منصور الناصر
تطور الإنسان بفضل قدرته على التعاون والتجمع والتضحية بنفسه من اجل الجماعة، هذه المهمة التاريخية التي تشغل 99.9% من تاريخنا ككائنات بشرية. لم تعد لها حاجة ماسة، فقد انتهى التحدي، ووصلنا تقريبا لبر الأمان.
لذا لم نعد نضطر لأن نتدين و”نؤمن” لكي نثبت ولاءنا للجماعة ولا أن نزهد في “حقوق ” جسدنا وشهواته، لكي نثبت استعدادنا للتضحية برغباتنا التي ينغزنا من اجل ممارستها “الشيطان”، أي النفس “الأمارة بالسوء”.
الجسد لم يعد عارا.. إنما إمكانية ومعيارا.
ما حدث وبفضل النظم المعاصرة، أن أصبحت هذه المعتقدات الجماعية، خاضعة لرغباتنا الخاصة.
فإن رفضناها، انخفض سوقها واندثرت، وإن نجحت في “جمعنا” ليس في جماعة، إنما في مجموعة لديهم مشروع مشترك، وبإرادتنا كأفراد مستقلين، فقد فازت بالأمرين، وهذا صعب جدا.
كانت العقيدة حلا..الآن أصبحت مشكلة
أين تكمن الازمة؟
في أن العقيدة كانت تعتبر، ومنذ فجر البشرية، خيارا لا بديل له، إلا الموت والفناء.
إنسان منفرد حتى وقت قريب، معناه الانقراض.
الآن تغير الحال، أصبحت الخيارات أمام كل إنسان أوسع بكثير، ولكل منا أن يختار ما يناسبه..
انتهى زمن التعلق بمنابر السادة والطغاة من أجل البقاء.
الخيارات تعددت وأصبح الإنسان وكل إنسان، بصفته هذه سقفا للإنسان، وليس سقفا للعقائد البالية ولا الأديان.
لا أحد بعد الآن يحل محل ذواتنا..ايا كان.
الإنسان كائن اجتماعي، صحيح جدا، ولكن لن يعود اجتماعيا بالمعنى “الكتلي-القطيعي” القديم، حتى لو شاء ذلك!
2
نحن كائنات منشطرة، وليس منفصمة
ككائنات شرقية نعاني منذ لحظة ولادتنا من انشطار كلي بين عالم طبيعي “سقطنا” فيه، وعالم آخر، لا وجود له إلا في الكلمات.
من هنا نصبح شخصيات مختلطة وليست “مزدوجة” كما يقول الوردي، أو منفصمة وفقا لفرويد.
بما معناه.. نحن ابناء هذا العالم، لكننا نتوارى كما فعل آدم ورفيقته الحواء في الجنة، وغايتنا الكبرى أن نثبت أننا “على العهد”.
أي على إيقاع عالم مختلف، يطالبنا بالتزامات ليست نابعة من طبيعتنا الخاصة، هذا ما يجعلنا في حالة “المنزلة بين المنزلتين” وفقا للمعتزلة..
اي نبقى العمر كله، نؤمن بعالم غائب لا نتلمس وجوده، وعالم حاضر لا يسمح لنا باكتشافه و”شهوده”.
ولكن هناك من يقول إن هناك عودة للدين.. لكن الدين لا يعود لأنه موجود، دائما موجود.
ولا أعني الدين الشائع، إنما فكرة الدين وجوهره، وهو أن يجعل الحياة تستحق الحياة!
ولكن من الضروري أن أكمل..ولو تحقق هذا بالأكاذيب!
الإنسان كائن بحاجة لمعنى، وليس لدين، الدين يمنح المعنى.
لكنه يدعي كأي مانح و”مستثمر” أنه يحتكر المعنى الوحيد، وهذه مبالغة وصلافة، تدفع بالدين الشائع أو الذي يظهر دائما، لأن يصبح لصا ودجالا وكاذبا ومحتالا.
جوهر المشكلة، أننا كائنات مغرورة ظهرت في عالم متواضع وطبيعة غبية وإن كانت قاتلة.
من هنا نحن نحتاج لبلورة هوية خاصة بنا.ما عاد بإمكان أي دين أن يعود إلا بطريقة ديمقراطية.
انتهى زمن الأتباع الغفل السذج، تريدني أن اتبعك؟ لن تستطيع ذلك دون ان تقنعني، أو ان تقمعني.
وفي الحالين أنت خاسر! الدين سلطة، يجب أن تتحلى بميزة السلطة وهي أنها تفرض حضورها دون عنف.
سلطة تمارس العنف ليست سلطة إنما سياسة، وهذا حال ما يمسى دين اليوم، وربما كل يوم!
الدعوة للجماعة مؤشر ضعف
في العصر الحديث، لم يعد اجتماع المجتمعات يعتمد مصيريا على “اجتماعها”، إنما على تفرد افرادها، ضمن شبكة علاقات، توفر لكل منهم مساحته الملائمة له أولا، وقبل أي “شريك” له في الإنسانية.
فكرة الجماعة أو الكنيس، أو الكنيسة، كانت ابنة وقتها. إصرار ما تبقى من الشعوب القديمة ثقافيا، على هذه الفكرة، لن ينجح، لأن شعوبا تصر على “التجمع”والتحشيد الكتلي-القطيعي، بالطريقة القديمة، أصبح علامة على الضعف وليس القوة.
وللحديث بقية..