أدناه عرض موسع وبأقلام عدد من المختصين حول تاريخ “فكرة المقدّس” و “العود الأبدي” بين علماء الأديان، وخاصة مرسيا إلياد و أوتو، وهما من كبار المفكرين في علم الاديان ودراستها أكاديميا.
كان رودولف أوتو بحاجة إلى تفسير دافع الشعور الديني داخل الإنسان، ليكتمل لديه تطابق الإله المفارق للإنسان مع الشعور به، فلجأ إلى مصطلح (نومينو) الذى يدل على (قوة إلهية)، وهنا عثر على ما يريد، فأسماه (المقدس)، الذى هو إله وشعور إلهي داخل الإنسان فى الوقت نفسه.
وهكذا قصد “أتو” إبراز جوهر كلّ دين كونه في علاقةٍ مع المقدس، يؤكّد بدوره ذلك المعطى اللاعقلي والفريد، إذ هو صنف من التأويل والتطور لا يوجد إلا ضمن الفضاء الديني، يجعل هذا المقدسُ الإنسانَ فى حالةٍ خاصة من اليقينية لا مثيل لها. هذا النومينو، الذى لا يتيسّر تحديده عقليًا، نستطيع حصر أثره فى الذات الإنسانية، بحسب ثلاتة عوامل أساسية توجد فى كل تجربة دينية، ويحددها أوتو بالغيبي الجليل، والساحر، والمهيب:
–الجليل: هو الغيبي العميق في الذات الإنسانية، المثقل بالفزع والخوف الباطني المهلوس، والمرعب، والذي يجعل هذه الذات تُمحى أمامه، وهو ما سيكون أساس التجربة الصوفية.
–الساحر:وهو الغيبي، الذى يأسر الإنسان بالحب والرحمة والعطف، فهو العطوف الودود مانح الحب، وهو القيمة الذاتية للمقدس.
–المهيب:هو المرجع الموضوعي الأخلاقي المعني بتحديد الخطايا والفضائل، أو الخير والشر. فهو مكوّن إيجابي موضوعي، يشكّل الحكمة والتوازن في النفس البشرية.
هذا هو تشريح المقدس عند رودولف أوتو، الذي جعله مثل قوّتين متطرّفتين من (الخوف والحب) يمثلهما (الساحر والجليل)، ويعمل المهيب على التوازن بينهما وبين ما هو موضوعي في حكمة وحساب.
اعتبر أوتو (المقدّس) بنية أساسية تكمن في النفس البشرية، وأنّه يُعبر عنه برموز، وليس بمقدور اللغة الإنسانية مدّنا سوى بتصورٍ غير وافٍ بالغرض لمقدسٍ يبقى دائمًا أمرًا خفيًا.
وتوصل إلى أنّ التصوّف يجمع بين أغلب الأديان، وهو قوة مباشرة تتعامل مع المقدس وجهًا لوجه. ويرى أنّ التصوف لا ينبع من الخوف؛ بل من الحب. وكما وجد المقدس في “النومينو”، فقد كان هذا المقدس، وفقًا لشمكار، هو “البراهمان”، وكلاهما أساس التصوّف المبني على الحب والعاطفة.
إنّ التجربة الصوفية أكثر من شعور، فهي يمكن أن تخبرنا عن طبيعة المقدس الذي تتوجّه إليه، والذي يتسم بالمعرفة والتعالي.
ورأى مرسيا إلياد أنّ الدين يقسم العالم إلى (مقدّس) و(مدنّس)؛ المقدّس يرتبط بالإلهى المطلق الأسطوري، والمدنّس بالنسبي التاريخي الخارج عن مجال الآلهة.
“إنّ إظهار المقدس يصبح موضوعًا ما، شيئًا آخر، دون أن ينقطع عن كونه هو ذاته؛ لأنه يكمل مساهمته في وسط الكوني المجاور، فحجرٌ مقدّس يبقى حجرًا، وبحسب ظاهره (بدقّة أكبر من وجهة نظر دنيوية)، ولا يميزه شيء عن الحجارة الأخرى. وبالنسبة إلى أولئك الذين يتكشّف لهم حجرٌ أنه مقدّس، تتحول حقيقته مباشرة على العكس لحقيقةٍ مما فوق الطبيعة، وبعبارات أخرى، بالنسبة إلى من لديه تجربة دينية، تبدو الطبيعة برمّتها قابلة للتكشّف بصفتها قداسة كونية، فالكون، في كلّيته، يمكن أن يصبح تجليًا مقدسًا”.
إلياد والعود الأبدي:
كان مرسيا إلياد يرى أنّ العود الأبدي هو الاعتقاد بأنّ الماضي يحتوي الأصول المقدّسة، ولابدّ من الرجوع إليها دائمًا؛ إمّا مباشرة، وإمّا بإقامة طقوس في الحاضر تذكّر بتلك الأصول، وتضمن استعادتها، ولو لوقت وجيز هو زمن الطقس.
إنّ إنسان الحضارات التقليدية استطاع، بوساطة طرق اصطنعها، أن يتحمل (التاريخ).
وبينّا كيف كان يحمي نفسه من التاريخ، إمّا بإلغائه دوريًا عن طريق ولادة الكون، وتجديد ولادة الزمان، وإمّا بإضفائه على حوادث التاريخ معنى بعده التاريخي، وهو معنى لا يقف عند تقديم العزاء وحسب، وإنما يتعدى ذلك، أولًا وقبل كلّ شيء، إلى انطوائه على ترابط، أي: قابلية الاندراج في نظام بيّن، حيث لكلّ من الكون والإنسان سبب وجود.
اليوجا:
أحد مظاهر التصوف الهندي، يعتبر إلياد أنها تعني الخروج من الزمان والمكان، والوصول إلى الحرية، دون بعض الاشتراطات التعسفية لما حول الإنسان. وقد ناقش نوعًا منها هو: باتانجالي، وسوترات اليوجا، وتقنيات اليوجا، مثل التركيز على نقطة واحدة، والمواقف، والانضباط في الجهاز التنفسي، وعلاقة اليوجا بالبراهمية، والبوذية، والتنترا، والكيمياء الشرقية، والشبق الباطني، والشامانية، وربطها بكلّ هذه المفردات؛ فاليوجا عند إلياد أكثر من مجرد طقس ديني.
الأسطورة:
اقترب مرسيا إلياد من التعريف الدقيق للأسطورة، وتحديد مظاهرها، فعرفها بأنها (حكاية مقدسة) أو (تاريخ مقدس)، فقد قال: “تُعد الأسطورة بمثابة تاريخ مقدس. وهى، فى المحصلة، (تاريخ حقيقى)؛ لأنها باستمرار تستند إلى وقائع. فأسطورة خلق الكون، مثلاً، (حقيقية)، لأن وجود العالم ماثل للعيان، ويقدم عليها الدليل، وقُل الأمر ذاته عن أسطورة وأصل الموت، فهى بدورها (حقيقية)؛ لأن موت الانسان يقدّم عليها البرهان”.
ويرى إلياد أنّ: ” للأسطورة وظيفة أساسية ومهمة في الحضارات البدائية؛ إنّها تعبّر عن المعتقدات والشرائع وتبرّر شأنها، تصون المبادئ الأخلاقية وتفرض العمل بها، تكفل فعاليات الاحتفالات الطقسية، وتقدم القواعد العملية المتصلة بشؤون الحياة اليومية؛ إذ تشكّل الأسطورة عنصرًا أساسيًّا من عناصر الحياة الإنسانية. ومع بُعدها عن الرواية التافهة، التى لا طائل تحتها، فإنها على العكس، تمثل حقيقة نابضة بالحياة، إليها يرجع المرء دون انقطاع. إنها ليست، بأيّة حال، نظريةً مجرّدة، ولا عرضًا حافلًا بالصور؛ بل هى سجل حقيقي للديانة البدائية، ولحكمة الحياة العملية”.
الرموز الدينية:
وهى نماذج مركّزة، تعبّر عن إشارة من إشارات دين معين، وغالبًا ما يمكن أن يكون أىُّ شيء مقدّسًا عندما يرتبط بقوة مقدسة فوق طبيعية. وهناك الكثير من الآلهة التي وضعت الأصول لترميز مظاهر الطبيعة، وقد نتج عن هذا تكوين الإرادات الإلهية، المتمثّلة فى (سماء الآلهة، عاصفة الآلهة، قمر الآلهة) على سبيل المثال، ولذلك حصلت كلّ أنواع المزج بين الآلهة والطبيعة من أجل تكوين الرموز الدينية.
يكشف مرسيا إلياد عن النظام الرمزي الذي يسيطر على الطقوس والمعتقدات الدينية، ويتناول بالتحليل رمزية صوت التنشئة، التي تعبر عن نهاية مرحلة فى حياة الرجل، وولادته من جديد، ورمزيات الصعود، وأحلام اليقظة، والطيران السحري، ويحفَل كتاباه “الأساطير والأحلام والأسرار”، و”صور ورموز” بتحليل وكشف الغطاء الرمزي لكل الممارسات الدينية.
حاول إلياد أن يعيد الممارسات الدينية إلى خارطتها الرمزية المتكاملة من خلال (التأويل)؛ فالإنسان عندما يمنح أي شيء القداسة، يُجري (تأويلًا) له، ويحوله إلى رمز. هكذا تكون الرمزية المقدسة لديه نهاية مجرى التقديس، وبذلك، يكون مجرى التجربة الدينية كما يأتى:
مدنّس (عن طريق التأويل) —> مقدّس (عن طريق التأويل) —> رمز.
أوتو و كتابه الخطير فكرة المقدس
كان من الطبيعي ألاّ يعمد اللاهوتيون المسيحيون الى تأسيس علمٍ للدين أو فلسفةٍ له.
فقد كان «الدين» بأل التعريف هو الدين المسيحي (بصيغته الكاثوليكية وحدها بعد القرن الحادي عشر). وحتى عندما حدث الانقسام البروتستانتي بصيغه المتنوعة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، فإن اللاهوتيين الجدد ظلَّ وعيهم قوياً بالوحدة المسيحية أو وحدة الحقيقة المسيحية، وانما اختلفوا على السلطة أو المرجعية في تحديدها (الكنيسة أم لا).
ولذلك فإن الفلاسفة والمؤرخين والمفكرين التنويريين والانتروبولوجيين هم الذين انصرفوا الى دراسة «الظاهرة الدينية» في التاريخ الإنساني، وقد ظلت المسيحية واليهودية حتى لدى هؤلاء النموذج الذي يدرسون الأمور من خلاله.
ولذلك يذكر علماء التاريخ الديني بداياتٍ لـ «علم الدين» أو الميتافيزيقا في أعمال كانط وهيغل وفيورباخ وسبينوزا وهوبز.
أما التآليف المستقلة في «فلسفة الدين» أو أصول الظاهرة الدينية فتبدأ بوضعانية أوغست كونت (1798 – 1857م) الذي تركز جهده على تبيان أن الدين لا يزيد على كونه تجميعاً لتصورات انسانية مختلفة عن المقدس، وبهذا الاعتبار فهو يشكل أحد أنماط وعي التاريخ الإنساني.
وتابع هذا المسار، الأقل راديكالية من مسار كارل ماركس، دوركهايم (1858 – 1917) الذي بلور أُطروحته عن أصول «الظاهرة الدينية»، وليس «أصل الدين» (فيورباخ)، في كتابه المشهور: «الأشكال الأولية للحياة الدينية» (1912).
وقد عاد في تلك البلورة الى ظواهر الطوطمية الأسترالية، ذاهباً الى أن الظاهرة الدينية هي كأي ظاهرةٍ اجتماعيةٍ أخرى، من حيث انها تستجيب حاجات جماعية محددة متكوِّنة من تجارب وانطباعات جماعية سابقة.
تعريف الدين – دوركايم
وهكذا فإن الدين عنده هو «نظامٌ من الاعتقادات والأفعال المتعلقة بأمورٍ مقدسة، بمعنى انها منفصلة عن عالم الناس ومفارقه، لكنها بالعقائد والممارسات والشعائر تُوحِّدُ جميع الذين ينتمون اليه في جماعةٍ تسمى كنيسة».
واختلف ليفي بريل (1857 – 1937) مع أُستاذه بشأن الديني لدى البدائيين، وتلك التفرقة بين الرموز أو المقدسات من جهة، والشعائر من جهةٍ ثانية، ذاهباً الى ان البدائي يميل الى إرساء تماثلات مطلقة بين الإنسان من جانب والحيوان والنبات والمحيط من جانبٍ آخر.
وعقلية المشاركة هذه لا تزال حاضرةً في التصورات الدينية للعالم الحديث، وهي التي تربط بين المنطقي وغير المنطقي في تركيبٍ نفسي ثُنائي هو وحده القادر على تفسير الإيمان بإله سيّد للكون، والمشاركة في الوقت نفسه في الروح الإلهي المبثوث في العالم.
واختلف مارسيل موس (1872 – 1950) مع بريل، وحاول الجمع بين كلامه عن العقلية البدائية وكلام أو مقولة دوركهايم بأن أصول المقولات العقلية تكمن في الحياة الاجتماعية.
وفي النهاية: ما هو العقلاني وغير العقلاني، وكيف يكونُ هذا الافتراق الصارم الذي يريد كلٌ من كونت ودوركهايم وبريل التشديد عليه؟!
لقد غلبت إذاً لدى السوسيولوجيين والانثروبولوجيين الفرنسيين نزعة سوسيولوجية وأبستمولوجية، تركّز على ظواهر الدين حتى وهي تتحدث عن أصل الدين أو أصل الظاهرة «فيما قبل ظهور الدين».
وما جارى المثاليون الألمان هذا المسعى الفرنسي (والأنغلوسكسوني الى حدٍ ما) لربط الدين والمقدس بواقع المجتمعات ووقائعها منذ أيام لسنغ وشلنغ وشليغل.
نظرية أوتو
بيد أن الصياغة الكاملة للنظرية جاءت على يد رودولف أوتو صاحب كتاب: «المقدَّس» (1917)، والذي أضاف اليه عنواناً فرعياً هو: «التقصّي عن العامل غير العقلاني في فكرة الإلهي وعن علاقته بالعامل العقلاني». وكان أوتو الأستاذ في جامعة ماربورغ يرى تبعاً لأستاذه شلاير ماخر أن الدين متجذر في الذهنية الإنسانية.
ويكون من الضروري إجراء عملية تحليلية في أغوار النفس الإنسانية لكي يتم العثور على النقطة الخفية التي يتم بمقتضاها معانقة الإلهي.
وهو في ذلك يفرق – بخلاف الانثروبولوجيين والسوسيولوجيين – بين المعرفة الموضوعية أو الذاتية من جهة، والخبرة التجريبية أو السابقة. فلدى كلّ شخص أفكار وتصورات يصعب تفسيرها تجريبياً، بل انه يمكن المُضي قدماً للقول ان هناك مفاهيم ومقولات قارة في الفطرة الإنسانية تبدو في الوعي بوضوح مثل تمثلات الله والروح والحرية، وهي تحضر في كل الخبرات الدينية.
وهي مفاهيم يصعبُ بل تستحيل البرهنةُ عليها. ان التصور الأساسي الكامن وراء تلك المفاهيم أن العالم المحيط هو صورةٌ لعالمٍ آخر يتعذر على الإنسان إدراكه بصورةٍ ايجابية، ولكنه يظل حاضراً نتيجة طبيعته المتعالية.
فنسبية الأمور الإنسانية هي التي تفرض عليه الإيمان بالمطلق الإلهي: «فالدين هو اختبارُ الخفي، الذي يتحقق عندما ينفتح الإحساس على دثائر الحقيقة الأزلية التي تظهر عبر حجب الزمني… ومن هناك يأتي ذلك التخيل الصوفي، وتأتي أسسه في الدين». الإيمان إذاً هو الذي يصنعُ المعرفة بالمقدَّس، وهذا أمرٌ لا يُدركُ إلاّ بالحدس.
ويذكر دارسو نظرية أوتو ان مقولة الفطرية والحدس ظلت غائمةً عنده حتى اكتشف العالم الهندي في زيارةٍ له الى الهند عام 1911.
إذ عاين أن رؤية الخلاص الهندوسية متأتية عن الحياة الروحية، وليس عن أعمالٍ شعائريةٍ معينة. في الهند، وخارج التجربة المسيحية، اتضح لأوتو ان الإلهي لدى الإنسان هو الكل الآخر، لأنه في اختلافٍ كليٍ مع ما يعرفه الإنسان وما يمكنه معرفته، إنه من دون اسمٍ ومن دون نعت.
وتلك واقعةٌ تدحض كل الأطروحات التي تؤكد الأصل الطبيعي للدين. إن هذا «النومينو» الذي لا يتيسر تحديده عقلياً نستطيع حصر أثره في الذات الإنسانية استناداً الى ثلاثة أمور رئيسة: الغيبي الجليل والساحر والمهيب.
فالغيبي الجليل يعني تجربة رهبةٍ صوفية، نوع مُثقل من الفزع بالخوف الباطني، المهلوس والمُرعب، انه انمحاءٌ أمام الأمر الإلهي الذي استشعره.
أما الترميز الآخر أو شكل التعبير فهو «الساحر» الذي يأسر الإنسان ويفتنه بالحب والرحمة والعطف الذي يعدُهُ الله به (في القرآن الكريم، يحبهم ويحبونه). وفي هذا الصدد، كتب أوتو خارج كتابه في المقدّس دراسةً عن المتصوف الألماني الوسيط المعلّم أيكرت واصفاً أحواله وحالاته، بما يُشبه مقامات وأحوال الرضا والحب والعشق والخوف لدى المتصوفين المسلمين.
وهو يقتبس من ايكرت ما ترجمته: «إذا ما قلت ان الله طيبٌ وخيِّرٌ فليس الأمر كذلك وإنما أنا هو الطيّب، إذ ان الله ليس كذلك (لدى المسلمين: كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك). وإذا ما قلت ان الله كائن فليس ذلك صحيحاً، إذ هو كائن ما فوق الكائن الزائل…
فالله إذن من دون اسمٍ، ولا أحد يستطيعُ قول أو فهم شيءٍ بشأنه…». ويستشهد أوتو في هذا السياق بما ورد في الحديث النبوي القائل انه «هو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». ويبقى شكلُ التعبير بالمهيب.
وهو الذي يولّد لدى الإنسان الإحساس بأنه مخلوقٌ ضعيفٌ، وفي هذا الإدراك الأولي العميق تكمنُ القيم، ويظهر مفهوم الخطيئة والسيئة، وهي ليست مقولةً أخلاقيةً شأن ما يفعله المتكلمون المسلمون بشأن الحُسن والقبح، بل هي إحساسٌ عميقٌ لدى الإنسان بتدنيس القيمة العليا للمقدس وهتك لحرمته.
أهمية الكتاب وأبرز الاعتراضات عليه
وقد تجادل أوتو طويلاً مع Wundt أحد كبار أساتذة علم الاجتماع الديني بشأن الخيال الإنساني، باعتباره مُنتجاً للمقدس. فوقف أوتو ضدّ كل طرحٍ يختزل الظاهرة الدينية الى مرتبة التفاعلات النفسية البسيطة.
ذلك ان المقدس خارجي عن الإنسان، وهو الذي يشكل ويحور ويكيف بصورةٍ متميزةٍ كل أنشطة العقل الإنساني.
شكّل كتاب أوتو محطةً مهمةً في البحث في الدين، أدّت الى ظهور فلسفةٍ للدين أو علمٍ مستقلٍ له ما عاد أحدٌ يُجادلُ فيه. ولا شك في أنه أثّر كثيراً في أمثال برغسون وبرديائيف ورينيه جيرار، وكثير جداً من لاهوتيي البروتستانت مثل هارناك وبارت وبرونر ونيبور ومارتيان.
وقد وردت عليه مآخذٌ كثيرةٌ في حياته (مات عام 1937) من مثل تجاهله لغياب فكرة الألوهية أو الفكرة العليا في كثير من المجتمعات، ومن مثل تجاهله لأهمية المؤسسة الدينية (هو بروتستانتي ضد الكنيسة)، ومن مثل التجاهل المطلق لطرائق نشوء الجماعات الدينية والتي تخضع في الظهور والتطور لمسائل اجتماعية واقتصادية ليست لها علاقة بفكرة القدسي أو المقدس.
وقد اعتقد آخرون أن رؤية أوتو هذه، وجدت إكمالاً لها أو توازناً في النظرات السوسيولوجية/ التاريخية لماكس فيبر، والتي خرج فيها على هذه الارستقراطية الفردانية والصوفية لدى أوتو.
والمهم في هذه العجالة أن دار المعارف الحكمية، وهذا أمرٌ يحمد لها وللقائمين عليها، قامت بنشر ترجمةٍ عربيةٍ للكتاب، وعن الترجمة الانكليزية وليس عن الأصل الألماني في ما يبدو.
وقد أَلحق المترجم (هل هو الأب جورج خوام البولسي؟) بالكتاب ملاحق عدة كان أوتو قد أضافها الى الطبعات المختلفة نتيجة ردود الفعل والنقاشات، وزيادة معرفته بالديانات الأخرى غير المسيحية واليهودية، ولا شك في أن مقارنته بين المعلم أيكرت والمتصوف الهندي سانكارا ظلّت من بين أحسن ما كتب، وبخلاف رأي المترجم البريطاني.
وأنا أرى ان الترجمة جاءت جيدةً على العموم، وكنتُ لأختار مفردةً أخرى أو مصطلحاً آخر في مواطن كثيرة، لكن الترجمة التي بين أيدينا تظلُّ واضحةً ومُشرقة.
فالكتاب في أصله الألماني، أصعب منه في ترجمته الإنكليزية. والأمر كما قال ميشال ميسلان في كتابه «علم الأديان – مساهمة في التأسيس»، وقد كتب عن أوتو صفحاتٍ رائعة: «ان عمل أوتو يملك خصوبةً رائعةً وهائلة، وقد أثر على مدى ما يقارب نصف القرن في معظم دراسات الظاهرة الدينية».
رضوان السيد المصدر: الحياة
سيرة رودولف أوتو
وولد الفيلسوف الألماني واللاهوتي اللوثري رودولف أوتو بباين (Peine) القريبة من هانوفر في 25 شتنبر 1869. درّس اللاهوت بعديد الجامعات الألمانية وتحديدا غوتنغن (1906) وفروكلاف (1914-1917) وماربورغ (1917-1929)، حيث بلغ سنّ التقاعد. وله اطّلاع واسع وإلمام بروحانيّة الشرقيّين وخاصة الهند، وهو ما عكسته كتاباته مثل: “روحانيّة الشرق وروحانيّة الغرب” (1926)، “مفهوم النعمة بين الديانة الهنديّة والديانة المسيحيّة” (1930)، “الآلهة والألوهيّة عند الآريّين” (1932)…
ويعدّ كتابه “فكرة المقدّس” (1917) من أشهر كتبه، فقد ترجم إلى أكثر من 20 لغة.
وقد تناول أوتو ظاهرة المقدّس من زاوية فينومينولوجية، وانتهى إلى أنّ هذه الظاهرة هي التي تطغى في الأديان وتؤثّر في عقول الناس وسلوكهم؛ فالدين عند أغلبيّة المؤمنين به عبارة عن خوف ورهبة وانبهار وعظمة، وهذا المعنى يبرز أكثر من كون الدين علاقة بين خالق ومخلوق ديدنه المحبّة والرحمة والثقة.
ومن هنا كان رفض أوتو للتفاسير العقلانيّة للظاهرة الدينيّة وتأكيده “طابعها العقلي والمزدوج وجدانيّا (الافتتان بالحرام والخوف منه معًا)” (طرابيشي، 2006، ص ص 109- 110). ورأى أنّ الدين يحمل دائما طابعاً مأساويًّا يرافقه إحساس دائم لدى الإنسان المتديّن بالنقص.
واعتبر أنّ الجانب المفارق في فكرة الألوهيّة يمثّل حاجزا يحول دون اقتراب الإنسان من الله، لأنّه يمثّل “الآخر” بالنسبة إلى البشريّة وتكتنفه الرهبة والعظمة.
“كان رودولف أوتو قلق الروح، يدرك التفارق المأساوي بين نقص العالم وكمال الله، ويؤسّس الفاعليّة الدينيّة على الاعتراف بالجانب “الإلهي” من الله، أي الجانب المفارق الذي لا تملك البشريّة أيّة إمكانيّة، نظريّة أو عمليّة، للاقتراب منه لأنّه يمثّل لها “الآخر””. (طرابيشي، 2006، ص 110).
توفّي رودولف أوتو في 6 مارس 1937. انظر: – الحاج، كميل. (2000). الموسوعة الميسّرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي. (ط.1). بيروت- لبنان: مكتبة لبنان ناشرون. ص 76
– طرابيشي، جورج. (2006). معجم الفلاسفة. (ط.3). بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر. ص ص 109-110
المقدس منظومة شاملة تتجاوز المفهوم الديني
محمد الحمامصي
يرى الفلاسفة وعلماء الاجتماع أن القداسة شعور يتخلل سلوك الإنسان في جميع منظوماته الفكرية والمجتمعية والطبيعة الخارجية، فهي ليست مرحلة عاشها الإنسان. وإنما تتخلل كلًا من بنية الشعور الإنساني والزمان والمكان.
إيلاف: يقدم طه سليمان عبد الجيد في كتابه “قيمة القداسة عند ميرسيا إلياد” رؤية وطرحًا متميزين لفلسفة الدين لدى الفيلسوف والمؤرخ والروائي الروماني ميرسيا إلياد، من خلال تحليل مفاهيمه عن المقدس والأسطورة، والبحث عن التاريخ والمعنى في الدين، مؤكدًا أن قيمة القداسة تعد فكرة جوهرية في فلسفة الدين، بل تكاد تكون الفكرة المركزية التي تدور حولها كل فلسفة تتناول الدين بشكل عام.
تخترق الزمان والمكان
وقد نالت اهتمام فلاسفة الدين، باعتبارها قيمة دينية عليا، وتطورت دراساتها بداية من القرن التاسع عشر لدى “شلير ماخر 1768 ـ 1834”. ثم اهتم بها “رودولف أوتو 1869 ـ 1937” في كتابه “فكرة القدسي”.
وهو الكتاب الرائد الذي ترك أثرًا بالغًا في علم اللاهوت وفلسفة الدين، وقد كان له أثر واضح على “ميرسيا إلياد” في كتابه “المقدس والدنيوي”، وعلى فلاسفة الدين الذين تناولوا فكرة القداسة من وجهة نظر فينومينولوجية، مثل “ناتان سودربلن” و”بريد كرستنسن” و”جيرادروس فان دي ليو” و”جواشيم واتش”.
وأشار عبد الجيد إلى أن إلياد تميّز عن سابقيه بجوانب عدة، منها الاعتماد على الدراسة التاريخية للأفكار الدينية في تطورها، ومنها التأكيد على نزعة إنسانية عالمية، تتجاوز مفهوم النزعة الإنسانية في عصور النهضة، كما جمع بين المنهج الهرمنيوطيقي والمنهج الفينومينولوجي.
وجمع أيضًا بين الفلسفة والإبداع الأدبي في فن الرواية، فكانت رواياته عامة تجسيدًا لتأملاته الفلسفية، وهو في هذا المنوال ينسج على منوال كبار الفلاسفة الوجوديين، مثل “جان بول سارتر” في مسرحياته ورواياته، مثل مسرحية “الذباب” ورواية “الغثيان”، ومثل كذلك “ألبير كامي”، وغابرييل مارسيل وغيرهم.
ورأى عبد الجيد أن آراء الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع تجتمع حول أن القداسة شعور يتخلل سلوك الإنسان في جميع منظوماته الفكرية والمجتمعية والطبيعة الخارجية، فهي ليست مرحلة عاشها الإنسان. وإنما هي تتخلل كلًا من بنية الشعور الإنساني والزمان والمكان. بمعنى آخر أفكارنا المقدسة قوة حدسية تنشأ من أعماق الشخصية.
الأسطورة على مر العصور
وقال إن قيمة القداسة قد تظهر في محاولة التوفيق بين الدين والعقل من خلال إسقاط صفة التقديس على أمكنة وأزمنة وأدوات مختلفة لمحاولة إدراك المقدس، بطريقة غير مباشرة، ولكن لا يمكن أن يخضع المقدس كلية إلى العقل أو الحدس، ولذلك يلجأ الإنسان بطريقة غير ملموسة في الذات من جانب الفرد إلى إخضاع بعض الأزمنة والأماكن لخدمة إدراك المقدس، فيضفي على تلك الأزمنة والأماكن معنى قدسيًا فيحوّل الدنيوي إلى مقدس.
ألمح عبد الجيد إلى أن الأسطورة تعتبر وسيلة لفهم العالم من خلال الرموز، بمعنى أنها حكاية غير محددة من الناحية الزمنية، فتتخطى التاريخ، وتصبح صالحة لكل الأزمنة. وتعد الأسطورة عودة إلى القيم البطولية الأولية الموجودة في كل ثقافة، كما تحكي الأسطورة قصة مقدسة، وتعود بنا أحيانًا إلى قصة واقعية.
هذا لا يمنع من اختلاف مفهوم الأسطورة وتغيّر احتياجات العصر لها، فالأساطير الحديثة لا تعتمد في روايتها على السرد الملحمي، وإنما على الوسائل الحديثة، مثل الصور المتحركة والخيال العلمي. فأسطورة العلم حلت محل الوحي، وأسطورة الخلود اعتمدت على تجارب حفظ الجثث بالتبريد.
وتعد الأساطير التي عرض لها إلياد في مؤلفاته خير دليل على تجسيد قيمة القداسة بين المنهج الفينومينولوجي والمنهج الهرمنيوطيقي. بمعنى أن الأسطورة تتحدد بنمط وجودها.. ولا تتاح لنا معرفتها إلا بمقدار ما تكشف عن شيء معيّن تجلى بتمام، وذلك التجلي هو في آن واحد إبداعي ومقدس، لأنه يؤسس على السواء بنية للواقع وسلوكًا للبشر.
وأكد أن الأسطورة ليست بحد ذاتها ضمانًا لخير أو أخلاق، إنما وظيفتها الكشف عن النماذج البدائية وإضفاء معنى على العالم والوجود البشري، كذلك هي تلعب دورًا كبيرًا في تكوين الإنسان، بفضل الأسطورة تكونت أفكار مثل الواقع والقيمة، كما صار بالإمكان فهم العالم بما هو كون تام الصنع ومفهوم وذي معنى، والأساطير تحكي لنا كيف صنعت الأشياء ومن خلقها؟ ولماذا خلقت؟ وفي أي زمان كان خلقها؟.. إن جميع هذه المكاشفات تهم الإنسان اهتمامًا مباشرًا نوعًا ما، لأنها تشكل تاريخًا مقدسًا.
دعوة إلى أنسنة جديدة
ولفت عبد الجيد إلى أن مفاهيم المقدس وأشكاله تعددت، ففي الطبيعة حجر أو شجرة مقدسة، وفي العالم السماوي آلهة وملائكة وشياطين، وفي التاريخ الاجتماعي سلف مقدس، وعند الفرد صوفي أو قديس، حيث لا يمكن تفسير المقدس وفق معتقد أو ديانة محددة، إنما المقدس يمكن تعريفه بعالمية عاطفية نابعة من أعماق الشخصية، ولم يكن المقدس نقيض الدنيوي بشكل ثابت، وإنما العلاقة بين المقدس والدنيوي علاقة جدلية وتبادلية، حيث يحتل أحدهما مكان الآخر، فيصبح الدنيوي مقدسًا والمقدس دنيويًا.
وأوضح أن إلياد ذهب عكس التيار السائد في زمانه، داعيًا إلى مذهب إنساني جديد، وتاريخ للأديان يأخذ في الاعتبار ثقافة الإنسان الشاملة التي هي ثقافة الإنسان الكوني، حيث إن رد المعتقدات والأفكار الدينية إلى جذورها التاريخية يعتبر سمة خاصة، وملمحًا مميزًا لعصر الحداثة بوصفه جانبًا من جوانب النقد التاريخي للنصوص المقدسة.
كما اهتم إلياد بزاوية النظر الجديدة التي قدمها علم نفس الأعماق، وقارن بين فرويد ويونغ مفضلًا يونغ، ومعتبرًا فرويد شخصية انتقالية لا تزال تتعلق بالقرن التاسع عشر بكل ما فيه من منهجيات ونزعات وضعية وإسقاطات سلبية حول تطور الأديان.
وقال عبد الجيد إن إلياد تميز عن المؤرخين المعارضين له في انتقاده لجانب أسماه “الاختزالية التاريخية” لدى المؤرخين الذين أنكروا على الظاهرة الدينية معناها ومقاصدها، ولكن لا يستطيع إلياد تخطي هذه الاختزالية في مؤلفاته، حيث اختزل القيم الدينية في قيمة القداسة.
استخدم إلياد المنهج الهرمنيوطيقي أو الاجتهاد التأويلي الذي يقوم على النظر في أن الدين يفترض وجود تجربة دينية أو اختبار ديني يخوضه الإنسان ويعيشه، سواء كان تجربة أو اختبارًا للمقدس أو القداسة ذاتها، فإنها تشكل القوام الذي تتكون به كل ظاهرة كونية.
الحاجة إلى بدايات
درس عبد الجيد ديانات وطقوس الشعوب البدائية. وأوضح أن النماذج البدائية وقداستها ومن ثم إضفاء صفة التقديس على الأفعال الدنيوية دليل على قيمة الحياة عند الإنسان، الذي يحاول دائمًا تكرار فعل النموذج البدائي، وليس معنى تكرار فعل النموذج المثالي إحياء للآلهة، وإنما هو فعل تكرار فحسب.
وأضاف أن تاريخ الأديان بجانب الآلهة العليا الخالقة عرف آلهة أخرى تختفي من على سطح الأرض، ولكنها تختفي، لأن الناس قد قتلوها، ولكن بعد فعل القتل هذا انبعاث وولادة جديدة في مختلف الظواهر الكونية، وهذا واضح في طقوس الأديان الأسترالية.
وتوصل إلى أن الأعياد الدنيوية في العالم الحديث، البعيدة عن أجواء القداسة، ما زالت تحتفظ بالبنية والوظيفة الأسطورية، وهذا واضح في المسرات التي تملأ القلوب عند قدوم رأس السنة، أو الأفراح عند ولادة الطفل، أو عند بناء بيت، أو حتى عند الإقامة في منزل جديد، فكل هذه المواقف تكشف عن الحاجة إلى بداية جديدة مطلقة يحس بها المرء إحساسًا غامضًا، وإلى أن يبدأ حياة جديدة، أي إلى أن ينبعث انبعاثًا شاملًا، مهما كانت المدة الفاصلة بين تلك المسرات وبين نموذجها الأسطوري القديم.
وكشف عبد الجيد عن مظاهر المقدس في فلسفة إلياد خاصة في الزمان والمكان، التي كشفت عن أدلة متشابهة للسلوك الديني عند الإنسان، تعكس في ظاهرها رؤية واحدة للأديان، وتدور هذه الرؤية حول الجوهر البدئي أو وحدة المقدس أو حول عقيدة محورية هي الكينونة الذاتية التي هي في ذاتها المقدس، حيث إن الإنسان في فلسفة إلياد أيًا كان متدينًا أو لا ديني، هو يدين بالديانة الكونية.
بين المنهج والتأويل
ورأى أن الحياة في مجملها مقدسة، حيث إن الدين في وقت ما يكون بالنسبة إلى الإنسان عبارة عن طريقة تفكير، أو عقيدة إيمان، وأسلوب مميز للتأمل في العالم. وفي أوقات أخرى يبدو الدين بمثابة أسلوب للتصرف، والحب، أو نمط محدد للسلوك وتكوين الشخصية، فمن خلال هذه الرؤية أيضًا يرى إنسان المجتمعات البدائية أن الحياة في كليتها قابلة لأن تكون مقدسة، والوسائل التي يمكن من خلالها التقديس كثيرة، لأن الحياة تعاش على صعيدين، باعتبارها تجري بما هي وجود بشري، وفي الوقت نفسه تشترك مع حياة تتجاوز الشرط البشري، وهي حياة الكون والآلهة.
يحتوي الكتاب على مدخل يعرض لفهوم المقدس ومن ثم القداسة، وموقعهما في التجربة الدينية عند الحضارات المصرية وبلاد اليونان وغيرها من الحضارات التي شهدت تطورًا في مفهوم القداسة. ثم بابين الأول عنوانه “قيمة القداسة بين المنهج والتأويل”، ويحتوي على فصلين، الأول منهما بعنوان “قيمة القداسة وتأويلها في الفكر المعاصر”، وتناول علاقة القداسة بالقيم وتفسيرها من الناحية الاجتماعية والنفسية والناحية الفلسفية عند أبرز المفكرين في القرنين التاسع عشر والعشرين.
أما الفصل الثاني فبعنوان “الملامح العامة لفكر إلياد الديني وتطوره”، فقد تناول مؤلفات “إلياد” والمنهج الهرمنيوطيقي الفينومينولوجي، الذي استخدمه في معالجة قيمة القداسة، وهكذا تتم في هذا الباب معالجة قيمة القداسة على مستوى التنظير.
أما الباب الثاني وعنوانه”قيمة القداسة بين الهرمنيوطيقا والفينومينولوجيا” فيحتوي على ثلاثة فصول. الأول منها بعنوان “تجليات القداسة وتكرار خلق العالم عند الشعوب البدائية وأثرها على العالم الحديث من منظور فكر إلياد”، وتناول نماذج من ممارسات الشعوب البدائية المقدسة وأثرها على الأفعال الدنيوية والاعتقاد في ضرورة خلق العالم وقيمته المقدسة، من خلال ولادة الزمان.
طرق الوجد القديمة
كما عالج مفهوم الأسطورة بمعناها القديم والحديث، حيث تعد الأسطورة تجسيدًا لفكرة القداسة بين الهرمنيوطيقا والفينومينولوجيا، ولا تتاح لنا معرفتها إلا بمقدار ما تكشف عن شيء معيّن تتجلى بتمامه. ذلك التجلي هو في الآن عينه إبداعي ومقدس: لأنه يؤسس على السواء بنية للواقع وسلوكًا للبشر.
أما الفصل الثاني فهو بعنوان “قداسة الطبيعة والدين الكوني”، وتناول رؤية إلياد للوجود الإنساني المفتوح على العالم وتقديس الحياة، وكذا الوجود الإنساني المفتوح على العالم، لأن العالم الحديث يرى الدين من حيث إنه صورة حياة وتصور للعالم.
أما الفصل الثالث: فجاء بعنوان “الشامانية وطرق الوجد القديمة” بيّن فيه الباحث كيف أن الشامان يدافع عن الحياة والصحة ويعالج الأمراض والعقم وسوء الحظ ، كما يعد دور الشامان الرئيس هو الدفاع.
إيلاف
وميرسيا إلياد كاتب ومؤرخ أديان وفيلسوف وروائي روماني، شغل كرسي أستاذ تاريخ الأديان في جامعة شيكاغو، وله مؤلفات في أدب الخيال وأدب الرحلات والسير الذاتية، وتاريخ الأديان وفلسفة الأديان .
كما كان مترجما رائدا في التجربة الدينية حيث أسس نماذج في الدراسات الدينية التي استمرت حتى يومنا هذا. كان واحدا من إسهاماته الأكثر تأثيرا للدراسات الدينية نظريته الخالدة “العودة “. في الواقع تنتمي أعماله الأدبية إلى الأنواع الرائعة والسيرة الذاتية. في وقت مبكر من حياته، كان إلياد صحفيا ومقالا، تلميذا للفيلسوف المتطرف الروماني والصحافي ناي إونيسكو، وعضوا في معاهد المجتمع الأدبي.
في الأربعينات، عمل كمرفق ثقافي للمملكة المتحدة والبرتغال. عدة مرات خلال أواخر الثلاثينيات، أعرب إلياد علنا عن دعمه للحرس الحديدي، وهو منظمة سياسية فاشية ولا سامية. وكثيرا ما انتقدت مشاركته السياسية في ذلك الوقت، فضلا عن اتصالاته اليمينية الأخرى، بعد الحرب العالمية الثانية.
وقد أشار إلياد إلى قدرته الواسعة على تعلم اللغات، حيث كان يتقن خمس لغات (الرومانية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإنجليزية)، بالإضافة إلى معرفة القراءة بثلاثة لغات أخرى (العبرية والفارسية والسنسكريتية). انتخب عضوا بعد وفاته في الأكاديمية الرومانية .
اشهر مؤلفات ميرسيا إلياد : المقدس والمدنس . تاريخ المعتقدات والافكار الدينية . الأساطير والأحلام والأسرار. البحث عن التاريخ والمعنى فى الدين. .اسطورة العود الأبدي. البحث عن التاريخ والمعنى . المقدس والعادي.