الفكرة ثم الإنسان.. ام الإنسان ثم الفكرة؟ وما هو جوهر خلاف الشرق مع الغرب؟
أسئلة يبدو أنها ما زالت غير محسومة، وأوضحتها الحوادث الإرهابية التي قام بها “مسلمون” في الدول الغربية وآخرها هجوم نيس الأخير ومقتل ثلاثة داخل كنيسة كاثوليكية.
وهي حوادث ومواقف أعادت مشكلة العلاقة المتوترة بين الشرق والغرب إلى الظهور..فمن وجهة نظر معرفية، ما هو جوهر هذا الصراع، وكيف نفهمه؟
رأيي أختصره في القول بأن الشرق يرى أن الفكرة باقية خالدة أما الإنسان ففان و”في خُسر” وفقا للتعبير القرآني.
الأولوية للإنسان
أما الغربي فيرى الأمر بشكل معاكس تماما، الإنسان له الاولوية القصوى، وهو أهم من الفكرة التي وجدت لخدمته، وعلينا بالتالي تغليب مصلحته وحاجاته وضمان حقوقه بغض النظر عن اي شيء آخر..
هذه الثقافة تجذرت في وعي الإنسان الغربي، بطريق عديدة تربويا وسياسيا وقانونيا.
لهذا لا يفهم الغربي من يقول له أنت أسأت لديني لأن يرى الدين حفنة أفكار لا أكثر ولا أقل ومن حق الجميع الخوض فيها، لكنه يقيم فرقا بين الدين والمؤمن بهذا الدين.
وهذا الفرق فحواه: أن الدين أو الفكر ليس امرا يستدعي الاحترام او عدم الاحترام، إنما النقاش، من يستحق الاحترام هو المؤمن بهذا الدين، بغض النظر عن مصداقيته أو قدسيته.
لماذا؟ لن المقدس هو الأنسان بغض النظر عن شكله او معتقده او حالاته الفكرية أو الجسدية المختلفة.
مشكلتنا كشرقيين مضاعفة
وفقا لهذا الفهم تصبح مشكلتنا كـ”شرقيين” مضاعفة، وهي أننا وبسبب انغماسنا، ولادة ونشأةَ في ثقافتنا القائمة على الدين و”لغته”، لا نستطيع أن نخرج من النسق المعرفي القائم على فكرة الجماعة وليس الفرد.
فنحن نعيش معرفيا وأخلاقيا ورغما عنا، في فضاء ثقافي يصطبغ بأنساق الرؤية الدينية للإنسان والوجود، وهونسق ينطلق من الكلي إلى الجزئي، أي من الفكرة المطلقة الكاملة الشاملة إلى الجزئي التافه والناقص والفاني.
وبتحولها إلى فكرة الانتماء لا نسيء فهم موقفه هذا فقط ليس لأننا نقدم الفكرة (او الدين) على الإنسان فحسب بل إننا لا نؤمن، خارج هذه الثنائية بوجود إنسان أصلا !
والعلة في ذلك هي أن الإنسان فانٍ كما قلنا، غير مستقر، ناقص، لا يمكن له الكمال مهما فعل، الكمال والثبات كله في النص، وليس العالم، العالم نفسه موجود داخل النص.. أم النص بحد “ذاته” أو إلهه، فهو محفوظ ويحرص على العمل بما فيه علماء ورجال دين متخصصون.
فماذا كانت النتيجة، عمليا، لهذا المناخ الديني الشرقي وأينما تواجد؟ قطع رأس الإنسان، أي إنسان حفاظا على “كرامة” الأديان!
ولا أعني بهذا القطع الفعلي فقط، إنما القطع الممنهج دينيا، فليس للإنسان الحق في اتباع ما يراه مع نفسه، إنما اتباع النص الذي يفسره ممثل “الجماعة” أو “الأمة”.
النفس مكان عمل الشيطان، واتباع ما تقوله كفرٌ وتجديف بحق الرحمن، هنا يضطر المسلم للخروج من ذاته، والإقامة في الخارج حيث الملة والجماعة، أو “الكنيسة، بالمعنى المسيحي”.
ينتفي هنا التقسيم والفرز الحداثي بين الذات والموضوع، ويصبح الأمر كله منوط بالموضوع فقط، الذات دينيا، هي الموضوع.. وكما أشرت في نظرية التثبيت، الذات لا تجد معنى لها، دون الغرق في نقطة مرجعية ما، ومن خلالها يمكن للفرد البشري أن يجد موضعا يتكئ عليه ليحكم على العالم ويحاكمه، ليعرف كيف يتعامل أو لا يتعامل معه.
هنا لا يوجد “شخص”، يقول ما لديه، ويعرض أفكاره وتصوراته الخاصة، إنما “مؤمن” يجلب أشياءه وأفكاره وحتى وسائل البحث والعمل والنظر من الخارج، أي من “البلازما الدينية”، التي صنعها رجال دين وفقهاء مقدسين وشبه مقدسين.
2
حين نسأل لمن الأولوية للإنسان أم “أفكار” الإنسان، ومنها الله والدين؟
غربيا، الجواب واضح الأولوية للإنسان، وضمان حقوقه وحمايتها وتوفيرها، أما أفكار كل إنسان فهي خاضعة للتبدل والتغيير حسب الوقائع والحاجات والظروف.
شرقيا، الأمر مختلف تماما! الأولوية للدين وليس الإنسان
بل، ووفقا للمعنى الغربي، لا وجود أصلا لإنسان!
الإنسان دينيا، عبدٌ، وحتى هذا لا يكفي فعليه كعبد أن يرفض ويحتج ويعارض منح الحرية لأي إنسان.
لماذا؟ لأننا جميعا لا نملك أنفسنا.. ومن يفعل ذلك حصد غضب الدنيا والآخرة.
الإنسان الديني، مخلوق وجد لكي يحقق ذاته في الخارج، وعبره، ليس الخارج المادي الذي نعيش فيه ومرغمون على التعامل معه، إنما الخارج الذي يجب أن يتبع “النموذج” اللاهوتي المعد سلفا، كل ما عدا ذلك مرفوض، وتجديف.
ولا أسئلة، الأسئلة نافلة، كل شيء واضح و”مثبت”، جاهز مسبقا، عشْ فقط، يا مؤمن كما نقول لك أنت سجيننا والنص سجانك..لا خيار لك..ولا قرار.
انت مجرد قطرة في بحر الأمة، الأنا لا وجود لها و”تعوّذ” منها، أنت حلقة في سلسلة هائلة، النفي عن ذاتك قدرك وفيه خلاصك، “أسلم تسلم”، وهاجر من الداخل ليس جغرافيا، إنما ذهنيا، من النفس إلى النص.. هناك حيث مآلك الاخير ومصيرك الجميل.
ولا تتوهم أيها المؤمن “أسلم تسلم” ليست موجهة للكفار إنما لنا جميعا، وفي المقدمة المؤمنين، عليهم دائما أن يثبتوا حسن إيمانهم وإسلامهم. الإثبات، على الثابت بحاجة دائما لـ”التثبت”.
ولهذا يجب عدم القبض على المؤمن متبلسا في “الداخل”، فالداخل حيث النفس “الأمارة بالسوء”، عدو لدود للشريعة والحق الذي ارسل إلى العالمين..
لغويا، الحق من الحقيقة، والعقل من الاعتقال والتعقل، وعقل الاشياء مع بعضها اي ربط المؤمن “العاقل” بالنص “المعقول”، ولهذا يجب اتباع العقل، ليس للتعقل على الطريقة الديكارتية، إنما حسن الاعتقال.. وهو قريب من معنى إسلامي هو “حُسن الإسلام”.
النفس أيضا من النفًس (نفش العبرية)، أي من الخارج، وليست من الداخل، الاولوية للخارج هنا.. لكنه ينطوي على قدرات سحرية للخارج تحولت مع مسيرة الإنسان عبر التاريخ إلى نفس إليهة..تنفخها الآلهة داخل الاجساد فتحيا.
هكذا خلق آدم الإنسان الاول بالنفخ .. وهي اسطورة تتكرر بأشكال عديدة لدى مختلف الشعوب.