الجندر هو بنية إجتماعية من الأفكار التي تعرف الأدوار و نظم الإعتقاد و المواقف و الصور و القيم و التوقعات للرجل و المرأة. و هي تسهم بشكل كبير بعلاقات القوة ، ليس فقط بين الرجل و المرأة، لكن أيضاً بين المجموعات، و هذا ينتج الكثير من المشاكل الإجتماعية. الثقافات المختلفة لديها أفكار مختلفة حول الجندر، حول ما هو المناسب للرجل و للمرأة القيام به و ما يجب أن يكون عليه. لا يختلف الجندر من ثقافة لثقافة فقط بل أيضاً يمكن أن يتغير مع الوقت أو من الممكن أن يتغير في ثقافة ما خلال وضع أزمة.
ما هو الفرق بين الجندر و الجنس؟
الجنس يشير إلى الإختلافات البيولوجية الطبيعية بين الرجل و المرأة. الكثير من هذه الإختلافات واضحة و ثابتة، حتى في وجود بعض الإختلافات البيولوجية عبر الطيف. بينما الجندر هو مبني على أساس المثل الثقافية و النظم الإعتقادية والصور و التوقعات حول الرجولة و الأنوثة في مجتمع معين.
كيف يرتبط الجندر بالسلطة و العدالة؟
ينظر في الكثير من الثقافات لخبرات الرجال و مفاهيمهم على أنها الأمر الطبيعي. و يؤخذ السلوك الرجولي الغيري جنسياً على أنه السلوك القياسي. ينظر إلى ممارسة القوة، خصوصاً علناً، على أنها سلوك رجولي. يفترض في معظم الثقافات أن الرجل هو قائد الأسرة و المجتمع بينما ينظر للمرأة على أنها التابعة و الداعمة. من الممكن أن يعني هذا الإفتراض أنه ليس للنساء و الفتيات الكثير ليقلنه في قرارات تمس حياتهن. و من الممكن أن يعني هذا أيضاً أن الرجال الذين لا يتبعون الأدوار التقليدية يواجهون انتقادات علنية. لكن و لأن الجندر هو فكرة مبنية إجتماعياً فإنه من الممكن تحديها و تغيير المفاهيم القمعية حول أدوار الذكور و الإناث. و هذا هو ما نسميه عدالة الجندر.
كيف يؤثر الجندر على أولادنا وبناتنا؟
يبدأ تأثرنا بالمفاهيم الإجتماعية حول الجندر من اللحظة التي نولد فيها. فقد حقنت الرجولة في عقلية الأولاد بطرق مختلفة. فهناك ضغوط إجتماعية عليهم لإنكار مشاعرهم و التصرف بقوة جسدية و إثبات جدارتهم عن طريق السيطرة أو المنافسة مع الأخرين.
و قد ينظر إلى السيطرة أو السلطة على الأخرين و العنف على أنها علامات من علامات الرجولة. تقوض هذه التنشئة الإجتماعية الكرامة لأي شخص. يعامل الأولاد و الرجال عادة بوحشية لإعدادهم للخدمة العسكرية.
فالحرب بحد ذاتها هي عنف مبني على الجندر و هي ضد الرجال، فالرجال و الأولاد يجبرون على القتال و القتل. على الجانب الآخر فإنه من ناحية إجتماعية يكون على الفتيات عادة إنكار ثقافتهن و أن يكن مستمعات جيدات و مهذبات و مطيعات و كما انه عليهن إثبات جدارتهن عن طريق وضع إحتياجات الآخرين أولاً.
قد ينظر للسلبية و قبول الظلم على أنهما من علامات الأنوثة. تقوض تنشئة إجتماعية كهذه كرامة الإنسان و تعزز من خلق الضحايا.
استعمل مفهوم حماية النساء و الفتيات في الدعاية والتحريض و تبرير الحروب.
الحرب بحد ذاتها هي عنف مبني على الجندر ضد النساء حيث إستعمل العنف الجنسي كسلاح حرب.
لماذا يجب على حركة السلام أن تتعامل مع قضية العنف المبني على الجندر؟
يعطي مفهوم الجندر نظرة ثاقبة على العمل من أجل السلام و العدالة. تكمن الأفكار حول الذكورة و الأنوثة في جذور العنف و تستخدم لدعم الصراعات المسلحة. مستوى العنف ضد النساء و الفتيات في وقت السلم هو مؤشر مهم حول مدى عدالة و سلمية المجتمع.
ستكون منظمات السلام والعدالة التي تريد أن تنهي عنف الحرب أكثر فعالية إذا إستوعبت كل طيف العنف في مجتمعها و قامت بتحديه.
يعرف الناجون من العنف المبني على الجندر خلال الحرب أن المصالحة مستحيلة بدون تحقيق العدالة بما يخص الظلم المبني على الجندر.
يجب أن يتم كسر الصمت حول العنف الجنسي ضد الأولاد و الرجال أيضاً. لا تستطيع حركة السلام تجاهل قضايا تتعلق بالجندر خلال الحرب مثل زيادة عسكرة النساء و من ناحية اخرى الإسهامات التي تقدمها النساء و الفتيات من مهارات و قيادة لعملية بناء السلام، و أيضاً الإلمام بحقيقة أن توقعات الجندر تشجع الرجال على القتال.
لماذا يعتبر مفهوم الجندر مهم في عملنا؟
يفترض أولئك الذين يعملون من أجل التغيير الإجتماعي عادة أنهم خالون من الإفتراضات و التوقعات الداخلية حول الجندر و لذلك فهم ليسوا بحاجة للتعلم و تغيير أنفسهم.
إن خلق الوعي و تغيير أنفسنا و الديناميكيات ضمن منظماتنا حول قضايا الجندر هو تحول مهم على الصعيد الشخصي و التنظيمي و هو في حد ذاته فعل لتفكيك العنف البنيوي في المجتمع.
من الصعب العمل على قضايا الجندر لإنها حول كل منا و لا نستطيع تجاهلها. لأننا جمعياً متأثرين بها، و لذلك فإننا نواجه مخاوف عندما يتم طرح الموضوع للتعامل معه.
لا نعرف كيف نتعامل معه أو لا نريد أن نقوم بذلك، و نحن خائفون من مزيد من الصراع و الإنقسام.
من السهل عادةً القول إنه ليس من أولوياتنا القيام بهذا الآن. و لكن من المهم أن نحاول أن نستقي التشجيع من أمثلة حول مجموعات و حركات قامت بالتعامل مع الموضوع و اين بدأت هذه الحركات بإثارة الأسئلة المتعلقة بالجندر.
ربط قضايا السلام و الجندر: مثال (نيوبروفيل في إسرائيل)
كيف تستطيع “مجموعة سلام” دمج الوعي بالجندر في إطار العمل السلمي؟ من الممكن أن يتم ذلك من خلال الهوية التنظيمية والهيكلية و التدريب و توجيه الأعضاء و من خلال عملية التطوير لإستراتيجيات برنامجها. تصف (نيوبروفيل) في إسرائيل، حركة سلام إسرائيلية، نفسها بإنها ” مجموعة من النساء و الرجال المؤمنين بحقوق المرأة 1المقتنعين بإننا لا نحتاج ان نعيش في دولة جنود”. يعرف هذا التحديد الواضح العلاقات بين الجندر و السلام من البداية لأي شخص يأتي في إتصال مع المنظمة. تكسر نيوبروفيل الأنماط التنظيمية التقليدية عن طريق تناوب الأدوار القيادية و جميع الوظائف المدفوعة الأجر و تحاول تجنب وجود تسلسل هرمي من الأنشطة. تتضمن تدريبات المجموعة الكثيرة ، ورشات العمل و الحلقات الدراسية و مجموعات الشباب و المؤتمرات ، دائماً تحاليل عن كيفية إرتباط الجندر و العسكرة في الثقافة و المجتمع الإسرائيليين. و هي تقوم أيضاً بعقد حلقات دراسية تستمر ليوم كامل تتناول هذه الإرتباطات بشكل عميق. في أحد هذه الأيام الدراسية في العام 2007، على سبيل المثال، تم إستخدام صور لمجندات من أرشيف الجيش للنظر في التجنيد العسكري للنساء في إسرائيل و العسكرة بشكل عام للمجتمع. مع مثل هذه الفرص للدراسة و النقاش، يقوم أعضاء نيوبروفيل بتطوير وعي أعمق بالجندر بالتحليلات الخاصة بمشكلتهم مع العسكرة و لتخطيطاتهم الإستراتيجية للنشاط. لا ينظر مشروع نيوبروفيل ” الأسلحة الصغيرة و الأسلحة الخفيفة” فقط لمشاكل و هيكليات التجارة الإسرائيلية للسلاح بل أيضاً يحقق في كيفية تأثير الأسلحة الخفيفة على حياة الأفراد ، وكيف تستطيع نيوبروفيل المساعدة في إعادة تعريف مصطلح “الأمن” في الثقافة الإسرائيلية
تلاحظ
يمكن الحصول على المعلومات حول هذا الموضوع من هذه الوثيقة و هي مقتبسة من مواد و ضعت من قبل الجماعة الدولية للمصالحة برنامج النساء صانعات السلام http://www.ifor.org/WPP/index.html و أيضاً هنا حيث تم التوسع في الموضوع في الدليل التدريبي لشراكة النساء الدولية للسلام و العدالة http://www.womenforpeaceandjustice.org/
الجندر والدين
مارس 2018
إنّ وقع دراسات الجندر على فهم الدين قد تحوّل بسرعة لافتة إلى ورشة بحث عملاقة[1]تهدّد أغلب الادّعاءات التأويلية والأخلاقية وحتى السياسية التي بناها “المؤمنون” و”الملحدون” في كل الثقافات ليس فقط عن أنفسهم وعن هوياتهم الخاصة، بل خاصة عن نموذج العيش الذي أسّسوا عليه مجتمعاتهم. ويبدو أنّه لم يعد ممكنا أو مبرّرا أبدا مواصلة تأويل الدين أو حتى مواصلة أشكال التديّن التقليدي من دون الاصطدام بأسئلة الجندر التي أخذت أوّل الأمر معنى فضفاضا يشير إلى “النساء” أو أدوار المرأة بعامة، لكنّه تحوّل لاحقا إلى مصطلح متين ومركّب، يشمل كلّ ميدان الذكورة والأنوثة في كل سياسات الهوية والتمثّلات التي تبنيها المجتمعات عن سلوكيات الجنسين. وربما يمكن للباحث أن يعتبر نظرية “الكوير” (الكوير هو غريب الأطوار أو الشاذ ولكن من دون معنى ازدرائي هو “الجنس الحر”) هي الورشة التي خرجت منها أكثر التساؤلات طرافة عن مفردات الدين اليهودي-المسيحي، ولاسيّما المسيح أو الله[2]. ومن ثمّ، فإنّ الخطر المعياري الأكثر طرافة (أو تطرّفا) ليس البحث في جندر الله، بل في طرح السؤال اللاهوتي عن الإله “الكوير” كما يمكن أن يؤمن به المثليون ما بعد المحدثين، وهم يحاولون الانتقال خارج أفق الدين التقليدي “من اللاهوت المثلي إلى اللاهوتيات الجنسية الحرة”.[3]
بلا ريب قد يبدو التمييز التقليدي بين “الجنس البيولوجي” للمولود (ذكر/ أنثى) وبين “الجندر” أو النوع الثقافي” الذي يُفترض أن ينتمي إليه في حياته (رجل/ مرأة)، بديهيّا بل إنّه إجراء شكلي في أية ثقافة، فهو لا يحتوي لأوّل وهلة على أيّة خطورة معياريّة خاصة؛ نعني خطورة على أخلاقه أو سياسة هويتّه أو طبيعة السلطة التي تُمارس عليه أو يمارسها. لكنّ ما قد يبدو أبعد حقّا عن النقاش حول هوية الجندر هو نوع الإيمان الذي يمكن أن يعتنقه أو نوع الإله الذي يمكن أن يؤمن به هذا المولود في يوم ما. طبعا، نحن إلى حدّ الآن، قد تورّطنا سلفا في الحديث عن “مولود” وليس عن “مولودة”. وهذا بحدّ ذاته لا يُحسّ من فرط الانصياع الصامت لتوزيع جندري لا نراه غالب الأحيان، لأنّه يستفيد من تواطؤ النحو واللغة معه، قبل تواطؤ المجتمع أو الدين.
لكنّ الباحث يصطدم هنا بظاهرتين تعمل الواحدة منهما على طمس الأخرى: إذ بقدر ما يعمل كلّ دين على توحيد ماهية النوع البشري بواسطة إيمان “غير مجنوس” و”غير مجندر” في آن، ينزع السؤال عن الجندر إلى تشقيق الهوية في ضوء الفرق المعياري الذي تحمله في “ذاتها” بين “الجنس” البيولوجي و”النوع” الثقافي، بين الهوية الموروثة وسياسات التذوّت الحرّ. إنّ الإيمان مجندَر سلفا، وذلك طالما هو يعتنق عقيدة “الإله”[4] الواحد (الذكر النحوي والأنطولوجي) الذي يحميه “الرجال” وتخضع له “النساء” باسم تشريع مقدّس حول التمييز الجنسي بين الذكر والأنثى.
- كان الدّرس الأخلاقي التقليدي يعتبر “الإنسانية” بمثابة الوحدة الأخلاقية العليا أو الأخيرة التي انطلاقا منها يبدأ الاتصال بالكائن المتعالي أو الله. قد يبدو أنّ التبذير الوحيد هنا هو التضحية بالكثرة البشرية المفردة في كل مرة وبأصالة كل شخص على حدة، وذلك من خلال المساواة الوجودية بين الناس كافة في “نفس” واحدة أو كلية هي الإنسانية جمعاء؛ أي مجموع الزرافات المؤمنة التي يمكن أن تنضوي تحت سلطة الإله الإبراهيمي دون سواه. لكنّ ما يسكت عنه الدرس الأخلاقي التقليدي هو أمر مضاعف: ليس فقط التوزيع الجنسي للمؤمنين، بل التنضيد الجندري لهوياتهم.
إنّ المشكل عندئذ هو: ما هو الدور الذي أدّاه الجندر في تنظيم لعبة المعنى الجنسي التي يقوم عليها الدين التوحيدي؟[5] الإيمان لعبة معنى مجنوسة ومعقّدة بلغت في كتابات كيركغارد أو نيتشه إلى طور المفارقة التي تدعو إلى التفكير من دون أيّة ضمانات لاهوتية جاهزة. إلاّ أنّه من الاستخفاف الكبير بتعقّد الطبيعة الإنسانية أن ننخرط في إلحاد جديد[6]، نعني قائم على محاججة تستند إلى نتائج العلوم الطبيعية الراهنة، من أجل دحض الإيمان أو مقاومته. كلّ إلحاد حجاجي هو ضجيج خارج أفق الدين؛ وذلك أنّ الأسئلة الأكثر خطرا عن هذا السلوك في العالم، إنّما توجد على مستوى آخر من البحث. وإنّ أفضل مثال راهن على هذا المستوى الآخر هو مسألة الجندر. لا أحد يمكنه التملّص من جندره؛ وذلك أنّه لا أحد على استعداد لأن يراجع جنسه. طبعا، ثمّة متحوّلون، نعني بذلك الجندر الذي ينتج عن الانتقال من جنس إلى جنس آخر، وذلك بإجراء عمليّة جراحية على الجسم. ولكن هل مجرّد تغيير أعضاء الرغبة أو التناسل يؤدي فعلاً إلى تغيير الهوية؟
على هذا المستوى يدخل الدين بأسئلة محرجة: إنّ الجندر لا يغيّر “الروح”. طبعا، يمكن أن ندخل في نقاش معقّد حول الفرق بين “الروح” و”النفس” (كما فعل ذلك الفكر الوسيط) أو بين “النفس” و”الذات” أو بين الأنا والهو (كما يفعل المعاصرون)، إلاّ أنّ ذلك لا يمكن أن يغيّر طبيعة المشكل من دون أن يؤدّي إلى تدمير “الهوية” التي يدّعيها شخص ما عن “نفسه”: أنّه “هو” وليس شخصا “غيره”. وحسب ماكنتاير أو ريكور أو رورتي لا يصمد عندئذ من معنى الهوية إلاّ الرابط السردي. لا يحمي الفرد المعاصر من الانهيار سوى الهوية السردية التي ينجح في تنظيمها حول نفسه. لكنّ الجندر يطرح صعوبة تتجاوز نقاش الفلاسفة المحدثين حول الهوية/الذات المؤسِّسة.[7]
إنّ الدين التوحيدي قد وفّر هو أيضا سردية متماسكة حول أدوار الجنس (بين الذكر والأنثى) وأدوار الجندر (بين الرجال والنساء). لكنّ هذه السردية قد تبدو فقيرة من حيث الاقتراحات التي تقدّمها عندما نقف على سيطرة جندر على جندر آخر باسم الجنس. ولذلك، فإنّ الاجتهاد من أجل إنقاذ تأويلي عنيف للمقاصد الدينية المفترضة من قوامة الرجال على النساء أو من تفضيل الذكر على الأنثى هو موقف خطير، ويمكن أن يؤدّي إلى زعزعة سردية الإله التوحيدي.
من أجل ذلك انخرطت الدراسات النسوية بشكل حثيث في ما سمّاه بعض الباحثين “جندرة تاريخ الأديان”[8]، وذلك لأنّ الدين التوحيدي هو المدوّنة الأكثر تأثيرا على بناء الهوية الحديثة للإنسانية أكانت هوية مجنوسة (مذكّرة أو مؤنّثة) أو مجندرة (رجال/ نساء). وصار المشكل الحاسم هو: كيف ندرس الدين من منظور الجندر؟ بالطبع علينا الاحتراس من مجرّد الخلط بين الدراسات النسوية ودراسات الجندر. لكنّ ما وقع هو أنّ تطبيق الجندر على الدين قد جاء يشبه ضربا من الثأر النسوي من الجندر التوحيدي. وقد يبدو أنّ الجندر الذكوري لا يبذل احتجاجا صريحا حول التوزيع الجندري للكتب المقدسة، من حيث قد يُفترض أنّه في صالحه.
لكنّ بعض الدراسات الجندرية تشير إلى أنّ النساء أكثر ميلا للتديّن من الرجال[9]. هذا المعطى الإحصائي يبعث على التساؤل: إذا كان الدين هو مصدر التشريع الذي يستند إليه الرجال عادة في تبرير جندرة دور المرأة فكيف نفسّر أو حتى كيف نفهم ميل النساء لأن يكنّ أكثر تديّنا من الرجال؟ من اللافت أنّ التفسيرات المقدّمة غالبا قد كانت هي نفسها تفسيرات مجندرة: أنّ الأنثى تتماهى مع الإله بوصفه صورة عن الأب الذكر ومن ثمّ تجد الدين أكثر جاذبيّة على خلاف ما يفعله الذكور.[10] لا ريب أنّه توجد تفسيرات أخرى تحرص على اعتماد مفهوم التنشئة الاجتماعية، مثلا، حيث تفترض أنّ تجارب الطفولة المبكّرة للأنثى هي التي تهيّئها للقيم الدينية في دور المرأة مثل حلّ المشاكل والخضوع والرفق والحنان، وتعتبر في المقابل أنّ هذه القيم هي أقلّ تناغما مع دور الرجل. كذلك ثمّة من يتخطّى نطاق التفسيرين السابقين، ويعتمد معالجة بنيوية: إنّ الموقع البنيوي للأنثى داخل المجتمع، مثل الإنجاب أو قلة المشاركة في عالم الشغل أو القيم المنزلية، هو العامل الأنسب لفهم ميل النساء إلى التديّن. ومع ذلك، فإنّ السؤال لا يزال يطرح دوما: لماذا تكون النساء أكثر تديّناً؟ وهل هناك رابط بين الفيزيولوجيا والإيمان؟
لا يمكن تأويل الجندر النسوي بمعزل عن ثقافة الجندرة التي غزت كلّ الثقافات تقريبا وهيكلت الحضارات الكبرى التي نعرفها. وإنّ أعلى فكرة تواجهنا هنا هي فكرة الله المجندَر أو جندر الله. – ربما من المفيد أن نهتمّ ليس بانتقال الإنسانية من الشرك إلى التوحيد بقدر ما يجدر بنا أن نوجّه أسئلتنا نحو ظروف الانتقال من تأنيث الألوهية في عصر “الربّات” أو “الإلاهات” إلى عصر الأرباب أو الآلهة في صيغة المذكّر، وإن كان يمكننا دوما أن نحتفظ بالفرق الاستعاري بين الذكر والمذكّر هنا: إنّ الإله التوحيدي مذكّر دون أن يُتصوّر بوصفه ذكراً بالمعنى التناسلي. والتنبيه على أنّه “لم يلد ولم يولد” هو بالأساس تنبيه جندري، وليس لاهوتيا إلاّ عرضا. إنّ المرور من الواحد (يَهْوَه- YHWH) إلى الكثرة (إلُوهِيم- Elohim) ربما هو حدث لاهوتي داخلي لا يمسّ بجندر الإله في ثقافة التوحيديين. “الله”، إذا كان يرجع في جذره اللغوي السامي إلى “إلوهيم” اليهود، فهذا يعني أنّه إله الآلهة أو الإله الذي لا تعدو الآلهة الأخرى أن تكون سوى تعبيرات أو أسماء أو تجليات عنه. لكنّ ما لا يتغيّر هو جندر الإله/الأب[11]: إنّه المذكّر الواحد أو الوحيد من نوعه. وانطلاقا منه تبدأ سلسلة الجنادر في أدوار سردية تأسيسية: الله/المذكّر؛ الشيطان/ المذكّر؛ آدم /الذكر؛ النبي: الذكر. وذلك في تساوق صارم مع الأب/الذكر والملك/الذكر والنحو/الذكوري. وإنّ ثلاثية الإله/الملك/الأب ليست مجرد مدوّنة سلطة، بل هي وثيقة جندرية تأسيسية تحوّلت إلى سياسة للحقيقة. – وفي كل الأسماء الأخرى للإله لدى اليهود (مثل مولاي- Adonaï أو الاسم- HaShem) أو لدى المسيحيين (المنقذ- Yehoshua؛ ابن داوود؛ ابن الإنسان؛ المسيح-mashia’h ) أو لدى المسلمين (الله، الإله، الرب، وقائمة الأسماء الحسنى هي أسماء مذكّرة)، أو في الترجمات اللاحقة من يونانية (Kyrios) ولاتينية (Dominus)، ظلّ معنى الألوهية مجندرا بعناية شديدة.
وعلينا أن نسأل: ما هو أصل الجندرة بما هي كذلك؟
لا يوجد أصل آخر غير اللغة، نعني قوانين النحو.[12] وحسب نيتشه لولا النحو لما كان هناك “أنا أفكّر”. إنّ ما نسمّيه “أنا” هو في أصله الصامت فخّ نحوي تحوّل بالثقافة إلى سلطة هووية. وبعد المنعرج اللغوي، أصبح يمكن اعتبار هذا التخريج بمثابة شكل نموذجي لكل تصوّر جندري للمفاهيم الدينية الأساسية من قبيل “الإله” و”الشيطان” و”آدم”، إلخ. علينا أن نتخيّل: كيف كان يكون معنى “الأنا” الإلهي أو الآدمي قبل ظهور اللغة؟ وخاصة: كيف كان يمكن التعبير عن قرارات التذكير والتأنيث من دون نحو؟ وهو ما يؤدّي توالياً إلى القول بأنّ جندرة الكائنات الاجتماعية إلى “نساء” و”رجال” هو غير ممكن من دون صيغ نحوية تمّ “بناؤها” بعناية سياسية مرعبة. إنّ تعليم اللغات في كل مكان هو إذن سياسة جندرية غير مباشرة ليس فقط تجاه الحيوانات العاقلة وغير العاقلة، بل حتى تجاه ميدان المقدّس بعامة. لا يمكن تصوّر ميدان مقدّس أو خطاب ديني من دون قرارات نحوية تؤنّث وتذكّر في نوع من السخرية السوداء. وحسبما تؤكّده لوسي إيريغاراي، في كتابها “الجنس الذي هو ليس واحدا”، فإنّه توجد على الدوام فروق ذات دلالة؛ أي جندرية، بين اللغة التي يتكلّمها الرجال واللغة التي تتكلمها النساء.
بلا ريب يمكننا أن نحتجّ بأنّ الإله “مذكّر” ولكن ليس “ذكرا”. لكنّ هذا التمييز قائم على فراغ نحوي فظيع: المذكّر هو ما يصحّ أن تشير إليه بقولك “هذا”. مثل رجل، حصان أو كتاب، بحر، وهو عندئذ، إمّا حقيقي (رجل، حصان) وله أنثى من جنسه، أو مجازي (كتاب، بحر) وليس له أنثى من جنسه. هذا يعني أنّ الإله مذكّر مجازي؛ أي لا يقابله أيّ نوع من الأنوثة. ومن ثمّ هو يقع خارج أفق الحيوانية بعامة. أيّ معنى عندئذ لتذكير الألوهية عند الإبراهيميين؟ هل هي مجرّد “هذيّة” نحوية أي مجرّد سياسة إشارة أو تخاطب تمّ تقديسها لاحقا لأسباب سلطوية؟ – إمّا أنّ هذا هو ما جناه النحو على هذه القطعة من الإنسانية؛ نعني أنّه أمر نابع من طبيعة اللغات السامية ولا دافع له؛ وإمّا أنّ هذا الأمر هو قرار ثقافي نتيجة نوع معيّن من سياسة الحقيقة قائم على استبداد الذكور على الإناث استبدادا تحوّل إلى تكريس هووي دخل في ميدان المقدّس وانقلب إلى حواسّ طويلة الأمد لشعوب بأكملها.
إنّ القراءة اللسانية للمفردات الدينية تحوّلها إلى استتباعات أخلاقية لبنى تداولية لا تراها. وحين ننجح في إضاءة المفردات النحوية بواسطة أسئلة جندرية، فإنّنا نرتعب من هشاشة ادّعاءات الصلاحية التي ينبني عليها القول الديني حول الجنسين. إنّها ادّعاءات ليس لها من وجاهة سوى شحنتها التداولية. وكلّ ما عدا ذلك هو تبريرات هووية لاحقة أو مفاعيل سردية تمّ بناؤها اجتماعيا وتمثيليا على مراحل متطاولة، وإنْ كان ذلك قد لا ينقص شيئا من جلالتها.
إنّ الخطابات النسوية التقليدية حول منزلة النساء في هذا الدين أو ذاك، – وهي تقريبا خطابات تنويرية تدافع عن حرية النساء ضدّ سلطة الرجال – لم تعد موقفا نقديا مناسبا منذ تسعينيات القرن الماضي، عندما أخذت تتكوّن، خاصة بعد المنعرج اللساني، إضاءاتٌ ما بعد كولونيالية وما بعد بنيوية ودراسات جندرية حول الهشاشة الأنطولوجية لمفاهيم الذكر والأنثى التي أقامت عليها الأديان العالمية فقهها الهووي. لقد تبيّن أنّ مفردات الذكر والأنثى، مثل مصطلحات الرجل والمرأة، هي كلّها بناءات تداولية ليس لها من صلاحية سوى مفعولها الإنجازي داخل جماعة لغوية أو تواصلية مخصوصة. وعندئذ لم يعد المشكل هو فقه النساء أو البحث النسوي في منزلة المرأة في الدين، بل صار القطب الجديد للبحث هو الدين والجندر[13]في ضوء سياسات الهوية ومسألة السلطة باعتبارها مشكلا تداوليا. كان الرهان النسوي تنويريّا (تحرير المرأة) في حين أنّ البحوث الجندرية هي تفكيكية أو كما تقول جوديت بتلر “تخريبية”: إنّها تتعلّق بمراجعة مقولات الذكورة والأنوثة وطبيعة دورها في تبرير الهوية أو السلطة. وحين نقول إنّ الدين لا يعيّن هوية النساء كما تقول سرديات الخلق، بل يجندرها فقط، فنحن نعني أنّه لا توجد أصلا هوية نسوية جاهزة للإناث، كما أنّه لا توجد هوية رجالية جاهزة للذكور. ما فعله الدين بخاصة هو “أقنمة” أو “شخصنة” وضعيات أو أدوار تداولية كانت موجودة في الجماعات البشرية التقليدية وحوّلها إلى مفاهيم عقدية ودافع عنها باعتبارها مقدّسات؛ أي مصادر تشريع روحي للهوية. وفجأة، ربما، لم يعد من معنى لدراسة الدين سوى التحوّل إلى ضرب من تأويلية الجندر. لكنّ هذا لا يعني أبدا تشريع الإلحاد، فهو كما نعلم مجرّد موقف ديني مقلوب، كما يمارسه اليوم “الملحدون الجدد” في الكتابات الأمريكية، مثل ريتشارد دوكينز أو سام هاريس، بل إنّ تخريب التصوّرات البالية للذكورة والأنوثة لا يعني التخلي عن استعمالها. إنّ اللغات هي إلى حدّ الآن، لغات مجندرة، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يكفّ عن الجندرة. إنّ الرهان هو تخريبها من الداخل حتى تكفّ عن ممارسة آليات تسلّطية لم تعد تتمتّع بأيّة حصانة روحية. إنّ الإيمان ليس مشكلا نحويّا. وحين نكفّ عن جندرة الله أو آدم أو النبي يكفّ الدين عن إنتاج ثقافة الملة وكأنّها رسالة سماوية، والحال أنّها مجرّد ظواهر تداولية.
إلاّ أنّ الفلسفة اليوم لم تعد مستعدّة لأنْ تماهي بين مراجعة الدين من وجهة نظر الجندر، وبين أطروحة العلمنة. إنّ ما أشار إليه هابرماس تحت عبارة “المجتمعات ما بعد العلمانية” هي أيضا مجتمعات “ما بعد-دينية”، وهذا يعني أنّه لم يعد من معنى لأن يدّعي أحد المواطنين أنّه ملحد جديد أو أنّه ديمقراطي. إنّ أخذ الجندر مأخذ الجدّ هو أخطر بأشواط كثيرة من موقف الإلحاد. لقد كان الفصل اللائكي الفرنسي نفسه بين الدولة والكنيسة قائما بشكل غير مباشر على فصل جندري أو تقسيم جنسي بين الفضاء العمومي (حيث الرجال والعقل والسلطة)، من جهة، والحياة الخاصة (حيث النساء والمشاعر والحدوس)، من جهة أخرى. إنّ طرح قضية المساواة في ضوء الجندر أخطر من مجرد النضال من أجل تحرير المرأة من السلطة الدينية. إنّ العلمنة – وهي في الغالب مجرد تدنيس معياري للقيم المسيحية – ليست بريئة من رواسب الجندرة التقليدية التي أنتجت الأديان[14].
ولذلك، فإنّ أطرف ما في دراسة الدين من وجهة نظر الجندر هو فتح المجال أمام وعود تأويلية جديدة حول أنفسنا العميقة. وقد ظهرت فعلا محاولات لتأصيل الجندر في نصوص المسلمين التأسيسية[15]. لكنّ الأهمّ في مفهوم الجندر هو، كما تقول أطروحة لوسي إيريغاراي، مناقشة “الفرق الجنسي” (باعتباره حسب رأيها مشكل الكينونة الخاص بعصرنا) بين الذكر والأنثى وذلك من دون أيّة معاداة مبدئية ضدّ الرجل؛ أي بالتمييز الصارم له عن “التراتبية الجنسية”. ومن ثمّ، فإنّ المطلوب فلسفيّا هو إذن تطوير “إتيقا للفرق الجنسي”[16] من شأنها عندئذ أن تضيء في كل مرة بأيّ وجه تكون اللغة التي نتكلّمها جميعا مجندَرة سلفا، وأنّه لا توجد لغة محايدة جندريّاً.
[1]– Mrony Joy, « L’impact du genre sur l’étude des religions », in: Diogène, n° 1/ 2009, 113-125
[2]– Cf. Claudia Schippert, « Implications of Queer Theory for the Study of Religion and Gender: Entering the Third Decade”, in: Religion and Gender, vol. 1, no. 1 (2011), 66-84
[3]– Goss, Robert E. Queering Christ: Beyond Jesus Acted Up. Cleveland: Pilgrim Press, 2002
[4]– Børresen, Elisabeth, The Image of God: Gender Models in Judaeo-Christian Tradition. Minneapolis: Fortress Press, 1995; Goss, Robert E. Queering Christ: Beyond Jesus Acted Up. Cleveland: Pilgrim Press, 2002
[5]– Cf. F. Klopper, «Women, monotheism and the gender of God », in: In die Skriflig 36(3) 2002: 421-437
[6]– Cf. Victor J. Stenger, The New Atheism: Taking a Stand for Science and Reason, Prometheus Books, 2009
[7]– Cf. Butler, J. Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity. New York: Routledge, 1990
[8]– Lisbeth Mikaelsson, « Gendering the History of Religions », in: New Approaches to the Study of Religion. Vol. 1. Edited by P. Antes, A. W. Geertz, R. R. Warne. Walter de Gruyter, Berlin, New York, 2004, pp. 295 sqq.
[9]– Cf. David de Vaus and Ian McAllister, “Gender Differences in Religion: A Test of the Structural Location Theory”, American Sociological Review. Vol. 52, No. 4 (Aug., 1987), pp. 472-481
[10]– Cf. Morny Joy, “God and Gender: Some Reflections on Women’s Invocation of the Divine”, in: Ursula King (Editor), Religion and Gender. Wiley, 1995, pp. 121-143
[11]– Cf. Deborah F. Sawyer, God, Gender and the Bible. Routeledge, London and New York, 2002, pp. 10-15; pp. 115 sqq.: “Fatherhood- divine and human”.
[12]– Cf. Kira Hall, Mary Bucholtz (Editors), Gender Articulated: Language and the Socially Constructed Self. Psychology Press, 1995.
[13]– Cf. Ursula King (Editor), Religion and Gender. Wiley, 1995
[14]– Cf. Alberta Giorgi, « Gender, Religion, and Political Agency: Mapping the Field », in: Revista Crítica de Ciências Sociais, 110, setembro 2016: 51‑72.
[15]– Cf. Ahmed, Leila, Women and Gender in Islam: Historical Roots of a Modern Debate. New Haven: Yale University Press, 1992.
[16]– Luce Irigaray, An Ethics of Sexual Difference. A &C Black, 2005, pp. 7 sqq; 99 sqq.
—
“مفاهيم جندرية”.. من ملكية الجسد إلى تطبيع الشذوذ
ليلى الرفاعي
محررة
ض
ض
متعلقات
تصريحات لأردوغان حول المرأة تثير جدلا بتركيا
مباراة نسوية تثير جدلا بالكويت
الحرمان من الانتخاب يغضب السعوديات
المرأة في الإعلام الفضائي العربي
إشكالية عدم المساواة المعقدة
“الأنثى تولد إنساناً ثم تُصنع امرأة”
(سيمون دي بوفوار)
في (تموز/يوليو) من عام 2010 تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدةتكوين وكالة جديدة للأمم المتحدة للنساء، تدعى كيان الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين النساء، أو اختصاراً الأمم المتحدة للنساء، وقد كان قرار تكوين جسم منفصل للتعامل حصرياً مع نشاطات تتعلق بالجندر بعد سنوات من تكون الأمم المتحدة لوكالات متخصصة بقضايا نوعية، وبدأت وكالة الأمم المتحدة للنساء العمل في (كانون الثاني/يناير) من عام 2011، ومن المهم بحال معرفة مفاهيم وأبعاد مفهوم “الجندر” والنشأة والسياقات التي ولد بها.
المصطلح
إرهاصات:
في سنة 1949 صدر كتاب “الجنس الآخر” للكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفورا، الكتاب الذي يُعدُّ الدستورَ المؤسِّسَ للحركة النسوية في العالم؛ وقد ذهبت فيه دي بوفوار إلى أن الرجل يمارس على المرأة سطوة عاطفية، وهو ما جعلها تعاني من اضطهاد عميق؛ لأنها في النهاية قبِلت بتحوّل الرجل من إنسان واقعي إلى رمز شبيه بالآلهة، ودي بوفورا تعتقد أن المرأة لا تولد امرأة لانعدام قدر بيولوجي أو نفسي أو اقتصادي يقضي بتحديد شخصية المرء كأنثى في المجتمع(1).
وترى دي بوفورا أن تحرر المرأة رهين بمدى استطاعتها تغيير الصورة التي ينظر بها الرجل لها ولخصائصها الجسدية والنفسية، ومدى تحررها من الموروث الثقافي الذي يشكل سلبًا حيواتها اللاواعية، وهذا الدور منوط بالمرأة الكاتبة التي تملك ناصية اللغة لتبليغ المشاعر والأحاسيس” للآخر ” الذي تمثل المرأة في عُرفه الجنس” الآخر”، فالأنثى تتحوّل إلى امرأة ضمن واقع ذكوري متسلّط تشكّلت شخصيته انطلاقًا من مفهوم السلطة التي وضعت ملامحها وحدودها السلطة الاقتصادية عبر العصور وبذلك صرخت سيمون دي بوفوار “إن الشخص لا يولد امرأة، بل يصبح امرأة”(2).
فعملت سيمون بنتاجها الفكري والأدبي على التساؤل عن هوية المرأة، والتأكيد أنها هوية مستلبة من صنع الرجل وتحررها يكون بقدرتها على الخروج من أصفاد الصورة النمطية التي صنعها المجتمع، وهي بهذا مهّدت للتنظير في مفهوم “الجندر”.
الولادة:
ظهر مصطلح “الجندر” في السبعينيات مِن القرن العشرين والـ”جندر” (Gender) كلمة إنجليزية تنحدر من أصل لاتيني، وتعني في الإطار اللغوي “جينس” (Genus)؛ أي: الجنس من حيثُ الذكورة والأنوثة، وكانت آن أوكلي هي التي أدخلتِ المصطلح إلى عِلم الاجتماع؛ وتوضح أوكلي أنَّ كلمة “سكس” (Sex)؛ أي: الجنس، تشير إلى التقسيم البيولوجي بين الذكر والأنثى، بينما يشير النوع “الجندر” إلى التقسيمات الموازية وغير المتكافئة اجتماعيًّا إلى الذكورة والأنوثة.
في وثائق الأمم المتحدة الدولية:
يوضح مفهوم “الجندر” الفروق بين الرجل والمرأة الحاصلة من الدور الاجتماعي المنوط بهما، والمنظور الثقافي والوظيفة لكلٍّ منهما، وهذه الفروق هي نِتاج لعوامل دِينيَّة وثقافيَّة، وسياسية واجتماعية
أن سبلاش
ظهر المصطلح لأول مرة في وثيقة مؤتمر القاهرة للسكان 1994 في 51 موضعاً(3)، ثم أثير مرة ثانية ولكن بشرط واضح في مؤتمر بكين للمرأة عام 1995 وقد شاع استخدام هذا المصطلح في المؤتمرات الدولية، وإن النسخة الإنجليزية لمؤتمر بكين الدولي المشهور ذكرت المصطلح 254 مرة دون أن تعربه، وتحت ضغط الدول المحافظة تم تشكيل فرق عمل لتعريفه وخرجت لجنة التعريف بعدم تعريف المصطلح(4).
المفهوم
ومفهوم “الجندر” يوضِّح الفروق بين الرجل والمرأة الحاصلة من الدور الاجتماعي المنوط بهما، والمنظور الثقافي والوظيفة لكلٍّ منهما، وهذه الفروق هي نِتاج لعوامل دِينيَّة وثقافيَّة، وسياسية واجتماعية؛ أي: إنها فروق صَنَعها البشر عبرَ تاريخهم الطويل، وهي فروق يمكن تجاوزها في إطار المساواة بين الرجل والمرأة في حين لا يمكن فعل ذلك في الفروق الفيزيولوجية بين الرجل والمرأة التي تقف حاجزًا استفهاميًّا أمام مساواة مطلقة.
ومن التعريفات الأجنبية التي وردت للمصطلح:
في الموسوعة البريطانية عُرِّف الجندر بأنه شعور الإنسان بنفسِه كذَكَر أو أنثى… ولكن هناك حالاتٌ لا يرتبط فيها شعور الإنسان بخصائصه العضوية، ولا يكون هناك توافُق بين الصِّفات العضوية وهُويته الجندرية، إنَّ الهُوية الجندرية ليستْ ثابتة بالولادة؛ بل تؤثِّر فيها العوامل النفسية والاجتماعية بتشكيل نواة الهُوية الجندرية، وتتغيَّر وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعية، كلما نما الطفل”.
سيداو:
جاء المصطلح في المادة الخامسة من سيداو، وطالبت هذه المادة بتغيير الأنماط الاجتماعيَّة والثقافية لدَور كلٍّ من الرجل والمرأة؛ بهدف تحقيق القضاء على التحيُّزات والعادات العُرفية. ولا بد في الحديث عن تعريفات مفهوم الجندرة من التفريق الدقيق بين الجنس والجندر “النوع الاجتماعي”؛ حيث يشير مصطلح “الجندرة” إلى التفرقة بين الذكر والأنثى على أساس الدور الاجتماعي لكل منهما تأثراً بالقيم السائدة، بينما يقتصر مصطلح “الجنس” (Sex) على الاختلافات البيولوجية بين الرجل والمرأة، ويتسم بالجبرية كون الفروق الجسدية بين الرجل والمرأة فروق ثابتة وأبدية، ويتمتع مصطلح “الجندر” بكونه مفهومًا ديناميًّا؛ إذ تتفاوت الأدوار التي يلعبها الرجال والنساء تفاوتاً كبيراً بين ثقافة وأخرى ومن جماعة اجتماعية إلى أخرى في إطار الثقافة نفسها، فالعرق، والطبقة الاجتماعية، والظروف الاقتصادية، والعمر، عوامل تؤثر على ما يعتبر مناسباً للنساء من أعمال.
جاء مصطلح الجندر في المادة الخامسة من سيداو، وطالبت هذه المادة بتغيير الأنماط الاجتماعيَّة والثقافية لدَور كلٍّ من الرجل والمرأة؛ بهدف تحقيق القضاء على التحيُّزات والعادات العُرفية
أن سبلاش
ولذا فإن طرح مفهوم الجندر كبديل لمفهوم الجنس يهدف إلى التأكيد على أن جميع ما يفعله الرجـال والنسـاء وكل ما هو متوقع منـهم، فيمـا عـدا وظائفهم الجسدية المتمايـزة جنسيـاً، يمكن أن يتغير بمرور الزمن وتبعاً للعوامل الاجتماعية والثقافية المتنوعة. ويعد الجندر بناء على ذلك اجتيازًا لآخر الحواجز على طريق تحقيق العدالة بين الرجال والنساء؛ لأنه يشمل التحول في المواقف والممارسات في كافة المجتمعات(5).
مفاهيم عامة في الجندر
المساواة الجندرية:
أي ألّا تعتمد الحقوق والمسؤوليات والفرص المتاحة للنساء والرجال على كونهم ولدوا ذكوراً أو اناثاً، وهي تعني أيضاً أن التوزيع المتساوي للمقدرات الاقتصادية يجب أن يُفهم في إطار التوزيع المتساوي للفرص والقدرة على التأثير والقوة الاجتماعية.
العدالة الجندرية:
هي العدالة في التعامل مع كلٍّ من الرجال والنساء بناء على الاحترام الكامل لاحتياجاتهم، ويتضمن ذلك تعاملات عادلة أو تعاملات مختلفة لكنها تعتمد على المساواة في الحقوق والمكتسبات والحريات المدنية والسياسية وكذلك الفرص.
جندرة الاتجاهات السائدة:
عملية يُراعى من خلالها إدراج النساء والرجال في كافة عمليات التخطيط بما في ذلك صنع التشريعات والسياسات والبرامج في كل المناطق وعلى المستويات كافة، وهي إستراتيجية جعلت اهتمامات وخبرات الرجال والنساء عناصر أساسية في تصميم وتنفيذ وتقييم السياسات والبرامج في كافة السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
التحليل الجندري:
أداة تحليل الفروقات بين الرجال والنساء مع مراعاة خصوصية الأنشطة والظروف والاحتياجات والوسائل التي تؤثر في تحكمهم في الموارد وكذلك وسائل الإفادة من التنمية واتخاذ القرار.(6)
التغيرات المفاهيمية التي تفرضها الجندرة
الأمومة : (لا توجد غريزة الأمومة!) :
تأخذ الأمومة حيزًا كبيرًا عند الجندريين، حيث تقول عالمة الاجتماع سيمون : “إنَّ الأمومة خُرافة، ولا يوجد هناك غريزة للأمومة، وإنما ثقافة المجتمع هي التي تصنع هذه الغريزة؛ ولهذا نجد أنَّ الأمومة تعتبر وظيفةً اجتماعية”، ما ولّد مصطلحًا جديدًا وهو “الصحة الإنجابية”، ويهدف إلى معالجة الإشكاليات الناتجة من وظيفة المرأة بوصفها أمَّا على مستوى الإنجاب، والتي قد تقف عائقًا أمام ممارستها لدَوْرها الجندري المساوي لدور الرجل، ومِن هذه الإشكاليات أيضًا الحملُ والرَّضاعة، وغيرها من الوظائف الفيزيولوجية للمرأة، ومن هنا فلها الأحقية المطلقة في الإجهاض.
يجب أن نختار ما هو أفضل لنا.. وليس ما ينتظر.. منا
شكل الأسرة:
وفقًا لمفهوم الجندر ولكتاب “الأسرة وتحديات المستقبل” من مطبوعات الأمم المتحدة فإنَّ الأسرة يمكن تصنيفها إلى 12 شكلاً ونمطًا، ومنها أُسر الجنس الواحد؛ أي: أُسر الشواذ، وتشمل أيضًا النساء والرجال الذين يعيشون معاً بلا زواج، والنساء اللاتي ينجبن الأطفال سفاحاً، ويحتفظن وينفقن عليهم.
ويطلق على هذا التشكيل اسم الأسرة ذات العائل المنفرد، وتسمى الأم بـ (الأم المعيلة).
وهذا التغير في شكل الأسرة يعني فيما يعنيه ضمن النسق الجندري تغيير الأنماط الوظيفية المعهودة للأب والأم في الأسرة.
حقوق الشواذ:
جاء في التقرير الذي أعدتْه لجنة المرأة التابعة للأمم المتحدة؛ 2004م، اعترافٌ رسميُّ بالشذوذ وحماية حقوق الشواذ، والسعي لقَبولهم مِن قِبل المجتمع، وعَدِّ ذلك تعبيرًا عن المشاعر، ودعمًا لتعليم الممارسة الجنسيَّة بمختلف أشكالها الطبيعيَّة والشاذَّة(7).
الصراع بين الجنسين:
يترتب على مفهوم “الجندر” إشعال العداء بين الجنسين وكأنهما متناقضان ومتنافران كما جاء في أوراق المؤتمر الدولي لتحديات الدراسات النسوية في القرن 21 الذي نظمه مركز البحوث التطبيقية والدراسات النسوية في جامعة صنعاء في اليمن(8)، وعليه يُزج بالجنسين في صراع إثبات الذات بشكل فرداني متمحور حولها.
إعادة صياغة اللغة:
وذلك لإثبات ما يمكن تسميته بالتحيز للذكر يمكن ملاحظة الكلمات الآتية في اللغة الإنجليزية والتي تدل على تبعية المرأة للرجل وعدم إمكان وجودها مستقبلاً كإنسان إلا من خلال الرجل: إنسان (Hu-man)، امرأة (Wo-man) ولو حذفت كلمة رجل (man) لضاعت وسائل المرأة من الوجود في اللغة.
المشكلة أنه عندما تطرح الأنثوية كلمات مثل “جندر” بدلاً من رجل وامرأة لوصف العلاقة بين الجنسين وكلمة “فمينيزم” (feminism) للتعبير عن حركة النساء فإن الذي تغير ليس للتعبير عن حركة النساء فإن الذي تغير ليس حروفاً وكلمات وإنما مضامين ومعاني وثقافة وفكر.
ملكية المرأة لجسدها:
كانت المناداة بملكية المرأة لجسدها دعوة للإباحية الجنسية والتبرج والتعري بين مجتمع النساء
أن سبلاش
نادت الحركة النسوية وخصوصاً بعد فترة الستينيات إلى شعار مؤداه أن المرأة تملك جسدها، وهذه الدعوة الخطرة تقتضي أموراً عدة منه: الدعوة للإباحية الجنسية ومن المشكلات التي خلفتها هذه الظاهرة أمهات غير متزوجات وأغلبهن في أعمار المراهقة، ومنها أيضًا التبرج الشديد والتعري(9).
تسعى المنظمات الدولية بدأب لفرض رؤيتها المتعلق بالمصطلح في أوساط المؤسسات النسوية العربية رغم أن المجتمع العربي حمّال أنساق اجتماعية وثقافية وحضارية مختلفة عمّا هي عليه في البيئة الحاضنة للمصطلح والمتبنية لرؤاه، واستشراء المفهوم في نسيج المجتمع العربي وداخل المنظمات العربية النسوية وغيرها دون وعي يشكل تهديدًا حقيقيًّا لنسيج المجتمع العربي الذي يعتمد الأسرة بشكلها الأوحد ووظائف أفرادها الفطرية نواةً متماسكة حاملة له مما ينذر إلى جانب مخاطر تفكيك الأسرة التي تعدّ من آخر الحصون التي يتفاخر بها المسلمون على الغربيّين بإحداث هوَّةٍ خطيرةٍ بين الجنسين لتقوم العلاقات بينهما على التناقض والتّصادم بدلًا من التّكامل من خلال فهم كلّ جنسٍ خصائصه وقدراته ومهامه.
مفهوم الجندر: بين حقوق المرأة ومسخ الهوية
يقوم مفهوم الجندر على القول بأن الفروق القائمة بين الذكور والإناث تنهض في الأساس على معايير إجتماعية وليس بيولوجية، بمعنى أن المجتمعات هي التي تحدد الأدوار المتوقعة لكل من آدم وحواء. فمثلا دأبت المجتمعات تقليديا على أن تسند للمرأة وظائف ومهنا محددة ليس من العادة إسنادها للرجل، كرعاية الأطفال والعناية بشؤون البيت من طبخ ونفخ وتنظيف. غير أن المجتمعات المختلفة قد تعسفت في استخدام حقها في تحديد تلك الأدوار فاضطهدت المرأة وكبلتها بإجبارها على الانحصار ضمن حدود الأدوار الروتينية المقزمة التي رسمتها لها، موظفة لذلك فهما خاطئا وانتقائيا ومغرضا للنصوص الدينية. حتى الآن يمكن النظر إلى مفهوم الجندر نظرة إيجابية، إذ قد يساعد على فهم أشكال التمييز ضد المرأة ويعين على النضال من أجل منحها حقوقها المشروعة في توظيف وتطوير وإثراء قدراتها بصورة أكثر فعالية لخدمة نفسها وأسرتها ومجتمعها، بعيدا عن الصور النمطية المعرقلة والأدوار الضيقة التي ألصقت بها.
لكن المشكلة تبرز عندما شطح خيال بعض دعاة المساواة الجندرية وباتوا يطالبون بإلغاء أو تهميش الفروق بين الذكور والإناث دون مراعاة لكثير من الاعتبارات الدينية والأخلاقية والمنطقية والواقعية، والادعاء المتعسف بأنها مجرد فروق مختلقة ينبغي تحطيمها، اجتماعيا ونفسيا، وحتى بيولوجيا، وفق بعض الغلاة منهم. متجاهلين ما في دعواتهم من التعارض الصارخ مع الطبيعة البشرية والذوق السليم وتعاليم الأديان.
وما يمكن أن تجره من صور الفوضى الأخلاقية واختلال المجتمعات من مختلف الجوانب، وبخاصة الديمغرافية. إذ أن شيوع التوجهات المثلية، وبخاصة في المجتمعات القليلة السكان، يمكن أن يؤدي مع الوقت إلى انقراض فعلي لها. إضافة إلى ارتباط تلك التوجهات ارتباطا جوهريا بكم وافر من الأمراض النفسية والجسدية والجرائم التي لا يمكن إنكارها، وذلك حسب دراسات علمية كثيرة يحاول أنصار تلك التوجهات التعتيم عليها أو التشكيك في صحتها.
وبحسب ما تؤكده نصوص كثيرة في القرآن الكريم، وحتى في التوراة والإنجيل، فإنه لم يهلك الكثير من الأمم السابقة إلا انحطاطها الأخلاقي وانغماسها في حمآت الرذيلة والفساد. ولا أظن أن العالم قد وصل في يوم من الأيام إلى ما وصل إليه اليوم من انحطاط أخلاقي مفزع، وبصورة معلنة مقننة يتم مهاجمة وربما تجريم من يعترض عليها. ففي مقاطعة أونتاريو الكندية مثلا، أكبر مقاطعات كندا، قررت رئيسة وزراء المقاطعة، الشاذة بالمناسبة، إجبار مدارس المقاطعة على استخدام مناهج دراسية جديدة اعتبارا من شهر سبتمبر المقبل. المناهج الجديدة ستتضمن تعليم الثقافة الجنسية وصيغ الشذوذ المحتملة للأطفال منذ صفوفهم الأولى المبكرة، طبعا ليس من باب التوعية بالمخاطر التي قد تترتب عن شيوع تلك الانحرافات، وإنما من باب نشرها وتعويد الصغار على النظر إليها كموضوعات وحقوق طبيعية لا يجوز الطعن فيها. وكما هو متوقع، ذهبت احتجاجات المؤسسات الدينية والجهات المحافظة على ذلك القرار أدراج الرياح، وأكثر ما تستطيع الأسر الرافضة للمناهج الجديدة فعله هو مطالبة المدرسة بإخراج أطفالها من الصفوف التي سيتم فيها عرض تلك البلاوي الزرقاء ومناقشتها.
ولكن يبدو أن هولندا متقدمة على كندا على صعيد نشر تلك الثقافة المنحرفة بالقوة ومعاقبة من يبدون الاعتراض على ذلك. فمنذ فترة انتهى الأمر إلى اختطاف الطبيب الفلسطيني، عدنان كلّاب، اللاجئ فيها منذ
أكثر من إحدى عشرة سنة وزجه بعد تشريد أسرته في السجن. بدأت مأساة الطبيب المسلم عندما اعترض نجله الفتى على مشاهدة فيلم إباحي في صفه كجزء من مادة الثقافة الجنسية. فما كان من معلمته إلا أن تصدم من “رجعية الطالب المسلم وتخلفه” حسب قولها، مهرولة لإعلام المدير، الذي سارع إلى استدعاء ولي أمر الطالب، الذي زاد الطين بلة كما يبدو، عندما تجرأ على المطالبة باحترام مبادئ دينه كما يحترم هو بقية الأديان. فقد فجع مدير المدرسة بموقف الأب الذي وصفه بأنه “غير سوي”، لحرمانه أطفاله من مشاهدة دروس “مهمة” لا ينبغي حرمانهم منها! المهم، يقرر الطبيب القابض على جمرة دينه ومبادئه الأخلاقية بعد سلسلة من الإهانات والاستفزازات من جانب المدرسة والشرطة أن يطلب اللجوء إلى بلجيكا ثم ألمانيا، حيث تتم الموافقة على منحه اللجوء من البلدين، الا أنه يتم إعادته في كل مرة عنوة من جانب الشرطة الهولندية من على الحدود، بحجة أنه لاجئ على أراضيها. حتى وصل الأمر إلى خطف طفلتيه وضربه هو وزوجته، ثم اعتقاله، وما تزال قضيته معلقة حتى الآن على ما أظن!
مثل هذه القصص المأساوية، وهي كثيرة وإن اختلفت التفاصيل، نخشى أنها باتت تعبر عن ظاهرة عامة وليس عن مجرد حالات فردية استثنائية، مبرزة إشكالية خطيرة تتعلق بواقع ومستقبل المسلمين في بلدان الغرب. إذ يكاد يصعب على المسلم أن يعيش حياة طبيعية في الغرب في كثير من الحالات، دون أن يكون مجبرا على تقديم شيء من التنازلات الدينية والأخلاقية، إلا تحت مظلة الانعزال ورفض الاندماج مع المجتمع. وبطبيعة الحال، فإن مشكلات أخرى ستنجم بالضرورة في حالة الانعزال، أقلها التنافر المعرفي والاضطراب النفسي والإحساس بالاغتراب، وذلك لصعوبة العيش في وسط لا يشعر المرء بالانتماء إليه أو بأنه يرحب به أو يقبله. ودع عنك الحديث عن مشكلة الحرمان من كثير من الفرص للدراسة والعمل والتقدم الوظيفي في مثل ذلك الوسط المتربص بالأجانب، الذي يتشدق ليل نهار بالحديث عن حقوق الإنسان دون توفير المناخ الكفيل جديا بحمايتها. ومن الواضح أن الإشكالية تتزايد تعقيدا وتفاقما بمرور الوقت، فالمؤشرات على كراهية المسلمين في الغرب والتوجس منهم وعدم فهمهم أو الاستعداد لاحتوائهم آخذة بالتصاعد بصورة مضطردة، تحت شعارات مختلفة أبرزها مكافحة الإرهاب والاسلاموفوبيا. ولكن أين المفر، فلم يجبر الناس على الارتماء في مرّ حواضر الغرب إلا ما هو أمرّ منه في مدائن الشرق!
نعود إلى كندا، بل وإلى المقاطعة نفسها، أونتاريو، التي صدر فيها منذ فترة قانون كارثي جديد، وإن كان يبعث على شيء من الضحك، على قاعدة: شر البلية ما يضحك. فالقانون الجديد يقوم بتجريم الأطباء النفسيين الذين يحاولون مساعدة الشواذ على الشفاء من انحرافهم والعودة إلى صفوف عباد الله الأسوياء. فمن واجب الطبيب النفسي وفق القانون العتيد، وإلا فمصيره الحبس وربما الحرمان من مزاولة المهنة، أن يساعد الشخص الشخص الشاذ، الذي لا يعتبره القانون شاذا بالطبع، على تكريس الهوية الجندرية التي اختارها لنفسه، تلك الهوية التي يزعمون أنها قابلة للتحول المستمر بلا أي ضابط. وهنا أتذكر الأيام السوداء التي قضيتها وأنا مكتئب في برنامج الماجستير في دراسات المرأة في إحدى الجامعات الكندية. فقد كان القوم هناك يناقشون مسائل تجاوزت حدود الجنون الطبيعي على أنها مسائل تدخل في باب النقاش العلمي، الويل ثم الويل والثبور لمن يتجرأ على تسفيهها! لقد كان بعضهم مثلا ينكر وجود شيء يسمى الطبيعة البشرية، فيرى أن الإنسان يستطيع ويملك الحق في تبديل هويته الجنسية كما يبدل ملابسه. فقد يقرر زيد أن يتفاعل مع عمرو كذكر، أي أن يميل سلوكه وخطابه أثناء تعامله مع هذا العمرو إلى تغليب السمات الذكورية، لكنه يستطيع أن يتصرف معه أو مع غيره في الموقف نفسه أو في موقف آخر بعد دقائق كأنثى، أو كشخص غير محدد الجنس، وذلك حسب رغبته واختياره!
أعانتني تلك المهاترات والسفاهات التي تروج باسم العلم على أن أكتشف مدى هيمنة السياسة على العلم. فالحقوق التي تم منحها للشواذ منحت في الأساس لاعتبارات سياسية ومصلحية، وليس نتيجة بحوث ودراسات علمية رصينة أثبتت أنهم أسوياء، علما بأن الشذوذ الجنسي كان يصنف حتى عقود قليلة خلت في سائر المراجع الطبية بوصفه من الاختلالات العقلية والنفسية التي تستوجب العلاج. ولكن بمجرد أن منحت السياسة الخرقاء الضوء الأخضر للشواذ، انطلقوا هم وأنصارهم ينشرون إيديولوجيتهم الحائدة عن السواء في كل الأوساط، وبخاصة الأكاديمية والإعلامية والفنية، ويتعاملون مع تلك الإيديولوجيا المتهافتة كما لو كانت حقائق علمية لا تقبل النقاش أو الجدل. والواقع إن القوانين اليوم في عالم الغرب تدعمهم إلى حد كبير، فمجرد انتقاد أحدهم أو الإيحاء بموقف سلبي من شذوذه قد يفضي بالمنتقد إلى السجن، بتهمة التمييز والقدح والذم!
المؤسف أن تلك الانحرافات الفكرية لم تظل حبيسة في أراضي الغرب، بل أسهمت عربات العولمة، غير مشكورة، في نقلها، وبكثافة خانقة إلى وطننا العربي، المثقل أساسا بالمشكلات والأزمات. والمتتبع للأخبار يلاحظ أن هناك حربا حقيقية يشنها الشواذ في الآونة الأخيرة لفرض وجودهم وشرعنته. إذ سمعنا مؤخرا عن ترخيص جمعية للمثليين في تونس، مع زعم أحد إدارييها بأن (%40) من أبناء تونس هم من أعضاء هذه الفئة! كما سمعنا خبرا مشابها من الأردن، الذي شهدت أرضه خسفا إلهيا مرعبا لتحذير البشر من تكرار أفعال قوم لوط، حيث اجتمع في عمان مؤخرا رهط من المثليين بحضور السفيرة الأمريكية “الفاضلة” لمناقشة سبل دعم أعضاء هذه الفئة وإيجاد كيان يمثلهم بصفة رسمية. وكان أحد الشواذ قد زعم لمحطة أردنية أن أمثاله يشكلون ما لا يقل عن (%10) من سكان البلد!
لا شك أن “الربيع العربي” برفعه لسقف حريات التعبير في البلدان العربية قد أسهم في تجرؤ الشواذ على الإعلان عن أنفسهم بكثير من التحدي، بعد أن كانوا يتوارون عموما في الظلام. لكن الأنظمة العربية هي المسؤولة الأولى عن تفشي تلك المعضلة. فالأنظمة العربية تستمد القوة لوجودها ليس من صناديق الانتخاب أو من رضى مواطنيها عنها، بل من مدى تبعيتها للأنظمة الغربية المهيمنة واجتهادها في إظهار الحرص على السير في ركابها، سياسيا وفكريا. لذلك يمكن فهم أسباب غض طرف تلك الأنظمة عن جهود تعميم المفاهيم والقيم الغربية المتهتكة في بلدانها، بل وإسهامها المباشر في دعم تلك الجهود. فمثلا، في معظم البلدان العربية تنفق أموال طائلة، أمريكية وأوروبية، لتنفيذ مشاريع إشاعة ثقافة المساواة الجندرية، حسب الفهم الغربي للمفهوم، تحت رعاية أعلى مستويات صنع القرار في الدولة.
المقلق أكثر في ما أزعم، بحسب خبرتي المتواضعة، أن الكثيرين من المتورطين في الاشتغال على مثل تلك المشاريع لا يدركون أبعادها ومخاطرها فيما يبدو، فهم يتعاملون مع المفهوم بسذاجة وسطحية، وكأنه لا يعني أكثر من دعم المرأة، دون أن يحيطوا أو يعنوا بالإحاطة بما يكتنفه من خلفيات، تتعارض بالضرورة مع ما يؤمنون به من قيم دينية وأخلاقية، ودون أن يعرفوا كيف يمكن أقلمة المفهوم وتشذيبه لينسجم وحسب مع ثوابتنا الدينية والأخلاقية. فمفهوم الجندر، بالمعنى الغربي الذي تنفق الجهات الغربية مليارات الدولارات لترويجه وفرضه، يتضمن بالضرورة القول بالحرية الجنسية المنفلتة، وحرية الشذوذ وحرية التحول الجنسي المنفلت. فإذا كانت الأنظمة والحكومات العربية تعي ذلك فتلك مصيبة، وإذا كانت لا تعيه فالمصيبة أعظم.
مؤسسات المجتمع المدني في البلدان العربية تسهم إسهاما بليغا في دعم ذلك المفهوم المريب، إما لأن القائمين عليها هم من المستغربين الذين انحرفت بوصلتهم فباتوا يؤمنون بأن تقدم المجتمعات العربية مرهون بأن تتبنى قيم نظيرتها الغربية وأن تتبعها شبرا بشبر وذراعا بذراع، وإما لإنهم من السماسرة الذين
لا يعنيهم في واقع الأمر إلا تلقي أكبر قدر ممكن من التمويل، حتى وإن كان ذلك يعني تلقي التمويل من الشيطان نفسه والعمل على تنفيذ إملاءاته! وفي هذا السياق لا يحسن نسيان دور بعض الأعمال الدرامية في الترويج لثقافة الانحراف الجنسي، فقد شهدت السنوات الأخيرة عرض العديد من المسلسلات والأفلام العربية التي تتعاطف مع الشواذ وتدعو إلى تقبل انحرافهم كأمر طبيعي ينبغي التعايش معه، بل والترحيب به.
في ضوء الاختلال الفاضح في موازين القوى بين الشرق والغرب وبخاصة من الناحية المادية والعسكرية، فإن التحرر من الهيمنة الغربية ونوال الاستقلال الحقيقي يستوجب كخطوة أولى التحرر من هيمنته الفكرية. وهذا يستلزم إخضاع المفاهيم التي يحاول الغرب فرضها علينا، غالبا بالابتزاز عن طريق التحكم في الدعم المادي والمساعدات، لأدوات التحليل والنقد والمراجعة والتعديل والتطوير، بما يتلاءم مع هويتنا العربية الإسلامية. وإلا فإنه ليس من المستبعد أن يستيقظ واحدنا يوما ليكتشف بأن طفله أو طفلته قد انضما إلى جموع الشواذ، الذين نجدهم، ولا ادري هل هذا بمحض الصدفة، يحضرون بكثافة بين صفوف عبدة الشيطان، ولم يعد بإمكانه فعل شيء إلا لوم نفسه على سماحه لنفسه ولهم بارتداء عدسات غريبة غربية الصنع واللون!
الجندر ( النوع الإجتماعي ) الرجال والنساء وإعادة فهم النص المقدس
(( مصارف الزكاة محصورة في ثمانية أصناف . والأصناف الثمانية قد نص عليها القرآن الكريم في قوله تعالى : ﴿ [ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ ] لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ] وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [ التوبة : 60 ]. و ” إنما ” التي صدرت بها الآية أداة حصر ، فلا يجوز صرف الزكاة لأحد أو في وجه غير داخل في هذه الأصناف )) [ الموسوعة الفقهية الكويتية ] وتعريف (( المؤلفة قلوبهم في الاصطلاح : هم الذين يراد تأليف قلوبهم بالاستمالة إلى الإسلام ، أو تقريراً لهم على الإسلام ، أو كف شرهم عن المسلمين ، أو نصرهم على عدو لهم ، ونحو ذلك )) [ الموسوعة الفقهية الكويتية ]
وقد كان يدفع لهذا الصنف في العهد النبوي وفي عهد الخليفة الثاني ولكن :
(( من المواقف المذكورة ، في تاريخ عمر بن الخطاب ( ر) ، أنه لم يقبل أن يعطي من الزكاة نصيباً للمؤلفة قلوبهم ، وقال : لا حاجة لنا بكم فقد أعز الله الإسلام ، وأغني عنكم ، فإن أسلمتم ، وإلا فالسيف بيننا وبينكم . …. وقد يرد على ها أن المؤلفة قلوبهم كانوا موجودين فعلاً على عهد عمر ، وهم الذين كان رسول الله (ص) قد تألفهم ، فعمر منعهم مع وجودهم ، فلا يقال إذن إن عدم الإعطاء لعدم وجود الصنف ، وإنما هو لمعنى مصلحي قدره عمر ، وهو أن إعطاء المؤلفة قلوبهم حكم معلل بحاجة الإسلام إلى التأليف ، فإذا انتفت علته انتفى لأن الحكم المعلل ، يدور مع علته وجوداً وعدماً . قد يرد علينا هذا ، وربما كانت عبارة عمر المروية في هذا الشأن وهي قوله : ” إن الله قد أعز الإسلام وأغنى عنكم ” مؤيدة لها الإيراد ….)) [ محمد محمد المدني ، نظرات في فقه الفاروق عمر بن الخطاب ] .
لقد اختلف المجتمع من كونه مجتمع بسيط وصغير بحاجة لصرف الصدقات على من يتألف قلوبهم أو يتقي شرهم ، إلى مجتمع كبير يملك دولة فانتفت علة الصرف لهم ، والأحكام تدور مع علتها . والسؤال المتبادر للذهن : هل الأمر خاص بهذا الحكم وخاص باجتهاد عمر ( ر) ، أم أن هناك أمور أخرى وآيات تتعلق بالأحكام وهي خاصة بحالة معينة وبمعرفة العلة يرتبط الحكم بعلته ، وحين توجد العلة يقع الحكم وحين تنتفي العلة يتم إيقاف الحكم ؟ ! .
عند دراسة أنواع الجنس المحرم ” الفواحش ” نقع على هذه الآية ﴿ وَالَّلاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَــــ ــاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا * إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [ النساء : 15-17] تم شرح هذه الآية بالتفصيل في الكتاب الثاني ” أنواع الجنس المحرم ” ، لكن يمكننا أن نختصر القول بأن هذه الآية تحدد عقوبة الممارسات الجنسية للعزاب الذين لم يحصنوا بعقد نكاح كان عقد نكاح زواج أو ملك يمين ، والفواحش الخاصة بالنساء الغير محصنات : ﴿ وَالَّلاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ ﴾ هي : ممارسة الجنس بمقابل مادي = البغاء ، ممارسة الجنس دون مقابل مادي = المخادنة أو المسافحة ، ممارسة الجنس مع المثل = الأنثى مع الأنثى . والفواحش الخاصة بالرجال الغير محصنين ﴿ وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ﴾ وهي : ممارسة الجنس ذكر مع أنثى ، ممارسة الجنس ذكر مع ذكر ، إذ لم تعرف تلك المجتمعات وجود ممارسة الرجال للجنس بمقابل بحيث هو من يحصل على المال ” بغاء للرجال ” . وشرط إيقاع العقوبات وجود 4 شهود وإن ذكر في حالة النساء فأغنى عن إعادة ذكره في حالة الرجال ، والتوبة تقبل من كل من يختار طريق التوبة وإن ذكر في حالة الرجال فإنه أغني عن ذكره في حالة النساء وتابعت الآيات الحديث عن التوبة .
العقوبة التي تقع على النساء هي ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾ والإمساك في البيت لا يعني الإقامة الجبرية ولكن كما في قوله تعالى عن الزوج الذي يطلق زوجته ﴿ الطلاق مرتان [ فإمساك بمعروف ] أو تسريح بإحسان ﴾ [ البقرة : 229 ] فالإمساك يقصد به عودة الزوجة لبيت الزوجية وتحت إشراف ورعاية الزوج ، وفي حالة فاحشة النساء الإمساك في البيت يقصد به عودتها إلى إشراف ورعاية الأسرة أو إشراف ورعاية من ينوب عنهم ، والقول حتى يتوفاهن الموت هو في لغة العرب تهديد تم استدراكه بالقول ﴿ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾ والسبيل هو التوبة المذكور في الآيات أو أن يتم إحصانها . وعقوبة الرجال هو ﴿ فَآذُوهُمَا ﴾ والأذى يعني الأذى المعنوي والنفسي ولا يقصد به الضرر الجسدي ﴿ لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ﴾ [ آل عمران : 111 ] فالضرر للجسد والأذى للنفس ، وقد طبق عمر بن الخطاب ( ر ) الأذى المنصوص عليه في هذه الآية :
(( كان عمر يرى أنه ليس في اللواط حد معين ، وأن أمر العقوبة فيها يخضع لاجتهاد القاضي ، فهو يقدر العقوبة الرادعة … في مصنف عبدالرزاق أن أول من اتهم بالأمر القبيح – أي اللواطة – على عهد عمر ، فأمر عمر بعض شباب قريش ألا يجالسوه .)) [ محمد رواس قلعه جي : موسوعة فقه عمر بن الخطاب ] .
فالعقوبة تعزيرية في حالة الإمساك في البيت للنساء أو الأذى المعنوي للرجال .
نعود للشاهد من ذكر تلك التفاصيل السابقة ، لماذا اختلفت العقوبة فيما بين الرجال والنساء ؟! : كانت عقوبة النساء الإمساك في البيت وهي أصلاً في ذلك المجتمع تبقى في البيت وإمساكها وبقائها تحت إشراف الأسرة يناسب حالتها ووضعها ووظيفتها الاجتماعية ، بينما لو جعلت تلك العقوبة للرجل فتلك مشكلة ، لأن الرجل في ذك المجتمع هو المعني بالخروج من البيت في طلب الرزق والمسؤول عن الإنفاق ، لذا كانت العقوبة تناسب حالته ووضعه ووظيفته الاجتماعية فكان الأذى المعنوي سواء بالتشهير أو المقاطعة أو التوبيخ كما في بعض كتب التفسير . وسميت النساء بهذا لتأخرهن وبقاؤهن في البيت قال تعالى ﴿ زين [ للناس ] حب الشهوات من [ النساء ] والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ﴾[ آل عمران : 14 ] الناس تشمل الذكور والإناث والنساء جمع نسيء هنا تعني شهوة كل متأخر وحديث ولا تعني النساء جمع المرأة . وسمي الرجال بذلك لخروجهم على أرجلهم لطلب الرزق وقال تعالى ﴿ وأذن في [ الناس ] بالحج يأتوك [ رجالاً ] وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ﴾ [ الحج : 27 ] الناس تشمل الذكور والإناث ورجالاً تعني راجلين يمشون على أرجلهم غير الذين يأتون على مركوب . ويبقى السؤال : ماذا لو تغيرت الوظائف والأدوار الاجتماعية فيما بين الرجال والنساء ؟ ! فكان الرجل هو العاطل عن العمل والذي يبقى في البيت ، والمرأة هي العاملة ومن ينفق على الأسرة ؟! فهل يجب تغير الحكم لتغير علته .
الحديث عن الرجال والنساء يفتح لنا باب الحديث عن مصطلح ” الجندر ” والذي يعني النوع الاجتماعي ، وتعريفه بحسب عصمت حوسو :
(( الجندر : الكلمة غربية ، هو غربي المظهر شرقي الجوهر الملامح ، في بداية ظهوره في التسعينات رفض من المجتمعات العربية ، لأنه دائما نرفض الشيء الجديد ، وقبل أن يفهموا فحوا المفهوم وعلى ماذا يتحدث . فتم تعريبه وكانت هناك محاولات عديدة للتعريب ، بعد ذلك اتفق وتم الإجماع باعتباره ” النوع الاجتماعي ” الذي يقابل ” النوع البيولوجي ” ، بمعنى : أننا نولد ذكور وإناث بيولوجياً ، ولكن نتنشأ من خلال عملية التنشئة الاجتماعية ومؤسساتها ابتداءً من الأسرة مروراً بالمؤسسة التعليمية والإعلام ومؤسسات المجتمع المختلفة ، فنتنشأ ونصبح رجال ونساء ، نحن لا نولد رجال ونساء ، لأنه نتعلم أدوارنا كيف نمتثل إلى الأنوثة كنساء وكيف نمتثل إلى الذكورة كرجال ، فالجنس هو ذكر وأنثى بيولوجياً ، الفروق البيولوجية بين الجنسين ، أما الجندر هي الفروق من حيث الأدوار والمكانة الإجتماعية وهي مكتسبة . فالجنس على الأقل في ثقافتنا العربية موضوع ثابت غير متغير ، بينما الجندر موضوع متغير يواكب مستجدات الحياة . فأدوار المرأة الآن اختلفت عن أدوار المرأة سابقاً ، اختلاف الأدوار يؤدي إلى اختلاف المكانة ، اختلاف الحقوق ، اختلاف الواجبات بين الجنسين . فالجندر هو مفهوم النوع الإجتماعي الذي يقابل النوع البيولوجي والذي يتم اكتسابه ويختلف من ثقافة إلى أخرى ويتغير عبر الزمن ، نحن نتغير بالأدوار نتغير بالسلوك نتغير بمظاهر الحياة التكنولوجية والمادية ، ولكن من حيث الاتجاهات ومفاهيمنا عن أنفسنا وعن الجنس الآخر مازالت بنفس الطريقة )) .
من خلال هذا التعريف فإن ما هو متوقع من الرجال في بيئة ووفق ثقافة وتربية ومعارف يختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر وكذلك الأمر للنساء ، فعلى سبيل المثال ينتظر من النساء في السعودية أن تغطي وجهها بينما ينتظر من الرجال عند الطوارق أن يغطي وجهه ، وبينما عند بعض الشعوب الرجال من يدفع المهر ، عند شعوب أخرى النساء من يدفع المهر ، وهناك شعوب أخرى يشترك الرجال والنساء في المهر . فتعريف الوظيفة والدور والنوع الاجتماعي للرجال أو النساء هو أمر متغير .
نعود للنص المقدس ومفهوم الرجال والنساء كما يشرح سامر إسلامبولي
(( ” كلمة (رَجَل) في اللسان العربي تدل على فعل يصدر من الكائن الذي يتحرك بصورة مستمرة مع بذل الجهد بصورة لازمة. ومن هذا الوجه يقال للراكب : تَرجَّل. بمعنى النزول عن مركوبه والسير على قدميه. .. ويقال للإنسان ( ذكراً أو أنثى) رَجُل، إذا كان في شؤون حياته يعتمد على نفسه، فالأنثى العاملة والمنتجة هي رجل في معيشتها، ويقال لها الرَّجُلة في لسان العرب. .. إذاً؛ كلمة (رجل) لا علاقة لها بنوع الإنسان ذكراً أو أنثى!، وإنما علاقتها بالفاعلية منهما. لنرى استخدام القرآن لكلمة (رجل):
– أتت كلمة (رجل) بمعنى الذكور البالغين العاملين:
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ }الأحزاب40
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ }الأعراف81
لو كان القصد إتيان الذكور فقط لأتت كلمة (ذكور) أو الأولاد الذكور ! ، ولكن بمجيء كلمة (رجال) أفادت الذكور البالغين العاملين، وخرج من مفهومها الإناث البالغات بدلالة مجيء كلمة (نساء) التي دلت على المتأخرين من نوع الإناث البالغات حسب السياق المتعلق بالممارسة الجنسية. ….))
فالرجال مدلولها اللغوي يعني الذي يخرج للعمل و المستقل مادياً والقادر على الإنفاق ، بينما النساء يعني مدلولها اللغوي التي تتأخر في البيت و الغير مستقله مادياً والتي يتم الإنفاق عليها ، وهنا نلاحظ نص القوامة وعلاقته بالإنفاق فيقول أحمد عمارة :
(( يظن البعض أن صفات الرجال يشار بها للذكور وأن صفات النساء يشار بها للإناث ، فرق شاسع بين الذكور والإناث ، وبين الرجال والنساء . الرجال والنساء صفات ، الذكور والإناث جنس ، هناك ذكور نساء ، وهناك إناث رجال ، وبالطبع هناك ذكور رجال وهناك إناث نساء . قانون كوني أخبرنا الله إياه ، ليس أمرا بأن نفعله نحن وإنما إقرارا وتوكيدا أن هذا سيحدث في كل زمان ومكان . هذا القانون هو : الرجال قوامون على النساء . انظر من حولك في كل بقاع الدنيا ، لو وجدت أسرة فيها الذكر حامل لصفات النساء ، والأنثى حاملة لصفات الرجال ، ستجد الأنثى هي من تقود البيت وتسيرة ، هنا تولت القوامة طبيعيا وفق هذا القانون الكوني . ولو وجدت أسرة فيها الذكر حامل لصفات الرجال والأنثى حاملة لصفات النساء ستجد الذكر هو من يقود البيت ويسيره ، هنا تولى القوامة طبيعيا وفق هذا القانون الكوني …. الذكر عندما يساعد الأنثى (زوجته) في أعمال البيت ويتقمص لفترات دور النساء في العناية بالأطفال أو بالطبخ أو تنظيف المنزل هو من خير الناس (خيركم خيركم لأهله) ، والأنثى عندما تساعد الذكر (زوجها) في أعماله فتتقمص لفترة دور الرجال في الخروج والسعي لإنهاء بعض الأمور الخارجية الهامة التي هي من دور الذكور هي من خير الناس (خيركم خيركم لأهله)..))
وإلى هذا يشير سامر إسلامبولي :
(({الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً }النساء34 ، ذكر النص الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء، ولم يذكر الذكور قوامون على الإناث، ولو حصل ذلك لانتهى النقاش وظهر لنا المعنى تماماً!.
فمن خلال استحضار احتمالات معاني كلمة الرجال والنساء التي مرت آنفاً، ينبغي أن نبحث عن قرينة في النص لتحديد المقصد منهما؟ يوجد في النص جملة (بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، والتفضيل لا يمكن أن يكون خلقاً كما ذكرت سابقاً من حيث أن الذكر والأنثى كلاهما إنسان لا تفاضل بينهما قط، مما يدل على أن التفضيل اكتسابي من خلال المجتمع، وذلك يتعلق بما اكتسب الإنسان في حياته من الثقافة والوعي، وذلك تحت متناول يد الإنسان سواء أكان ذكراً أم أنثى. { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }الزمر9
ونلاحظ وجود جملة (وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)، والأموال لا تأتي مع الإنسان ولادة، وإنما تأتي اكتساباً من العمل والجهد أو الوراثة، فالإنسان في الأسرة (ذكراً أو أنثى) الذي يملك المال إضافة للوعي يملك القرار والقيادة. فمن خلال القرينتين – الوعي والمال- يكون دلالة كلمة الرجال والنساء من نوع المقامات الاجتماعية، بمعنى أن الرجال هم الفئة من الناس ذكوراً كانوا أو إناثاً، جناًّ أو إنساً إذا امتلكوا الوعي والمال صار بيدهم زمام الأمور، واكتسبوا مقام القوامة على الصنف الآخر الذي هو من فئة النساء بعمومها المتأخرين سواء بالوعي أم بالمال، أم بسبب ظروف فرضت عليهم التأخر عن القيام بشؤون أنفسهم.))
قد لا يستسيغ البعض أن توصف الأنثى بالرجل ، وقد يسخر البعض من هذا القول كما سخروا من توكل كرمان حينما قالت :
(( المرأة خرجت يا أخي أو الرجل الأنثى ، المرأة خرجت بدورها التقليدي الذي كان ينظر فيها على أنها ضحية ، هي الآن قائدة وهي الآن مخلص وهي الآن منقذ ، فالرجل ذكراً كان أو أنثى الآن في هذه المرحلة ، ما الذي قدمه ..))
وهي لا تقصد أن الأنثى أصبحت ذكراً ، لكنها قامت بدور ووظيفة الرجل اجتماعياً أي ما يعرف في تلك المجتمعات أنه دور الرجل ، وفي كتب التراث واللغة يقبل أن يقال أن المرأة رجلة بمعنى أنها تقوم بدور الرجل ، وقيل عن عائشة ( ر ) رجلة ، لأنها قامت بدور المحدثة والفقيهة وقائد الجيش ، وفي الثقافة الشعبية يقبل أن يقال أن فلانة أخت رجال بمعنى مواقفها مواقف الرجل الذكر ، والذكر هو المعيار في المجتمعات الذكورية . ونفس المجتمعات مازال في ثقافتها القول بأن فلان ذكر وليس رجل ، بمعنى أنه ذكر نسبة إلى عضوه التناسلي ، ولكنه ليس برجل يحمل صفات وقيم الرجولة .
لقد اختلفت عقوبة الفاحشة بحسب الدور والوظيفة والنوع الاجتماعي ، فمن يخرج لطلب الرزق وينفق كانت عقوبته الأذى ومن يبقى في البيت كانت عقوبته الإمساك في البيت وعندما تقوم المرأة بدور الرجل وهي من يخرج لطلب الرزق يقتضي ذلك تغير العقوبة ، كذلك جعلت القوامة للرجال لأنهم هم من ينفق ، وإن تغير هذا الدور والوظيفة والنوع الاجتماعي فكانت المرأة هي الموظفة وهذا ملاحظ في مجتمعنا فهناك نساء ينفقن على والديهن وعلى أسرهن وعلى أزواجهن وبعض الأزواج عاطلين عن العمل ، فالقوامة مرتبطة بالإنفاق .
عند إدراك تلك المفاهيم فإن الأمر يقودنا إلى آية : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ [ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ] مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى ﴾ [ البقرة : 282 ] ، شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل هو أمر خاص في المعاملات المالية ، لكن شهادتها في ميادين أخرى كانت امرأة مقابل رجل ، بل فيما يخص أمر النساء مثل البكارة شهادة امرأة واحدة تكفي . لفهم سياق الآيات فإنها تتحدث عن الدين وكتابته وعن التجارة في مجتمع كانت التجارة حكراً على الذكور العاملين ” الرجال “، وفي مجتمع غالبيته أمية ومن يعرف القراءة والكتابة هم قلة من الذكور ، فعندما تحدث السياق عن كون الرجال هم أصحاب التجارة والمعاملات المالية ومن يجيد القراءة والكتابة والعمليات الحسابية ، وكان دور المرأة مغيباً عن هذه المجالات ، لذا كان في حالة عدم وجود رجل آخر للشهادة طلب [ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ] وهذا كله فيما يخص مجتمع معين وعن الدور والوظيفة والنوع الاجتماعي للرجال والنساء في مرحلة تاريخية محددة . أما اليوم فإن المستوى التعليمي للنساء ربما يفوق الرجال ، بينما هناك من الرجال من لم يكمل تعليمه نجد نسبة كبيرة من النساء أكملن دراساتهن الجامعية . وسوق العمل والتجارة دخلته النساء ولم يتبق أي نشاط إلا وشاركت فيه النساء ، فنعود على ما بدأنا به وكون الأحكام مرتبطة بعلتها ، وأن مفهوم ” الجندر ” النوع الاجتماعي ومفهوم دور الرجال ودور النساء متغير عبر الزمان والمكان والبيئات . والبقاء على قول شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل في المعاملات المالية أمر يستحق إعادة النظر فيه .
وما سبق ينقلنا للحديث عن آيات أخرى هي : ﴿ [ وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ] فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا * …. [ لِّلرِّجَالِ ] نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [ وَلِلنِّسَاء ] نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ] فَإِن كُنَّ [ نِسَاء ] فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [[ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ]] مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [[[ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا ]]] أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ [[[ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا ]]] أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم [[[ مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا ]]] أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ [[ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ]] فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [ النساء : 4 ، 7 ، 11- 12 ] ، يجب الإشارة هنا إلى أن النص المقدس يؤكد دائماً على الوصية ، فالشخص هو من يقسم أمواله كيفما يرغب وبحسب معرفته بأحوال أهله ، ويأتي الإرث كاستثناء في حالة عدم وجود وصية ، ونلاحظ أن [[ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ]] هنا الأبوين لهم السدس بالتساوي فليس للذكورة والأنوثة علاقة ، وكذلك [[ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ]] وهناك حالة واحدة اختلف فيها التساوي في مقابل حالات أخرى تم فيها التساوي بين الذكر والأنثى . فلماذا اختلف الأمر في ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ] فَإِن كُنَّ [[ نِسَاء ]] فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ﴾ لقد سبق هذه الآية آية ﴿ [ وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ] ﴾ فوظيفة الرجل ودوره الاجتماعي في تلك الفترة هو دفع المهر وإيجاد السكن والنفقة والإنفاق على نساء بيته ، بينما المرأة تأخذ المهر وغير مطالبة بالسكن ولا النفقة وليست مطالبة بالإنفاق على أحد وتلك أدوراها ووظيفتها الاجتماعية في ذلك الزمن وتلك البيئة ، وأتى النص للتحذير من مصادرة المهر على النساء ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا ﴾ ، فاقتضى السياق أن يكون للولد مثل حظ الأنثيين ، وفق تلك البيئة بينما في بيئات أخرى المرأة من يدفع المهر ، فكيف يتم تكييف أمر الإرث مع هذا الوضع ؟ . بسبب تغير المجتمعات وتغير الأدوار والوظائف الاجتماعية للرجال والنساء ، فإنه يمكن فهم قول عدنان إبراهيم : (( تشريع الميراث جاء على خلفية اقتصادية تغيرت اليوم ، وتغير معها وضع المرأة ، فيجب أن تتغير النظرة لأحكام المرأة في الميراث مع هذه المتغيرات )) . ومطالبة البعض إعادة النظر في بعض المفاهيم هو طلب لتحقيق العدل ، إذ أن العدل هو رسالة وهدف كل الأنبياء ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [ الحديد : 25 ] ، والقسط هو العدل في الموازين المادية الملموسة .
الخلاصة : فهم النص من فهم مدلولاته ، وفهم السياق الثقافي ومعرفة زمن ومكان نزول النص ، ومفهوم النوع الاجتماعي للرجال والنساء أحد مداخل فهم النص ، التي تجعل إعادة دراسة النص وفتح باب الاجتهاد والتأويل مطلب في غاية الأهمية ، كما فعل عمر بن الخطاب ( ر ) في نص وسهم المؤلفة قلوبهم . [ هذه المادة جزء من فصل الجندر : النوع الاجتماعي من الكتاب الثاني ” أنواع الجنس المحرم ” من ثلاثية الجنس في الوحي ، سيصدر قريباً على تويتر ] .
أبو إلياس سويد الأحمدي @sweid1