هذا الجزء الاول من أهم المذاهب والمدارس في الفلسفة اليونانية، وتتضمن مرحلة ما بعد سقراط، المدرسة الأبيقورية، الرواقية، المدرسة الشكيّة، فضلا عن نظرة موسعة على موقف نيتشه من أبيقور والأخلاق الابيقورية.
المرحلة ما بعد السقراطية(الذبول)
- الإهتمام بالأخلاق
في هذه المرحلة، التي يسميها المِرخون بالهلنستية، انتصر الإسكندر على الفرس وتمكن من ربط الشرق، بما فيه مصر و سورية حتى الهند بالحضارة الإغريقية، فولد مجتمع دولي جديد لعبت فيه اللغة والثقافة الإغريقيتان دورا مهيمنا، غير أنه بعد وفاة الإسكندر انتقلت الهيمنة السياسية والعسكرية إلى يد روما.
وهو ما جعل الثقافة اللاتينية تتوغل عميقا داخا آسيا وتمتد غربا حتى إسبانيا، فأصبحت الثقافة اليونانية ملكا مشتركا بين جميع بلدان البحر الأبيض، فقد امتدت إلى مصر وسورية في الشرق، و روما واسبانيا في الغرب. وهكذ امتزجت الثقافة الإغريقية بالثقافة الشرقية.
حيث أخذت الأولى من روحانية الشرق وعلمه، وأخذت الثانية من فلسفة الإغريق وعلومهم، وهو ما أحدث تغيرات عميقة في المجال الفكري حيث ساد الطابع التأملي للفلسفة اليونانية القديمة.
في هذه المرحلة اتجهت الفلسفة أكثر فأكثر نحو السلام و صفاء الحياة، فلم تعد قيمة الفكر الفلسفي بذاته بل بقدرته على جعل الإنسان يتحرر من قلق الموت والتشاؤم، بهذا أصبحت الأخلاق المشروع الفلسفي الأكثر أهمية في المجتمع الجديد. وفي هذا العصر برزت ثلاث مدارس رئيسية هي الأبيقورية والرواقية والشكية، وسنتناول الأبيقورية نموذجا.
المدرسة الأبيقورية:
أسسها أبيقور (341-270)، اعتبر الأخلاق محور الفلسفة وغايتها، فقد عرف الفلسفة بأنها “الحكمة العملية في توفير السعادة بالأدلة والأفكار”، فالأخلاق تهدف إلى السعادة، والسعادة تقوم في الشعور باللذة.
واللذة خير و كل ما يِؤدي إليها خير أيضا، و الألم شر وكذلك ما يؤدي إليه، ولتحصيل السعادة لا بد أولا من إزالة جميع العوائق التي تعترض طريقها كالخوف من تدخل الآلهة في حياة البشر والجزع من الموت وتهيب الحياة الأخروية.
فهذه المخاوف كلها باطلة، لهذا نجده يوجه فلسفته الأخلاقية ضد الأوهام والخرافات الدينية التي يرى فيها امتهانا للكرامات الإنسانية،والتحرر من هذه المخاوف التي تسترق الروح يفتح الطريق إلى السعادة.
وكان هذا هو هدفه من العلم الطبيعي لهذا نجده يسخر العلوم الأخرى لخدمة الأخلاق، فالعلم الطبيعي مثلا هو مجموعة من التفسيرات القابلة للتغيير، غرضها تخليص البشر من الخوف من الظواهر الجوية والموت، كأن تكون علة الكسوف مثلا هي توسط القمر.
أو توسط جسم غير منظور وقد تكون انطفاء الشمس وقتيا، و أي واحد من هذه التفسيرات يكفي لتبديد الخوف من الكسوف.
وهذا هو بيت القصيد، فيتبين لنا من ذلك كيف أن العلم الطبيعي ليس مطلوبا لذاته بل لعلم الأخلاق، ومن واجبه طرد القلق والخوف من العقل ودليله على ذلك هو إن كان الموت موجودا فإننا آنذاك لا نوجد، وإن كنا موجودين لا يكون الموت موجودا.
فإذا كان الموت هو انعدام الإحساس فإنه لا يؤلم، فالذي يؤلم هو توقع الموت، لذلك لا ينبغي الهروب من الحياة باسم الخوف من الموت.
كل آراء أبيقور تصب في منحى الاهتمام بالإنسان فحتى نظرته للعالم تهدف لخدمة السعادة الإنسانية.
فقد رأى العالم مكونا من ذرات، وأيضا من خلاء تتحرك فيه هذه الذرات بدون علة تحكم هذه الحركة، وجعل من الثقل علة الحركة، وعلة الثقل تجعل حركة الذرات مستقيمة تتجه من أعلى إلى أسفل.
غير أنها حين تسقط تنحرف كي تصطدم فتلتقي فيما بينها لتتشكل منها المركبات المادية. و يعتبر هذا الإنحراف نوعا من الإرادة في حركة الذرات، وليست إرادة الإنسان إلا هذا الإنحراف عن العلة.
إذن الإرادة والحرية الإنسانية هي انحراف حاصل في هذه الذرات باعتبار أن جسم الإنسان مركب من ذرات ونفسه أيضا عبارة عن جسم يتألف من هذه الذرات التي تتناثر بعد الموت.
ليكون الإنسان بذلك كائنا ضمن الطبيعة ويتميز في الوقت نفسه بالحرية و الإرادة، وهي حرية لا تخرج من الضرورة.
اللذة محور الأخلاق الأبيقورية
و محور الأخلاق الأبيقورية هو اللذة، ويرى أبيقور أن الحكيم هو من يفرق بين ثلاث أنواع من اللذات: – لذات طبيعية وضرورية للحياة(الطعام والشراب)، لذات طبيعية ولكن غير ضرورية للحياة(الأغذية المترفة)، لذات غير طبيعية وغير ضرورية(المال والكرامات الإجتماعية).
و هو يصغي إلى الطائفة الأولى لأنها أبسط النزعات و ألزمها، تقوم بذاتها وتقوم النزعات الأخرى عليها كما أن إرضاءها سهل ميسور، وهكذا يعيش حياة راضية مطمئنة لا تشوبها حسرة أو هم وهي سعادة الفيلسوف الحقيقية.
بهذا فطلب اللذة عنده هو طلب المنفعة، يربط اللذة بالألم، على اعتبار أنه ينبغي على الإنسان أن يتحمل الألم إذا كانت نتيجته لذة أكبر.
وعليه أن يتجنب الألم الذي لا يؤدي إلى مثل هذه اللذة، وعليه تجنب اللذة التي تؤدي إلى الألم لذلك لا ينبغي الإسراف في طلبها.
الرواقية:
قامت الفلسفة الرواقية على حب الحكمة و مزاولتها، و الحكمة في نظرها هي العلم الذي يهتم بالأشياء الإلهية و الإنسانية أي جميع الكائنات و الموجودات.
و يمتاز المذهب الرواقي بثلاث مسائل هي: أولا أن الفلسفة الحقيقية هي الفلسفة العملية، و ثانيا أن الفلسفة العملية هي التي تقوم على العمل المطابق للعقل.
وثالثا أن العمل المطابق للعقل هو الذي يجري بمقتضى قوانين الطبيعة. فالفلسفة في نظر الرواقيين هي أن يفعل الإنسان وفقا لقوانين الطبيعة.
والحكيم أو الإنسان الكامل هو الذي يعلم أن كل شيء في الطبيعة إنما يقع وفق العقل الكلي أو الإله أو القدر الإلهي، و يقبل بمفاعيل هذا القدر طوعا، ليكون القدر كما يراه الرواقيون هو العقل الكلي الذي بموجبه وقعت الأحداث الماضية.
و تقع الأحداث الحاضرة و ستقع الأحداث المستقبلية، و هو العلة الوحيدة التي هي في الوقت نفسه الرابطة بين العلل و قانون سرمدي كامل و من هنا كان يستحيل على الموجودات العاقلة أن تؤثر في سيره أو تغيره أو تمسه بأي شكل من الأشكال.
و اعتقد الرواقيون أيضا أن كل البشر يشكلون جزءا من العقل الكوني وأن كل فرد هو عالم مصغر يشكل انعكاسا للعالم الأكبر الذي هو الكون مما يسمح بإقامة قانون يصلح لكل الناس هو القانون الطبيعي المبني على العقل الكوني للإنسان و للكون الذي لا يتغير بحسب الزمان والمكان.
ويرى جورج طرابيشي أن هذا العقل الكوني هو الله عند الرواقيين هو محدث الأشياء وخالق العالم.
وفهم الرواقيون صلة هذا الإله بالإنسان وصلته بالعالم فهما جديدا، فهو لا يعود ذلك المتوحد الغريب عن العالم الذي يجذبه غليه بسحر جماله.
و إنما هو صانع العالم بالذات، و في عقله صمم خطته، لهذا لا تتجلى فضيلة الحكيم إلا بقبول الإنسان ذلك الصنيع الإلهي و المشاركة في هذا الصنيع بما يِؤتى للإنسان فهمه.
الشكاك:
يمكن تعريف الشكية بأنها فن التصدي بكل الطرق الممكنة للظواهر و المفاهيم المحتمل الوصول بشأنها إلى أقوال متعادلة، وتدعوا إلى تعليق الحكم وتحقيق الطمأنينة .
لهذا نجد بيرون في فلسفته الشكية ينطلق من الربط بين تعليق الحكم والطمأنينة. تفسير هذا هو أن الإلحاح على معرفة الأشياء و تقييمها هو السبب في اضطراب وقلق النفس، وكلما علقنا الحكم و قمنا بنوع من اللامبالاة أدى بنا ذلك إلى الإطمئنان.
و تذهب المدرسة الشكية إلى أن التفكير في الطبيعة أو الإعتقاد الدغمائي إما في خيراتها أو مساوئها يجعل الإنسان مظطربا وقلقا، لأن الآراء تتضارب حول طبيعة الأشياء بشكل تتساوى فيه الأقوال سلبا و إيجابا و هذا سبب تعليقها للحكم.
و يقر الشكاكون أنهم يحسون بالظواهر لكنهم يمتنعون عن الحكم عليها لأن الحقيقة لا يمكن معرفتها ويمكن لكل الأضداد أن تنطبق على حقيقة الشيء الواحد، فالأشياء ليست جميلة في ذاتها ولا قبيحة في ذاتها ولا عادلة في ذاتها و لا ظالمة في ذاتها وهذا ما جعلهم ينتهون إلى تعليق الحكم وهو ما يسمى بالإبوخي.
على غرار القورينائية والأبيقورية يسعى الشكاك وراء اللذة لهذا فهم لا ينفعلون بشيء و لا يشغلون أنفسهم بأي موضوع كان، فنجدهم يقولون “نحن لا نبحث عن شيء ولا نهرب من شيء لأن ما بنا بنا و ما يحدث يحدث بالضرورة فلا نستطيع تجنبه و جعلوا جميعا من الشك الخير الأقصى لأن الطمأنينة تتبعه كما تتبع ظلها”.
امتزاج الفلسفة بالدين
تميزت هذه المرحلة بظهور الأديان السماوية، فتميز الفكر في هذه المرحلة بامتزاج فلسفة اليونان بالأديان السماوية المنتشرة في الشرق الأوسط عندئذ (اليهودية والمسيحية).
وقد حاولت العديد من التيارات الفكرية الجديدة والمدارس الفلسفية الكبرى أن تشق طريقها إلى النور و أن تصب في المجرى العريض للحضارة الجديدة، فكان هذا العصر هو عصر التداخل والتنافذ بين حضارة الإغريق و حضارة الشرق والأديان الجديدة.
حيث احتل يهود الإسكندرية مكانة مرموقة في بادئ الأمر، ثم كان دور المسيحية، وأصبحنا أمام مزيج من مختلف النظريات انبثق عنه عدة اتجاهات تلفيقية أبرزها الأفلاطونية المحدثة.
الأفلاطونية المحدثة (أفلوطين نموذج):
ظهرت الأفلاطونية المحدثة في الإسكندرية، ملتقى طرق الشرق والغرب، فيها وجدت مؤثرات دينية فارسية وبابلية، وطائفة يهودية و فرق مسيحية بالإضافة إلى خلفية عامة من الحضارة الهلنستية يقال أن مؤسسها هو أمونيوس ساكاس و لا يعرف عنه إلا القليل لكن أهم تلاميذه هو أفلوطين(204-270 ب م) ويعد من أعظم الأفلاطونيين الجدد.
تمتاز فلسفة أفلوطين بعمق الشعور الصوفي و المثالية الأفلاطونية و وحدة الوجود الرواقية ، فيرى أن المعرفة تبدأ من الذات وتنتهي إلى الله دون المرور بالعالم المحسوس.
و الإحساس لا قيمة له والمعرفة العقلية هي الأخرى لا قيمة لها ، إنما كل القيمة للتجربة الصوفية التي ترفع التعارض بين الذات والموضوع .
تعد نظرية الفيض من أهم نظرياته، وترتبط ارتباطا وثيقا بمبدإ الوجود وعلته وهو الواحد أو الأول الذي يتسم بالبساطة والكمال، وهذا الكمال هو الأصل في الفيض، غير أن هذا الفيض لا يُنقص شيئا من ذلك الأول بل يظل ثابتا.
فالفيض يحدث كما يصدر النور عن الشمس دون أن يتغير جوهر الشمس، فالوجود بالقياس إلى الأول أو الواحد بمثابة شعاع الشمس من الشمس. والكائن الكامل لا يمكن أن يحبس خيره في ذاته.
وأول شيء انبثق عن الأول هو العقل ويقال له الأقنوم الثاني وهو أقل من الأول كمالا لأن الإثنينية تدخل فيه لأنه مادام عقلا فذلك يستلزم معقولا أي موضوعا له وهو يعقل الأول و يتأمله، وهذا الثاني هو عقل و وجود في نفس الآن.
و يضع أفلوطين العقل في مثابة الصانع لأنه حين يفكر ينتج معقولات، وهو يجتهد قدر الإمكان ليبقى بالقرب من مصدره، فيظل في التفات دائم ليتأمله، وهكذا يفيض عن العقل الثاني أقنوم ثالث هو النفس التي تكون صورة للأقنوم الثاني، وهي آخر الموجودات في العالم المعقول أقلها كمالا لأن الكثرة فيها زادت ولأنها البعد عن الأول.
ومن هده النفس الكلية فاضت فيوضات كثيرة هي نفوس الكواكب و نفوس البشر و سائر الموجودات في العالم المحسوس .
خـــــــــاتــــمة:
كانت هذه بعض أهم اتجاهات الفلسفة اليونانية التي لاقت إقبالا كبيرا في مختلف مناحي العالم و امتزجت بمختلف العقائد والديانات.
ولن يقف الأمر عند حدود المسيحية بل ستتعداها إلى الديانة الإسلامية التي ستضيف عليها هي الأخرى لمستها الخاصة لترتدي الفلسفة ثوبا جديدا في العصور الوسطى، و رغم أن الثوب يتغير بتغير المكان والزمان إلا أن الروح تبقى يونانية خالصة.
اللذة بين القورينائية والأبيقورية
إذا كانت المدرسة الأبيقورية امتدادًا للمدرسة القورينائية التي نادت باللذة العاجلة كخير أسمى، وقدمت بذلك مذهبًا مُتطرَّفًا في اللذة، فإن أبيقور (مات 270 ق.م.) – وإن كان قد أخذ باللذة خيرًا أسمى – قد أدخل تعديلات كبيرة على ما ذهب إليه أرستبوس قبل ذلك بقرن من الزمان على صورة أصبح فيه مذهب اللذة على يد أبيقور مذهبًا معتدلاً إلى حد كبيرة.
وقد أقام أبيقور موقفه الأخلاقي على النزعة المادية الذريَّة التي قال بها الفيلسوف ديمقريطس (مات 370 ق.م.)، ولكنه أدخل عليها تعديلاً مهمًا يتعلق بمبدأ اللا حتمية التي لابد من التسليم بها في نظر أبيقور حتى يكون هناك تبرير لحرية الإرادة الإنسانية.
فرأى أن حركة الذرات في الخلاء وخاصةً تلك الذرات التي تُشكِّل الجسم الإنساني والنفس الإنسانية على وجه أخص تتعرض لظروف مصادفة يترتب عليها انحرافها عن مسالكها العادية، وهو انحراف يحدث فجأة وبلا توقع بصورة لا يُمكن التكهن بها.
وقد استنتج أبيقور من ذلك عدم إمكان التنبؤ بالأفعال الإنسانية. واعتقد أنه بذلك أمكنه تعليل حرية الإرادة.
وقد حرص أبيقور على هذا التعليل لأنه افترض أن حرية اختيار الفعل لا يتفق مع المبدأ الحتمي القائل بأن جميع الأحداث إنما هي نتائج لأسباب تسبقها، وبذلك تكون حرية الإرادة شرطًا لقيام الحياة الأخلاقية.
إلا أن التطابق بين الحرية والصدفة البحتة قد يؤدي إلى أن يكون الشخص الذي يتصرف على هواه أكثر حرية من الشخص العاقل الذي يتصرف وفق مبادئ محددة، ومثل هذه النتيجة تتناقض ورؤية أبيقور للحياة الأخلاقية.
ذلك أن الاختلاف الرئيسي بين أبيقور وسابقيه من القورينائيين يكمن في اقتناعه بأن المرء يستطيع باستخدام العقل أن يخطط حياته ويضحي باللذات الوقتية من أجل منفعة أطول كما سنعرف بعد قليل.
اللذة هي الخير الأسمى والألم هو الشر االأقصى
وقد أقرَّ أبيقور – متفقًا مع فلسفة أرستبوس – باللذة بوصفها الخير الأسمى وبالألم بوصفه الشر الأقصى، وذهب إلى أن الفضيلة ليس لها قيمة في ذاتها، بل قيمتها في اللذات التي تقترن بها، كما أقر باللذة الحسية لأن الإنسان يطلبها منساقًا إليها بفطرته، فكل لذة خير إذا لم تقترن بألم، بل إن الألم إذا نجمت عنه لذة وجب طلبه.
إلا أن أبيقور رأى أن بعض اللذات يدوم أطول من البعض الآخر، وبعضها يتطلب جهدًا وعناء أكثر من بعضها الآخر، لذلك نراه يُفضِّل اللذات الروحية والعقلية على لذات الحِسّ، لأن لذات الحس قصيرة الأمد.
أما لذات الروح فهي أبقى وأدوم. ففي وسع العقل أن يُخفِّف من حدة الألم الجسماني بتذكر المُتعة الماضية أو توقع المتعة المقبلة.
وبذلك يعترف أبيقور بدور الوجدان الناشئ عن تذكر الماضي وتوقع المستقبل في التفرقة بين اللذات.
وإذا كان أرستبوس قد طالب بعدم التقيد بالمستقبل وطالب بالتحرر من عبوديته، فإن أبيقور يرى أن التحرر من المستقبل عبودية للحاضر.
ومع ذلك فإنه رأى أن لذة العقل هي التفكير في لذة الحس، وأنه لا يتصور الخير بعيدًا عن لذة الذوق والسمع والبصر، فلذات الحس المُباحة ليست ممنوعة ولا تكون مدعاة للنفور والاحتقار.
ومع ذلك فإن الأبيقورية رغم إعلائها من شأن اللذات الحسية؛ إلا أنَّها نزعت إلى التصور السلبي للمُتع واللذات، فأعظم خير عندها هو انعدام الألم، وأفضل حياة هي تلك التي يتحرر فيها المرء من أقصى حد من الحاجة والشقاء واضطراب الانفعال الطاغي.
وتُعدُّ هذه النقطة الأخيرة وهي تجنُّب الانفعالات القوية من النقاط المُميِّزة للمذهب الأبيقوري، فبينما كان القورينائيون ينشدون اللذات العنيفة، فإن الأبيقوريين كانوا يتجنبونها بوصفها لذة مُكدِّرة قصيرة الأمد، ثمنها باهظ من حيث ما يستتبعها من رد فعل أليم.
من كتاب “تطور الفكر الأخلاقي في الفلسفة الغربية”، تأليف: محمد مهران رشوان.
نيتشه أبيقور* والأبيقورية وزينون والرواقية:
لحسن لحمادي
أـ نيتشه مناصرا للأبيقورية:
يبدأ نيتشه في سرد قصة أبيقور والأبيقورية قائلا: ” كان أبيقور، الذي منح طمأنينة النفس للقدم الآيل للنهاية، يملك تلك المعرفة الرائعة، النادرة الوجود في وقتنا الحاضر، بأن حل المشاكل العويصة والنظرية ليس ضروريا لطمأنينة القلب وهكذا كان يكفيه أن يقول وهكذا كان يكفيه أن يقول للذين يعذبهم ” الخوف من الآلهة”.
“إن كانت هناك آلهة فهي لا تهتم بنا”. عوض أن يدخل معهم في جدال عقيم حل معرفة ما إذا كانت هناك آلهة أم لا” . إن “نيتشه باعتباره مؤرخا للفلسفة اليونانية، إن جاز هذا الاعتبار أي وصفه بهذه الصفة العلمية الأكاديمية المتخصصة.
إذ جعل الفلسفة اليونانية تنقسم إلى مرحلتين فقط، مثلما تطرقنا إلى ذلك سابقا؛ مرحلة العبقرية والعظمة مجسدة في العصر الذي سماه “التراجيدي” والذي يمتد إلى غاية القرن الخامس قبل الميلاد، القرن الذي انطفأت فيه فجأة شعلة الفكر التراجيدي كمنتجات أدبية شعرية مسرحية.
وتلت هذه المرحلة الأولى والقصيرة، المرحلة الثانية والأخيرة، التي تمثل مرحلة الانحطاط والتدهور متحققة في شعراء أمثال يوربيديس وفلاسفة اليونان الكبار: سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس، وحتى فيتاغورس كفيلسوف متصوف ورياضي منظر… يتحدث نيتشه ودون توقف عن الفلاسفة الذين عاشوا (في ما بعد المرحلتين)، مثل الفلسفة الأبيقورية أو أبيقور كشخص، والرواقية والكلبية، ومدرسة الشكاك**.
ولئن كانت هذه المرحلة الثالثة، حسب مؤرخي الفلسفة تتميز عموما بالانكماش والقلة والانحصار والتكرار والانطواء” .
خطورة الأبيقورية: أنها تحرر معتنقيها من الخوف من الموت
تكمن خطورة الفكر الأبيقوري أنه يحرر معتنقيه من الخوف من الموت، فأبيقور كان يرى أنه بما أن الإنسان سيموت حتما فلا داعي للقلق، لأننا لن نكون موجودين حين نموت. إذن فليستمتع المرء بحياته.
إن نيتشه متأثر بعمق بالإرث الإغريقي، بل أن ميوله وتوجهه الفلسفي محدد تماما برؤى هيراقليطس والفلاسفة الآخرين ما قبل السقراطيين فنيتشه لا ينتقد الأبيقورية فحسب، إنما كذلك يرفض الإرث الأخلاقي الذي تمت كثلته لكل من (أرسطو – أفلاطون – أفلوطين).
ويعود إلى فلاسفة جسدوا الفردية أو المجد الإغريقي الهومري أمثال: فيثاغوراس، إمبيدوقليس، هيراقليطس؛ فالآثارالهومريةواضحة في نيتشه، حين يرفض فكرة ميل الإنسان إلى (غريزة البقاء)، أو أن غريزة البقاء والحفاظ على الحياة ولو في أدنى صورها هي الهدف الأول للإنسان، بل يرى أن الإنسان، يبحث عن القوة متكئا في هذا على الصورة الهومرية للأبطال الإغريق، ويقول أن أحيانا، يضحي هؤلاء بحياتهم، لأجل أن يموتوا بمجد.
يرفض نيتشه كذلك التصور المعتاد أن البشر يميلون إلى البحث عن السعادة والرضا. يمجد نيتشه الفردية، ويمجد التصور العام للخير بمقاييس فردية، أو الأفراد الاستثنائيين، الرائعون، المثاليون، الأقوياء، الحسان، المفترض أن يتبعوا منهجا أخلاقيا يحقق مصلحتهم، الخير هو مصلحة القوي أو هو القوة والمجد.
يقول نيتشه: “أجل أنا فخور بأن أكون موصوما بطابع أبيقور أكثر من أي كان، وفي كل ما أتيح لي أن أسمع أو أن أقرأ عنه، أن أنعم بالسعادة المسائية للعصور القديمة: أرى عينيه تشاهدان مليا بحرا واسعا وفضيا.
من الجانب الآخر لأجراف الساحل حيث تستريح الشمس، بينما كبير الحيوانات وصغيرها يتلهى باللعب في النور، أمنا وهادئا مثل هذا النور وهذه النظرة، سعادة مماثلة، وحده الذي يكاد باستمرار يمكنه أن يكتشفها، سعادة عين من في نظرته سكن بحر الوجود، والذي لم يتمل بالمشهد من سطحه ومن هذه البشرة الأوقانيةالمبرقشة، الخطرة والمرتعشة بما في الكفاية، لم يشهد أبدا بتواضع لذة مماثل من قبل” .لقد جعل نيتشه من أبيقور معلما كبيرا للحكمة الوجودية. فقد كان، مثله، يتفلسف بجسد مريض.
إن قراءة رسائل الفيلسوف الألماني تصعقالقارئ لما تحتويه من الآلام العديدة، إلا أنه كان يحب مشاهدة المناظر المتوسطية، إعداد أطعمة بسيطة إلى أقصى درجة، المشي في الريف لساعات طويلة، تأمل، تفكير، قراءة كتب ذات جودة عالية، أقل، لكن بعمق. يعيش متوحدا، لا يتطلع سوى إلى شيء واحد: إعادة بناء بستان أبيقور الذي سيكون مثل دير للعقول الحرة.
قام بزيارة أمكنة تستطيع استضافة تلك الطائفة من الأصدقاء والتي ستشكل أيضا مدرسة لمربين،مكانا ستبتكر فيه وتعاش إمكانات جديدة للوجود.
الأبيقورية تعرضت للتشويه من قبل المتزمتين دينيا
الأبيقورية من المذاهب الفلسفية القديمة التي يمكننا الاستعانة بها لنحيا في انسجام مع دواتنا فلا نشعر بالغربة عن زمننا الحاضر.
تعرضت هذه الفلسفة لتفسيرات تشويهية ومغالطات تاريخية من معارضين متزمتين دينيا وأخلاقيا لأنها تغوص في ابعد من إشباع غريزة الأكل والشرب والتمتع بلحظات الحياة الحسية،إلى فلسفة حكيمة ينسجم فيها الآني مع الأبدي، والسعادة مع الأخلاق وحب الذات مع حب الآخر في اعتدال موزون.
عام 306 ق.م،أنشأ أبيقور اليوناني في أثينا مدرسة تدعى “الحديقة” يرافقه فيها تلاميذه وأصدقاءه لسنين طويلة، ذاع صيت “حديقة أبيقور” والتي دامت نحو ثلاثة قرون إلى جانب أكاديمية أفلاطون ومدرسة أرسطو وفلسفة الرواقيين القائلة ” أن كل شيء في الطبيعة يقع في العقل الكلي ويقبل مفاعيل القدر طوعا”.
تميزت “الحديقة” عن سواها بكونها كانت أكثر من مركز اختبارات وتبادل للمعارف وكانت تجمعا أخويا حياتيا لا يفرض تكاليف التسجيل والتعليم على المنتسبين بل يتكفل الأثرياء من أنصار الآداب والعلم بمساعدة المحتاجين وكان الرجل يختلط بالمرأة والصغار بالراشدين والعبيد بالأحرار.
يقول نيتشه: “النظرية الأبيقورية: يظهر الألم عندما يتم منع وإيقاف لذة ما، أو أمنية من الأماني.
واللذة هي التي تبعد هذا المنع بصورة سلبية. ومنه فعدم المعاناة وعدم الانزعاج هو الهدف… عندما تتوفر اللذة وتكون، فيجب افتراض ألم داخلي” .
ويقول نيتشه”إلى أي مدى يمكن أن يبلغ قبح الفلاسفة، لا أعرف شيئا أسم من السخرية التي وجهها أبيقور إلى أفلاطون والأفلاطونيين: لقد سماهم خدام ديونيزوس، والكلمة تعني حرفيا “مداحي ديونيزيوس”، أي حاشية المستبد والمتملقين النيئين؛ وتعني بالإضافة إلى هذا، أنهم لم يكونوا سوى ممثلين، عديمي الأصالة.
اليونان انتظرت قرنا كاملا لتكشف “إله البساتين”
وهنا يكمن القبح الذي وجهه أبيقور لأفلاطون. لأنه كان مستاء من مظاهر المهابة ومن الأضواء التي برع أفلاطون وتلامذته في تسليطها على أنفسهم، وهو ما لم يكن أبيقور قادرا عليه تماما، هو معلم مدارس ساموس، الذي كتب متلبدا في بستانه الصغير بأثينا ثلاثمائة جزء، ملهما بغيظه وبشغف التفوق على أفلاطون، كان يلزم مائة عام لكي يكتشف اليونان أخيرا من هو أبيقور في الواقع، إله البساتين هذا”.
الهدف الأخير الذي تصب فيه حكمة الأبيقورية الثالثة يتمحور حول عدم الخوف من الموت. هذا الخوف الناتج من فكرتي الجحيم والعدم النابعتين من التأثر بالأساطير عامة وهوميروس خاصة. يقول أبيقور في بساطة:طالما أنا حي فالموت ليس موجودا، وعندما يأتي الموت أصبح غير موجود.
كما أن الموت في العمق لا يخيف انطلاقا من المد الأبدي للذرات غير الفانية حيث لاشيء يخلق ولا شيء يضيع وكل شيء يتحول، لو استطاع الحكيم أن يكفر بذاته ويذوب في هذه الرؤية للخلود فيتساوى معها، ليصل حتما إلى الغبطة الإلهية محققا هدفه الأقصى.
وبعد أن يتخلص الإنسان من أوهامه ومخاوفه يدعوه المذهب الأبيقوريإلى تحويل حياته بنزع السطحي عنها والولوج إلى العمق متخذا اللذة الذاتية حافزا للسعادة باحثا عن تحديد اللذة ومكامن وجودها.
ماهي اللذة الحقيقية؟
ما هي اللذة الحقيقية إذن؟ يلتقي ابيقور مع مذهب المتعة في تحديد اللذة عبر إشباع الشهوة ويتعارض معها في وضع اللذة في حالة “الراحة” أي فقدان الألم لأن هذه الرؤية للذة هي الوحيدة التي تسمح لنا بالخروج من الدوامة العبثية التي تسجننا غالبا، إذ نتعذب لنفرح بلذة عابرة تذوي في كبت جديد يجر معه رغبة أخرى ثم ألما أخرإلى ما لا نهاية.
قطف اللذة من اللحظة الآنية ليس هدف الأبيقورية ولا سبيل للخلاص من خلال توالي لحظات السعادة القصيرة،بل في تأمين الحد الأقصى من اللذة والأدنى من الألم بغية الوصول إلى أمان النفس الشبيه بسكون موج البحر بعد هدوء الريح.
يعبر في فقرات عديدة نيتشه عن إعجابه بأبيقور ويبدي كذلك فخره ويؤكد هذا قائلا: ” أنا فخور لأني أشعر بطبع أبيقور كما لم يشعر به أي امرئ من قبل، وأن أتمتع بكل ما قدر لي أن أقرأه وأن أسمعه عنه بسعادة الغروب عند الأقدمين: أرى عينيه تتأملان بحرا فضيا مترامي الأطراف، تتكئ الشمس على صخور شواطئه، بينما تلهو الحيوانات كبيرها وصغيرها، في نورها هادئة مطمئنة، بهدوء واطمئنان هذا النور وهذا النظر.
سعادة كهذه يعرف أن يبتكرها فقط من عاين دون توقف، سعادة عين سكن بنظرها بحر الوجود ولا تتواصل إلى أن ترتوي من مرأى بشرته المدغدغة، هذا الجلد المحيطي الرقيق والمرتعش: لم يكن هناك من قبل على الإطلاق تواضع للذة شبيه بمثل هذا التواضع” .
وبناء على ما تقدم يمكن القول إن رغم أن المدرك للذائذ كلها هي روح الإنسان ولذا فإن كلا اللذائذ تعتبر روحانية، إلا أناللذائذ الحاصلة مباشرة عن طريق الجسم وحاجاته تسمى عادة باللذائذ الجسمانية أو المادية، وفي المقابل فإن اللذائذ الراجعة إلى الروح وحاجاتها بشكل مباشر كسكون النفس وهدوء البال تسمى اللذائذ الروحانية.
مع أن تأمين بعض حاجات الجسم يؤثر بشكل غير مباشر في تحصيل اللذة الروحية أيضا، يمكن اعتبار اللذةوالتي اعتبرت إدراك كمال القوة المدركة كمالاأو ملازمة للكمال، لكن وحيث إنه اعتبر أن كل لذة كقوة خاصة عند الإنسان يمكنها لوحدها أن تكون كمالاأو ملازمة له، وأن كللذة دائما ومن حيث المجموع لا تزيد في فائدة وجود الإنسان، لذا لا يمكن اعتبار كل لذة كمالا حقيقيا له ونتيجة ذلك أن اللذة لا قيمة ذاتية لها.
ومثالاعلى ذلك، فإن المعايير المستفادة من مجموع كلمات أبيقور إذا أريد القول إنها لمقايسة مقدار اللذة فلن تكون معايير صحيحة لذلك، إذ لا يمكن القبول بأناللذائذ الطبيعية أو الضرورية أو الروحانية هي أطول أو أكبر دائمابالمقايسة باللذائذ غير الطبيعية أو غير الضرورية أو غير الروحانية.
بالإضافة لذلك قارب نيتشه أبيقور من خلا إنكاره للموت ومن تم للديانات التوحيدية، وفي هذا الشأن يقول نيتشه: ” أبيقور صارع العبادات السردابية، وكل المسيحية الكامنة. فإنكار الخلود كان في هذه الحقبة تحريرا وخلاصة حقيقيا. لقد انتصر أبيقور وكان كل روح محترم في الإمبراطورية الرومانية أبيقوريا، حينها ظهر بولس، عبقري داهية ضد روما وضد العالم” .
على الأقل فنيتشه لا يصب جام نقمته على الأبيقورية كما حدث في نقد المطرقة الذي صبه على كل من سقراط وأفلاطون وفي بعض الجوانب أرسطو، فمجمل دعوى نيتشه تستكمل مع أبيقور ف”الكفاح ضد الإيمان التقليدي كما أسسه أبيقور، كان بمعنى مستقيم كفاحا ضد المسيحية قبل وجودها، وكفاحا ضد العالم المسن والمريض، الذي أظلم وأفسد الأخلاق، القائمة على التصرف بأحاسيس الذنب” .
ب ـ نيتشه ناقدا ومهدما للأبيقورية:
رغم كل ما أبداه نيتشه من احترام وإعجاب بأبيقور ومذهبه الفلسفي، سينتقل للقول: ” تعتبر مذاهب اللذة، التشاؤم، النفعية والسعادة ـ كل تلك الأنساق التي تقيس قيمة الأشياء بناء على اللذة، أو الألم اللذين يصاحبانها، أي بناء على حالات ووقائع رديفة رؤى سطحية وساذجة؛ ذلك أن الإنسان الذي يشعر فيه بملكات خلاقة وبإحساس فنان، لا يمكن له إلا أن ينظر إليها من أعلى بسخرية وشفقة.
إن شفقتنا عليكم ليست في الحقيقة تلك التي تعتقدون، فهي لا تقصد شرائح العبيد، غير الراضين، المقموعين والمتمردين، الذين يتطلعون إلى السيطرة، إلى ما يسمونه بالحرية” ،
لاشك أن اطلاع نيتشه العميق على الفلسفة اليونانية هوالذي جعله يعتمد على ابيقور في مشروعه لنقد الأخلاق، فقد كان يرى فيه فيلسوفا آخر غير الذي شوهته الرواقيةوالمسيحية، بل كان يمثل عنده أهم مفكر من القدامى تصدى لنقد الأخلاق وتبيين أسسها النظرية،ومثلماوجه ابيقور نقده لفلسفة عصره التي سيطرعليها الفكرالأرسطي والديانة الوثنية اليونانية.
رأى نيتشه في أخلاق عصره عنصرين أساسين هما: المعقولية، والزهد الديني، فالمعقولية معناها الأسس المنطقية التي تسيرسلوكاتناوالزهدالدينيمعناهتعليقالقيمالأخلاقيةعلىالآلهة،
ومن هنا كان انطلاق مشروع نيتشه النقدي فقد أراد تأسيس الأخلاق على نظام مخالف للأنظمة السائدة، فهوعلى غرار سقراط يعزف عن كل علم لا يهدف إلى خدمة الأخلاق.
فالمنطق والطبيعة ومابعدالطبيعة يجب أن تخدم الهدف الأخلاقي للإنسان،وإذا استطاع الإنسان تأسيس الأخلاق على هذاالمنظورامتلك القوة والحياة وإذا لم يستطع ذلك وخضع للأخلاق السائدة –أخلاق القطيع- فإن مصيره الشقاءالمحتوم،ومن ثم فقد وجد نيتشه في ابيقور أحسن من يمثل هذا الموقف في القدامى.
نيتشه: ابيقور عقل صاف، لكنه عقل يعاني
” ابيقور هذا العقل الصافي والمتزن، مثل أي عقل إغريقي، ولكنه عقل يعاني، والذين يعانون ويشعرون بضيق كبير يعتبرون الإحساس المنوم الذي يثيره العدم والهدوء أثناء السبات العميق، باختصار يعتبرون انعدام الألم هو الخير الأسمى، هو أم القيم، هو حتما أكثر الأشياء التي يمكن بلوغها إيجابية، هو الإيجابي نفسه” ،
وانطلاقا من هذه المعطيات يمكننا أن نستنتج أن ابيقور ونيتشه كلاهما يهدف إلى تأسيس الأخلاق على معايير جديدة تستبعد التقسيمات التقليدية للفضيلة والرذيلة والخير والشر والجزاء والعقاب، بل يجب استحداث معايير جديدة مثل القوة،الحيوية،المتعة، ويلخص نيتشه طريق تطور القيم الأخلاقية،وكيف تبتعد عن حقيقتها حين تتخذ أشكالا تاريخية مزيفة.
يقول نيتشه: ” كلما ارتفع النوع ازداد القناع، لكل إنسان تألم بعمق، كبرياء، وقرف روحي، وعمق الألم ودرجته يعني التراتبية بين البشر وتعرف كبرياء المتألم الروحيةالصامتةهذه،ويعرف الافتخار لمصطفي المعرفة.
لأليفها “المطلع على السر” لمن كاد يذهب ضحيتها، إنه بحاجة إلى شتى أشكال ا لتقنع لكي يتق يلمس الأيدي المسعفة والملحاحة وكل من ليس مثله في الألم، فالأصل العميق يجعل المرء نبيلا إن ضربامنأرفعضروب التنكر هو الأبيقورية ثمة أناس مرحون يتذرعون بالمرح لأنه يثير سوءفهم.
فهم يريدون أن يساء فهمهم نستنتج من هذاالنص أن المذاهب الأخلاقية في عصرنيتشه وفي عصر أبيقور إن هي إلا أقنعة مناسبة للعصر،فهي لاتمثل حقيقة الإنسان، وأقنعة التنكر هذه يتم استخدامها في كل عصر لتسويغ الحياة العامة، ومن هنا حسب نيتشه تأتي الأبيقورية كأرفع ضروب التنكر أي أن الأخلاق العملية الأبيقورية تخفي وراءها عمقا أخلاقيا كبيرا.
إن الخلاصة التي يمكننا أن نصل إليها هي أن العلاقة بين نيتشه وأبيقورمتناقضة ودقيقة،فهو م نجهة يرفض الطابع الزهدي والهادئ للأخلاق الأبيقورية ومن جهة أخرى يتعلق بمعلم الحديقة بل كان يتساءل دائما.
لذلك يرى بعض الباحثين أن أبيقور كان بالنسبة لنيتشه القريب البعيد. وكان نيتشه يبحث عن أبيقورية فوق إنسانية لاتفتر عن البحث عن مجاوزة الذات.
قد تكون الفلسفة الأبيقورية تجسيدا حقيقيا للنزعة المادية في فلسفة نيتشه، وكاستمرار في سياق الحديث عن إعادة الاعتبار إلى الحياة من جديد فنيتشه يسعى إلى تقييم جديد تكون بؤرته الحقيقية هي اللذة الجسدية، إيذانا منه بمعيارية جديدة تسعى إلى قلب الفكر الأفلاطوني وتحويله،
لكي يضحد فكرة المفارقة الأفلاطونية، التي لا ثني في أخذنا إلى عالم المثال والمعقول. إن اللذة هي منطلق الحياة السعيدة ونهايتها، فهي تعمل على تحرير النفس من المفارق الذي ينشأ عن خشية الموت الذي هو علامة على تلاشي كل إحساس بالحياة،
ذلك أن اللذة هي أن نريد لا في أن يراد لنا، وهذا ما نجدزرادشتيعلن عنه بقوله: “إن هذا هو خيري الذي أحب، إن هذا ما يثير إعجابي، فأنا لا أريد الخير على هذه الصورة، لا أريد هذه الأشياء تبعا لإرادة إله ولا عملا بوصية وضرورة بشرية، فأنا أريد أن يكون لي دليل يهديني على عوالم عليا وجنات خلود…” .
لقد كان سعي ابيقور كبيرا في أن يعيش سعادة تامة على الأرض، من خلال الضحك الفلسفي، وكذا من خلال الابتهاج والحضور، مواليا حرصه البليغ للذات الحسية كأصل ونموذج لكل اللذات، إذ لا وجود إلا للطبيعة وما نتلقاه عنها من انطباعات وإحساسات.
في نهاية هذا المحور يتجلى لنا كيف نظر نيتشه للأبيقورية من خلال كلا الوجهين، الوجه الذي لم يكف فيه على تمجيد الأبيقورية والوجه الذي يذمه فيها، “الأبيقورية هي عقيدة الخلاص الوثنية وأبيقور كان منحطا نمطيا: لقد كنت الأول في معرفة كيف كان. إنه الخوف من الألم، حتى من أضأل قدر من الألم. وعلى هذا المذهب ينتهي بأية طريقة إلى ديانة المحبة” .
هذا في إشارة لتحول معين قد جرى لتتحول الأبيقورية للديانة المسيحية فيما بعد، ” هكذا تعلمت شيئا فشيئا، أن أفهم أبيقور، نقيض المتشائم الديونيزيسي، كما المسيحي الذي ليس في الواقع سوى نوعا من الأبيقورية، شبيها له ورومانطيقي في الأساس” .
” مرة أخرى: ماذا يعني ذلك الذي منه تموت التراجيديا، سقراطية الأخلاقيات، الاحتفاء بالجدل والإعلاء من قيمة المنظر؟ ألا يمكن أن تكون هذه السقراطية نفسها علامة على الانهيار والتعب والمرض والغرائز المنحلة الفوضوية؟ والاحتفاء اليوناني بالهلينية* المتأخرة ألا يمكن أن يكون هذا مجرد غروب متوهج؟ هل الإرادة الأبيقورية المضادة للتشاؤم مجرد تحذير لمن يعاني”.
وبهذا” ينتهي نيتشه إلى الإعلان صراحة أن أبيقور إلى جانب فلاسفة الرواقية والكلبية، هم أشكال الانحطاط اليوناني، وهكذا، ورغم كل ما قام به أبيقور من كفاح مستبق ضد الديانات التي تؤمن بالعناية الإلهية والخلود بعد الموت، إلا أن كفاحه ناقص، ناقص جدا، إلى درجة أنه لم يستطع الخروج من حيز الانحطاط الذي دشنه سقراط” .
3ـ نيتشه ـ الرواقية*:
يبدأ نيتشه في الحديث عن الرواقية وهو يقول: “عندما ننظر إلى الأشياء من أعلى، ونلاحظ أجيالا وعصورا بكاملها مصابة بنوع معين من التعصب الأخلاقي، تبدو أنها من تلك الأزمنة، أزمنة الإكراه والصوم الكبيسة، التي تتعلم فيها الغريزة الانحناء والرضوخ.
وكذلك التطهر والشحذ، وتسمح بعض الطوائف الفلسفية كالرواقية مثلا، في حضن الأجواء المنحلة للحضارة الهيلينية، المتخمة بالعطور المهيجة للشهوة، بتأويل مماثل أيضا. سيصبح من السهل بعد الآن تأويل مفارقة تسامي الغريزة الجنسية خلال العصر المسيحي لأوربا وتحت ضغط أحكام القيمة المسيحية، إلى حب شغوف” .
إن الحديث عن الرواقية فنحن نتحدث عن ما يعتبره نيتشه التركة السقراطيةـ الأفلاطونية واستمرار الانحطاط أو السعي الدنيء وراء السعادة.
شعار الرواقية كما قدمنا هو العيش في وفاق مع الطبيعة، فإذا كان الحكيم لا يستطيع أن يغير من سنن الكون شيئا فبوسعه أن يتقبل بكل الرضا جميع ما يحمله قدره إليه فلا يجزع أو يحزن على أحد مهما كانت صلته به، وبوسعه أن يستأصل من نفسه كل ما يخالف منطق العقل من ألم وخوف وأوهام.
لكن ما هو حيز الحرية المتروكة للإنسان أمام هذه الجبرية المطلقة؟ ألم يسخر الأبيقوريون مما يراه البعض قدرا وأن الإنسان نفسه هو سيد هذا العالم ولا سيد له؟
في الوقت الذي يعتبر فيه نيتشه أن أحد جوانب الرواقية استعادة للهيراقليطية فإنه يسمها كذلك بأنها استشراف للمسيحية أو المسيحية قبل الأوان على الأقل الرواقيون استخدموا كل أفكارهم الرئيسية من هيراقليطسويظهر عندهم أثره” ، “تريدون أن تحيو طبقا للطبيعة؟ أه، أيها الرواقيون الأفاضل، يا للتضليل بالكلمات!
تخيلوا كائنا مطابقا للطبيعة، متلفا بلا حد، غير مكترث إلى الأقصى، بلا نوايا ولا اعتبارات، بلا شفقة ولا عدل، مخصبا وعقيما وحائرا في الآن ذاته، تخيلوا عدم الاكتراث نفسه سلطانا، كيف يمكنكم أن تحيوا طبقا لعدم الاكتراث هذا؟ أليس معنى أن نحيا بالضبط، هو إرادة أن نكون شيئا آخر غير هذه الطبيعة؟ أن نحيا، أليس معناه أن نقوم، أن نفضل، أن نكون ظالمين، محدودين وأن نريد كينونة مغايرة؟ ” .
يقول الرواقيون أن الحياة يجب أن تعاش وفق الطبيعة، لكنهم لم يفسروا ما يقصدون بالطبيعة أما المعرفة عند الرواقيين معرفة حسية، فالمعرفة آتية من الحواس والإنسان يولد ورقة بيضاء بلا عقل. وهذه نظرة مادية متناقضة مع فلسفة الزهد ومتناقضة مع الأخلاق.
لأن اعتبار الحواس هي المصدر للمعرفة والأخلاق عندهم مبنية على معرفة؛ إذن الأخلاق مادية ونتيجة مصالححسب هذه الفلسفة، وعلى هذا الأساس المادي: من أين جاء رفض المتعة واللذة ما دامت المعلومات كلها مادية؟ هذه النظرة المادية تناسب الأبيقوريين، وتناسب الأبيقوريون الجدد من الملاحدة في هذا العصر، الذين ينظرون أن كل شيء مادة، وأن المتعة هي التي تحدد علاقتنا بالمادة، وما الأخلاق إلا نتيجة للمتعة والمصلحة.
أما ما يقال أن مصدرهم الثاني للمعرفة وهو التصورات الكلية المأخوذة من عدة تصورات حسية، فهم اعتبروه مصدرا ثاني بينما هو نتيجة للمصدر الأول، فلو انعدمت الحواس لانعدمت المعرفة، وهذا غير صحيح، هذا الكلام ينطبق على المعرفة المادية فقط لكن لا ينطبق على المعرفة المعنوية،
لأن المولود الصغير يعرف معنى الابتسام والعبوس ومعنى الوحشة والألفة وغير ذلك، وهذا من أين حصل عليه؟ هناك شيء اسمه شعور فطري في الإنسان هو أساس المعرفة وهو أساس العقل.
وما الحواس إلا رابط له بالعالم الخارجي، وهو أساس الحواس أيضا وليست الحواس أساسه، فالحواس تنقل إليه، وهو الذي يقيم ما تنقله الحواس، وإذا كان الشعور منشغلا بشيء آخر فإن الإنسان لا يستفيد من الحواس في تلك اللحظة. ويرىنيتشه أن “أفلاطون هذا المضاد للهلينية.
هذا السامي بالفطرة، الذي ينطبق عليه ما ينطبق كذلك على الرواقية، فكل فعل قام به الرواقيون له خصائص سامية أي الشرف المعروف كضرب من التقشف، القانون، فضيلة التعالي وحس المسؤولية، السلطة والملكية المتزمتة القصوى للشخص المفرد، كل هذه من خصائص السامية) فالرواقي هو شيخ عربي، لكنه ملتف بقماط أو ثوب من التصورات اليونانية” .
“إن الإنسانية المفكرة إنما عاشت على المذهب الرواقي حتى أدركت المسيحية ولبثت تتغذى منه بعدها حقبة من الزمان” .ليس كل ما تقدمه الحواس، نعرفه فالمسألة ليست كاميرات أو آلات تسجيل، هذا غير أننا نعرف ما لم تقدمه الحواس، بدليل أننا ندفع الحواس للمعرفة من دون أن نأخذ إشارة من الحواس فأكثر ما نفعله من قراءة أو اطلاع أو تفرج على التلفاز هي عملية حث للحواس، لا أن هذه الأشياء وقعت على حواسنا ثم بحثنا عن معرفتها.
فالبداية كانت منابدليل أن الطفل يحرك عينيه ويبحث هو عن شيء ليراهفهو يبحث عن أشياء يريد أن يراها، لا لكي يرى أي شيء. المعرفة غاية عند الإنسان في فطرته وليس أنها سقطت عليه بالصدفة من خلال الحواسبدليل أن من يفتقر إلى بعض الحواس تجده يعوض.لو كانت الحواس هي مصدر المعرفة لعرف المجنون ذو الحواس الكاملة مثلما يعرف السليم عقليا.
كذلك الحيوان الذي عنده حواس أدق من حواس الإنسان!يقول زينون الرواقي أن مراحل المعرفة هي:
أفكار حقيقية – تصديق – فهم – علم.
يبدو أن الفلسفة الرواقية تقبل الأشياء كما هي، لهذا تبنتها الدولة الرومانية؛ لأنها تساعد على إخضاع الناس وقبول الواقع، والفكرة تسربت أيضا إلى الفكر الديني لاحقا، فشعار الرواقية كما قدمنا هو العيش في وفاق مع الطبيعة، فإذا كان الحكيم لا يستطيع أن يغير من سنن الكون شيئافبوسعه أن يتقبل بكل الرضا جميع ما يحمله قدره إليه فلا يجزع أو يحزن على أحد مهما كانت صلته به.
وبوسعه أن يستأصل من نفسه كل ما يخالف منطق العقل من ألم وخوف وأوهام، فكرة عدم الفرح وعدم الحزن لأي حدث فكرة تخالف الطبيعة البشرية، في حين أنهم ينادون بالالتزام بنظام الطبيعة.
كل الفلسفة اليونانية والغربية هي محاولات للتأقلم مع عدم فهم الإنسان، هم لم يفهموا الإنسان بل يدورون حول الإنسان، كل الحكمة القديمة والحديثة والفلسفة تدور حول الإنسان وليس داخله. حتى فلسفة أرسطو في المنطق الصوري هو وصف.
لكنه لا يذكر لماذا ولا من أين جاء. هؤلاء فلاسفة ظواهر الإنسان وكيف نتعامل معها، أحدهم يقول: اكبتها، وآخر يقول: أطلقها، فالرغبات مثلا أحد يقول اكبتها وأحد يقول أطلقها، وتستطيع أن تقسم هذا على كل الفلاسفة. و المعرفة نفسها بعضهم يقول أنها موجودة على شكل ذاكرة في ملفات الإنسان، مثل سقراط، وأن التعليم عبارة عن تذكير.
وبعضهم يقول: كلا بل يولد ورقة بيضاء والحواس تطبع فيه. وهذا كله وصف من الخارج ولا أحد منهم يؤصل من داخل الإنسان. لهذا اقتضت الحاجة لدراسة الشعور الإنساني، وهو مصدر معرفة الإنسان هم يدورون حول سلوكات الإنسان وحركاته، لكن السؤال: أين مرجعها؟ وهنا يبدأ الاختلاف.
“كل شيء يلائمني إذا لاءمك أيها العالم. وما جاء في الوقت الملائم بالنسبة إليك، فليس متقدما ولا متأخرا بالنسبة إلي، وكل ما جاءتني به فصولك أيتها الطبيعة فهو تارة عندي، كل شيء يأتي منك، وكل شيء فيك، وكل شيء يعود إليك” ، الرواقية تنظر للمشاعر الإنسانية على أنها أفكار مستقاة من الآخرين.
وهذا وهم كبير، لأن المشاعر من الشعور الفطري الموجود عند الجميع هو لا يريدك أن تحزن إذا مات صديقك على اعتبار أن الفكرة السائدة تقول عليك أن تحزن! هذا يدل على أنهم يتصورون الإنسان كعقل فقط فيه معلومات، وليس له شعور خاص ومشترك بين الجميع كل ما عليك أن تزيل هذه الفكرة حينها سترتاح من الحزن على صديقك.
“فظاهرة التأثر بالنزعات الشرقية أوضح ما تكون لدى مذهب الرواقية، خصوصا إذا لاحظنا أيضا أن رؤساء هذا المذهب قد صدروا عن بلدان تقع في آسيا الصغرى أو من الجزر الشرقية من الأرخبيل أو في بلاد موجودة على الحدود مباشرة بين بلاد فارس وبلاد اليونان… فمن الناحية الجغرافية أيضا نجد إذا أن انحطاط الفلسفة قد اقترن بانتقال مركزها الرئيسي من أثينا نحو الشرق” .
في ختام العرض الرواقي يصرح نيتشه قائلا وقوله هذا يتناسب جدا مع عنوان الكتاب الذي وضع خلاله، وهو “إرادة القوة”: ” “يجب عليك”، هذا هو مبدأ الخضوع المطلق عند الرواقية، وكذلك في النظام المسيحي والعربي، وفي فلسفةكانطكذلك. وفوق هذا المبدأ يوجد مبدأ أعلى منه وهو: “أنا أريد”، وهو الخاص بالأبطال، وفوق هذا المبدأ يوجد مبدأ آخر هو: ” أنا كائن” ” .
ومما يدل على انحطاط الرواقية بالنسبة لنيتشهأن الرواقية لم تنفك تجمع من كل الأفكار لتبني نسقها الهجين ” ففلسفتها حشد لمجموعة من المبادئ المنفصلة الأصل والمنبع، تم تذويبها في نسق جديد، وهذا الأمر يذكرنا بما قام به أفلاطون سابقا بخصوص نظرية المثل. لذا يمكن لنا القول أن الهجانة الأفلاطونية انتقلت إلى الفلسفة الرواقية” .
4ـ نتائج الفصل الثالث:
في استعراضنا لنتائج الفصل الثالث والذي مر على أرسطو وأبيقور والأبيقورية وزينون والرواقية، نشير لأهمية الكلبية* التي لم يتوانى نيتشه في التهكم خلالها حيث يقول: ” يحتج الناس باسم الكرامة الإنسانية: والحالة أنه هنا يكمن بالتلميح.
ذلك الغرور العزيز الذي يجعل الناس يكتشفون أن أقسى مصير قد يؤولون إليه هو ألا يعاملوا على قدم المساواة وأن ينتقص من قيمتهم أمام الملأ، ويفكر الكلبي بشكل مخالف بشأن هذا الموضوع، لأنه يزدري الشرف: ولذلك كان ديوجين، لبعض الوقت، عبدا ومربيا منزليا” .
لما كان عدد متزايد من أتباع أبيقور قد أخذوا يفسرون أقواله بأنه ينصح الناس بالجري وراء اللذة الجسمية فإن النظرية الأساسية في علم الأخلاق وهي ما هي الحياة الطيبة؟ لم يتوصل إلى حلها، بل كل ما في الأمر أنها وضعت في صيغة أخرى وهي: كيف يوفق بين أبيقوريةالفرد الفطرية وبين الرواقية التي لا بد منها للجماعة والجنس البشري؟
وكيف يستطاع أن يوحي إلى أعضاء المجتمع أو أن يرهبوا حتى يسيطروا على أنفسهم أو يضحوا بها لأن هذه التضحية وتلك السيطرة لا غنى عنهما لبقاء المجتمع. لقد كانت الرواقية آخر ما بذله الأقدمون الأمجاد من جهد للبحث عن مبدأ خلقي فطري، ولقد حاول زينون مرة أخرى أن يصل إلى الهدف الذي عجزأفلاطونعن الوصول إليه وهذا هو وجه المقارنة بين الأبيقورية والرواقية.
في تعامل نيتشه مع أرسطو يربطه بشكل مباشر، الفلسفة الأرسطية في الحقيقة حسب نيتشهليست مناقضة للأفلاطونية، بل هي تكميل وتتويج لها. وما المنطق كما صاغه أرسطو إلا تسقيف وتتمة لمنهج الجدل، والهجين كمرض فلسفي لم يتوقف عند أفلاطون فقط، بل امتد بعدواه إلى أرسطو، لكن في ميدان نظرية المثل.
إن عنوان الانحطاط الأكبر عند نيتشه هو الميتافيزيقا، كما أسسها كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو، القائمة على الوحدانية والتمركز، النابذة للتكوثر والتعدد. فسقراط كان يسعى إلى جمع كل شيء في تعريف عام وواحد، رافضا ومحتقرا الفردي والجزئي، وأفلاطون بأسئلته الماهوية كان يهدف إلى طمس المتعدد، وإرجاعه إلى مثال واحد، ليس كائنا أصلا في عالمنا.
وأرسطو توج كل هذا الموروث، بعملية اختزال الواقع والوجود الذي يزخر بالاختلاف والتعدد والصيرورة والتفرد إلى الماهية والوحدة والتطابق، لذا لا يمكن اعتبار منطقة في نهاية المطاف إلا ميتافيزيقا.
بالإضافة لنقده للميتافيزيقا من خلال أرسطو انتقد المنطق الأرسطي، والذي اعتبره كما أوردنا في البحث شبكة عنكبوت في إشارة واضحة، وانتقد كذلك نظرة أرسطو للتراجيديا والفن بأكمله بالإضافة لاختلافهما في قضية السياسة وكيف نظر كل واحد منهما لها.
نيتشه اختلف مع أرسطو إلا فيما يتعلق بالمرأة!
غير أن الملحوظ هو تشابه كبير بين نظرة كل من أرسطو ونيتشه للمرأة، فنزلا عليها بالذم والاحتقار والحد من حريتها، غير أن نظرة أرسطو نابعة من تصور كلاسيكي ونظرة نيتشه نابعة من رؤية معاصرة، فهذه الهوة الزمنية بينما لم يعرها نيتشه اهتماما وانطلق بكل هواه الفكري والفلسفي وهذا معروف.
نظرة نيتشه للأبيقورية تراوحت بين مدحها تارة وذمها تارة أخرى، فأول المسائل التي انتقد فيها الأبيقورية هي مسألة الأخلاق والقيم، فالسطحية والسذاجة التي لاحظها نيتشه في أخلاق السعادة واللذة تتعمق أكثر لتتحول إلى الجمود مثل الجماد تماما. أما الرواقية فلم تسلم من نقد نيتشه خصوصا وأنه استبعدها من الثقافة الإغريقية التراجيدية، وجعلها وأقرب إلى الديانات التوحيدية.
المراجع المعتمدة:
ـ نيتشه (فريدريك)، إنسان مفرط في إنسانيته، مصدر سابق، الفقرة 7، ص 117.
ـ عنيات (عبدالكريم)، نيتشه والإغريق، مرجع سابق، ص 190.
*أبيقور: ولد بعد وفاة أفلاطون بست سنوات ومات في سن الثانية والسبعين (341ـ 269 ق م)، في جزيرة ساموس القريبة من سواحل آسيا الوسطى (ليديا، كلازومن، كولفون، أفارزيا، وأيونيا…)، رحل إلى أثينا حيث اشترى له أهل كولفون بيتا في الضواحي بعد أن ألقى لهم محاضرات. واستقبل في بستانه كل المريدين دون تمييز والذين كانوا يحترمونه مطلقا، فقد كان شعارهم بعد موته ” عش وكأن عين أبيقور ترقبك”، ويقال أن الشاب كولوتيز قد خر راكعا عندما سمع أول مرة أبيقور، وحياة كأنه إله. يقول ديوجيناللائرتي أنه ألف حوالي ثلاثمائة كتاب، منها رسالة لهيرودوت وكتاب آخر عثر على بعض أجزائه في مخلفات مكتبة “هيركولانيوم” المحترقة، وهو كتاب في الطبيعة. عرف مذهبه بالهيدونية أو مذهب اللذة، إذ يقول أحد كبار تلاميذه: “كل الطيبات ذات صلة بالبطن” رغم أن هذا المبدأ موضوع جدل كبير، لأن أبيقور يهتم كثيرا بالذات الروحية، إذ يقول في رسالته الأخيرة: “نكتب لكم هذا في يوم من حياتي هو سعيد والأخير معا، أشعر بالآلام في مبولتي وأحشائي… إنما كل ذلك يعوض بجميع أفراح النفس التي أشعر بها عندما أتذكر مبادئي واكتشافاتي. (مأخوذ من كتاب: بيار بويانسي، أبيقور، ترجمة بشارة صارجي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1980، ص 10).
**الشكاك: هي المدرسة المعاصرة لكل من الرواقية والأبيقورية، مرت بثلاثة مراحل كبرى: مرحلة بيرون المؤسس الأول، ثم مرحلة الأكاديمية الجديدة مع شخصية أنسيداموس في القرن الثاني للميلاد وسكستوسأمبريكوس الروماني. والمبدأ الذي يجمع كل هذه المراحل رغم الاختلافات الجزئية، ويجمع كل الفلاسفة الشكاك هو: الثورة ضد الوتوقية أو الدوغمائية، التي سادت الفكر الفلسفي اليوناني، خاصة في مراحل المدارس الأثينية الكبرى.
ـ نيتشه (فريدريك)، العلم المرح، مصدر سابق، الفقرة 45، ص 80.
* أفلوطين: ولدحوالي (205 ـ270)فيلسوف مثالي يوناني، مؤسس مدرسة الأفلاطونية المحدثة، طوّر الجوانب الصوفية في مذهب أفلاطون، جمعت رسائله بعنوان “التساعيا”.
ـ عنيات (عبدالكريم)، نيتشه والإغريق، مرجع سابق، ص 196.
ـ نيتشه (فريدريك)، ما وراء الخير والشر، مصدر سابق، الفقرة 7، ص 20.
ـ نيتشه (فريدريك)، العلم الجذل، مصدر سابق، الفقرة 45، ص 64ـ65.
ـ نيتشه (فريدريك)، عود المسيح، مصدر سابق، فقرة 58، ص 174.
ـ ياسبرز (كارل)، عظمة الفلسفة، ترجمة عادل العوا، منشورات عويدات، بيروت ـ باريس، الطبعة الرابعة، 1988، ص 91.
ـ نيتشه (فريدريك)، ما وراء الخير والشر، مصدر سابق، الفقرة 224، ص 137.
*بولس: (5ـ 65 م)، أحد حواريي المسيح عليه السلام وحامل الرسالة المسيحية إلى الرومان الوثنيين، ينحدر من عائلة يهودية شديدة التدين، وكان اسمه شاول.
ـ نيتشه (فريدريك)، جينيالوجيا الأخلاق، مصدر سابق، الفقرة 17، ص 119.
– نيتشه (فريدريك)، هكذا تكلمزرادشت، ، مصدر سابق، ص54.
ـ نيتشه (فريدريك)، عدو المسيح، مصدر سابق، فقرة 30، ص 89.
ـ نيتشه (فريدريك)، العلم الجذل، مصدر سابق، الفقرة 370، ص 231ـ 232.
ـ نيتشه (فريدريك)، هذا الإنسان، مصدر سابق، الفقرة 1 “محاولة للنقد الذاتي”، ص 161.
*الهلينية المتأخرة أو الهلينستية تربط عادة بفتوحات الإسكندر المقدوني، حيث امتزجت الحضارة الإغريقية الغربية بالحضارة الشرقية (فارس، الهند، مصر…)، فبعدما استولى الإسكندر على حكم الملك “دار بن دار” أتلف كل المعالم المادية للحضارة الفارسية وخرب كل مكتوبها، لكنه أخد ألواح العلوم الطبية والفلكية الفارسية إلى بلاد اليونان، وبعدما كانت الثقافة اليونانية محلية، أصبحت بعد الفتح ثقافة مشتركة بين كل دول البحر الأبيض المتوسط، وأصبحت الإغريقية لغة الفكر الضرورية لكل مثقف. (لطفي عبدالوهاب يحيى: اليونان مقدمة في التاريخ الحضاري، ص 186).
ـ عنيات (عبدالكريم)، نيتشه والإغريق، مرجع سابق، ص 207.
ـ نيتشه (فريدريك)، ما وراء الخير والشر، مصدر سابق، الفقرة 188، ص 96.
*الرواقية: هي المدرسة اليونانية المعارضة للأبيقورية، أسسها زينون من كيتيوم التابعة لقبرص. عاش بين (336 ـ 264)، قبل الميلاد، يقال أنه تحصل على كتب أكزانوفان وأفلاطون، وبعدما قرأهما قرر الرحيل إلى أثينا لمقابلتهما. وهناك رواية أخرى رواها ديوجيناللائرتي تقول إن سفينة زينون غرقت في البحر، ووصل إلى أثينا مفلسا، فجلس جوار مكتبة يقرأ “ذكريات” أكزانوفان، فأعجب بشخصية سقراط، فنصح بأقراطليس الكلبي، وأصبح من أتباعه. بعد ذلك أنشأ مدرسته المستقلة تحت أعمدة الاستواء بوسيل. ومن هنا سميت الرواقية، من أهم مؤلفات زينون نجد كتاب “الجمهورية”. وتقسم الرواقية من حيث تطورها التاريخي عادة إلى ثلاثة مراحل هي: الرواقية القديمة وفيها زينون وتلامذته المباشرين، والرواقية الوسطى رئاسة دوجين البابلي وخلفاؤه، وأخيرا الرواقية الرومانية وفيها سنيكا و إبيكتيتوس و الإمبراطور ماركوس أوريليوس.
ـ نيتشه (فريدريك)، هذا الإنسان، مصدر سابق، الفقرة 3، ص 91.
ـ نيتشه (فريدريك)، ما وراء الخير والشر، مصدر سابق، الفقرة 9، ص 21.
ـ نيتشه (فريدريك)، إرادة القوة، مصدر سابق، الفقرة 393، ص 189.
ـ أمين (عثمان)، الفلسفة الرواقية، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثانية، 1959، ص 34 ـ 35.
ـ أمين (عثمان)، الفلسفة الرواقية، نفس المرجع، ص 74.
ـ بدوي (عبدالرحمن)، خريف الفكر اليوناني، مكتبة النهضة العربية، بيروت ، الطبعة الخامسة، 1979، ص 10.
ـ نيتشه (فريدريك)، إرادة القوة، ترجمة محمد الناجي، أفريقيا الشرق ـ المغرب، الطبعة الأولى 2011، الفقرة 439، ص 335.
ـ الشيخ (محمد)، نقد الحداثة في فكر نيتشه، مرجع سابق، ص 248.
ـ نيتشه (فريدريك)، إنسان مفرط في إنسانيته، مصدر سابق، الفقرة 457، ص 200 ـ 201.
*الكلبية: هو اسم لمدرسة يونانية، تم تأسيسها على يد الفيلسوف أنتستينس (440ـ 336 م ق)، الذي تتلمذ لجورجياسالسفسطائي ثم سقراط، وأشهر أعضائها هو ديوجينالسينوبي، المعاصر لأفلاطون، الذي كان ينعته بسقراط الهاذي، أي الذي يهذي. اختلفت الروايات بشأن التسمية، فهناك من يقول أن المدرسة سميت كلبية، لأنهم كانوا ينبحون كالكلاب ضد الآراء العامية، كما أنهم يعيشون عيشة الكلاب متجاهلين كل ضروب الحشمة والمحافظة، وهناك من يقول أن المؤسس اختار ساحة “كلب البحر” للتدريب الرياضي، التي كانت مخصصة للطبقات الدنيا من المجتمع والأجانب، كمكان لإلقاء محاضراته، وهناك من يقول أن التسمية من وضع أعداء هذه المدرسة .
ابيقور
الآلهة:
لم ينف إبيقور مطلقاً وجود الآلهة، بل رفض الأساطير التي أسندها الجمهور إِليها، وعدّ الأفكار التي تُسِندُ إلى طبيعتها دوراً في خلق العالم وتلاحق الزمان من أخطر الأفكار، لأنّ العالم وجد من التقاء الذرات ولا يجوز الاستنجاد بالطبيعة الإِلهية لتوضيح انتظام دوران الكواكب وتلاحق الزمان، إِذ ليس هناك لا عناية ولا قدر، بل كل الأشياء من نتاج المصادفة.
وهكذا فإِن الآلهة موجودة، ومن ينفي وجودها كمن ينفي البداهة. فنحن، أولاً، نرى في المنام وفي اليقظة أشباهاً لابدّ أن تكون منبعثة عن الآلهة ذاتها، وهذه تجربة تكفي لإِثبات وجودها وثانياً، عندنا عن الآلهة تصور قبلي بأنها موجودات سعيدة ومغتبطة تحيا في طمأنينة وسعادة كاملتين وثالثاً، لابد من أن يقابل الوجودَ الفاني المتألم وجودٌ دائمٌ سعيدٌ، هو الآلهة المجبولة من مادة نقية خالصة، لا يتطرق إِليها الفساد. (اسراء محمد)
2-ابيقور هو مؤسس المدرسة الابيقورية وولد فى جزيرة ساموس وتناول المؤرخون سيرته وانقسموا قسمين فريق يعظمه ويرفع من شانه الى اعلى مكان وفريق اظهر له كراهية لا مثيل لها وتتلمذ على يد نويفان.
وقال عنه كارل ماركس ان ابيقور هو الوحيد من بين القدماء الذى اراد تنوير العقول اما عن اعدائه فكان على راسهم فلاسفه الرواقين وخاصة كيزيبوس التى كانت غيرته تجعله يرد على كل ما يكتبه ابيقور وكان تيمقراطس من اكثر الذين اساءوا اليه فقد كان تلميذا عنه ثم ترك مدرسته حاقدا عليه .
غير انا الارجح ان اكثر التهم التى وجهت اليه كاذبة الا لما اقامت له مدينته عشرين تمثالا من البرنز غير انه اوصى بعتق جميع عبيده ووزع ثروته على تلاميذه وكان يعرف عنه الزهد والقناعة ف الماكل والملبس.
وكان ابيقور يقول انا السعاده هى الخيرالاسمى وحاول تنوير اذهان معاصريه. وكان لابيقور مؤلفات كثيره بلغت 300مؤلف وضاع منها الكثير ولم يبق منها غير ثلاثة رسائل:
1-رسالة الى هيرودون وتتضمت مختصرا ف الفلسفة
2-رسالة الى بيتوكليس تكلم عن الظواهر السماوية
3-رسالة الى منكايوس وتكلم فيها عن الاخلاق .وقد قسم ابيقور الفلسفة الى ثلاثة اجزاء رئيسية قواعد المعرفة – تفسيره للطبيعة – بحثه فى الاخلاق (Ana Emy)
3-المفاهيم الابيقوريه ال81-
لاتخاف من الله . 2- لاتخاف من الموت .3- لاتخاف من الالم .4- عش ببساطه .5- ابحث عن المتعه بحكمه
6- اعقد صداقات وابحث عن اصدقاء وكن حسن المعامله لاصدقاؤك
7- كن مخلصا في حياتك وعملك .8- ابتعد عن الشهره والطموح السياسي . (Yosha Yoya)
4-المعرفة عند ابيقور اربعه انواع : الانفعال -الاحساس – المعنى الكلى – الحدس الفكرى .
الانفعال هو الشعور باللذه والالم و كلاهما يظهر لنا علته الفاعليه فالاحساسات صادقة على السواء اى انها مطابقه للاشياء اما خطا الحواس فلا يقع فى الادراك بل فى الحكم الذى يضيفه العقل الى الادراك .
ومتى نكرر الاحساس احدث فى الذهن صوره كليا اثبتناه فى لفظ ولما كان هذا المعن صادر عن الاحساس , فهو صوره حقيقية مثله وبعد ان يتكون يبقى فى الذهن “فكره سابقه” .
الحدس الفكرى استدلال له منهجان فهو من ناحيه يودى الى التصديق باشياء ليست واقعه فى التجربه ولكن التجربه اما ان تقتضيها كعله او شرط .
ومن ناحيه اخرى الحدس الفكرى استدلال يؤدى بنا الى استخراج تفاصيل العالم من “نظره اجماليه” وهذا المنهج يسمح بادراك اللامحسوسات فى انفسها (هبه فرج)
5-
إبيقور(341-270 ق.م)هو فيلسوف يوناني قديم، وصاحب مدرسة فلسفية سميت باسمه (الإبيقوريّة).
قام بكتابة حوالي ثلاثمائة منجز لم يصلنا منهم إلا بعض الأجزاء والرسائل ومعظم ما وصلنا من الفلسفة الإبيقورية مستمد من التابعين لها وبعض المؤرخين ومنها النصوص التي حفظها ديوجينس اللايرسي Diogéne، فهي رسالة موجهة إِلى هيرودوت في الطبيعيات، ورسالة موجهة إِلى فيتوكليس في الآثار العلوية، ورسالة موجهة إِلىميناقايوس في الأخلاق؛ ومئة وإِحدى وعشرون فكرة هي ملخص المذهب.
غاية الفلسفة بالنسبة لإبيقور كانت الوصول للحياة السعيدة والمطمئنة ولها خاصتين : “Ataraxia “، وتعني الطمأنينة، و السلام، والتخلص من الخوف و” Aponia ” وتعني غياب الألم، والاكتفاء الذاتي محاطاً بالأصدقاء. قال إبيقور أن السعادة والألم هما مقياس الخير والشر، وأن الموت هو نهاية الجسد والروح ولهذا لا ينبغي أن نرهبه، وأن الآلهة لا تكافئ أو تعاقب البشر، وأن الكون لا نهائي وأبدي، وأن أحداث الكون تعتمد بالأساس على حركات وتفاعلات الذرات في الفراغ. (احمد ابوجوده)
6-
حياته
كان والده ووالدته أثينييْن، نوكليس وهارييستريتي، وكان أبوه قد هاجر إلى مستعمرة أثينية بإحدى جزر بحر إيجة تسمى جزيرة ساموس قبل حوالي عشرة سنوات من ولادة إبيقور في فبراير 341 ق.م. تعلم إبيقور الفلسفة في صباه علي يد معلم أفلاطوني يسمى بامفيلوس.
و في الثامنة عشر من عمره ذهب إلى أثينا لمدة سنتين لتأدية الخدمة العسكرية وقد خدم معه في نفس الفئة العمرية الكاتب المسرحي ميناندير.
بعد موت الإسكندر الأكبر، هجّر بيرديكاس جميع الأثينيين المقيمين بساموس إلى مدينة كولوفون التي تقع على سواحل ما يسمى بتركيا الآن حيث ذهب إبيقور إليهم هناك بعد انتهاء خدمته العسكرية. وتعلم على يد نوزيفانس الذي اتبع تعاليم ديموقريطوس .
في العامين 311 و 310 ق.م تعلم إبيقور في ميتيليني ولكنه تسبب في بعض الصراعات وأُرغم على الرحيل. ذهب بعدها إلى مدرسة في لامباسكس قبل أن يرجع إلى أثينا في العام 306 ق.م. وهناك أسس ” الحديقة “، وهي مدرسة فلسفية سماها نسبة لحديقته التي كانت تقع في منتصف المسافة تقريبا بين الرواق الإغريقي المعمد والأكاديمية الأفلاطونية وكانت تعد مكان تجمع أعضاء المدرسة.
رغم تأثره بمفكرين أقدم منه مثل ديموقريطوس الذي اختلف معه في نقطة شديدة الأهمية وهي مبدأ الحتمية، فقد كان إبيقور ينكر دائما هذا التأثر ويتهم الفلاسفة الآخرين بالخلط ويدّعي أنه تعلم ذاتيا.
لم يتزوج إبيقور طوال حياته ولم ينجب. كان يعاني من الحصى الكلوية وتملك منه مرض حتي توفي في العام 270 ق.م عن عمر يناهز 72 عاماً ورغم الألم الشنيع الذي كان يشعر به، كتب إلى صديق له في لامباسكاس يقول : “أكتب لك هذا الخطاب في يوم سعيد، وهو أيضا آخر يوم لي في الحياة، لقد أصبت بانحباس البول والديزنتاريا، وهو شيء مؤلم جدا حيث لا يمكن أن يكون هناك مثيلا لمعاناتي، ولكن بهجة عقلي التي تأتي من إعادة تأمل جميع دراساتي الفلسفية، تخفف عني كل الآلام. أرجو منك الاهتمام بأطفال مترودورس، بطريقة تليق بتفاني هذا الشخص من أجلي ومن أجل الفلسفة”. (احمد ابوجوده)
7-
مكانة المدرسة الإبيقورية في تاريخ الفكر الإِنساني
سيطرت الإبيقورية على حوض المتوسط بأكمله فوجدت مدرسة إبيقورية في أنطاكية، في القرن الثاني قبل الميلاد وتأثرت المذاهب الفلسفية في الإسكندرية بالأفكار الإبيقورية، أما روما، فمع أنها عرفت الإبيقورية في حياة مؤسسها إبيقور، فإِن إِشارات الخطيب الروماني شيشرون الثابتة إِلى الإبيقورية تثبت أنها – أي الإبيقورية – ازدهرت فيها وسيطرت عليها في القرن الأول قبل الميلاد. وكذلك وجدت مراكز للإبيقورية في منطقة نابولي الإِيطالية وجوارها.
ومع أن الإبيقورية كانت ما تزال مزدهرة في القرنين الأول والثاني الميلاديين، فإِنها أخذت تتفكك تدريجياً لتحلّ محلها المسيحية بمؤسستها الكنسية التي سيطرت على الفكر الأوربي في القرون الوسطى، ولكن ما إِن بدأ النصف الأول من القرن السابع عشر حتى لوحظ نوع من إِحياء للإبيقورية سببه معارضة التجريبيين لعقلانية ديكارت.
والباعث على هذا الإِحياء غاسندي الذي وضع النظرية الحسَّوية للمعرفة الإبيقورية مقابل ديكارتية الأفكار الفطرية، ونصَّرَ نظرية إبيقور الذرية بأن عدّ الإِله علة لحركة الذرات، خلافاً لإبيقور ذاته الذي عزا ذلك إِلى الجاذبية الأرضية، كما أنّه رأى في الكون كلاً متماسكاً يتطلب وجود إِله كليّ القدرة، ليوضح قوامه وغائيته.
وقد حاول غاسندي أن يوفق بين دعوته الكهنوتية وتجريبيته المضادة للديكارتية والمتأثرة بالإبيقورية. ويلاحظ كذلك أن نفعية بنتام وستوارت مل قد تأثرت، في جوانب منها، بالأخلاق الإبيقورية. وقد تكون الإبيقورية أول محاولة، في العالم الغربي، لتأسيس مذهب إِنساني كامل.
القانون الإبيقوري
يمّيز إبيقور ثلاثة أقسام في الفلسفة: العلم القانوني والطبيعة والأخلاق. الأول أساس العلم، ويعلم طرائق تمييز الحقيقة من الخطأ، والثاني يبحث في كون الأشياء وفسادها وطبيعتها، والثالث يميّز الأشياء التي توفر حياة سعيدة من الأشياء الضارة التي يجب الابتعاد عنها.
والعلم القانوني والطبيعة في خدمة الأخلاق، وغايتهما دراسة الأسس التي تسمح بالتحرر من الآراء الخداعة، للتوصل إِلى حياة حرّة هادئة ومتزنة.
والقانون الإبيقوري مختلف عن المنطق الأرسطي التصوري، وعن المنطق الأفلاطوني الديالكتيكي، وكذلك عن المنطق الرواقي الشرطي. إِنه منطق لا يحتاج إِلى الكلمات إِلاّ ليشير إِلى ما هو موجود وهو وسيلة للاقتراب من الواقع. وتتجلّى نقطة انطلاق هذا القانون في أنّ هناك أربع سمات للحقيقة: الإِحساسات والتصورات القَبْلية والانفعالات والتصورات الحدسية للفكر.
الإِحساس
الإِحساس في نظر الإبيقورية، ليس صياغة ذاتية ونسبية كما تعتقد الأفلاطونية، وإِنما هو صورة مطابقة للواقع تنشأ من اتصال بين جسمين: الأول خارجي حسي، والآخر ذاتي متعلق بالعضو الحاس، ولما كان الإِحساس خامة تبدأ معارفنا بها، لذا لا يمكن تسويغ صحته بالعقل الذي لا يكون عليه الإِتيان بتفاصيل الإِحساس وانتقاده، بل العكس هو الصحيح.
أي إِنّ الإِحساس يفرض نفسه من دون حاجة إِلى أي تسويغ، لأن مجاله، برأي إبيقور، متقدّم على مجال العقل. وبذا خالفت الإبيقورية المذاهب العقلية التي اعتقدت أن الإِحساس ليس نقطة انطلاق المعرفة الصحيحة، كما خالفت المذاهب الريبية التي أكّدت استحالة المعرفة. فالإِحساس، في نظر الإبيقورية، يمكِّن الإِنسان من العيش في توافق مع الطبيعة ومع المجتمع.
وفي سلام داخلي. وهو الأساس في الأحلام، لأن الظلال الناجمة عن الموضوعات الغائبة هي التي تنتجها عندما تلاقي الحواس، وهكذا أبعد إبيقور السمة الإِلهية عن الحلم، ليجعل من الإِنسان سيد نفسه ومصيره.
التصور القَبْلي
حين يتكرر الإِحساس يُحدث في الذهن معنى كليّاً يُطبّقه الإِنسان على الجزئيات كلما عرضت له في التجربة. فالإِحساس يسمح للمرء بأن يسأل: «هل هذا الحيوان ثور أم حصان؟» ويصدر أحكاماً تتجاوز التجربة الراهنة، مثل قوله: هذا الشبح الذي أبصره هناك هو شجرة.
بيد أن مثل هذه الأحكام لا تصير تصديقات إِلاّ إِذا أيّدها الإِحساس، والأسئلة تعني أننا ندرك معانيها إِدراكاً متقدماً على الإِحساس الذي حملنا على إِصدار الأحكام وطرح الأسئلة. وهكذا فإِن التصور القبلي ليس الأفكار الفطرية كما يدَّعي شيشرون لتناقضها مع مادية إبيقور، وليس فكرة خاصة تبقى في الذهن.
كما يؤكد شتاينهارت، وقد تستدعى الإِرادة بقصد المقارنة، إِنّه، في الواقع، إِحساس متكرر يترك فينا طابعاً واضحاً وأكيداً، وفكرة عامة تؤكد تفوّق الإِحساسات، وذلك وفق انطباعات تتركها فينا إِحساسات متقدمة تشبه الإِحساسات المذكورة.
التصورات الحدسية للفكر لهذا التعبير، الذي يعاين الكون في جملته، منهجان: منهج يؤدي إِلى التصديق بأشياء ليست واقعة في التجربة، مثل الجوهر والخلاء ولا نهاية المادة؛ ومنهج يؤدي إِلى استخراج تفاصيل العالم «من نظرة إِجمالية».
مثل استخراج الظواهر الجوية من معرفة مفاعيل العناصر، وإِذا كان المنهج الأول يمكّن من إِدراك اللامحسوسات، في علاقتها بالمحسوسات، فإِن المنهج الآخر، يمكّن من إِدراك اللامحسوسات ذاتها.
الطبيعيات الإبيقورية:
يتلخص المبدأ الكبير لطبيعيات إبيقور بأن «لا شيء خلق من لا شيء بفعل قدرة إِلهية»، ولا شيء يمكن أن يرتد إِلى العدم. وهذا ما يقود إِلى مبدأ آخر يقول: «إِن الكون مؤلف من جسم وفراغ ومكان»؛ نستدل على وجود الأجسام بالحواس، وعلى وجود الفراغ والمكان بضرورتهما.
وإِلا فلن يكون هناك مكان تتحرك فيه الأجسام فأجسام هذا العالم، الموجودة بأعداد غير متناهية، وفي امتداد الفراغ غير المحدود، موجودة منذ البدء. «أي إِن العالم كان دائماً، كما هو اليوم، وهو هكذا منذ الأزل». أما فيما يتعلق بالذرات، فإِنها، على عددها غير المتناهي.
لا يمكن أن تُستنفد بخلق عالم أو عدة عوالم، لذا فمن الضروري وجود عوالم لا تُحصى مشابهة لعالمنا أو مخالفة له. أما الغاية من دراسة الطبيعة، فهي العيش بأمان تجاه الآخرين والأشياء، ومن ثم الوصول إِلى الرصانة. بيد أنّ هذه الغاية لا يتوصل إِليها إِلاّ من لا يخاف: لا من الأساطير الأخروية، ولا من الظاهرات الطبيعية، ولا من الموت، ولا حتى من الآلهة.
الذرات:
يميّز إبيقور بين نوعين من الأجسام: أجسام مركبة، وعناصر صنعت منها الأجسام المركبة يُطلق عليها الذرات. إِن الأجسام المركبة أنظمة مرتبة يمكن أن تفقد من ذراتها، لأن ليس لها هوية مطلقة.
أمّا الذرة، فهي عنصر صلب متراص ثابت، لا يحتوي على أي فراغ أو أية مسافة، ومع أن للذرات مقداراً يراوح بين حدّ أعظم وحدّ أصغر، فإِنها تبقى غير منقسمة، وللذرات، بالإِضافة إِلى خاصة المقدار، خاصتان أخرىان هما الشكل والوزن.
وأشكال الذرة لا يحصى عددها مع أنه متناه، أما وزنها، فهو السبب في حركة سقوطها نحو الأسفل.
ومع أنّ وزن الذرات يختلف باختلاف مقدارها وشكلها، فإِن هذه الاختلافات لا تؤدي إِلى أي فرق في سرعة السقوط، لأن كل الذرات تسقط في الفراغ بسرعة واحدة وعلى نسق واحد.
الذرات متحركة حركةً محددةً بعناصر ثلاثة هي: الثقل والتصادم والانحراف.
والأول هو سبب الحركة العمودية لسقوط الذرات. والثاني يؤدي إِلى تغيير اتجاه الذرة، من دون أن يؤثّر في سرعتها التي تبقى ثابتة. والثالث يطلق على الحركة التلقائية أو الميكانيكية للذرات التي تحملها على التحول خارج خط السقوط بسبب وزنها.
وعن طريق نظرية الانحراف هذه تتوضح حرية الإِنسان. وهكذا فإِن حرية الإِنسان تقوم على أسس طبيعية مادية، لا على اعتبارات ميتافيزيقية.
ولما كانت الذرات ثابتة، فلا يمكن أن تُسند إِليها كيفيات متغيرة، كاللون والرائحة والصوت وغيرها. فالكيفيات تتعلق بالأجسام المركبة فقط، وهي إِمّا أن تكون محمولات تعود إِلى الجسم ذاته على الدوام، كالصّور، وإِما أن تكون أعراضاً يمكن أن تعود إِلى الأجسام من وقت إِلى آخر، أي على نحو مؤقت، كالعبودية.
المكان والزمان:
المكان طبيعة موجودة لا تُلْمَس، ولا يقاوِم تحرك الأجسام؛ ويمكن أن يشغله جسم ما، فحيث يوجد الجسم يستمر المكان.
وهو، أيضاً، فراغ خالٍ مؤقتاً من أي جسم، وضروري للحركة الدائمة للذرات، إِذ من دونه تستحيل الحركة.
وهو كذلك امتداد، وامتداده غير متناه، لأن الفراغ إِذا كان «محدوداً ومحصوراً، لا يستطيع احتواء الأجسام في عدد غير متناهٍ». أما الزمان، فهو «عرض الأعراض»، لا يوجد في ذاته، ولا نحسُّ به «خارجاً عن حركة الأشياء وسكونها».
فهو يرافق الأحداث التي منها ينتج الإِحساس به.
النفس:
النفس، في نظر إبيقور، جسم حار لطيف للغاية تكمن فيه جميع القوى، ولكن لا يكون إِحساسا إِلاّ إِذا ارتبطت النفس بالبدن: فهو الذي يتيح لها أن تمارس قدرتها على الإِحساس، كما أنها، بالمقابل، هي التي تجعله حساساً، فإِنْ تفرّق شملهما تبددت النفس إِذ إِنها تتكون معه، وتنحل بانحلاله، فهي إِذن مادية وفاسدة.
النفس مؤلفة من تجمع أربعة أنواع مختلفة من الذرات، تأتي منها خصائص الجسم الحي: النَفَس وتأتي منه الحركة، والهواء ويأتي منه السكون، والحار وتأتي منه الحرارة، وأخيراً نوع رابع يأتي منه الفكر الذي يقوم بنشر «الحركات الإِحساسية في الأعضاء».
وهناك تمييز آخر تبقى صلته بالتمييز الأول غير واضحة، وهو التمييز بين الروح والنَفْس: فالروح محلها في القلب، ولها وظيفة وجدانية متمثلة في الإِحساس والفكر والإِرادة؛ والنفس منتشرة في البدن كله ولها وظيفة حيوية قائمة على بث الحياة في الجسم.
وعندما تتحرك ذرات النفس، ويُكرهها الجسم على القيام بحركات معيّنة بنشرها العنصر اللاجسميّ، بما تحمله من إِحساسات بين عناصر النفس الأخرى وخلال الجسم بأكمله، يتولد الإِحساس، فالإِحساسات جميعها تعود إِلى اللمس، حاسة الجسم بأكمله.
وانطلاقاً من هذه الفكرة الأساسية عرف الإبيقوريون أنواع الحواس الأخرى من ذوق وسمع وشم ونظر. فغاية نظرية الحساسية هي إِثبات أن الإِنسان كائن يعيش في اتصال وثيق مع ما يحيط به، وفي توافق مع الطبيعة انطلاقاً ممّا يُنقل إِليه من الإِحساسات، التي بها، وليس بالغائية العنائية، يُقوّم الإِنسان. أما الفكر، فإِنه ظاهرة عارضة متولدة من تنضيد الإِحساسات المباشرة وتركيبها. فالفكر يتولّد من الإِحساس، وبتولده منه يعبّر عن مضمونه المجرّد من كل سمة زمانية ومكانية.
الآلهة:
لم ينف إبيقور مطلقاً وجود الآلهة، بل رفض الأساطير التي أسندها الجمهور إِليها، وعدّ الأفكار التي تُسِندُ إلى طبيعتها دوراً في خلق العالم وتلاحق الزمان من أخطر الأفكار، لأنّ العالم وجد من التقاء الذرات ولا يجوز الاستنجاد بالطبيعة الإِلهية لتوضيح انتظام دوران الكواكب وتلاحق الزمان، إِذ ليس هناك لا عناية ولا قدر،
بل كل الأشياء من نتاج المصادفة. وهكذا فإِن الآلهة موجودة، ومن ينفي وجودها كمن ينفي البداهة.
فنحن، أولاً، نرى في المنام وفي اليقظة أشباهاً لابدّ أن تكون منبعثة عن الآلهة ذاتها، وهذه تجربة تكفي لإِثبات وجودها وثانياً، عندنا عن الآلهة تصور قبلي بأنها موجودات سعيدة ومغتبطة تحيا في طمأنينة وسعادة كاملتين وثالثاً، لابد من أن يقابل الوجودَ الفاني المتألم وجودٌ دائمٌ سعيدٌ، هو الآلهة المجبولة من مادة نقية خالصة، لا يتطرق إِليها الفساد.
الأخلاق الإبيقورية:
تهدف الأخلاق الإبيقورية -القائمة على مادية واضحة- إِلى بيان أن مذهب المتعة هو أسهل الطرق إِلى الحكمة؛ على طريق إِعطاء الحكيم إِمكانية إكفاء ذاته بذاته في وحدانية هادئة بعيداً عن الانفعاليين الحمْقى.
وهي تدور حول غايتين أساسيتين هما: اللذة، وحالة الطمأنينة والخلو من الهموم. ومع أن التوفيق بين هاتين الغايتين ليس سهلاً، فإِن جوهر الأخلاق الإبيقورية يكمن في الصلة بينهما. بيد أن الغاية الوحيدة التي يسلم بها إبيقور على ما يبدو، هي اللذة.
أما الطمأنينة فلا قيمة لها إِلاّ بقدر ما تكون تابعة للذة ومنتجة لها. ولهذا صوّر خصوم الإبيقورية الإبيقوريين في صورة فُسّاق وفَجَرَة لا يردعهم عن شهواتهم روادع.
ولكن بعضهم أقر، ولاسيما سنيكا Seneque الرواقي وفورفوريوس الأفلاطوني، بالسمو الأخلاقي للتعاليم الإبيقورية مستشهدين ببعض مبادئها.
والواقع أن مفهوم إبيقور عن اللذة مغاير لمفهوم القورينائيين لها، وذلك لأسباب ثلاثة، أولها، أن إبيقور قد قال بالمتعة الثابتة والمقوّمة، خلافاً للقورينائيين الذين قالوا، بتأثير فكرة هيرقليطس Heraclite في التحوّل والتغيّر، باللذة المتحركة،
وثانيها: أنّ إبيقور لم يسلّم إِلاّ بلذة واحدة حسية هي لذة الجسد والبطن، خلافاً للقورينائيين الذين سلموا باللذات الفكرية. وثالثها: أن اللذة، في نظر إبيقور، ليست، كما تخيّلها القورينائيون، حركة وجيشاناً، وإِنما هي لذة تقوم على غياب الألم الجسدي والاضطراب النفسي.
وهنا تبدأ مشكلة التوفيق بين مبدأين إبيقوريين: الأول يقول إِن الخير يتم اختياره دوماً بالإِرادة؛ والآخر يؤكد أن كل لذة خير وكل ألم شر، لكن لا يتم اختيار كل لذة، ولا تحاشي كل شر بالإِرادة دائماً. وهنا يميّز إبيقور، كالقورينائيين، موضوع الإِرادة المتبصرة من الغاية موضوع الميل المباشر.
فإِذا كان الميل يحدو إِلى اللذة، فإِن على التبصر بالمقابل أن يزنعواقب كل لذة. وهكذا تُهمل اللذات التي تجرّ فائضاً من الآلام، وتُتحمل الآلام التي تأتي بلذات أكبر.
ولهذا جعل إبيقور اللذات على ثلاث مراتب: اللذات الطبيعية والضرورية التي لا بد من إِشباعها، كالرغبة في الأكل؛ واللذات الطبيعية وغير الضرورية التي تطلب التنوع في إِشباع الحاجة، مثل الرغبة في تناول نوع معين من الطعام من دون غيره؛ وأخيراً اللذات اللا طبيعية واللاضرورية. كالرغبة في تاج، وهي رغبات فارغة باطلة.
وهكذا فالحكيم هو من يعلم أنّ أعلى درجات اللذة يمكن بلوغه بإِشباع النوع الأول من الرغبات، أو بالأحرى، بالاكتفاء بالقليل والتلذذ بما تضعه الطبيعة المتبصرة بتصرفه.
وهذا المبدأ يبيّن أن ضابط الرغبة لا يقوم في الإِرادة المقابلة لها، وإِنما في اللذة ذاتها.
فالأخلاق الإبيقورية طائفة من التوجيهات التي تلجم الفكر عن الشرود وتردعه عن تجاوز الحدود التي عينتها الطبيعة، والتقيّد بهذا المفهوم يوضح العلاقة بين الفكرتين المحوريتين، اللذة والطمأنينة.
فطلب اللذة يستتبع وجوباً كل تلك التمارين العقلية: من تأمل في الحد الطبيعي للرغبات، ومن حساب اللذات، ومن تصور اللذات الماضية أو المستقبلة التي يكوّن جانبها السلبي طمأنينة النفس.
وهكذا يتوصل الحكيم بالعلم القانوني والطبيعيات والأخلاق، إِلى أمور أربعة هي التالية: عدم الخوف من المغيّبات، وعدم الخوف من الموت، والحصول على الخير بسهولة، واحتمال الألم بسهولة.
فالحكيم إِذن موجود حرّ، تحرّر من فكرة الضرورة ومن الآخرين، أي إِنّه من دون سيّد، ويكفي ذاته بذاته. وصفوة القول إِنّ إبيقور إِنسان فكَّر بتعمق حول تفسّخ الأخلاق وحول الصيغ المختلفة للهستيريات الجماعية، وأراد، من خلال رسالته إِلى معاصريه، أن يبيّن لهم أن على الإِنسان أن يكون سيد قدره.
يدل تقارب العديد من الإتجاهات الفلسفية المعاصرة مع تعليمات إبيقور علي أن أسس المذهب الإبيقوري لا تزال سليمة وعلي أن أهميتها لمستقبل الفلسفة ل تقل عما كانت لماضيها/ هذا بصرف النظر عن سوء الفهم البالغ التي تعرضت له أفكار إبيقور من كثير من معاصريه.
في مقدمته لقراء أبقراط، قام د/س. هاتشنسن بشرح التعريفات المختلفة للإبيقورية علي مر العصور وجائت كالآتي:
“أنشأ إبيقور نظامياً فلسفيا وأسلوباً للحياة يستحقا احترامنا بل وولاءنا. ذلك النظام الحياتي الإبيقوري أغري الآلاف لاتباعه والالتزام به في المجتمعات البحرمتوسطية القديمة التي ظلت متماسكة لمئات السنين. ولكن، منذ بداية مسيرته التعليمية لم تسلم رسالة إبيقور من الاعتراضات ومحاولات التشويه من فلاسفة أكاديميين وسلطات سياسية ثم دينية مسيحية. لم يحدث رغم كل ذلك أن هجر الإبيقوريون فكرهم أو أبدلوه بفكر فلسفي آخر بل علي العكس كانت المدارس الفلسفية الأخري تفقد طلابها لصالح المدرسة الإبيقورية،
لماذا؟ لأنهم ببساطة وجدوا أن لهذا الفكر معني حقيقي ومنطق متماسك. فسر أركيسلوس -فيلسوف من ألد خصوم إبيقور- إقبال الفلاسفة علي الفكر الإبيقوري بطريقة حادة لا تخلو من الازدراء فقال: “يمكنك أن تحول رجلاً سليماً إلي رجل مخصي ولكنك لا يمكنك أن تفعل العكس”. بينما في العصور الحديثة، حاول منتقدو إبيقور تقديمه كإنسان كسول، سطحي، عاشق للملذات، غير أخلاقي وفلسفته كتقليد سيء وملحد للفلسفة الحقيقية.
في أيامنا هذه، كلمة إبيقورية أصبحت تعني عكسها فصارت حماسة مدعية لكل ما هو باهظ الثمن من طعام وشراب. لذا، أرجو منكم أن تحظوا بالشجاعة الكافية لتجاهل ألفي عام من الأفكار المسبقة الخاطئة وإعطاء هذا الفيلسوف القدر الذي يستحقه” (احمد ابوجوده)
8-
الفكر السياسي الابيقوري
اما عن الفكر السياسي الابيقوري وفلسفته الخاصة التي تستند إلى الجانب الشهواني والابتعاد عن ساحة المتافيزيقة والموضوعات التجريدية بينما اصالة الفكر السياسي قائم على الاعتبار العقلي مع مرونة الموضوع. وإمّا عدم تمسكة بالتساوي المركزي فهو على عكس ما تصوره من وجود العداء والتباغض لإنّ الاعمال الوظيفية إذا كانت في خط المساواة توجب انعدام البغضاء والعداء. (احمد ابوجوده)
9-
الابيقورية والدين
أعتبر الابيقوريين الدين والموت اساسين للخوف فدعوى بدون برهان لإنّ الخوف من الصفات الغريزية، وليست من الأفعال المكتسبة، فالدين يوجب العقاب الآخروي على مخالفة المقررات القانونية الآلهية.
كما يسري على ضوئه التشريع الوضعي عند مخالفة مقرراته القانونية يلاقي العقوبات الجزائية، كما أن الموت يعاكس غريزة البقاء، فلابد أن يدرسا بما هما لا بما ينتج عنهما الخوف حتى يكونا في صفحة السير المعاكس للذة والسعادة.
ويبدو في تصوير الابيقوريين لكيان الدول على اساس الأمن والإطمئنان والوقوف امام المغيرين فهذا في واقعة قد اعطى بعض الأضواء عن حياة الدول واثرها الاجتماعي، ولم يوف الجوانب الآخرى التي ترتكز عليها صفحات الدول.
وإمّا تصويرهم في المجتمع البشري على الانانية والانطواء الذاتي وإنّ كنا نعتقد أن الاصالة للفرد دون المجتمع لكن هذا لايقر على وجود الانانية، بل من حيث اصالة ذاتة ولكنه يرتبط بعلاقات على اختلاف أسبابها مع ماتجد معه في النوعية الحيوانية الناطقية. (احمد ابوجوده)
10-
وادناه بعض الحورات الابيقوريه الاساسيه
والتي تبين يعض جوانب فلسفته في الحياه :
1- اذا كان الله كامل وكلي القدره فهو اذن في سلام دائم ولذا لايمكن ان يغضب او ان ينزعج من اي شيء او من اي مخلوق لان غير الكامل هو الذي ينزعج ويغضب ويضطرب واذا كان الله كاملا فهو لايحتاج الى اي شيء او الى اي احد لانه اذا احتاج الى شيء او طلب من اي احد شيء ما سيكون ليس الخالق الكامل او الكلي القدره .
2- ان الموت لايعني لنا الكثير فعندما يتحول الجسد والدماغ الى تراب ورماد لن يبقى هناك شعور او تفكير .
3- ان قمه اللذه ان تكون حرا من الحسد.4- من المستحيل ان تكون سعيدا بدون ان تكون حكيما ومحترما وشريفا ومن المستحيل ان تكون حكيما ومحترما وشريفا بدون ان تكون سعيدا .السعاده تعتمد على ممارسه الحكمه ،الاحترام والامانه وان تكون مهملا لواحده من هذه الامور يعني ان حياتك سيسودها الاضطراب والضياع والاسى .
5- ليس هناك لذة او متعه هي سيئه بحد ذاتها او لذاتها ،ماهو سيء هو ان لاتستخدم عقلك عندما تختار اي من المتع التي تقبل عليها او تلك التي تتجنبها .
6- اذا كان مايجلب البهجه لحياه الانسان يسهم يتحريرهم من الخوف من الرب والموت ويسهم بتعليمهم كيقيه التحكم برغباتهم بشكل عقلاني ومنطقي ،سيصبحوا احرارا من اي الم جسدي او عاطفي وسيكونون بدون اخطاء ويكون هذا بدايه القضاء على الشر .
7- اذا لم يتعكر صفو اذهاننا بايه خرافات حول المذنبات والنجوم الساقطه او ايه خرافات فلكيه اخرى وبالخوف من الموت وبقله معرفتنا بحدود الالم او كيف تعامل بمنطقيه مع رغباتنا سيكون سهلا علينا ان نمتلك معرفه كليه وشامله لعلوم الطبيعه .
8- ان اي منا لن يكون متحررا من جميع الافكار المزعجه والمخيفه اذا لم يكن لديه معرفه علميه دقيقه وشامله للطبيعه وإلا فسيكون بدون ذلك تحت سيطرة الخرافات والاساطير.
9- ان الغنى الحقيقي هو ان تملك ماتحتاجه فعلا لحياه هانئه سعيده ومن الخطأ ان تتصور ان الغنى والجاه ستنهي كل متاعبك بل ستسهم بارهاقك طول حياتك .لن تعطيك الحياه الخاله من السغاده اكثر مما تعطيك حياتك الفانيه اذا استطعت ان تحيا حياه عقلانيه وان تبني فهما صحيحا للبهجه في هذه الحياه .
من اقوال ابيقور المأثورة في الله والموت:
هل يريد الله ان يمنع الشر , لكنه لا يقدر ؟
حينئذ هو ليس كلى القدرة !!
هل يقدر , لكنه لا يريد ؟
حينئذ هو شرير !!
هل يقدر ويريد ؟
فمن اين يأتى الشر اذن ؟
هل هو لا يقدر ولا يريد؟
فلماذا نطلق عليه الله اذن؟
Is God willing to prevent evil, but not able?Then he is not omnipotent.Is he able, but not willing?Then he is malevolent.Is he both able and willing?Then whence cometh evil?Is he neither able nor willing?Then why call him God?
اما ان الله يريد ان يمحو الشر لكنه لا يقدر , او انه يقدر لكنه لا يريد , او انه لا يقدر ولا يريد
ان كان يريد , ولكنه لا يقدر , فانه ليس كلى القدرة
ان كان يستطيع , ولكنه لا يريد , فانه شرير
لكن ان كان الله يقدر ويريد ان يمحو الشر , فلماذا يوجد الشر فى العالم ؟
Either God wants to abolish evil, and cannot; Or he can, but does not want to; Or he cannot and does not want to. If he wants to, but cannot, he is impotent. If he can, but does not want to, he is wicked. But, if God both can and wants to abolish evil, then how come evil is in the world?
لماذا أخاف من الموت ؟
فطالما انا موجود , فان الموت لا وجود له
وعندما يكون الموت , فأنى لست موجودا
فلماذا اخاف من ذلك الذى لا وجود له عندما أكون موجودا ؟؟
Why should I fear death? If I am, death is not. If death is, I am not. Why should I fear that which cannot exist when I do?
لو ان الالهة تنصت لصلاة البشر لهلكوا سريعا اجمعين , لانهم لا يتوقفون عن الصلاة التى يدعون فيها ان يصيب الشر بعضهم بعضا
If the gods listened to the prayers of men, all humankind would quickly perish since they constantly pray for many evils to befall one another.
لم أبالى ابدا بالعوام , لان ما اعرفه لا يوافقوننى عليه , وما يتفقون عليه لا اعرفه
I have never wished to cater to the crowd; for what I know they do not approve, and what they approve I do not know. (احمد ابوجوده)
تابع هنا الجزء الثاني من أهم المذاهب والمدارس في الفلسفة اليونانية: الأبيقورية 2