بالتجربة، فالحواس قد تكون خادعة أحيانا مثل خدعة السراب.
ومن مذاهبه أيضا الواقعية النقدية التي تخفف من غلو الاعتقاد بصحة مدركات الحواس وترى أن المعرفة ليست مطابقة لهذه المدركات بل هي صورة معدلة في العقل، وهذا هو مذهب “الوضعية” الذي يرفع من قيمة العلم التجريبي ويجعل الفكر مجرد انعكاس للوجود المادي.
2- المثالية: أصحاب هذا التيار لا يرون وجودا إلا للفكر وتصوراته، فالمادة والأشياء كلها تابعة لما يفكر به العقل، ولا وجود للشيء إذا لم يدركه العقل، حتى أصبح العالم الموضوعي لدى بعضهم مجرد أفكار وخواطر، وهو تطرف غير منطقي وتنكره التجربة، فهناك أشياء موجودة في الكون ولا يدركها أي عقل، وهناك أشياء كانت موجودة منذ ملايين السنين ولم تُدرك إلا في وقت متأخر، ما دفع بهم إلى القول إن تلك الأشياء كانت موجودة في “عقل إلهي” ثم استقبلها العقل البشري منه.
إيمانويل كانط
3- التيار النقدي: وضع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط مذهبا نقديا للتوفيق بين الواقعية والمثالية، فميز بين الظواهر العقلية السابقة على التجربة وبين الظواهر التي تكتسب بالحواس، وقال إن المعرفة لا تكتسب إلا بالحس والعقل معا، فنحن لا نعرف الأشياء كما هي بل كما تظهر لنا فقط، ومعرفتها تتم عبر نقلها بالحواس إلى الذهن ثم مطابقتها للمقولات والمبادئ العقلية.
منذ بداية القرن التاسع عشر، أصبح مذهب كانط بمثابة المرجع الأساسي للفكر الغربي، حيث أعاد للعقل بعض التوازن باتخاذه موقفا وسطيا والاعتقاد بوجود مبادئ فطرية وضرورية في العقل، لكن مذهبه لم يتمكن من إلغاء النظرة الوضعية لأنه جعل استخدام المبادئ الفطرية في غير المحسوس أمراً مستحيلاً، مما جعل إدراك العقل للحقائق الجزئية بمثابة حقيقة كلية، فقد ميّز كانط بين ما أسماه بالعقل النظري والعقل العملي، وأنكر قدرة العقل النظري (الخالص) على الوصول إلى “معرفة راسخة للحق العلوي”، فالعقل حسب رأيه لا ينتج معرفة ما لم يتصل بالأشياء المادية والتجارب الحسية التي تمدُّه بالمادة والمضمون عبر قوة الفهم، ومع ذلك فقد رأى كانط أنه لا بد من الاعتقاد بوجود إله ويوم آخر لتأسيس فعل أخلاقي.
وهذا يعني أن كانط لم يكن متوازنا ووسطيا بالفعل، بل أعطى المادة قيمة أكبر ولم يعترف بقيمة المبادئ الفطرية العقلية إلا بشكل تابع للمادة، حتى لم يجد مبررا لوجود الإله إلا من حيث الضرورة لتبرير الأخلاق، وهكذا أصبح الدين في العقل الغربي مسألة نفسية ذاتية خارجة عن مفهوم الحقائق، وأصبحت الوقائع تابعة لمصلحة الإنسان بدلاً من اعتماد العقل للبحث عن حقائق الأشياء [انظر مقال البراغماتية].
والمفارقة أن العقل الغربي الوضعي، الذي يعتقد أن المعرفة الدينية تحتاج إلى إيمان غيبي غير عقلاني، لا ينتبه إلى أن معرفته الوضعية المادية ليست أقل غيبية، فهو يجزم بمرجعية المادة وحدها دون برهان مع أنها مجرد خيار واحد من بين خيارات أخرى ممكنة.
ويجدر بالذكر أن المذاهب الحداثية كلها فقدت الكثير من بريقها في القرن العشرين مع ظهور تيارات ما بعد الحداثة وفيزياء الكم، بما فيها المذهب النقدي لكانط، حيث أدرك الكثيرون أن الأسس التي صاغت المعرفة الغربية نشأت داخل حركة تاريخية متأثرة بتسلط الكنيسة السياسي ومحاربتها للعلم، وهناك اعتقاد شائع اليوم بين فلاسفة العلم والعلماء التجريبيين أن المعرفة الكلية مستحيلة، وأن المعرفة العلمية المادية ليست يقينية.
مصادر المعرفة
بعد استعادة الإنسان ثقته بإمكانية التوصل إلى المعرفة، سيجد نفسه أمام عدة تيارات فكرية يؤمن كل منها بأولوية أحد المصادر أو الوسائل المؤدية للمعرفة، فهناك من يرى أن المعرفة لا تتحقق إلا بوسيلة واحدة، وهناك من يؤمن بمصادر أخرى غير أنه يثق بواحدة منها للتوصل إلى اليقين.
وسنتحدث فيما يلي عن خمسة مصادر رئيسة للمعرفة، وهي الإلهام والحدس والكشف، العقل، الحس، الإجماع، والوحي. ويجدر بالذكر أن مدارس الفلسفة الحداثية وما بعد الحداثية والعلماء التجريبيون لا يعترفون بالوحي والكشف، دون أن يمنع ذلك عشرات الملايين في الغرب من التمسك بإيمانهم بالوحي المسيحي-اليهودي وبالكشف على الطريقة الباطنية الغنوصية. وسنستعرض فيما موجزا لهذه المصادر الخمسة.
المصدر الأول: الإلهام والحدس
الإلهام هو ما يلقيه الإله في الروع، وبحسب المتصوفة فهو الإيقاع في القلب من العلم غير القائم على الاستدلال، أما أتباع المذاهب الباطنية الغنوصية الذين يؤمنون بوجود ما يسمى بالعقل الفعال، مثل ابن سينا، فيقولون إن الإلهام هو ما يلقيه العقل الفعال في نفس الإنسان المؤيدة بشدة الصفاء.
وحدوث الإلهام يسمى بالإشراق والكشف والذوق لدى المتصوفة، أما الجزء البشري الذي يحدث فيه هذا الإشراق فيسمونه بالبصيرة، وهو يرى حقائق الأشياء وبواطنها كما يرى البصر ظواهر الأشياء المادية.
أما الحدس فهو الانتقال السريع للذهن من المبادئ إلى المطالب، ويعرّفه ديكارت بأنه عمل عقلي يدرك به الذهن حقيقة ما بشكل تام وبزمن واحد، أي بدون تدرج في الاستدلال، فهذا النوع من المعرفة يحصل تلقائيا في الذهن بمجرد تصور أمر ما ودون استدلال منطقي، ويضرب أهل المنطق على ذلك مثالا بقولهم إن مجرد رؤية أحدنا لشعاع ضوء يتسلل من ثقب في جدار يدفع الذهن للاعتقاد مباشرة بأن هناك مصدرا للضوء وراءه دون تفكير ولا تأمل.
هنري برغسون
أما الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (توفي عام 1941م) فقد وضع مذهبا فلسفيا جديدا في القرن العشرين على مفهوم الحدس، معتبرا أن الحدس عند الإنسان يشبه الغريزة عند الحيوان، وهو أمر لا يمكن التعبير عنه بالكلمات بل يجب تذوقه ومعايشته واختباره من قبل كل شخص على حدة حتى يكتسب به المعرفة. وبما أنه فيلسوف غربي من أصل يهودي فلم يكن ميالا إلى الإيمان بالإله المجرَّد بالرغم من أفكاره التي تبدو صوفية للوهلة الأولى، بل جعل الحدس معرفة منبثقة من داخل الإنسان وليست مصدرا للمعرفة التي تهبط عليه من الإله.
كان هنري برغسون يرى أن الحياة انطلقت من خزان كبير وانتشرت بين الكواكب، ثم اتخذت أشكالا متنوعة على شكل مادي، ومن الواضح أن هذه الفكرة الميتافيزيقية (الغيبية) لتفسير نشوء الكون والحياة لا يؤيدها أي دليل.
يضع برغسون المادة والحياة في موقعين متقابلين، فالحياة انطلاق وحرية، والمادة سكون وخضوع للقوانين الفيزيائية، وكلما اكتسب الشيء قدرا أكبر من الحياة كان أسمى، وهو ما يفسر سمو الإنسان على بقية الموجودات، وهو يختلف عن التطوريين (أتباع نظرية داروين) في أن لكل كائن حي قدره الخاص من الحياة والمادة منذ البداية، وإذا كان الحيوان يمتلك غريزة للتوصل إلى معرفته الخاصة فإن الإنسان يمتلك عقلا بالمقابل، كما يمتلك أيضا وجدانا أو بصيرة يتوصل بها إلى الحدس الذي هو أسمى أنواع المعرفة.
يضع برغسون أيضا الزمان والمكان في موقعين متقابلين، فالزمان متغير وحر، والمكان جامد ومقيد. والزمان هو الواقع الحقيقي وهو الحياة، وبما أن الكائنات الحية تعيش في حالة صيرورة دائمة بالانتقال من حال إلى آخر فإن علاقتها بالزمان هي “الديمومة”.
والتغير المستمر للأحياء هو حالة من التطور الخلاق، وهذه الحياة المبدعة هي الإله نفسه برأيه، فهي التي توجد الأشياء وتتابع تتطورها، وهي نفسها في حالة تطور. أما المعرفة الحقيقية لهذا الواقع الحي المتطور فهي الحدس، لأن العقل لا يستطيع أن يدرك الحياة بخصوصيتها، وعلى كل حي أن يندمج مع الحياة الباطنة ليتوصل إلى هذه المعرفة اليقينية المطلقة.
ويرى بعض المفكرين أن برغسون لم يأت بجديد، وأنه أعاد صياغة الباطنية اليهودية (القبالاه) في صورة جديدة تناسب العصر، وأنه تأثر أيضا بكل من أفلاطون وديكارت ومالبرانش وباسكال [مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا، ج. بنروبي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص 176].
ويبدو أن طغيان الاتجاه المادي في القرن التاسع عشر على الفكر الغربي كان له أكبر الأثر في جنوح برغسون نحو الحدس، ليضع فلسفة معاصرة تعيد الاعتبار للروح، إلا أنه تطرف أيضا في اتجاهه الروحي كتطرف الوضعيين في المادية، فألغى الواقع العملي وقلل من شأن المعرفة العقلية المجردة، كما أن فلسفته لا تعدو قدر الفلسفات الغربية الأخرى في تناولها للقضايا الميتافيزيقية (الغيبية)، فالحدس ليس سوى جزء من الإنسان ومحدود بدائرتي المكان والزمان كمحدودية الإنسان نفسه، ولن يستطيع تجاوزهما حتى في خياله.
من جهة أخرى، يرى الباطنيون أن الحدس هو قبول الإلهام الذي يلقيه العقل الفعال في النفس، ويرى المتصوفة أن الحدس (الكشف) لا يتم إلا بعد رياضة روحية ومجاهدة نفس بطرق مدروسة وممنهجة، وهو ما اقتبسوه كما يبدو من الديانات الباطنية كالهندوسية والبوذية، أما عند الفلاسفة العقليين فالحدس والإلهام مصطلحان لشيء واحد، وهو حسب رأيهم المعرفة المباشرة دون استدلال وتجربة.
ويؤمن الباطنيون والمتصوفة بأن البصيرة لا تعمل عملها باكتساف المعرفة (سواء من الإله أو العقل الفعال أو الحقيقة الكونية) إلا بعد الاعتقاد بأن الجانب المادي من الإنسان هو عائق للروح والبصيرة، كما يعتقدون أن الحواس والعقل لا تتوصل إلا إلى حد معين من المعرفة لا يمكنها تجاوزه، وأن الحقائق لا تُكتسب إلا بالحدس والإلهام بعد القضاء على المادية. وقد يختلف الباطني مع المتصوف في الطريقة لكن الهدف واحد.
هل يكفي الحدس للمعرفة؟
سنناقش في مقال “الصوفية” مبدأ الإلهام كمصدر رئيس للمعرفة في مجال العقائد والشرائع لدى المتصوفة المسلمين، ونكتفي هنا بتوضيح ما يراه ابن تيمية من أن الإلهام مصدر معتبر، وأن إنكار كونه طريقا من طرق المعرفة هو خطأ يماثل خطأ الذين جعلوا طريقا شرعيا على الإطلاق، فيقول إن مذهب السنة الوسطي هو أن يكون الإلهام في الأحكام الشرعية محصورا بما لم تأت فيه أدلة شرعية نقلية أو عقلية، فيكون الإلهام هنا من باب الترجيح والفهم المنضبطين بالقواعد المتفق عليها [فتاوى ابن تيمية 10/473]، وهذا الفهم هو ما تؤيده حوادث الإلهام التي وقعت للصحابة والتابعين، وتدخل فيه الكرامات التي لا تخالف النص.
أما أهم الانتقادات الموجهة للحدس والإلهام كمصدر للمعرفة فنوجزها في النقاط التالية:
1- البصيرة لدى الإشراقيين ليست سوى إحدى ملَكات الإنسان، فهي محدودة القدرة والمدى ولا يمكن بأي حال أن تحصر العلوم بها.
2- حتى في حال عدم اعتماد البصيرة مصدرا وحيدا، والاكتفاء بالقول إنها المصدر الرئيس للمعرفة، فليس هناك أي ضمان لسلامة البصيرة من الزيغ والضلال، فالمعرفة المستفادة من الكشف تخص صاحبها فقط ولا يمكنه شرحها ولا نقلها للآخرين فضلا عن إثباته صحتها لهم.
3- يعترف كبار الإشراقيين بأن إلهاماتهم جاءت متاثرة بثقافتهم العامة، فكان فلاسفة الإشراق في اليونان ومصر يرون في مكاشفاتهم ما يؤيد أساطيرهم الوثنية، وهو ما حدث أيضا لفلاسفة الإشراق المسلمين (مثل الفارابي وابن سينا) الذين كانوا يشاهدون ما يسمى بالعقول العشرة التي اقتبسوها من نظرية الفيض اليونانية [انظر مقال الباطنية]، بينما يرى المتصوفة المسلمون ما يوافق عقيدتهم أثناء استغراقهم في الذكر، فلو كانت البصيرة مجردة عن هوى النفس وتأثيرات الثقافة كان ينبغي ألا ترى إلا الحقيقة المجردة التي يشترك فيها كل البشر.
4- ليس هناك أي ضمان عقلي أو نقلي أو حتى كشفي يثبت لنا أن ما يستقر في نفس الإنسان من مكاشفات هو من مصدر موثوق، سواء كان إلهًا أو حقيقة كونية أو الزمان الحيوي (لدى برغسون) أو حتى خيال الإنسان وأوهامه، فما الذي يمنع أن تكون الجهة التي تتصل بالعقل الباطن للإنسان هي شيطان خبيث؟
وفي الإسلام نصوص صريحة تحذر من اللبس الذي قد يحدث لدى البعض في الخلط بين الإلهام الرباني ووساوس الشياطين وأوهام العقل الباطن، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم “الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة” [صحيح البخاري: 8/72، صحيح مسلم 4/1773]، وسيأتي تفصيل هذا النقد في ظل المفهوم الإسلامي ضمن مقال “الصوفية“.
ديفيد آيك بين أنصاره
5- بدأت تظهر في العقود الأخيرة ادعاءات كثيرة من قبل شخصيات باطنية غربية تزعم أنها تتصل بالتخاطر مع كائنات فضائية، وأقيمت بناء على هذه المزاعم أديان ومذاهب وتيارات فكرية يتبعها الملايين من الناس، ومن أهم المنظّرين لهذه الفكرة البريطاني ديفيد آيك الذي زعم في كتابه “السر الأكبر” وجود كائنات فضائية من الزواحف العاقلة تعيش تحت قشرة الأرض وأنها تسيطر على البشر بطرق عدة، وقال إن الكثير من تفاصيل هبوط الكائنات إلى الأرض قد تلقاه بالإشراق الباطني الذي يتلقاه منها مباشرة، ودون أن يقدم أي دليل على صحة وجود هذا الإشراق الذي لم يختبره أحد سواه، ودون أن يثبت لنفسه -فضلا عن غيره- أن تلك الإشراقات التي يتلقاها صحيحة وصادقة فعلا وليست من قِبل شياطين يعبثون به.
المصدر الثاني: العقل
يصنف العقل لدى الفلاسفة القدماء إلى صنفين: الأول غريزي، وهو الملَكة التي يعلم بها الإنسان الضروريات، فهو غريزة تمتلك علوما أولية أو مبادئ ثابتة. أما الثاني فهو مُكتسب، وهو الذي يفهم به الإنسان ويفكر.
ويتفق الفلاسفة الحداثيون مع هذا التصنيف، فيقول الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند إن العقل ينقسم إلى عقل منشئ وعقل مُنشأ، فالأول قوة فطرية تجريدية ثابتة، أما الثاني فيتكون على يد الأول بعد إعداد طويل، وبتراكم الحقائق المكتسبة والمقولات التي كرسها الاستعمال والقيم المقبولة من قبل المجتمع. [المعجم الفلسفي: 2/87].
إسبينوزا
وبحسب اعتبار بعض الفلاسفة لأولوية العقل، ظهر المذهب العقلي الذي وُجد داخل الكثير من الأديان، ففي المسيحية واليهودية يؤمن العقليون -مثل سبينوزا وشتراوس- بأن العقل مقياس لحقائق الوحي، في مقابل أتباع مذهب خوارق الطبيعة الذين يرون أن حقائق الوحي لا يمكن عرضها على العقل لأنها ليست في متناوله. وفي الإسلام نجد أيضا أن المعتزلة والفلاسفة يصرون على بناء عقيدة قائمة على العقل ورفض ما يرونه مناقضا له مما يرد في الوحي من نصوص، بينما يقول أهل الحديث وعلماء الكلام إن النقل أولى من العقل عند التعارض، كما يؤكد من تخصص منهم في العقائد أنه ليس هناك تعارض أصلا، وهذا ما قرره ابن تيمية في كتابه المشهور “درء تعارض العقل والنقل”.
أما أتباع المذهب العقلي من العلمانيين فلا يلتفتون إلى الوحي، ويجعلون المفاضلة بين العقل والحس والحدس فقط، بحيث يكون العقل هو الأولى باليقين، أو يكون هو المصدر الوحيد للمعرفة.
وعند دراسة أقوال ومناقشات هذه المذاهب، نرى أن مفهوم العقليين للعقل ليس خاصا بالعقل الغريزي بل يتعلق بالعقل المكتسب، فهو عقل تشكل في ظل التأثيرات الثقافية لكل عصر، حيث نرى أن العقليين داخل الأديان اليهودية والمسيحية والإسلامية متأثرين بالمنطق اليوناني وفلسفته العقلية، بينما يتشكل عقل المعاصرين بما أحدثته الثورة العلمية من اكتشافات.
الأوليات العقلية
تنقسم الأوليات إلى قسمين، الأول هو التصورات: وهي الإدراكات البسيطة مثل اللون والحرارة، والمركبة مثل تصور جبل من ذهب. والثاني هو التصديقات: وهي الإدركات التي تنطوي على حكم، أي تتضمن نسبة بين طرفين، مثل قولنا إن النار محرقة.
ويؤمن بعض أتباع المذهب العقلي بأن الأصول الأولى للمعرفة تعود كلها إلى التصورات، بينما يؤمن آخرون من العقليين بأنها تعود للتصديقات، حيث يرى الفريق الآخر أن التصورات قد تكون مجرد خواطر ووساوس وليست مبادئ أولية.
ويقول الفلاسفة إن العقل مفطور على أربعة مبادئ أولية، تنبثق منها المبادئ الأخرى، وهي:
1- مبدأ الهوية: الشيء لا يكون غيره، وبلغة المنطق يقال “ما هو هو، وما ليس هو ليس هو”.
2- مبدأ عدم التناقض: الشيء الواحد لا يمكن أن يكون وألا يكون في وقت واحد.
3- مبدأ نفي الثالث (الوسط المرفوع): أي شيء هو إما (أ) أو ليس (أ) ولا يمكن أن يكون لا هذا ولا ذاك، فمثلا إما أن يكون العدد زوجيا أو فرديا ولا يمكن أن يكون إلا أحدهما.
4- مبدأ العلية: لا يمكن أن يحدث شيء دون علة محددة، سواء كانت علة واحدة كافية للتفسير أو بالاشتراك مع علل أخرى.
تتصف المبادئ الأولية بصفتين رئيستين هما:
1- الفطرية: فالعقل البشري يولد وهي مفطور عليها، وقد تغيب عنه بفعل التربية أو الغفلة أو لقلة الذكاء، لكن تذكير العقل بها يساعد على استحضارها والتيقن بصحتها، وهذا يستلزم أيضا أن تكون بدهية فهي بارزة في العقل دون مقدمات وبراهين، ويصفها بعض الفلاسفة أيضا بأنها قبلية وأولية لأنها لا تحتاج إلى تجربة تؤكدها.
2- العمومية: حيث يرى العقليون أن تلك المبادئ معروفة لدى كل العقول، فكان ديكارت يقول إن العقل أحسن الأشياء توزعا بين الناس بالتساوي، حتى جعل معيار الحقيقة هو وضوحها في الذهن، وهو ما قاله أيضا بعض علماء الكلام المسلمين من الأشاعرة والمعتزلة، لكن آخرين يرون أن الناس يتفاوتون في العقول، فيقول الغزالي “أما الأصل وهو الغريزة فالتفاوت فيه لا سبيل إلى جحده” [إحياء علوم الدين 1/88]، ويرى ابن تيمية أيضا أن المبادئ الفطرية قد تضمر في العقل بسبب تفاوت الناس في قوة الذهن مثل تفاوتهم في قوة البدن.
ويمكن القول إن هذا التفاوت لا يعني أن المبادئ نفسها نسبية في دلالتها على الحقيقة بل من حيث صلة الناس بها، وذلك نظرا لتفاوت قدراتهم العقلية وغفلة بعضهم، فلا يمكن لعقل سليم أن ينكر مثلا أن النقيضين لا يجتمعان.
هل يكفي العقل وحده؟
اختلفت آراء العقليين بحسب الثقافة السائدة على مر العصور، فعندما سادت ثقافة الباطنية في الهند وفارس وبعض المناطق اليونانية كان الكهنة يزعمون عدم الحاجة للوحي، على اعتبار أن العقل الذي يتلقى الفيض من الإله (الحقيقة الكونية بحسب مفهومهم) في غنى عن تلقي المعرفة نفسها بالوحي المباشر على يد الأنبياء، وتأثر بهذا المفهوم الفلاسفة العقليون الذين نشأوا في البيئة نفسها، كما لحق بهم بعض فلاسفة الإسلام مثل الطبيب الرازي المتوفى عام 313هـ.
ومن الأمثلة المشهورة لهذا المنهج في البيئة الإسلامية، رواية “حي بن يقظان” للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، التي تحكي قصة طفل ينشأ وحيدا في جزيرة نائية، حيث يبدأ بالتأمل في ذاته وفي الكون والحقائق الوجودية دون تربية ولا توجيه، فيصل إلى المعرفة بعقله دون حاجة للوحي.
وعندما بدأت ترجمة الفلسفة اليونانية العقلية وشبيهتها الإسلامية إلى اللغات الأوروبية ظهرت أفكار مماثلة لدى الأوروبيين، فاعتبر سبينوزا أن العقل أوثق من الوحي لأن دلائل صدقه متضمنة فيه بينما يحتاج الوحي إلى المعجزة لإثبات صدقه، كما سار لايبنتز على نفس النهج، وحاول الاثنان في القرن السابع عشر إقامة دين جديد تحت مسمى دين الطبيعة، بحيث يُحتكم فيه إلى العقل دون الوحي، ثم دعم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط هذا التوجه في القرن التاسع عشر.
ديكارت
ويبدو أن الفلاسفة العقليين في عصر النهضة الأوروبية كانوا يسعون إلى رد الاعتبار للعقل ضمن صراعهم مع كهنوت الكاثوليكية من جانب، وضمن صراعهم أيضا مع فلاسفة المذهب الحسي، ولكن ديكارت نفسه (وهو رائد هذا المذهب) اعترف بأن هناك حقائق ميتافزيقية (غيبية) لا يمكن للعقل الخوض فيها، ثم جاء أتباعه من بعده ليحصروا المعرفة في العقل وحده.
لم يكن هناك فصل آنذاك بين الفلسفة وعلوم الاجتماع والنفس والطب، ما سمح للعقليين بمنح العقل تلك المنزلة العالية، لكن الكثير من الدراسات الاجتماعية التي ظهرت في القرن العشرين أكدت أن الفطرة لا يمكن أن تبقى مصونة عن الزيف بعد وقوعها تحت تأثير الوراثة والبيئة [محمد تقي الأميني، عصر الإلحاد، ص74]، فمن شبه المستحيل التوصل إلى نتائج عقلية مجردة في العلوم الضرورية التي تقوم على الأوليات العقلية (الفطرة)، وهو ما يؤكده الفليسوف الألماني كولبه بقوله “إنه من الصعب أن نضع حدا فاصلا بين الأحكام الأولية للعقل وبين الأحكام المكتسبة من التجربة”.
وصعوبة تجرد العقل البشري تنبع من طبيعة الإنسان، حيث يستحيل عليه التحول إلى آلة صماء كأجهزة الحاسوب المبرمجة على التسلسل المنطقي، فالتداخل بين العقل والنفس هو جوهر الإنسان منذ بدء خلقه.
كما أن وضع منهج معرفي متكامل للعقل من خلال العقل نفسه أمر متعذر، فلا يمكن للآلة أن تدرك ذاتها والمؤثرات المحيطة بها على وجه التمام، وأن تحدد بدقة حدود قدراتها ومنتهاها، ثم تضع منهجا يضبط عملها ويصحح مسارها فيه دون حاجة لمرشد خارجي. لذا اضطر ديكارت منذ بداية وضعه لمنهج المعرفة العقلي أن يسلّم بوجود إله خالق ومرشد كخطوة ضرورية وتلقائية بعد تسليمه بالحقيقة الأولى، وهي أن يعقل ذاته، وكأن العقل لا يستطيع أن يخطو خطوته الثانية دون مصدر علوي يستند عليه.
نتيجة لذلك، تعاني جميع المناهج العقلية من عيوب ونواقص لا تزال تظهر عمليا بعد إخضاعها للتطبيق، ومن أبرزها منطق أرسطو الذي تعرض للنقد على يد عدد من كبار العلماء المسلمين قبل أن يُنقد لاحقا في أوروبا، ومن أبرزهم ابن تيمية الذي أبرز في كتابه “الرد على المنطقيين” عجز المنطق عن التوصل إلى حقائق يقينية في الميتافيزيقيا، فالاستدلال بالقياس ينطلق من المقدمة الكلية إلى النتائج، مع أن الكلي لا يدل إلا على القدر المشترك من الأشياء الكلية، بينما تكون قضايا العقيدة معيّنة ولا يمكن للقياس الكلي أن يدل عليها.
ومن عيوب المنطق أيضا “قياس الغائب على الشاهد”، فمن خلال البحث في العلة المشتركة بينهما يمكن فقط للعقل أن يستنتج الحقائق، وهذا يؤدي إلى قياس الإله على الإنسان، وهو افتراض غير مبرر أصلا. يقول ابن تيمية إنه لا يجوز أن يدخل الإله مع غيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها، وعندما فعل علماء الكلام والفلاسفة ذلك تناقضت أدلتهم ولم تبلغ اليقين.
وهذا القصور في المنهج، وفي الأداة نفسها (العقل)، تظهر آثاره في كل الفلسفات العقلية التي بحثت في الإلهيات والميافيزيقيا بلا استثناء، بل نجده واضحا أيضا في المدارس العقلية التي نشأت داخل الأديان، سواء لدى علماء الكلام (المتكلمين) والفلاسفة المسلمين أو لدى فلاسفة اللاهوت المسيحي في القرون الوسطى، حتى تراجع بعضهم عن التزام المنهج العقلي كله في الإلهيات بعد أن بلغ غايته في البحث والتبحر، مثل الرازي والآمدي والشهرستاني والغزالي.
ويُنقل عن أفضل الدين الخونجي (توفي عام 646هـ) قوله “أموت وما عرفت شيئا”، كما ينقل عن معاصره شمس الدين الخسروشاهي أنه قال عند موته “والله ما أدري ما أعتقد”، وقد سبقهما بذلك سقراط عندما قال “لا أعرف سوى شيء واحد، وهو أني لا أعرف شيئا” [العقيدة الطحاوية، ص 227-228].
ومع ذلك، فلا نقول إن العقل أداة عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة، بل ينبغي التفريق بين وجود حقائق العقيدة وبين كنهها وتفاصيلها وما هي عليه، فالعقل قادر على إثبات وجود الحقائق الكبرى والبرهنة عليها، لكن التخبط يبدأ عندما يخوض في محاولة تعقل الكيفيات التي تكون عليها الحقائق الغيبية لأنها غائبة عنه وعن الحواس، ولا يستطيع النفاذ إلى عوالمها المفارقة للزمان والمكان مهما اشتط به الخيال، لذا قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن أثبت للناس وجود الخالق وصفاته “تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا” [صححه الألباني]، وهذا ليس حَجرا على العقل بل حفظ له من الخوض في ما لا يقدر عليه.
أبيقور
المصدر الثالث: الحس والتجربة
يفرق علماء المنطق بين القضايا الحسية التي يجزم العقل بوجودها لمجرد تصورها، مثل وجود الشمس عند الإحساس بحرارتها أو رؤية ضيائها، وبين القضايا التجريبية التي يدخل فيها الحس ولكنها تتطلب المزيد من الملاحظة والتجربة.
والمذهب الحسي في الفلسفة هو الذي يقول أتباعه إن المعرفة محصورة بما تتلقاه الحواس الخمس، فكل التصورات العقلية مقتبسة من المعلومات التي تقدمها له الحواس، أما المنهج التجريبي فيقول أصحابه إن التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة من خلال توظيف المدرَكات الحسية في التجربة، ومن المعلوم أن التجربة تتطلب تدخل الباحث في الموضوع لاختباره ولا تكتفي بالملاحظة.
ابتدأ التيار الحسي بالظهور في اليونان على يد أبيقور خلال القرن الثالث قبل الميلاد، ووافقه على ذلك الرواقيون الذين حصروا المعرفة بالحس مع أنهم لم ينفوا فاعلية العقل تماما.
وفي أوروبا، تأثر الفيلسوف الإنجليزي روجر بيكون (توفي عام 1349م) بأفكار الحسن بن الهيثم وابن رشد بعد ترجمتها، وحاول نقل المنهج العلمي التجريبي عن ابن الهيثم (توفي عام 1040م) رغم رفض الكنيسة له، ثم تبنى هذا الاتجاه من بعده فرانسيس بيكون.
فرنسيس بيكون
ويعد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (توفي عام 1704م) من رواد المذهب الحسي، حيث انطلق في وضع نظريته للمعرفة دون الالتفات إلى ما أقره ديكارت ومعظم الفلاسفة من ثنائية النفس والجسم، وأنكر وجود الفطرة والأوليات العقلية بناء على ملاحظته لتنوع الخبرات البشرية، فقال إن ما هو فطري لدى البعض ليس كذلك لدى البعض الآخر، وهكذا أخذ يبحث في انعكاس المعرفة على الذهن من إحساسات وإدراكات وأفكار وكلمات، وانتهى إلى القول إن العقل البشري يولد كصفحة بيضاء خالية من أي علامات موروثة أو فطرية، ثم تكتب عليها الخبرة التجريبية ما تتلقاه من المعرفة من خلال الحواس.
ظهر ديفيد هيوم بعد وفاة لوك ليأخذ المذهب الحسي إلى غايته القصوى، فأنكر فاعلية العقل تماما حتى وصل إلى الشك كما ذكرنا في موضع سابق من هذا المقال، فبعد أن كان لوك يعترف بأن للعقل دور في المضاهاة والجمع والتجريد للمعرفة التي يتلقاها عن الحس لم يقر هيوم بأي دور للعقل بل جعه مجرد موطن للانفعالات الحسية.
ديفيد هيوم
وفي أواخر القرن الثامن عشر، وضع أوغست كونت الفلسفة الوضعية على أساس الثقة المطلقة بالعلم التجريبي، فقد ساد في تلك المرحلة الاعتقاد بأن الإنسان بلغ ذروة التقدم مع تكاثر الاختراعات والاكتشافات بأسرع وتيرة عرفها التاريخ، ما دفع بأنصار هذا المذهب إلى الاعتقاد بأن العلم التجريبي هو المصدر المعرفي الوحيد الذي سيجيب على كل الأسئلة.
تصور كونت أن البشرية تطورت طوال تاريخها عبر ثلاث مراحل، الأولى هي المرحلة اللاهوتية التي كان الإنسان يفسر فيها ظواهر الطبيعة بإعادتها إلى موجودات غيبية، سواء كانت إلهاً واحدا أو عدة آلهة، والثانية هي المرحلة الميتافيزيقية التي صار الإنسان يتوهم فيها وجود علل ذاتية داخل الظواهر بدلا من الآلهة، وفي المرحلة الثالثة صار الإنسان يفسر كل شيء بمنطق العلم التجريبي.
وقد رد كثير من الفلاسفة على هذه النظرية بأنها مجردة من البرهان التجريبي أصلا، فهي ليست سوى رواية ميتافيزيقية لتطور المجتمعات البشرية، واستقراء التاريخ يثبت عكسها، فالأوضاع الثلاثة التي تخيل أنها مراحل متعاقبة ما زالت قائمة حتى اليوم، وكانت متعايشة أيضا في مراحل قديمة من التاريخ.
تفسير مبدأ العلية والاستقراء
يقول العقليون إن السببية (العلية) مبدأ فطري كلي، فهو موجود في العقل بالفطرة ويمكن تعميمه على كل التجارب والأحداث في الكون بحيث يجزم العقل بأن لكل حادثة سببا ولكل معلول علة، لكن الحسيين انقسموا في تفسير العلة إلى ثلاثة اتجاهات، هي:
1- اتجاه الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل الذي آمن بمبدأ السببية والعلية إلا أنه ردّه إلى الحس والتجربة بدلا من العقل، فرأى أن الإنسان يتعلم من التجربة أن كل حادثة في الطبيعة تسبقها أسباب وعلل، واعتبر هذا الارتباط ضروريا مع أن الضرورة لا ينبغي أن تكون إلا بالعقل، وهو يرفض منح العقل أي فاعلية. وقد وافقته الفلسفة الماركسية المادية في هذا التفسير.
2- الاتجاه الذي أخذ به فلاسفة الوضعية المنطقية يرى أن تعميم الاستقراء لا يعطي حكما يقينيا، فتكرار التجربة والحوادث لا يتجاوز دوره تقديم احتمال بالوصول إلى النتيجة المطلوبة، مثل احتراق الخشب كلما تعرض للنار.
3- رأي هيوم الذي ينفي أي قيمة موضوعية للاستقراء، والذي يعتبر أن الربط بين العلة والمعلول مجرد انطباع نفسي ناشئ عن العادة دون أي ضرورة، فالسببية بين النار واحتراق الخشب ليست ضرورية ولا حتمية بل موجودة داخل نفوسنا بسبب تكرار العادة. وقد سبقه الغزالي إلى القول بهذا الرأي، كما أخذ به علماء النفس في المدرسة السلوكية الحديثة.
هل تكفي الحواس والتجربة مصدرا للمعرفة؟
لا يمكن لنا أن نسلّم للتجريبيين بحصر مصدر تصورات العقل كلها بالحس والتجربة، فقد يتصور الذهن تصورات مفارقة للمادة تماما مثل الوحدة والكثرة، لكن هذا لا يعني بالمقابل أنها تصورات عقلية محضة، لأنها ليست من البديهيات، بل هي نتيجة لتفاعل الحس والعقل.
ويظهر خلل الحسية التجريبية أكثر في مجال الميتافيزيقيا والأخلاق، فقد رد أصحاب هذا المذهب كل الأخلاق إلى التجربة وحاولوا دراستها سلوكيا كما يدرس العالم المخبري أي ظاهرة طبيعية، إلا أنهم لم يتمكنوا من تقديم تفسير مقنع، فالشكاك هيوم اعتبر أن الأحكام الأخلاقية لا تعبر عن حقيقة موضوعية بل تنشأ عن مشاعر الاستحسان والاستياء، ودون أن يقدم تفسيرا مقنعا لأصل هذه المشاعر. وعندما حاول الماركسيون ربط الأخلاق بالاقتصاد والصراع الطبقي داسوا على قيم العدالة تماما وحوّلوا الإنسان إلى جزء مسحوق في آلة المجتمع الجارفة.
جون لوك
ويبدو أن جون لوك قد وضع كل أتباع المذهب العقلي في خانة واحدة واعتقد أنهم يرون المبادئ العقلية صورة عن عالم المُثل الخيالي الذي تخيله أفلاطون، حيث كان الأخير يفترض أن الإنسان يحتاج فقط إلى تذكر الحقائق بعد ولادته لأنها موجودة كلها في عقله، لكن معظم العقليين كانوا يعترفون بدور الإدراكات الحسية بعد أن تعود إلى الأصول الثابتة في العقل، لتتحول إلى معرفة علمية.
من جهة ثانية، ينتقد التجريبيون الخطأ الذي يقع فيه بعض العقليين عندما يخلطون بين العقل الغريزي والعقل المكتسب (سبق توضيحهما)، وهو الخطأ الذي بدأ في اليونان وانتقل إلى الكثير من المتكلمين والفلاسفة المسلمين عندما اعتبر كل منهم أن مذهبه هو العقيدة الصحيحة التي يتوافق فيها العقل والنقل. وإذا كان هؤلاء قد ظنوا أن العقل كله غريزي فقد رد عليهم التجريبيون باتخاذ الموقف المعاكس والقول بأن العقل كله مكتسب، ومن ثم فهو يتأثر بالبيئة والمشاعر والخواطر النفسية، ولا يستحق أن يكون مصدرا للمعرفة. والواقع أن كلا الرأيين تطرف في موقفه.
ومن نتائج هذا التطرف المادي المتصاعد حتى بداية القرن العشرين، ساد في الغرب الاعتقاد بأن الإنسان نفسه ليس سوى مادة متطورة، فبعد أن وضعت الحسية التجريبية في عصر النهضة الإنسان بمركز الكون ليحتل موقع الإله نفسه، انزلق الإنسان المادي تدريجيا تحت ضغط الاكتشاف المتزايد لأسرار الكون المادي، لتصبح المادة هي الأساس والمركز، ويتحول الإنسان إلى موضوع تافه وهامشي، حتى ظهرت مدارس ما بعد الحداثة التي أنكرت كل مصادر المعرفة العقلية والحسية وأعلنت نهاية المدارس الفلسفية الكبرى والعودة إلى شك السفسطة، وهي نتيجة طبيعية لتفكيك الإنسان وتشييئه (تحويله إلى شيء مادي).
واللافت أن الحسيين والتجريبيين في عصر النهضة كانوا يؤمنون بالميتافيزيقا وبوجود الله، بل كان بعضهم من رجال الدين مثل جورج باركلي (توفي عام 1753)، إلا أن حصرهم للمعرفة بالحواس فتح الباب أمام الوضعيين والماركسيين إلى حصر الوجود كله بالمادة، وإذا كان موقف الحسيين الأوائل مجرد افتراض فلسفي ولم يرق إلى درجة العلم؛ فلن يجد الوضعيون والماركسيون والماديون دليلا علميا على إنكار وجود الغيبيات [انظر مقال “وجود الله“].
أينشتاين
هل يجيب العلم التجريبي على كل الأسئلة؟
شهدت بداية القرن العشرين ثورات علمية هائلة، ومن أبرزها نظرية النسبية لألبرت أينشتاين، ثم مجموعة نظريات شكلت مفهوما جديدا للفيزياء تحت مسمى الكمّ (كوانتم)، فضلا عن التطور في الطب وعلوم الأحياء، وكان لهذه الفتوحات وآثارها العملية التكنولوجية دور كبير في ظهور العالِم التجريبي في صورة خارقة وكأنه الوحيد القادر على الإجابة على الأسئلة الوجودية بدلا من الفلاسفة، فضلا عن “رجال الدين”، لذا طالب العالم الفرنسي المعروف لويس باستور السلطات برعاية المؤسسات العلمية بصفتها “مؤسسات مقدسة” وقال إنها ستكون “معابد المستقبل”، كما وافقه على ذلك الفيلسوف الفرنسي ليكومت دي نوي عندما قال “إن ثقة الناس بعلماء الطبيعة اليوم هي ثقتهم بالكهنة في العهد القديم” [دي نوي، مصير الإنسان، 1967، ص275].
يقول الفيزيائي البريطاني المعاصر ستيفن هوكنغ في كتابه التصميم العظيم “الفلسفة ماتت… وعلماء الطبيعة باتوا هم حملة شعلة الاكتشاف في رحلتنا نحو المعرفة” [ص 13]، ويقول الفيزيائي الأميركي لورنس كراوس “إن الفلسفة حقل يذكرني للأسف بالنكتة القديمة لوودي آلن (ممثل كوميدي): أولئك الذين لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا يدرّسون، والذين لا يستطيعون أن يدرّسوا يدرّسون الرياضة”.
وبالرغم من إنكار الكثير من العلماء -الذين يحظون بالاحتفاء الإعلامي- أهمية الفلسفة وتنديدهم بها، فإن نظرياتهم الكبرى تقوم أساسا على مواقف أيديولوجية مفلسفة. فعلى سبيل المثال، يقول الفلكي البريطاني كارل ساغان في افتتاحية برنامجه “الكون” Cosmos -الذي حقق أعلى نسب المشاهدات بدعم من شبكة بي.بي.سي- إنه “لا يوجد ولم يوجد ولن يوجد شيء سوى الكون (أي المادة فقط)”، وهذا تعبير فلسفي وليس تصريحا علميا، فليس في وسع العلم التجريبي أصلا أن يجري تجربة مادية تنفي وجود عوالم أو كائنات غير مادية طالما أنها لا تخضع لأدواته، ومقولة ساغان هي تعبير صريح عن جوهر الفلسفة الطبيعية، والتي يعرّفها ستيرلنغ لامبرت بأنها موقف فلسفي ومنهج تجريبي يعتبر أن الوجود محكوم بعوامل عشوائية داخل نظام شامل في الطبيعة.
يقول عالم الوراثة في جامعة هارفارد ريتشارد ليونتن إن “استعدادنا لقبول المزاعم العلمية التي تخالف الحس السليم هو مفتاح فهم الصراع الحقيقي بين العلم وما هو ميتافيزيقي (غيبي)، فنحن نميل إلى صف العلم رغم ما يشوب بعض أفكاره من عبث… والمجتمع العلمي يتسامح مع القصص التي تُقبل دون برهان لأننا ملتزمون مسبقا بالفلسفة المادية، فمناهج العلم لا تجبرنا على قبول تفسير مادي للعالم بل التزامنا البديهي بالمادية هو الذي يجبرنا على إنتاج تفسيرات مادية مهما كانت مناقضة للحدس” [العلم ووجود الله، ص 62].، وليس هناك ما هو أوضح من هذا الاعتراف بتعصب العلماء الماديين للفلسفة المادية على أساس أيديولوجي بحت.
هوكنغ
ومن نتائج تبني هذه الفلسفة -المنكرة للتفلسف أصلا- أن التصورات الفلسفية للكثير من العلماء التجريبيين لم تعد تجد أي حرج في خرق المنطق، وهو ما يؤكده الاقتباس السابق عن ليونتن نفسه، كما يقول هوكنغ “إن الكثير من المفاهيم العلمية الحديثة تخالف المنطق السليم المبني على التجربة اليومية، أما طبيعة الكون فتكشف عن نفسها من خلال عجائب التكنولوجيا” [التصميم العظيم، ص 15]، كما يكرر الفيزيائي ميشيو كاكو في صفحات عدة من كتابه “فيزياء المستحيل” أن نظرية الكم تغير قوانين العقل الأساسية، وإلى درجة إسقاط مفهوم المستحيل من الوجود.
ويأتي الإشكال أولا من خرق نظرية النسبية لما هو مألوف ومعتاد، فقد كان يُعتقد أن الزمن ثابت كوني لا يتأثر بأي عامل من العوامل، لكن المعادلات الرياضية أثبتت أن سرعة الضوء هي الثابتة وأن الزمن نسبي، فعندما يتحرك جسم ما بسرعة كبيرة جدا فإن الزمن الخاص به يتمدد (يتباطأ)، فمثلا تقيس الساعة الموضوعة على صاروخ خارق السرعة مدة زمنية أقصر مما تقيسه ساعة أخرى على الأرض مثلا، وهذا أمر لم يكن ليخطر على بال أحد، وقد أثبتته التجارب العملية بالفعل.
ونتيجة لذلك بدأ كتّاب الخيال العلمي بالتجرؤ على خرق المنطق وطرح رؤى خيالية، فظهرت روايات السفر عبر الزمن كنوع من الخيال ثم لحق بهم الفيزيائيون النظريون (فئة من العلماء تدرس الآثار الفلسفية للعلم) على اعتبار أن الرياضيات لا تنكر تلك التخيلات، وظهرت معضلات فلسفية في العديد من الكتب العلمية “الرصينة” لتتساءل ما الذي سيحدث إذا عاد شخص بالزمن إلى الوراء وقتل والده مثلا، فهذا يعني أنه لن يُخلق أصلا، ثم ظهرت نظريات عدة لمناقشة هذه المشكلة دون أن ينتبه كثير من العلماء إلى التناقض العقلي في هذه العودة إلى الماضي.
والحقيقة أن نظرية النسبية العامة ليست معنية بما هو أبعد من دراسة تباطؤ مرور الزمن على اﻟﺠسم اﻟﻤتحرك بالنسبة ﻟﺠسم آخر ثابت، وهي لا تتعلق بالبنية اﻟﻤادية ﻟلجسم اﻟﻤتحرك كما هو اﻟﺤال ﻓﻲ نظرية الكم، ومن ثمّ فإن “منحنى الزمكان” ليس أكثر من مفهوم مثاﻟﻲ تخيلي، وتعبير “انحنائه” لا يعني أكثر من انحناء مسار حركة الجسم مع تمدد الزمن اﻟﻤقاس عليه بالنسبة إﻟﻰ ﻤراقب خارجه، وحتى ﻓﻲ حال انغلاق منحنى الزمكان فهذا لا يعني أن يدخل اﻟﺠسم ﻓﻲ مرحلة زمنية سابقة، بل غاية الأمر أن يعود للتحرك ﻓﻲ خط سيره من النقطة التي انغلق عندها اﻟﻤسار مع الاستمرار ﻓﻲ تباطؤ تغير حركته إﻟﻰ درجة الانعدام والدخول ﻓﻲ حالة “التفردية اﻟﻤركزية” التي لا يمكن اختبارها ﺗﺠريبياً، فضلاً عن ثبوت استحالة تحقق هذا الانغلاق فيزيائياً.
وعندما ظهرت فيزياء الكم التي تدرس أبسط عناصر الوجود على المستوى دون الذري (مكونات الذرة) كان فهمها أكثر صعوبة، لكن غموضها المشابه لغموض النسبية دفع بعض العلماء للمضي في وضع المزيد من السيناريوهات الخيالية. فيقول جون ويلر “إذا لم تكن حائرا إزاء مكانيكا الكم فإنك لم تفهمها”، ويؤيده روجر بينروس بقوله إن “ميكانيكا الكم لا معنى لها إطلاقا”، كما يقول ريتشارد فينمان “يمكن القول بثقة إنه لا أحد على الإطلاق يمكنه أن يفهم فيزياء الكم”.
ومن الأمثلة التي يطرحها الفيزيائيون لنقض المنطق العقلي أن تجارب فيزياء الكم أثبتت إمكانية وجود الإلكترون في مكانين في وقت واحد، وهذا يخالف بوضوح أحد أهم مبادئ العقل الأولية. وأن الإلكترونات والفوتونات وغيرها من المكونات تبدي سلوكا مغايرا في التجارب، فتبدو أحيانا في صورة جسيمات بينما تظهر على أنها موجات في أحيان أخرى.
والجواب أنه لم يثبت أصلا أن الإلكترون يوجد فعلا في مكانين معا كما هو حال الأجسام التي نعرفها، بل تظهر التجارب أن هذا الكائن الذي لا يُمكن أن يُرى بأي مجهر حتى الآن (لأنه أصغر من الموجة الضوئية) والذي يبدي سلوكا متقلبا بين الجسيمات والموجات يترك أثرا في مكانين معا، كما أن فيزياء الكم تنص وفقا لنظرية عدم التأكد على أنه لا يمكن فصل عملية المشاهدة عن سلوك المُشاهَد، فالإلكترون يتأثر برصدنا له أثناء خضوعه للتجربة ولا يقدم لنا سلوكا طبيعيا، فلسنا متأكدين إذن من حقيقة نقضه للمنطق عندما نرصد سلوكه العجيب.
ومن المغالطات التي نتجت عن سوء فهم فيزياء الكم وجود تعارض بين السببية وميكانيكا الكم، والحقيقة أن السببية موجودة أيضا في العالم دون الذري، لكن الجسيمات الذرية لا تقدم ردود الفعل المتوقعة دائما بل يكون سلوكها قائما ضمن احتمالات الدوال الموجية، حيث يقول الفيزيائي الألماني ماكس بورن في كتابه “ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﻁﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﻌﻠﺔ ﻭﺍﻟﻤﺼﺎﺩﻓﺔ” إن فيزياء الكم لا تنقض السببية بل الحتمية فقط، أي أن كل الموجودات –حتى دون الذرية- تخضع للسببية والاطراد .
ويبدو أن تزامن الفتوحات العلمية وظهور نتائجها التكنولوجية مع سقوط النظريات الفلسفية الكبرى في عالم ما بعد الحداثة قد شجع العلماء على تجاوز لعب دور الفلاسفة إلى النكوص للسفسطة والشكوكية العدمية، حتى دعا كثير منهم إلى اعتبار صورة العالم عند الإنسان العادي صورة وهمية، مثل قول العالم البريطاني آرثر إدينغتون إن تصور الرجل العادي للمنضدة يختلف عن تصور العالِم لها، فالأول يراها جسما له لون وملمس وشكل وصلابة وثبات مكاني وديمومة زمنية، بينما يراها العالِم مجموعة ذرات بينها خلاء وتصدر عنها شحنات كهربية خاطفة. لكن الخلط بين اللغة التي تستخدم استخداما سليمًا للتعبير عن الأشياء التي نتعامل معها وبين اللغة المستخدمة لغرض المناقشة الفلسفية والعلمية لن يؤدي سوى إلى الفوضى.
ومن الأمثلة المشهورة على القصور الفلسفي لدى بعض كبار الفيزيائيين، نذكر النظرية التي طرحها النمساوي إرفين شرودنغر لقطة نضعها (فرضيا) في صندوق مغلق، ومعها عداد غايغر (لحساب الإشعاع) وكمية من مادة مشعة، بحيث يكون احتمال تحلل ذرة واحدة خلال ساعة ممكنا وغير مؤكد، فإذا تحللت الذرة سيطرق عداد غايغر مطرقة تكسر زجاجة تحتوي غازا خانقا فيقتل القطة، ويقول شرودنغر إننا لن نعرف وضع القطة حتى نفتح الصندوق بعد ساعة، وهي قبل ذلك من وجهة نظر ميكانيكا الكم تعتبر في حالة مركبة من الحياة والموت، أي أنها تجمع حالتين متناقضتين. واعتبر علماء الفيزياء النظرية هذا المثال بمثابة “دليل” على اجتماع النقيضين، وهذه سفسطة.
رسم توضيحي لتجربة قطة شرودنغر (Dhatfield)
يقول أليستر راي في كتابه “فيزياء الكوانتم: حقيقة أم خيال؟” إن القارئ عندما يقرأ أن فيزياء الكوانتم تقول بأن القطة التي نصف حية ونصف ميتة، فسيستنتج أن هذه سخافة تافهة، وسيلقي بالكتاب وينسى كل هذا الجنون. والحقيقة أن استعارة المصطلحات والمفاهيم من عالم ما دون الذرة لضرب الأمثلة على العالم المحسوس هو أصل المشكلة، فالفيزيائي بالكاد يستطيع أن يرصد آثار سلوك الجسيمات غير المرئية فتبدو له في لحظة ما وكأنها تجمع نقيضين، ولكن هذا لا يعني أنها كذلك في الحقيقة [فيزياء الكوانتم: حقيقة أم خيال؟، مركز براهين، ص 126].
ويسعى بعض فلاسفة العلم المعاصرين اليوم إلى تبني اتجاه يدعى بالأداتية، يطالبون من خلاله بإعادة النظر ﻓﻲ الكثير من التصورات العلمية الناشئة عن نقل المفاهيم الرياضية اﻟﻤجردة إلى الحقائق المتشخصة على أرض الواقع، مثل تخيل “نسيج الزمكان” على هيئة حقيقية يمكن لها أن تنحني وتتداخل.
وبالنتيجة، إذا حاولنا الإجابة على سؤال هذه الفقرة “هل يجيب العلم على كل الأسئلة؟” فسنوجز الجواب بنقطتين:
النقطة الأولى: الملاحظة العلمية ليست مستقلة، حيث أثبت العالم فرنسي بيير دويم أن التجربة الفيزيائية ليست مجرد ملاحظة، بل هي أيضا تأويل للظاهرة التي تدرسها، ويقول مؤلف “نظريات العلم” آلان شالمرز إن ما يلاحظه العالِم يتوقف في جانب كبير منه على تجربته الماضية ومعارفه [شالمرز، نظريات العلم، دار توبقال، ص 36]. كما أن وضع الفرضيات لتأويل الظواهر الفيزيائية يخضع بدوره في الكثير من الأحيان لخلفية الباحث وتوقعاته. فعلى سبيل المثال، كان الفيزيائي ماكس بورن يقر بأن ما أنجزه في حقل اكتشافات المكونات الذرية كان مجرد تعميمات فلسفية لا فيزيائية، وما زالت الفرضيات المعتمدة اليوم لفهم عالم الذرة غير مثبتة تجريبيا إلا أنها مقبولة كإحدى التأويلات الممكنة، والأمر ذاته ينطبق على نظرية التطور الدارويني.
والاستقراء مبدأ فطري، وتبريره فطري، لكن تحديد لحظة الانتقال من الخاص إلى العام قابل للخطأ، والكثير من العلماء المعاصرين يرفضون ذلك بسبب سوء فهمهم لمعنى الفطرة، فغالبية كتب فلسفة العلوم لا تناقش التبرير الفطري أصلا، فهو أمر مستبعد من العلم المادي التجريبي، وهو خلل في مفهوم “المعقولية” أو التأسيس لها. [الإجماع الإنساني، ص 139].
ويقول جون هوت “عند نقطة معينة في سلسلة التحقق من كل فرضية، لا بد من قفزة إيمانية تُعد مكونا أساسيا في العملية، وعنصر الثقة هو عنصر أساسي في كل بحث بشري عن الحقيقة، وإن وجدت نفسك تشك فيما قلتُه الآن فهذا لأنك في هذه اللحظة بالذات تثق في عقلك بما يكفي للتعبير عن شكك في كلامي، فلا يمكنك التخلص من الثقة في عقلك حتى عندما تساورك الشكوك، وأنت لا تطرح أسئلتك النقدية إلا لأنك تؤمن بأن الحق يستحق البحث، فالإيمان بهذا المعنى، وليس بمعنى الخيال الجامح، يكمن في جذور كل دين حقيقي، وكذلك في جذور العلم… وهذا يؤكد أن محاولات الإلحاد الجديد لتخليص الوعي البشري من الإيمان هي مجرد محاولة عبثية” [العلم ووجود الله، ص 107].
وبما أن العلم التجريبي قائم على الملاحظة والتجريب والاستقراء ثم تعميم النتائج على الظواهر الكونية، فهو إذن قائم على الاحتمال، حيث لا يمكن للعالِم أن يجزم بأن الشمس ستشرق غدا كما كانت تشرق كل يوم، ويقول بول ديفيز إن التقدم العلمي يتطلب “فعلا إيمانيا” للاعتقاد بوجود انتظام في الطبيعة، كما يقول الفيلسوف الإنجليزي روجر تريغ “من أجل أن يتولى العلم مهمة تقديم التفسيرات لجميع الأشياء فنحن بحاجة إلى ما يبرر لنا الوثوق بالعلم” [Rationality and Science, p. 9].
“مع أن التزوير مخالف لأهداف العلم كنشاط ثقافي، إلا أنه متوطن بنيويًا في العلم المؤسس لمجتمعاتنا المعاصرة”.
أستاذة علم الاجتماع دينا فينشتاين.
كما يؤكد مبدأ “عدم اليقين” للفيزيائي فيرنر هايزنبرغ استحالة الحصول على نتائج دقيقة مئة بالمئة عند دراسة خاصيتين معا لشيء واحد من بين جملة خواص كمومية، أي أن معرفتنا للعالم ستبقى منقوصة حتما.
وبالرغم من جنوح خيال ميشيو كاكو في كتابه “فيزياء المستحيل” نحو ما يشبه تأليه العقل البشري، فإنه يعترف بأن “نظرية الكم مبنية على رمال من المصادفة والحظ والاحتمالات، وأنها لا تعطي أجوبة محددة” [العلم ووجود الله، ص276].
يعتبر الكثير من العلماء اليوم أن العلم هو الطريق الوحيد للحق وأنه قادر على تفسير كل شيء، وهذا ليس سوى موقف أيديولوجي مسبق اصطلح الفلاسفة المعاصرون على تسميته بالمذهب العلمي scientism، فليس هناك دليل علمي يثبت أن الوجود مادي بحت وأن التجربة هي المصدر الوحيد لاكتشافه.
يقول الفيلسوف البريطاني برتراند رَسل إن كل ما لا يمكن للعلم اكتشافه لا يمكن للبشرية أن تعرفه، وهذه عبارة متناقضة، فكيف عرف رَسل ذلك طالما أن عبارته ليست مثبتة علميا أصلا؟ ما يعني أنها ليست صحيحة بناءً على موقفه نفسه [العلم ووجود الله، ص106].
النقطة الثانية: حتى إذا اعتبرنا أن الرياضيات هي المصدر العلمي الموثوق للأجوبة على الأسئلة الوجودية، طالما أن الملاحظة الفيزيائية ليست نزيهة بالمطلق، فقد أثبت النمساوي كيرت غودل في عام 1931م أن هناك مقولات صادقة في الرياضيات لا يمكن البرهنة عليها، فعلى سبيل المثال ما زالت حدسية غولدباخ الموضوعة منذ عام 1742م غير مبرهنة، وبات الرياضيون يؤمنون اليوم بأن حلم فيثاغورس بفهم العالم كله عبر الأرقام والحساب مستحيل.
واستنتج الأمريكي المعاصر فريمان دايسون من نظرية “عدم الاكتمال” لغودل أن عالم الفيزياء والفلك غير قابلين للاكتمال أيضا، فمهما ابتعدنا في المستقبل فسيكون هناك دائما أشياء جديدة تحدث ومعلومات ترد وعوالم جديدة تُكتشف. ويلخص الفلكي جون بارو هذه الحقيقة بقوله إن العلم مبني على الرياضيات، ولا يمكن للرياضيات أن تكتشف الحقيقة كلها، فلا يمكن للعلم أن يكتشف الحقائق كلها.
لذلك اقتنع هوكنغ أخيرا باستحالة اكتشاف “نظرية كل شيء” التي تجمع النسبية مع الكم وتلخص كل ظواهر الوجود في معادلة واحدة، فالأمر لا يتعلق بنقص الأدوات وضيق الوقت فقط، بل لأن الملاحِظ (الباحث) سيظل أبدا جزءا من الكون نفسه ومن موضوع البحث، ولن يصبح “إلهاً” منفصلا عن الكون ليكتشفه على حقيقته التامة.
يقول البروفسور بيتر مدوّر في كتابه “نصائح لعالم شاب”: إن أسرع طريقة يسيء بها العالِم إلى سمعته هي أن يصرح بكل جرأة ودون مبرر بأن العلم يعرف أو سيكتشف قريبا الأجوبة على كل الأسئلة، وأن الأسئلة التي لا تقبل الأجوبة العلمية هي أسئلة زائفة وساذجة… لكن محدودية العلم تتضح في عجزه عن الإجابة على الأسئلة البدائية الوجودية، مثل البحث في كيفية بدء الخلق وغاية الوجود ومغزى الحياة. [Advice To A Young Scientist, harper & row, 1979, p. 31].
ويقول في كتابه “حدود العلم”: من المحتمل أن هناك أسئلة يعجز العلم عن تقديم إجابات عنها نظرا لمحدوديته، كما لا يمكن لأي تطور علمي متوقع أن يؤهله لذلك. إنها الأسئلة التي يطرحها الأطفال، والأسئلة النهائية لكارل بوبر، ولدي أيضا أسئلة من قبيل: كيف بدأت الأشياء، لماذا نحن موجودون هنا؟ من أي شيء تم خلقنا؟ ما هي غاية الحياة؟… فليس في وسع العلم أن يجيب على اسئلة تتعلق ببدايات الأشياء ونهاياتها، والذي يجيب عليها هو الميتافيزيقيا والأدب والدين. [The Limits of Science, Oxford, 1984, p. 60].
المصدر الرابع: الإجماع
ربما لا تعتبر الكثير من المراجع الإجماع الإنساني بمثابة مصدر مستقل للمعرفة، إلا أننا ارتأينا تخصيصه كمصدر على أساس بعض الأبحاث الحديثة التي تعطي المجتمع دورا جوهريا في بلورة المعطيات الحسية والنفسية التي يتلقاها الإنسان منذ طفولته لتتحول إلى معرفة.
اهتم المفكر الإسلامي ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميلادي بالمعنى الاجتماعي لتعريف “العادة الإنسانية الصحيحة”، فكان يرى أن تصحيحها يستند إلى انتشارها بين كافة المجتمعات البشرية، وكونها عادة نفسية واجتماعية أصيلة في البشر، فضلا عن تعبيرها عن حاجة ضرورية.
وعندما أعاد هيوم نشر فلسفة الشك السفسطائية في القرن الثامن عشر الميلادي، تصدى له الفيلسوف الأسكتلندي توماس ريد وأكد أن إجماع الأمم من العامة والمتعلمين ينبغي أن يكون له على الأقل سلطان كبير، إلا إذا استطعنا أن نثبت وجود تحيز ما من العموم لإجماع ما، فالأصل في الإجماع أن يكون مبررا بنفسه وأن المشكك هو الذي ينبغي أن يثبت وجود التحيز.
واعتبر ريد أن خصائص المشتركات الإنسانية هي: الإدراك بالحدس، الميل النفسي للتصديق بها في بنية الإنسان، الشعور بالحيرة عند الشك فيها، وأن تكون ضرورية للتعامل مع العالم بنجاح.
كما تصدى كانط لشكية هيوم كما أسلفنا أعلاه، ورأى أن التعاقب الموضوعي ناشئ عن مبدأ عقلي أولي، فأعطى بذلك لما أسماه بالعقل الفعال دورا جوهريا في المعرفة.
وفي بداية القرن العشرين أحيا الفيلسوف البريطاني جورج مور فلسفة ريد وانتصر للفطرة السليمة، كما تصدى لمن يشكك بوجود العالم الخارجي بمناقشات شهيرة، ومن أشهر ردوده عليهم: حين أرفع يدي إلى أعلى وأقول: هذه يد، ثم أرفع يدي الأخرى وأقول: هذه يد أخرى، فبذلك أكون قد برهنت على وجود العالم الخارجي.
جون سيرل (FranksValli)
ثم أصدر الفيلسوف الأمريكي جون سيرل كتاب “العقل واللغة والمجتمع” الذي يعد من أهم الكتب المتخصصة في الانتصار لموقف الإنسان العادي، وقال فيه إن معيار المواقف التلقائية هو الثبات البشري العام على التمسك بها خلال التاريخ الطويل المليء بالدواعي الكاشفة للحقيقة، فطالما أن هذه القضايا لم تُكذب مطلقا فهذه قيمة موضوعية، كما اعتبر أن المواقف التلقائية سابقة على أي رؤية ذوقية فهي تتمتع بالكثير من الموضوعية.
ويعد الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين (توفي عام 1951م) من أهم المفكرين الذين لفتوا النظر إلى أهمية المجتمع في تكوين المعرفة من خلال دراساته في اللغة، وقد أكدت العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية الحديثة نظريته، فكان ينكر إمكان تمييز المعطيات الحسية والحالات النفسية دون ربط مجتمعي لكل حالة بلفظ معين، فالإنسان يتعرف على نفسه وعلى العالم من خلال علاقة إشارية موضوعية، ومن المستحيل عليه أن ينشئ لغة خاصة به من خلال المعطيات الحسية. والمعيار الأصلي هو الجماعة لا الذات، فالجماعة توفر له المعرفة الصحيحة بعلاقات واضحة ورمزية بشكل أفضل بكثير من المعيار الفردي الذي يفهم به الطفل الوليد قبل أن يتعلم اللغة، .
وبحسب فتغنشتاين فنحن نتصور الألم من خلال اللغة، وبدون لغة سنتألم دون وعي بالألم. وبالخلاصة فلا يمكن الحديث عن أي “معقولية للعالم” بدون قواعد معيارية نكتسبها من الجماعة، ولا يمكن لأحد أن ينشئ لغة خاصة به (استبطان) دون استناد إلى معايير عامة يفهمها الناس.
ويقول فيلسوف العلم الأميركي المعاصر إرنست ناغل إن اللغة التي نستخدمها لوصف تجاربنا المباشرة هي اللغة المعتادة للتواصل الاجتماعي، فتطابق المباني اللغوية الأساسية في كافة المجتمعات مع اختلاف التجارب والمناخ والمعتقدات يبرهن على أن هناك بنية إنسانية عامة.
وهذا يعني أن المجتمع هو الذي يحدد شروط معرفتنا، ويوجه حواسنا منذ طفولتنا لنرى العالم كما نراه، والحاجة النفسية العميقة (الفطرية) هي التي تدفع الطفل للمسارعة في اتباع القواعد الإنسانية العامة وتعلم طرق التصنيف الإنساني والإيمان باطراد الحوادث. وقد لخص ناغل شروط تحقق الفطرة في نقطتين: أن تكون شرطا للعبة الجماعة البشرية، وأن تعبر عن حاجة اجتماعية ونفسية.
ويستنتج العالم البريطاني “ألفرد جول آير” أن حواس الإنسان ليست خاصة به بل محكومة بالتجربة الجماعية العامة، ولذلك لا نقول عن شيء إنه قابل للإدراك إلا إذا كان من الممكن وصفه من خلال مجموعة أشخاص على الأقل [The problem of knowledge, p.85].
وبناء على هذه المعطيات الحديثة، يمكن أن نجري بعض التعديلات على نظرية كانط بشأن “العقل الفعال” التي تعرضنا لها سابقا، فقد كان يرى أن المبدأ الكلي الضروري لا يصدر عن حس خالص أو معطيات حسية بل هو من طبيعة العقل الإنساني الفردي، والتجارب الحديثة تثبت أن القاعدة لا يمكن أن تنشأ من عقل واحد ولو كان فعالا، وأن الطفل لا يكتسب اللغة من ذاته بل في إطار اجتماعي تقبله الغريزة بمجرد الاحتكاك بالقواعد.
ومن الخطأ الخلط بين مغالطة الاحتكام إلى الأكثرية [انظر مقال المغالطات المنطقية] وبين استنباط البنية الطبيعية لإدراك البشر من خلال اتفاقهم الفطري رغم اختلاف الظروف والعادات بين المجتمعات.
المصدر الخامس: الوحي
يعرّف ابن فارس في “معجم مقاييس اللغة” الوحي بأنه أصل يدل على إلقاء علم من أحد لغيره، وقيّده البعض بأنه خفي وسريع. ونجد في القرآن الكريم صورا للوحي لا تتقيد بالمعنى الديني، فهو يشمل الإلهام الغريزي للحيوان: {وأوحى ربك إلى النحل} [النحل: 67]، والإلهام الفطري للإنسان: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7]، والإشارة السريعة من شخص لأشخاص آخرين: {فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا} [مريم: 11]، ووسوسة الشياطين: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} [الأنعام: 121].
لكن المقصود بالوحي هنا هو الذي يوحي به الله إلى أنبيائه ورسله: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به} [الأنعام: 19]، وهو الوسيلة التي أبلغ الله بها رسله برسالتهم وطالبهم بتبليغها للناس: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163].
وإذا تجاوز الإنسان مرحلة الشك وآمن بوجود الله، سواء عن طريق العقل أو الكشف، أو بالتحقق من صدق الأنبياء ومعجزاتهم، فمن البدهي أن يعتبر الوحي الإلهي أعلى درجات مصادر المعرفة، وأن يعتبر كل ما يصدر عنه بمثابة العلم اليقيني. وبما أننا ما نزال في بداية طريق البحث عن الحقيقة فسنؤجل الحديث عن ضرورة اللجوء إلى الوحي بعد أن نتحقق من وجود الله أولاً، ثم سنتعرض في مقال “نبوة محمد” وما يليه لتفاصيل هذا المصدر المعرفي.
وما يهمنا بالدرجة الأولى في مصدرية الوحي للمعرفة هو الجانب الميتافيزيقي، فبعد أن ثبت لنا عجز العقل عن الخوض في عوالم الغيب، وعدم امتلاكنا لأي برهان يضمن صدور المكاشفات الحدسية -بشأن الغيبيات- عن مصدر موثوق، واستحالة التوصل إلى العالم الغيبي بالحواس لأنه مفارق للحس أصلا، وعجز التجربة والرياضيات عن الإحاطة بحقائق الكون المادي نفسه فضلا عن العالم الغيبي، فلن يبقى لدينا سوى اللجوء إلى الوحي بعد التحقق من صدق نسبته إلى الله.
تمثال زيوس كبير الآلهة اليونانية
مواقف الفلاسفة من الوحي
إذا اعتبرنا اليونان مهداً للفلسفة، فسنبدأ عرضنا التاريخي من مواقف فلاسفتها تجاه الوحي، وسيأتي ذكر نشأة الأديان والأساطير هناك في مقال الوثنية، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن ما وصلنا من تراث فلاسفة اليونان قد لا يدل في الظاهر على أن الوحي بلغهم في ظل سيادة الأساطير على المشهد، ولذلك لم يصلنا من تراثهم الفلسفي شيء عن البحث في مسألة الوحي، سواء في المرحلة العقلانية الأولى على يد طاليس وأنكسيماندر، أو في مرحلة السفسطة، أو حتى في مرحلة سقراط ومن بعده ممن أعادوا الاعتبار للعقل، وذلك بالرغم من إيمانهم بوجود إله خالق من منطلق الضرورة العقلية. لكن التحقيق يرجح أن الأساطير الإغريقية نفسها لم تكن سوى تحريف لرسالة الوحي، حتى انقلبت الملائكة إلى آلهة تسكن جبل الأوليمب، ومع ذلك فالأثر الباقي في تراث الفلاسفة يبدو خاليا من آثار الوحي لأنه لم يبق لديهم منه شيء.
وقد أدى افتقار الإغريق للوحي إلى تخبط واضح في المسائل الميتافيزيقية، فيقال إن سقراط ناقش مع مجموعة من أتباع فيثاغورس قضية خلود النفس البشرية، حيث حاولوا أن يدافعوا عن نظريتهم في التناسخ انطلاقا من خلفيتهم الباطنية، فاثبت لهم سقراط تهافت النظرية، فاقترحوا القول بخلودها بعد موت الجسد، فناقشهم أيضا في هذا الطرح ولم يتمكنوا من البرهنة عليه، وعندئذ سكت الجميع برهة، وقال أحدهم ويدعى سيمياس إن العلم بحقائق هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا، ومن الجبن اليأس في البحث حتى الوصول إلى آخر حدود العقل، وإذا لم نستوثق من الحق فعلينا أن نكتشف الدليل الأقوى ما دام أنه لا سبيل لنا إلى بلوغ اليقين بالوحي الإلهي [يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص91].
وعندما انتشرت المسيحية في أوروبا، رأى قسم من الفلاسفة أن الفلسفة والدين متغايران ولا يمكن جمعهما، وأن الدين لا يُعتنق إلا بالإيمان الأعمى دون تعقل، بينما رأى غالبية فلاسفة القرون الوسطى أن الوحي والعقل كلاهما من الله فلا يمكن أن يتعارضا، وقالوا إن ما جاء في الأناجيل من غيبيات لا يمكن للعقل أن يدركه بنفسه، فعليه أن يصدّق به كما جاء في تلك الكتب.
وفي القرن الثالث عشر بدأت فلسفة أرسطو العقلانية بالانتشار، واستفاد منها القديس الإيطالي توما ألاكويني في محاولة إثبات ما جاء في الأناجيل بالمنطق، ثم ظهر من الفلاسفة من يقدم العقل على النقل ويرى أنه في حال تعارضهما فلا بد أن يكون العقل هو الأولى، ومن هؤلاء جون سكوت وآلان ديليل. وعندما انطلق عصر النهضة في القرن الرابع عشر كان الفلاسفة قد حسموا أمرهم في الفصل بين الفلسفة واللاهوت، واعتبروا أن “الوحي” مناقض للعقل ولا يدعمه الدليل العلمي.
ويجدر بالذكر هنا أن الوحي الذي كان موضع البحث لم يكن هو إنجيل عيسى عليه السلام، بل مجموعة الأناجيل الأربعة التي أقرها مجمع نيقية في القرن الرابع الميلادي، وقد فقد فلاسفة عصر النهضة الثقة بها عندما شرعوا في نقدها تاريخيا وتبين لهم احتواؤها على الكثير من التناقضات، فضلا عن عدم وجود أي دليل على صحة نسبتها إلى عيسى نفسه [انظر مقال المسيحية]، لذا أقر بعض الفلاسفة في القرن السابع عشر وما بعده -مثل سبينوزا- بأن هناك وحيا نزل بالفعل على النبيين موسى وعيسى عليهما السلام إلا أن الكتاب المقدس المعترف به من قبل الكنيسة ليس سوى نسخة محرفة، بينما قرر فلاسفة نزعة “التنوير” التخلي عن الإيمان بالوحي والاكتفاء بمصدرية العقل أو الحس أو الحدس.
ومن الواضح أن نقد فلاسفة الغرب للوحي صادر عن اعتقادهم بأنه يقتصر فقط على الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، بينما لا يكاد يتعرض أحدهم للقرآن في بحثه، وقد وضعوا الأديان كلها في سلة واحدة من خلال منظورهم للدين من زاوية تراثهم اليهودي-المسيحي فقط، ولم يميزوا بين القرآن وغيره لانطلاقهم في دراسته -إن فعلوا- من أبحاث المستشرقين الذين أقر معظمهم أن القرآن ليس وحيا إلهيا أصلا.
وفيما يتعلق بالإسلام، فسنبحث في مقال مستقل مرجعية الوحي الإسلامي ومصداقية نسبته إلى الله، ونكتفي هنا في سياق العرض التاريخي بالإشارة إلى أن مواقف فلاسفة الإسلام من مصدرية الوحي للمعرفة تنوعت كتنوع المواقف في أوروبا، فكان المعتزلة يحاولون إثبات حقائق الوحي بأدوات المنطق مع تقديم العقل عند “التعارض” مع النقل، بينما كان الأشاعرة يستخدمون الأدوات نفسها لإثبات عدم التعارض، كما وضع ابن رشد كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” لإثبات توافق العقل والنقل من خلال مفهومه الخاص للعقل والذي يقتصر على المنطق الأرسطي، ثم وضع ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميلادي كتاب “درء تعارض العقل والنقل” ليثبت أيضا عدم التعارض ولكن دون قصر العقل على فلسفة أرسطو.
أهم المراجع
برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1967.
يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي.
عبد الرحمن حبنكة الميداني، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دار القلم، دمشق، 1993.
عبد الرحمن الزنيدي، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي: دراسة نقدية في ضوء الإسلام، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992.
علي سامي نشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، 1984.
محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، مكتبة الأنجلو المصرية، 1949.
ميشيو كاكو، فيزياء المستحيل، ترجمة سعد الدين خرفان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، أبريل 2013.
رضا زيدان، الإجماع الإنساني، مركز براهين، 2017.
لؤي صافي، إعمال العقل من النظرة التجزيئية إلى النظرة التكاملية، دار الفكر، دمشق، 1998.
طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2012.
راجح الكردي، نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992.
جون لينوكس، العلم ووجود الله، ترجمة ماريانا كتكوت، الناشر خدمة كريدولوغوس، 2015.
عبد الله العجيري، ميليشيا الإلحاد: مدخل لفهم الإلحاد الجديد، مركز تكوين، 2014.
عبد الرحمن الحاج، مقال “أزمة المعرفة في سياق الحداثة”، موقع إسلام أونلاين، 23 نوفمبر 2002.
إسماعيل عرفة، مقال “خائنو الحقيقة.. كيف يخدع علماء الطبيعة الجماهير؟”، موقع ميدان، 2 سبتمبر 2017.
J. Ayer, The Problem of Knowledge, Penguin, New York, 1956.
Sterling Lamprecht, The Metaphysics of Naturalism, Appleton Century Crofts, New York, 1960.
Roger Trigg, Rationality and Science, Oxford: Blackwell, 1993.
http://www.almasalik.com