أزاميل/ متابعة: في حوار أجراه ادونيس مع الكاتب عبدالله الحامدي ونشر في “الشرق الثقافي”، الأحد 22-03-2015 بأنه يكتب شعره لجمهور سوف يأتي بعد مئتي عام!
وقال أدونيس أنه كان على المستوى الرؤيوي الثقافي ضد حزب البعث وضد عموم الأحزاب اليسارية وحتى الإسلامية، لأن صراعها متمحور حول الوصول إلى السلطة بأي ثمن، اما أنا فصراعي ثقافي وليس سياسياًط، مضيفا أننا “تربينا في ثقافة النبوة، وعليه فإن كل ما تقوله يجب أن يكون ثابتاً وأن تصدقه وأن لا يتغير، ثم انسحب هذا المعتقد الديني على جميع الأبعاد الثقافية”.
واعتبر أن السياسة تتقدم عند جميع العرب على الثقافة، و”منذ موت النبي (صلى الله عليه وسلم) تتغلب السياسة على الثقافة ولا تزال حتى الآن، فكل السياسة العربية الآن متمحورة حول كيف نجعل من الثقافة أداة لخدمة السلطة بدل أن يكون السؤال كيف نجعل من السلطة أداة لخدمة الثقافة”.
كما أكد ادونيس على أن بغداد كانت عاصمة العالم، لكن هذه الصورة التي أعيش فيها الآن تصطدم بالحاضر، والاصطدام بالحاضر العربي اليوم إذا أردنا وضعه على الطاولة الكونية بمقياس الإبداع البشري والإسهام في بناء العالم الحديث فإنه لا شيء على الإطلاق، إن اصطدام الصورة القديمة بالصورة الحديثة هو الذي يستنفر بي هذا الدمع والبكاء.
وشدد أدونيس على أن عدم وجود أي سياسة عظيمة في أي بلد في العالم إلا إذا قامت على ثقافة عظيمة”.
وحسب ادونيس فدمشق بالنسبة إليه ليست مدينة ثقافية، إنما هي مدينة تجارة وسياسة، رغم كل الحراك الذي تراه لا يوجد فيها جوهر على الإطلاق، دمشق منذ أيام معاوية لم تُخرج مفكرا واحدا عظيمًا باستثناء ابن تيمية الذي أحترمه رغم اختلافي معه
وحول قصدية النثر قال أنها كانت نوعا من التوريط في إطار الثقافة العربية السائدة، أي كيف تجمع بين نقيضين قصيدة ونثر، ولكن كانت هناك مبالغة بأخذ المصطلح على نحو أرادوا أن يجدوا له مطابقة في الواقع، أنا قلت منذ البداية أنه مجرد مصطلح.
وحول الكتاب والشعراء الشباب العرب، ذكر ادونيس أنه يجد أن الشباب العربي مسحوق ذاتيًا، لا ذاتية له ولا حرية له، الكتابات الجديدة كلها تتمحور بشكل أو بآخر حول اكتشاف الذات عند الفرد، وكلهم يقول أنا شاعر لأنه لا يمتلك وسائل ثقافية أخرى، لا فلسفة ولا سينما ولا حتى علم اجتماع، هذا لأنه ليس لدينا ثقافة حتى الآن،
مقدمة المحاور الكاتب عبدالله الحامدي
«أجملُ ما تكون أن تُخلخلَ المدى والآخرون بعضهم يظنكَ النداء بعضهم يظنكَ الصدى».. هذا المقطع الشعري الساحر يصلح مفتاحًا للدخول في تجربة الشاعر العربي والعالمي الكبير علي أحمد سعيد اسبر الملقب بـ (أدونيس)، فكل ما في تجربته الشعرية الطويلة والحافلة بالمساجلات النقدية منذ ستين عامًا يُحيلكَ إلى عدم الاستقرار والطمأنينة، حيث لا تعرف إن كان ما يقوله كلامٌ جديد أم رجعٌ لما تراكم في الوجدان الجمعي منذ مئات السنين؟
أدونيس شاعرٌ ومفكرٌ جدليٌ، لا يقدم الإجابات بمقدار ما يثير الأسئلة، يدعو قارئه إلى إعادة التفكير بكل شيء في التراث الثقافي العربي، عبر منهج حداثي حر ومنفتح، ولعل هذا ما أدى إلى كثرة مناوئيه قياسًا إلى مؤيديه.
في كتابه «الثابت والمتحول» يوضح رؤيته العميقة للثقافة العربية التي يتنازعها من وجهة نظره تياران رئيسان، أحدهما تقليدي اتباعي (ثابت) والثاني تجديدي إبداعي (متحول)، ولك أن تتخيل ذلك الفرز الرهيب لمجمل الموروث العربي حين تضعه على مصطبة التشريح بمرجعياته واستنتاجاته.
أدونيس (المولود في قرية قصابين الساحلية السورية عام 1930) لم يعرف مدرسة نظامية قبل سن الثالثة عشرة، حفظ القرآن الكريم على يد أبيه، كما حفظ عددًا كبيرًا من قصائد العرب القدامى، وفي العام 1944 ألقى قصيدة وطنية أمام شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية حينذاك، والذي كان في زيارة للمنطقة، فنالت قصيدته الإعجاب، لترسله الدولة إلى المدرسة العلمانية الفرنسية في طرطوس، ويقطع مراحل الدراسة قفزا. ويتخرج من جامعة دمشق متخصصا في الفلسفة سنة 1954.
لكن ذلك الشاعر المحتفى به وهو طفل مفعم بالحماس سوف يغادر سورية إلى لبنان بعد سنتين من السجن والملاحقة بسبب انتمائه إلى الحزب القومي السوري عام 1956، ليلتقي مع الشاعر يوسف الخال ويؤسسان معًا مجلة «شعر» الذائعة الصيت والتي ألقت حجرًا كبيرًا في المياه الراكدة، لتنقسم الخريطة الشعرية العربية منذ ذلك الحين إلى مدرستين رئيستين: السيابية (نسبة إلى الشاعر العراقي بدر شاكر السياب) والأدونيسية (نسبة إلى ضيف ملحق « » اليوم).
امتد العمر بصاحب «أغاني مهيار الدمشقي» و «كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل» و «مفرد بصيغة الجمع» و «زهرة الكيمياء» و «مقدمة لملوك الطوائف» و «تاريخ يتمزق في جسد امرأة» و «قبر من أجل نيويورك».. وهذه القصيدة الأخيرة بالذات التي كتبها أدونيس سنة 1971 كانت بمثابة النبوءة لأحداث 11 سبتمبر 2001 وفيها يقول أدونيس: «ومن أكداس القذارة وأقنعة الامباير ستيت، يعلو التاريخ روائح تتدلى صفائح صفائح: ليس البصر أعمى بل الرأس، ليس الكلام أجرد بل اللسان، نيويورك ـ وول ستريت ـ الشارع 125 ـ الشارع الخامس، شبح ميدوزي يرتفع بين الكتف والكتف. سوق العبيد من كل جنس. بشرٌ يحيون كالنبات في الحدائق الزجاجية. بائسون غير منظورين يتغلغلون كالغبار في نسيج الفضاء ـ ضحايا لولبية، الشمس مأتمٌ والنهار طبلٌ أسود»!
عندما سئل أدونيس ذات يوم عن غموض شعره رد بأنه يكتب شعره لجمهور سوف يأتي بعد مئتي عام!
لا يمكن أن تتفق مع أدونيس ولا أن تختلف معه بالمطلق، وهو من الشعراء العرب القلائل الذين يمارسون النقد إلى جانب الشعر، لتفضي به مواقفه النقدية إلى حقول سياسية ودينية شديدة الوعورة، منها حادثة اتهامه بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي، إثر مشاركته في مؤتمر ثقافي بإسبانيا إبان مؤتمر مدريد للسلام في بداية التسعينيات، الأمر الذي دفع اتحاد الكتاب العرب بدمشق لفصله، ووسط هذه الأنواء خرج صديقه الشاعر الراحل ممدوح عدوان بعبارة جميلة مفادها أن: «أدونيس الذي يسبح في أعالي بحار الأدب يغرق في شبر من بحر السياسة»!
ونظرًا لإقامته المديدة في الخارج (باريس)، فقد شكل مشروعه الثقافي جسرًا حيويًا بين العرب والغرب، عبر مشاركاته وترجماته ومختاراته التي أثارت جدلًا واسعًا، من شعر أحمد شوقي ومعروف الرصافي إلى نثر عبدالرحمن الكواكبي ومحمد عبده ومحمد بن عبدالوهاب.
في زيارته الأولى للدوحة مع الموسيقار نصير شمه قبل نحو عشر سنوات اختلفتُ معه حول كتابه «الصوفية والسوريالية»، لكن زيارته الثانية بمناسبة معرضه المشترك مع الفنان التشكيلي هيمت علي قربتني إليه أكثر، أما أمسيته الأخيرة قبل أسبوعين بدعوة من جامعة جورج تاون بالمدينة التعليمية فقد استدعت هذا الحوار الذي حشدت فيه أسئلتي، وأجابني عنها جميعًا دون تردد، باستثناء سؤال واحد حول كونه «المرشح العربي الدائم» إلى جائزة نوبل للأدب، والتي يستحقها بجدارة.
وفيما يلي نص الحوار كاملًا:
دواوينك: قصائد أولى، أوراق في الريح، أغاني مهيار الدمشقي.. عبرت عن الروح المتمردة في الشعر العربي الحديث، مختلفةً منذ البداية حتى عن تجارب الرواد المجايلين لك، ألا ترى أنك بإعادة كتابتها أو ترميمها لاحقًا، قد خدشت صورتها الفطرية لدى القراء الذين أحبّوها؟
أظن أن السؤال قائم على قراءة غير دقيقة، أولًا لأنني لم أعِد كتابة القصائد القديمة أبداً وإنما حذفت ما رأيته ضعيفاً أو غير شعري بطريقة أو بأخرى، لم أضف أي شيء، إذاً لم أخرج القصيدة لا من سياقها ولا من دلالاتها، وإنما قصصت بعض الأوراق الزائدة في أغصان هذه الشجرة التي اسمها قصيدة إذا صح التعبير.
وبهذا المعنى لا أكون قد غيرت القصيدة أو أعدت كتابتها هذا هو تفسيري، الشيء الآخر الذي قد يكون أكثر أهمية أنني أعدّ القصيدة في المقام الأول ليست ملكاً للآخرين، وإنما ملكاً لكاتبها يستطيع أن يتصرف بها كما يشاء، وأن يعيد كتابتها أو أن يتنكر لها، كما فعل معظم الشعراء في العالم، ما دام حياً.
عندما يموت الشاعر تنتهي علاقته بالقصيدة، يجب أن نعيد النظر في مثل هذه القضايا، وأنا أعتقد أنها آتية من ترسبات تاريخية أساسها ديني، لقد تربينا في ثقافة النبوة، وعليه فإن كل ما تقوله يجب أن يكون ثابتاً وأن تصدقه وأن لا يتغير، ثم انسحب هذا المعتقد الديني على جميع الأبعاد الثقافية، فكما يتغير الإنسان والإنسان أهم مما يكتبه فيمكن لكتابته أن تتغير أيضاً.
اصطدام الصورة القديمة بالصورة الحديثة هو الذي يستنفر بي هذا الدمع والبكاء.ألا تعتقد أن الحذف نفسه هو نوع من إعادة الكتابة أو إعادة الصياغة؟
إعادة الصياغة تعني تدخلًا في شكل وبنية القصيدة، أنا لم أتدخل لا في شكل القصيدة ولا في بنيتها.
«والصقر في متاهةٍ في يأسه الخلاّق يبني على الذروة في نهاية الأعماق أندلس الأعماق أندلس الطالع من دمشق يحمل للغرب حصاد الشرق»، هذا المقطع تحديدًا من قصيدة «تحولات الصقر» التي تستلهم سيرة عبدالرحمن الداخل الملقب «صقر قريش» أبكاك في أكثر من أمسية، لماذا؟
صحيح وقد تفاجأت بأن بعض الذين يستمعون إلي بكوا أيضاً، هذه مسألة نفسية سأحاول أن أشرحها، على المستوى النفسي يحدث هذا خصوصا عندما يكون في الحضور سوريون ويسمعون بهذه القصيدة، فيستيقظ لديهم الشعور بهذا التاريخ العظيم الذي بناه العرب منذ ظهور الإسلام خمسة عشر قرناً.
وهذا الانفتاح على العالم والمتمثل في بغداد بالمقام الأول، بدءا من القرن الثاني الميلادي كانت بغداد عاصمة العالم، لو عددنا روما والقسطنطينية سنعد بغداد إلى جانبهما على المستوى الكوني، ثم إن هذه الصورة التي أعيش فيها الآن تصطدم بالحاضر، والاصطدام بالحاضر العربي اليوم إذا أردنا وضعه على الطاولة الكونية بمقياس الإبداع البشري والإسهام في بناء العالم الحديث فإنه لا شيء على الإطلاق، إن اصطدام الصورة القديمة بالصورة الحديثة هو الذي يستنفر بي هذا الدمع والبكاء.
وأنا أعد العرب كلهم نظاما واحدا، رغم الاختلافات الشكلية، ولكن في العمق هو نظام واحد ومن المستحيل أن يكون هناك نظام عربي ديمقراطي إذا لم نغير نظرتنا إلى الدين
لدمشق دلالة رمزية خاصة في شعرك، لكنك بقيت بعيدًا عنها طوال حياتك، بدليل أمسيتك الوحيدة التي أقيمت في قصر العظم الدمشقي العريق بعد قرابة خمسين عاما من الاغتراب عام 2003، وبُعيد سقوط بغداد بيد الاحتلال الأمريكي.
ما الذي تعنيه لك دمشق اليوم بعد الأحداث العاصفة ونحن في العام 2015؟
يجب أن نضيف إلى هذا السؤال أن هذه الأمسية قد أقيمت لا بدعوة من جهة حكومية أو جهة وطنية وإنما بدعوة من ممثلية الاتحاد الأوروبي في دمشق، وهذا أثر في نفسي كثيراً بصورة سلبية، فبعد هذا الاغتراب أدعى من قبل منظمة دولية كبرى ليست عربية، ولكن لو قارنت هذا بالاستقبال الجماهيري الهائل فالأمر مختلف، لقد كان استقبالاً لا مثيل له وقد أبكاني.
منذ طفولتي الأولى المؤلمة والمعذّبة، وما بعدها بين عامي 1950 و1954 أمضيت حياة قاسية في دمشق انتهت في العام 1955 في السجن وبمشاكل سياسية، فبقيت دمشق بالنسبة إلى مثل ضوء أتجه إليه لكنه بعيد وكلما اقتربت منه ابتعد، بسبب الواقع وهذا لأنني كنت ولا أزال ضد حزب البعث على نحو خاص وضد أحزاب اليسار على نحو عام، لأنها أحزاب لم تكن تهدف على الإطلاق إلا للوصول إلى السلطة، وكانت تعتبر – مثل الأنظمة التي تثور عليها – أن الثقافة جزء من السلطة، وأنا أعتبر العكس هو الصحيح، أي أن السلطة جزء من الثقافة وأنها ليست هناك سياسة عظيمة في أي بلد في العالم إلا إذا قامت على ثقافة عظيمة.
لذا كنت على المستوى الرؤيوي الثقافي ضد حزب البعث وضد عموم الأحزاب اليسارية وحتى الإسلامية، حيث صراعها متمحور حول الوصول إلى السلطة بأي ثمن، وأنا صراعي ثقافي وليس سياسياً، إضافة إلى أن علاقتي بحزب البعث علاقة منقطعة منذ البداية كلياً، وما فعله معي النظام السوري لم يفعله مع كل الذين ثاروا عليه وقد كانوا جزءًا منه ومنتفعين به، ولا أريد أن أذكر أسماء لأن مشكلتي ليست مع الأشخاص.
لذلك بقيت دمشق بالنسبة إلي نوعا من السجن على المستوى العملي والنظري وسجن من حيث إنها ليست مدينة ثقافية، هي مدينة تجارة وسياسة، رغم كل الحراك الذي تراه لا يوجد فيها جوهر على الإطلاق، دمشق منذ أيام معاوية لم تُخرج مفكرا واحدا عظيمًا باستثناء ابن تيمية الذي أحترمه رغم اختلافي معه، لقد عرف كيف ينتقد المنطق اليوناني وكيف يتحاور مع العالم، كم تمنيت لو أن هؤلاء المسلمين اليوم يقلدونه ويحاكونه بعقله ودقته ومنطقيته، ماعدا ذلك جميع الأشخاص باستثناء شكري القوتلي من خارج دمشق.
ولكن نزار قباني ابن دمشق أيضًا؟
نزار قباني شاعر كبير لكنه ليس دمشقيا بمعنى خليل مردم بك والدمشقيين، نزار استطاع أن يخرج من الطوق الذي أنا أتحدث عنه وأصبح عنده بعدا ليس عربيا فحسب، وإنما بعد إنساني، ولكن في النهاية عمقيًا نزار قباني لم يعش في دمشق عاش خارجها وكانت بالنسبة إليه نقطة حنين.
أشعر أن علاقتك مع دمشق مركبة وذات كيميائية ليست بسيطة؟
صحيح علاقتي ملتبسة جداً مع دمشق، مثلًا أنا أحب حلب أكثر لأنها مدينة عمودية، أما دمشق فهي أفقية، حلب فيها بعد تاريخي عميق وعناصر كونت المجتمع السوري، فيها عناصر متعددة ومتنوعة، فيها بعد مسيحي وفيها بعد إشراقي صوفي وفيها بعد إسلامي فقهي، فيها عناصر أغنى بكثير من دمشق، يعني منذ أيام يوحنا الدمشقي – الذي عمل ذلك التلاحم مع معاوية والدولة الأموية – لم يحدث شيء كهذا باستثناء مرحلة صغيرة جداً هي مرحلة الاستقلال أي مرحلة فارس الخوري.
وماذا عن مرحلة ابن عربي؟
❖ ابن عربي أندلسي مهاجر في دمشق، وليس دمشقيًا، جاء في أواخر حياته ومات فيها، ابن عربي رجل عظيم ولكن دمشق لم تتبناه فكريًا، ورفضته وكل العرب يرفضون ابن عربي رسميًا.
ما سبب تغلب السياسة على الثقافة في دمشق؟
عند جميع العرب السياسة تتقدم على الثقافة، منذ موت النبي (صلى الله عليه وسلم) تتغلب السياسة على الثقافة ولا تزال حتى الآن، فكل السياسة العربية الآن متمحورة حول كيف نجعل من الثقافة أداة لخدمة السلطة بدل أن يكون السؤال كيف نجعل من السلطة أداة لخدمة الثقافة.
قصابين، القرية الساحلية السورية التي ولدت فيها عام 1930، بنيت فيها مثواك الأخير كما لم يفعل أي من الشعراء العرب، هل هو حنين للعودة إلى نقطة البدء، ولماذا إذن كل هذا السفر؟
هذا تعبير عن المشكلات التي تشغلني وتجعلني دائما في حياتي وأفكاري في خضم كبير من التساؤلات دون الوصول إلى جواب أخير ومقنع، هذا سؤال يكشف عن ماذا تعني الهوية بالنسبة إليّ؟ هل هي إرث ومفروضة ومصنوعة مسبقاً وما علي إلا أن أتبنى هذا الإرث، أم أن الهوية على العكس كما يقول أجدادنا ومعلمونا المتصوفون هي ابتكار متواصل والإنسان يخلق هويته كما يخلق قصيدته وعمله وعلاقاته مع الآخر، إذاً الهوية ابتكار وليست إرثًا، ولكن على المستوى العملي حينما أنظر إلى أبي وأمي وأخوتي وأصدقائي يأخذني حنين إلى المعنى الأول، وعندما تختفي هذه الحالة وتقرأ مشكلاتك عبر مشكلات العالم يأخذك الخلق والإبداع، فأنا ممزق بين هاتين الرؤيتين، لذلك هذا يعبر عن ضياعي، لنعترف أن هناك أسئلة لا جواب لها ولو كنا قادرين على أن نجيب عن جميع الأسئلة فلن يكون هناك أي مشكلة، وتكون الحياة سهلة وبسيطة، ولكن الحياة أعقد بكثير مما يخيل إلينا، وفي هذه اللحظة من الانتماء إلى الماضي والأب والأم والتاريخ والدين والذكريات والحنين يكون من الأفضل للشخص أن يموت حيث خطا خطواته الأولى في الحياة، لكن في لحظة أخرى تأخذني نزعة المغامرة وأقول إن على الإنسان أن يموت مغامرًا.
يقول بعض النقاد إنك ورطت الحركة الشعرية العربية المعاصرة بمصطلح «قصيدة النثر» الذي ينطوي على تناقض، ولا تزال المشكلة قائمة منذ نصف قرن حتى الآن؟
يمكن أن يكون مع هؤلاء الحق، فكانت نوعا من التوريط في إطار الثقافة العربية السائدة، أي كيف تجمع بين نقيضين قصيدة ونثر، ولكن كانت هناك مبالغة بأخذ المصطلح على نحو أرادوا أن يجدوا له مطابقة في الواقع، أنا قلت منذ البداية أنه مجرد مصطلح وكجميع المصطلحات أحياناً يكون هناك مصطلح ليس له أي معنى ولا علاقة له بالواقع ولكنه يتقبل كمصطلح، أنا قلت قصيدة نثر يعني هذا النوع من الكتابة الذي يأخذ شكل القصيدة ويكون هذا الشكل منفتحا على صياغات أخرى لا تخضع للإيقاع أو البحور الخليلية، وهذا المصطلح قابل للتغير ولا ينبغي الوقوف عنده بهذا الشكل الحرفي، بل يجب أخذ معناه ودلالته وتجاوزه، بدليل أن المفهوم انتصر الآن، سواء أكان المصطلح صحيحا أو خاطئا، فالشبان العرب كلهم اليوم أكثر ميلاً لما يسمى قصيدة النثر.
هل هذه المشكلة – أعني مفهوم أو مصطلح قصيدة النثر – موجودة في اللغات الأخرى، خاصة أنك قدمت الشعر الفرنسي وتجاربه الحداثية الرائدة؟
ليس لديهم مشكلة على الإطلاق، لديهم في النهاية علاقة بالأشياء شعرياً تختلف عن علاقتها نثرياً، النثر إجمالاً سردي وصفي إخباري أفقي، بينما العلاقة الشعرية بالأشياء هي علاقة عمودية بالإضافة إلى علاقتها الأفقية، إذاً الشعرية ليست مجرد وزن، هناك شعراء كتبوا دواوين موزونة ليس فيها شعرًا، هناك النفري أو ابن عربي عنده جمل شعرية لا مثيل لها على الإطلاق، فإذاً الشعر هو كيف تعبر، كيف تنظر إلى الأشياء، العرب القدامى سمّو القرآن الكريم شعراً وهو لم يكن موزوناً ولم يكن مقفى وهذا مؤشر على أنهم لم يربطوا الشعر بالوزن.
الشعر العربي يعاني من معضلة اسمها «المتنبي»، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، في حين أطلق عليك الناقد والمفكر الكبير إدوارد سعيد لقب «الشاعر العربي العالمي الأول»، هل وضعت في تصورك تجاوز هذه المعضلة كما تقول في قصيدة «تنبأ أيها الأعمى»: «من أين لي أن أكون نبيًا»؟
المتنبي في أعماقه كان ينكر نبوته، لأن النبي هو من يقول نعم للعالم ولما يقوله، وهناك حادثة طريفة جداً وقعت في أحد مجالس سيف الدولة الحمداني، حيث كان يجلس فيه العلماء والكتاب والنقاد وذات يوم كان هناك شخص لا يحضرني اسمه الآن كان يكيد للمتنبي، وكما تعلم كان للمتنبي أعداء كثيرون أكثر مما كان له أصدقاء، فقال له هذا الرجل لكي يحرجه كيف تجرؤ أن تسمي نفسك المتنبي ونبينا قال لا نبي بعدي، فقال له المتنبي بهدوء: أنا اسمي لا.
وكذلك علاقته مع كافور الإخشيدي حيث قال المتنبي يصفه في آخر قصيدة كتبها: «فما كان ذلك مدحًا له ولكنه كان هجو الورى»، فقد كان ضد هذا المجتمع الذي يجعله محتاجاً لأن يذهب إلى الخليفة، المتنبي رجل عظيم بعكس كل ما يقال عنه، يحاكمونه ويقولون عنه مرتزق، ما معنى مرتزق؟ فيما مضى كان العمل عند العرب هو أن تكتب قصيدة..
هو شاعر كبير بلا شك، فنيًا ربما يكون هناك شعراء أقوى منه، مثلاً هناك عدد من الشعراء العرب خلال ألفي سنة شكلوا مفاصل كبرى وخلقوا اللغة الشعرية العربية، مثل امرؤ القيس وطرفة بن العبد الذي يعد أساس التجارب الشخصية الحميمية في العصر الجاهلي، ثم ذو الرمة في العصر الأموي، وأبو نواس في العصر العباسي الذي أبدع لغة جديدة هي لغة المدينة ولم يسبقه إلى ذلك أحد.
وأبو تمام الذي خلق علاقة باللغة وعلاقة للغة بالأشياء لا سابق لها، ثم ننتقل إلى ابن الرومي الذي ترك الموضوعات والأفكار والقضايا وانتمى إلى الأشياء، ثم لدينا المتنبي وأبو العلاء المعري الذي هو ذروة من ذروات الشعر العربي، هؤلاء هم من خلق الشعر العربي أما الباقي فتنويع عليهم.
وفي العصر الحديث؟
لا يحق لشاعر معاصر بتقديري أن يتكلم عن شعراء يعاصرونه لأنه عمقيًا أن تكون شاعرا يعني أن تخلق تجربة خاصة بك أنت وحدك وإذا فعلت هذا يعني أنك لست مع الشعراء الآخرين أو أنك ضد اتجاهاتهم، ولكن ما يمكن قوله إن هناك مواهب شعرية عربية كبيرة، وقد قلت أكثر من مرة لدينا شعراء أكثر موهبة من أي شعب في العالم، لكن هناك فروقات، لأن هذه المواهب مثل النار تشتعل بسرعة ثم تنطفئ رويداً رويداً بدل أن تتغذى وتقرأ وتتعلم وتتعب وتبني رؤية جديدة للعالم، حيث تأخذها الحياة اليومية العربية وتأخذها السهولة وتنطفئ.
لا يوجد عمارات شعرية كبرى يقوم بها الشعراء العرب، ربما هو الكسل أو ظروفهم الموضوعية، هذه ظاهرة تحتاج إلى دراسة، فلدينا شعر عربي من أعظم الشعر في العالم ولا يوجد كتاب شعري واحد يدرس جمالية اللغة الشعرية العربية لا في القديم ولا في الحديث، الجرجاني قدم بعض الأمثلة عن تلك الجمالية ولكن ضمن كلامه عن اللغة القرآنية، هناك كتب حول البيان والبديع لا غير.
الشعر عصيٌ على الترجمة، لماذا لا تترجم قصائدك بنفسك إلى الفرنسية، وهل تفكر بكتابة شعرك باللغة الفرنسية؟
الإنسان له أم واحدة، واللغة الأم بالنسبة إلى هي اللغة العربية، إنها لغة الإبداع لا أقدر ولا تتركني لغتي العربية أن أكتب بلغة أخرى غيرها، خصوصاً وأنها لغة عظيمة وجميلة وأنا أحبها كثيرًا.
كيف تقيّم الشعر العربي الراهن، وهل تقرأ تجارب اليوم، أو هل لفتت انتباهك أسماء جديدة؟
أكرر أن هناك مواهب عديدة، ولكنني أختصر الشعر العربي اليوم بأنه يتمحور حول البحث عن الذات، تقرأ النساء، أو الشباب العربي تجده مسحوق ذاتيًا، لا ذاتية له ولا حرية له، الكتابات الجديدة كلها تتمحور بشكل أو بآخر حول اكتشاف الذات عند الفرد، وكلهم يقول أنا شاعر لأنه لا يمتلك وسائل ثقافية أخرى، لا فلسفة ولا سينما ولا حتى علم اجتماع، هذا لأنه ليس لدينا ثقافة حتى الآن، رغم كل التقدم الذي نشاهده في المدن العربية، التقدم العمراني والتجاري والاستهلاكي وغيره، إلا أننا لا نملك ثقافة خصوصاً مع ثقافة الأمة، ثقافة الجمع قتلت الفرد العربي، وما نشاهده الآن أن الفرد العربي يثور على هذه الثقافة ويعبر عن نفسه، لذلك من المهم جداً أن تدرس هذه الظاهرة من هذه الزاوية.
اتجهت نحو الرسم، وقدمت تجربة بصرية مثيرة على مستوى «الكولاج»، كما قدمت بعض أمسياتك بصحبة الموسيقا، لكنك لديك موقف من الرواية، لماذا؟
بالمناسبة أنا أستعد لإقامة معرض تشكيلي ضخم يوم 23 مارس الحالي (غدًا)، يضم حوالي 100 عمل في أهم صالات باريس، أما بالنسبة إلى الرواية فأحياناً تؤخذ كلمة وتخرج من سياقها، على مبدأ «لا تقربوا الصلاة» دون إكمال بقية الآية: «وأنتم سكارى».. أنا قلت لا أقرأ الرواية إذا كانت مجرد قصة لسرد حكاية حب بين اثنين مثلاً، لا أقرأ روايات من هذا النوع وللأسف معظم الروايات التي حاولت أن أقرأها للعرب هي من هذا النوع وأنا بحاجة إلى زمن كثيف وليس إلى زمن بارد ورخو مثل الزمن الذي تقدمه الرواية السردية، ولكن من يستطيع أن يقول إنه لا يقرأ الروسي ديستويفسكي أو لا يقرأ الأمريكي ملفيل، أنا أحب الروايات التي تقدم للإنسان عالما ولكني إجمالاً أميل إلى قراءة الشعر أكثر من الروايات.
خلال فترة المعايشة الطويلة في الكتابة لم يخطر في بالك في يوم أن تكتب رواية؟
لا أبدًا، صعب!
تقول: إن العرب أمة مشرفة على الانقراض، ما لم تقم بقطيعة تامة مع ماضيها، بيد أنك في كتابك «الثابت والمتحول» وجدت في ذلك الماضي «الستاتيكي» بذورًا «ديناميكية» جوهرية للذهاب إلى مستقبل أفضل، أم أن قناعتك قد اختلفت عما كانت عليه منذ أربعة عقود؟
لا، مازلت مقتنعا بهذا الرأي من حيث المبدأ، ولكن سؤالك يتضمن أن الماضي الذي أعنيه ليس الماضي بالمطلق، الماضي هو ما ارتبط بالسلطة يعني الانفصال الكامل عن ثقافة السلطة التي سادت ولاتزال سائدة، لأن ثقافة السلطة هذه لم تقتل فقط الثقافة الخلاقة وإنما قتلت الأفراد، قتلت البشر وحكرت العالم كله في السلطة، وجميع الأنظمة العربية هذا هو مداها، أعطني السلطة وخذ ما تشاء، لماذا؟ لأن السلطة لها علاقة بالمال ولذلك مستوى الدين في الإسلام هبط لأن الدين أصبح إيديولوجية وأصبح أداة من أدوات السلطة بدل من أن يكون عالما روحيا، هل يعقل اليوم أن تنتمي كمسلم إلى ألف وخمسمئة سنة من التاريخ، أن لا ترى اليوم في مليار ونصف من المسلمين مفكرا مسلما واحدا يقدم الإسلام بقراءة جديدة على طاولة الفكر العالمي، سمّ لي اسماً واحداً يكون مؤمناً ويملك فكرا عظيما بمستوى ما قدمه ابن عربي أو ابن رشد أو الغزالي.. هذا الهم هو الذي يجب أن يكون هم المسلمين اليوم وليس هم القتل والتكفير وإصدار الفتاوى، القرآن الكتاب العزيز اليوم مختزل في مئة أو مئة وخمسين آية فقط، وهي الآيات التي تتعلق بالتحليل والتحريم والواجبات والشرع والأمور الفقهية، أما العالم الذي يدعو القرآنُ الكريم المسلمين إليه، عالم المعرفة والبحث والتساؤل وبناء العالم، غير موجود، أنا أخجل وأغضب لهؤلاء المسلمين كيف يمكن أن يختزلوا هذا العالم ببضع آيات.
في بداية «الربيع العربي» وجهت رسالة شهيرة إلى بشار الأسد قلت فيها بالحرف: «بغير الديمقراطية، لن يكون هناك غير التراجع وصولًا إلى الهاوية»، وبناء على هذه الرسالة اتُهمت بالوقوف إلى جانب النظام السوري، هل تعتقد أن العرب، بالإضافة إلى كل الصفات الأخرى، أمة لا تقرأ؟
أنا مستغرب جداً بعد قراءة هذه الرسائل كيف يمكن أن يقال عني هذا القول، وهذا معناه أن العرب لا يقرأون وإذا قرأوا لا يفهمون، شي غريب أن أطالب النظام السوري بالديمقراطية وغيرها ثم أتهم بأنني أقف معه، لم أفهم حقيقة كيف يحدث هذا،
أنا قلت منذ العام 1956 أنني ضد هذا النظام، ولم أتعامل معه على أي مستوى على الإطلاق منذ ذلك التاريخ حتى هذا اليوم، والسبب العميق هو أن مشكلتي ليست سياسية وإنما هي مشكلة ثقافية، سياسة العرب كلها واحدة وإذا كان هناك فرق فسيكون في الدرجة وليس في النوع.
وأنا أعد العرب كلهم نظاما واحدا، رغم الاختلافات الشكلية، ولكن في العمق هو نظام واحد ومن المستحيل أن يكون هناك نظام عربي ديمقراطي إذا لم نغير نظرتنا إلى الدين.
لا يمكن لأنه بمجرد أن تستخدم الدين في السياسة يدخل العنف من جهة والإقصاء من جهة ثانية، ويتحول الدين إلى أداة رمزية، وأنا أعتبر أن هذا ليس من مصلحة الدين ولا يخدم الدين وليس جزءًا عضوياً من الدين إذا ارتبط الدين بالعنف، فكيف يبشر البشر؟
الدين رحمة وسلام وحوار، الله سبحانه وتعالى حاور إبليس بنفسه، ولمن يريد أن يعرف فليقرأ القرآن الكريم، لقد حاور الله مخلوقًا رفضه وأثبت ذلك في كتابه العزيز، فالأحرى بالمسلم أن ينفتح ويهتدي بالكتاب الذي جاءه على الأقل، ويهتدي بالنصوص التي تحث على الانفتاح على العالم وليس فقط بالنصوص المختزلة التي تقتل وتكفر، فتبسّط الإسلام وتفرز الناس على أساس هذا كافر وهذا مؤمن.
هل هذا هو الإسلام؟ أين العالم الروحي والفكري والفلسفي؟ أتمنى لو يغضب المسلمون اليوم وتنتابهم الحمية، حيث إن العالم العربي كله وبكل أمواله لم يتمكن حتى الآن من بناء جامعة واحدة على مستوى العالم، هذا هو الذي يجب أن يكون موضع الغضب وليس محاسبة فرد أخطأ خطأ ما.
فليغضب العرب للقضايا الكبرى، لفلسطين مثلاً، إنهم لا يغضبون إلا في قضايا صغيرة وبسيطة وفي الآخر النصوص مهما كانت كبيرة سواءً أكانت دينية أم فكرية إذا مرت بعقول صغيرة ستصغر وإذا مرت بعقول كبيرة ستكبر.
العرب لم يفهموا الغرب، حسبما ترى، هل تعتقد أن العكس صحيح أيضًا؟
صحيح من دون شك، مع فارق أن الغرب يصطنع عدم فهمهم لكي يستغلهم، أعتقد أن الغرب يحتقر العرب ولا يرى فيهم إلا الثروة والفضاء الإستراتيجي، ولا يقيم لهم أي وزن خارج ذلك.