تحتل قصة زواج وزنى الملك داود مع زوجة أوريا بتشبع أو باتشيفا (بنت شيبة) مكانا بارزا في التاريخ الديني، ولكن هل هناك تشابه غير مقصود مع قصة الرسول محمد مع زوجة زيد بن حارثة زينب بنت جحش؟
لنطلع مقال الباحث سرمد رشاد، ففيه أسئلة وتحليل مهم نرجو الرد عليها.
اسقاطات من سفر صامؤيل الثاني .. في القرآن والسنة !
مؤلفي الدين الاسلامي .. قاموا باسقاط وتقسيم روايات العهد القديم ما بين القرآن والسنة ..ولابعاد الشبهة عن النقل من رواياتهم وكتبهم المقدسة.
عثروا القصص والايات وغيروا الاسماء والمواقع بطريقة غريبة مما ادى الى حدوث تضارب واضح بين آيات القران .. وكذلك تضارب صارخ بين القرآن والسنة وهكذا ستكون صعبة الفهم دون الرجوع الى علماء اليهود … نعرض عليكم جزء منها .
ففي رواية نقلت عن جمع من الصحابة – ومنهم: عائشة .. وأبو رافع .. وأنس رضي الله عنهم !! أن النبي ص طاف على نسائه في ليلة واحدة .. وفي حديث أنس بن مالك : أنه طاف على نسائه بغسل واحد.
وذِكرُ الطواف هنا كناية عن الجماع …. ولا نعلم اذا كان الرسول قد تفاخر بالموضوع وتحدث به امام الصحابة !! ام ان عائشة قد تحدثت بما جرى بينها وبين النبي للصحابة ولكن لا نعلم كيف علمت بما دار بين النبي وباقي نسائه وهل اغتسل بين جماع وجماع ؟ وهل اكمل الرياضة الايمانية بنجاح بساعة واحدة محطما الرقم القياسي للنبي سليمان ؟
لكن الغريب في هذا الحديث الذي اكدته ودافعت عن مصداقيته مجموعة كبيرة من علماء الدين .. وسارعت بعد مرور 14 قرن مجموعة بسيطة خجلت من تاريخها برفضه معتبرتا انه يتضارب مع اخلاق الرسول وكنأنهم عرفوا اخلاق الرسول من خلال كتب اخرى !!.
كما ذكرت اعلاه .. فان استغرابي من هذا الحديث وكما رواه البخاري عن قتادة عن انس ابن مالك فقد نقل الحديث وذكر ان عدد نساء الرسول (( إحدى عشر )) في حين .. قال سعيد عن قتادة عن انس بن مالك ان عدد نساء الرسول (( تسع نسوة ))!.
ونترك الان السيرة المحمدية العطرة ونذهب الى القرآن لنتابع ونعرض لكم الاسقاطات والنقل من سفر صامؤيل … حيث عند قراءة اسفار الملوك في العهد القديم نرى الترتيب القصصي للرواية والاحداث التاريخية المنسجمة تماما كما في روايات الف ليلة وليلة … ولكن وبسبب النقل والاقتطاع والاسقاط الغير منتظم الى القران فقدت الايات والمواعض هيكليتها القصصية واهتم المؤلفوا القرآن بالسجع .. وهكذا بقت السور والايات من غير ترابط قصصي ومن دون معنى ولذلك انغلب المفسرين على امرهم وباتت صفة الترقيع تطغى على تفسير الايات.
ونرى حكم الملك داؤد على سراريه تم اسقاطه في القران في نفس السورة !! ولكنه اصبح بقدرة قادر قانون الاهي من رب العالمين !!!
{** وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا .. سورة النساء 15 }
وهنا قام المفسرين بترقيع الموضوع متغاضين عن حكم الله السابق للمحصنات من النساء في حالة الزنى !! حيث لم يدرك المسلمين القصة ولم يفرق المسلمين في تفسيرهم بين حكم الزنى الذي ينص برجم الزاني والزانية ..
وحكم الجلد اذا لم يكنّ محصنات .. وخصوصا لوجود اثبات وشهود اربعة او اكثر ….. في حين القران نقل حكم الملك داؤد /عليهن بالحجز لانهن لم يقعن بفعل الزنى وانما بالفاحشة والتي هي عمل خاطئ اجبرن عليه ( اغتصاب ) وهذا غير معلوم في سياق ومعنى الاية !! …. ارفق لكم الحكم الشرعي للزنى في حالة وجود شهود للدلالة …
** المرأة المتزوجة اذا زنت بثبوت الشهادة فأن عقوبتها الرجم حسب آية الرجم من سورة الاحزاب :
{** الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم } . حيث قرأها الصحابة على عهد رسول الله ثم رفعها الله مع ما رفع من القرآن ( حيث ارسل عليها الداجن لتأكلها !! )
واتت هذه الاية بعد الاية 15 اعلاه مباشرة وهي مكملة لها لعقوبة الرجل الزاني ! )) :
{** وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا .. سورة النساء 16 }
وهذا يعني ان الجانيان اللذان / قاما بالفاحشة ( فعل الاغتصاب ) وعلى الرغم من ثبوت الشهود لم يحكم بالرجم ولا الجلد !! بل قال (( فاذوهما !! وان تابا … فاعرضوا عنهما ان الله كان توابا رحيما ! ………. وهذا يتناقض مع الشريعة !!
طلان قصة عشق سيدنا داود لامرأة قائد الجند
توهم صحة الحديث المفترى على سيدنا داود عليه السلام (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن حديث ابتلاء سيدنا داود – عليه السلام – بالمرأة الجميلة حديث صحيح، وهو عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك أنه قال: «سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: إن داود النبي – عليه السلام – حين نظر إلى المرأة فهم بها قطع على بني إسرائيل بعثا (سرية أو غزوة) وأوصى صاحب البعث، فقال: إذا حضر العدو قرب فلانا، وسماه, قال: فقربه بين يدي التابوت – قال – وكان ذلك التابوت في ذلك الزمان يستنصر به، فمن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل، أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله، فقدم فقتل زوج المرأة, ونزل الملكان على داود – عليه السلام – فقصا عليه القصة».
ويزعمون أن بهذا الحديث تثبت القصة المنسوبة إلى نبي الله داود – عليه السلام – في شأن الابتلاء المتعلق بإعجابه بامرأة جميلة لجندي من جنوده؛ فزج به في الحرب حتى قتل ليتزوج بامرأته, فبعث الله له ملكين في صورة بشر، يسأله أحدهما عن استحواذ أخيه تسعا وتسعين امرأة، وكنى عن المرأة بالنعجة, ومع ذلك طلب منه أخيه أن يتنازل له عن زوجته,ويزعمون أن هذه القصة هي تأويل الآيات من (24:21) من سورة (ص). رامين من وراء ذلك إلى دس الإسرائيليات والأخبار الباطلة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن هذا الحديث من طريق يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا, ويزيد وإن كان من الصالحين إلا أنه ضعيف الحديث جدا عند الأئمة؛ لذلك فلا يصح سند هذا الحديث, كما أنه لم يثبت فيها حديث يجب اتباعه.
2) إن ما ورد في متن الحديث في حق نبي الله داود – عليه السلام – من قتل وعشق يتعارض مع صفاته، وثناء الله عليه المذكور في القرآن, فقد آتاه ربه الحكمة والعلم, وأمر محمدا – صلى الله عليه وسلم – بالاقتداء به في صبره وكثرة ذكره, فقال عز وجل: )اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب (17)( (ص).
3) مما يؤكد أن هذا الحديث موضوع، وأنه مأخوذ من الإسرائيليات التي كان يروجها أهل الكتاب، أن هذه القصة قد وردت في العهد القديم بالأسماء والأحداث نفسها.
التفصيل:
أولا. القصة موضوعة مكذوبة، لم يروها أحد من أصحاب الكتب الصحيحة:
إن القصة التي جاء فيها إعجاب سيدنا داود – عليه السلام – بامرأة جندي من جنوده، هي قصة باطلة، رواها الحكيم الترمذي في “نوادر الأصول”، وأوردها القرطبي في تفسيره عن يزيد الرقاشي عن أنس – رضي الله عنه – يقول: «سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: إن داود النبي – عليه السلام – حين نظر إلى المرأة فهم بها، قطع على بني إسرائيل بعثا، وأوحى إلى صاحب البعث، فقال: إذا حضر العدو فقرب فلانا، وسماه. قال: فقربه بين يدي التابوت. قال: وكان ذلك التابوت في ذلك الزمان يستنصر به، فمن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله، فقتل زوج المرأة، ونزل الملكان على داود فقصا عليه القصة»[1].
وقد نقل القرطبي قول ابن العربي المالكي عن هذا الخبر وذلك التأويل أنه: “باطل قطعا”[2].
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: “قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات, ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه, ولكن روى ابن أبي حاتم حديثا لا يصح سنده؛ لأنه من روايات يزيد الرقاشي عن أنس, ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة.[3]، فانظر أيها المنصف إلى كلام أهل العلم الذين لا يلقون القول جزافا, ولا يقدمون آراءهم وأهواءهم على العلم.
وأخرجه ابن جرير في “جامع البيان”, حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن أبي صخر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، سمعه يقول: «سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: إن داود النبي – عليه السلام – حين نظر إلى المرأة…»[4]، ثم ذكر القصة حتى قتل زوج المرأة ونزل الملكان على داود عليه السلام. والحديث عندهم جميعا من طريق يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا, والرقاشي أورده ابن حجر في “التقريب” وقال عنه: “زاهد ضعيف”[5]، وهو يزيد بن أبان, ذكره النسائي في كتابه “الضعفاء والمتروكين” وقال: “متروك”[6], وقد اشتهر عن النسائي أنه قال: “لا يترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه”[7]، وبذلك فإن النسائي لم يتركه إلا بعد ترك الجميع له, وهذا يكفي في بيان ضعفه، وأورده الدارقطني في كتابه “الضعفاء والمتروكين”[8], وقال أحمد: “كان يزيد منكر الحديث”[9].
وقد وصل الحد في جرحه وتحريم الرواية عنه حتى أورد الذهبي في “الميزان”، وابن حجر في “تهذيب التهذيب”: أن يزيد بن هارون قال: “سمعت شعبة يقول: لأن أزني أحب إلي من أن أحدث عن يزيد الرقاشي” [10]، وغيرها من الأقوال الأخرى التي تبين ضعفه[11].
فإذا كان الحديث لم يذكره أصحاب الكتب الصحيحة, وقد أجمع الأئمة أنه لا يصح سنده, وأجمعوا – أيضا – على أن يزيد الرقاشي منكر الحديث لا تقبل روايته, فكيف يذكرون الحديث وينسبونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطعنون به في نبي
الله داود عليه السلام؟!
قال السيوطي في ذلك: “القصة التي يحكونها في شأن المرأة وأنها أعجبته, وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل, أخرجها ابن أبي حاتم من حديث أنس مرفوعا, وفي إسناده ابن لهيعة – وحاله معروف – عن ابن صخر عن يزيد الرقاشي وهو ضعيف، وأخرجها عن ابن عباس موقوفا”.
وعلى هذا يكون من ذكرها من المفسرين إنما أخذها عن الإسرائيليات, وما ذكر موقوفا منها على بعض الصحابة كابن عباس فلا يستبعد – لو صح السند إليه – أنه أخذها عن التوراة أو عمن حكى عنها. هذا وينبغي أن يعلم أن اليهود يتعمدون هذا في حق داود – عليه السلام – ليصلوا من ذلك إلى الطعن في عيسى – عليه السلام – لأنه من ذريته.
قال البقاعي في تفسيره: “وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود, وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود – عليه السلام – لأن عيسى – عليه السلام – من ذريته؛ ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه”[12].
وعلى هذا فهذه القصة – على النحو السابق – لم ينص الله – عز وجل – في القرآن الكريم عليها, ولم ترد عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – في حديث صحيح ولا حسن, فهي إذن مختلقة مفتراه للنيل من نبي الله داود – عليه السلام – فلا يصح أن ننخدع بها أو نصدقها, وإنما نشدد على من يروجها, ويشيعها بين الناس، كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال أبو السعود: “وأما ما يذكر من أن داود – عليه السلام – دخل ذات يوم محرابه… إلى آخر القصة فإفك مبتدع مكروه، ومكر مخترع بئسما مكروه، تمجه الأسماع، وتنفر عنه الطباع, ويل لمن ابتدعه وأشاعه, وتبا لمن اخترعه وأذاعه؛ ولذلك قال علي رضي الله عنه: “من حدث بحديث داود – عليه السلام – على ما يرويها القصاص جلدته مائة وستين جلدة, وذلك حد الفرية على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم”[13].
يقول الشيخ الألباني عن هذا الحديث في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: “إن هذا الحديث واضح أنه من الإسرائيليات التي نقلها أهل الكتاب الذين لا يعتقدون العصمة في الأنبياء، وقد أخطأ يزيد الرقاشي فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم “[14].
ويقول الصابوني صاحب “صفوة التفسير” معلقا على هذه القصة: “لقد وقع بعض المفسرين في خطأ فاحش حين نقلوا بعض الأقوال الواهية في تفاسيرهم؛ اعتمادا على ما جاء من أهل الكتاب من غير تحقيق ولا تمحيص، مما لا يصح سنده، ولا يجوز اعتماده؛ لأنه من القصص الإسرائيلية التي تتنافى مع العقيدة الإسلامية في عصمة الأنبياء، ومن هذه الأساطير المدسوسة ما روي من أمر عشق سيدنا داود – عليه السلام – لزوجة قائد جيشه، وخلاصتها: أن داود كان يمشي على سطح داره, فنظر إلى امرأة تستحم فأعجبته وعشقها, وكانت زوجة أحد قواده ويسمى “أوريا” فأراد أن يتخلص منه ليتزوج بها, فأرسله في إحدى المعارك، وحمله الراية وأمره بالتقدم فانتصر, فأرسله مرارا ليتخلص منه، حتى قتل فتزوجها – إلى ما هنالك من الكذب والبهتان – قال ابن كثير: وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصصا وأخبارا أكثرها إسرائيليات، ومنها ما هو مكذوب لا محالة, تركنا إيرادها في كتابنا قصدا, اكتفاء بمجرد تلاوة القصة من القرآن الكريم, والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وقال البيضاوي: ما قيل من أنه أرسل أوريا مرارا إلى الحرب, وأمره أن يتقدم حتى قتل فتزوجها داود – عليه السلام – فزور وافتراء, ولذلك قال علي رضي الله عنه: “من حدث بحديث داود – عليه السلام – على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة، وهو حد الفرية على الأنبياء”، والصحيح في موضوع هذه الفرية ما ذكره المحققون من أئمة التفسير وعلمائه الأعلام, وبيان هذه القصة أن داود – عليه السلام – كان يخصص بعض وقته لتصريف شئون الملك, وللقضاء بين الناس, ويخصص البعض الآخر للخلوة والعبادة وترتيل الزبور تسبيحا لله في المحراب, وكان إذا دخل المحراب إلى العبادة والخلوة لم يدخل إليه أحد حتى يخرج هو إلى الناس, وفي ذات يوم فوجئ بشخصين يتسوران المحراب الذي يتعبد فيه, ففزع منهما، وأضمر في نفسه أن يبطش بهما, فبادرا يطمئنانه أنهما خصمان اختلفا في أمر بينهما، وبدأ أحدهما فعرض خصومته – كما قصها القرآن؛ وذلك في قوله عز وجل: )وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (21) إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط (22) إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب (23) قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب (24) فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (25)( (ص).
والقضية كما عرضها أحد الخصمين تحمل ظلما صارخا مثيرا لا يحتمل التأويل, ومن ثم اندفع داود – عليه السلام – يقضي على إثر سماعه له لهذه المظلمة الصارخة, ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثا, ولم يطلب منه بيانا, ولم يسمع له حجة, ولكنه مضى يحكم بقوله: )لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه(… إلى آخر الآيات, فعاتبه الله على ذلك ونبهه إلى ضرورة تثبت القاضي من حكمه، وسماعه للخصم الآخر, أما ما قاله بعض الواهمين اعتمادا على بعض الروايات الإسرائيلية مما ذكرناه وحذرنا منه؛ فإنه لا يصح بالنسبة لعوام المسلمين وجهلة الفساق, فما بالك بالأنبياء، بل بخواص الأنبياء؟!! فليتدبر هذا من له عقل سليم ودين قوي”[15].
إن المتأمل في هذه الآيات سالفة الذكر يجد أنها تحمل معنى واضحا لا يحتمل التأويل، ولا يحتاج إلى ما فعله بعض المفسرين عندما أخرجوا فيها المعنى عن ظاهره، فقالوا: إن النعجة المقصود بها المرأة, وإن الخصمان كانا ملكين قد بعثهما الله إلى داود في سورة بشر, فقال أحدهما لداود: إن هذا صاحبي له تسع وتسعون نعجة؛ أي: امرأة، ولي نعجة واحدة؛ أي: امرأة واحدة, وطلب مني أن أتنازل عنها ليتزوجها ويكفلها، وغلبني في الكلام, فقال داود عليه السلام: لقد ظلمك بسؤال امرأتك إلى زوجاته, ثم ذكروا هذه القصة المأخوذة من الإسرائيليات.
ومن العجب ما فعلوه من إخراج الآيات عن ظاهرها، وتأويلها بقصة بعيدة عنها كل البعد تطعن في عصمة أحد أنبياء الله عليهم السلام أجمعين, فقد جعلوا من النعجة امرأة, ومن الخصم ملكا, ومن النبي المعصوم مخطئا.
وقد قال ابن حزم: “إنما كان ذلك الخصم قوما من بني آدم – ولا شك – مختصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم, بغى أحدهما على الآخر بنص الآية, ومن قال: إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء فقد كذب على الله – عز وجل – وزاد في القرآن ما ليس فيه, وكذب الله – عز وجل – وأقر على نفسه الخبيثة أنه كذب الملائكة؛ لأن
الله – عز وجل – يقول: )وهل أتاك نبأ الخصم(، فقال هو: لم يكونوا قط خصمين, ولا بغى بعضهم على بعض, ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة, ولا كان للآخر نعجة واحدة, ولا قال له: أكفلنيها، فاعجبوا لما يقحم فيه أهل الباطل أنفسهم, ونعوذ بالله من الخذلان، ثم كل ذلك بلا دليل، بل الدعوى المجردة”[16].
وقال الخازن في تفسيره: “فصل في تنزيه داود – عليه السلام – مما لا يليق به ولا ينسب إليه: اعلم أن من خصه الله – عز وجل – بنبوته, وأكرمه برسالته, وشرفه على كثير من خلقه, وائتمنه على وحيه، لا يليق أن ينسب إليه ما لو نسب إلى آحاد الناس لاستنكف أن يحدث عنه, فكيف يجوز أن ينسب إلى بعض أعلام الأنبياء والصفوة والأمناء؟!”
وقال القاضي عياض: “أورد ذلك صاحب “لباب التأويل”، وصاحب “فتح البيان في مقاصد القرآن”: “لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطره الإخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا, ونقله بعض المفسرين, ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك, ولا ورد في حديث صحيح”[17].
قال الفخر الرازي في “التفسير الكبير”: “إذا قلنا: الخصمان كانا ملكين, ولما كان من الملائكة، وما كان بينهما مخاصمة، وما بغى أحدهما على الآخر, كان قولهما خصمان بغى بعضنا على بعض كذبا, فهذه الرواية لا تتم إلا بشيئين؛ أحدهما: إسناد الكذب إلى الملائكة, والثاني: إسناد أفحش القبائح إلى رجل كبير من أكابر الأنبياء”[18].
قال ابن الحسن الطبرسي في تفسيره “مجمع البيان في تفسير القرآن” بعد أن ذكر القصة: “فإن ذلك مما يقدح في العدالة, فكيف يكون أنبياء الله هم أمناؤه على وحيه بصفة من لا تقبل شهادته، وعلى حالة تنفر من الاستماع إليه، والقبول منه. جل أنبياء الله عن ذلك”[19]؟!
وبذلك يتبين أن الحديث باطل، لا يصح سنده، ولا تصح روايته، وإن كان قد أورده بعض المفسرين في تفسير آيات سورة (ص)، فإنما ذلك على سبيل تأويل الآيات على ظاهرها, وقد كان خطأ من هؤلاء المفسرين القليلين أن يدخلوا هذه القصة المدسوسة من الإسرائيليات، والتي تطعن في عصمة أحد الأنبياء في تفسير آيات القرآن الكريم, مما أدى إلى أنهم بعدوا كل البعد عن المعنى الموضح للآيات التي جاء بها المولى عز وجل، وإن كانوا لا يقصدون إلا مجرد سرد القصة اعتمادا على معرفة الناس بالمتون والأسانيد – صحيحها من سقيمها.
ثانيا. ما ورد في متن الحديث في حق النبي داود – عليه السلام – يتعارض مع صفاته وثناء الله عليه:
إن ما ورد في متن الحديث في حق النبي داود – عليه السلام – من قتل وعشق يتعارض مع صفاته وثناء الله عليه المذكور في القرآن الكريم. فقد آتاه ربه الحكمة والعلم, وأمر محمدا – صلى الله عليه وسلم – بالاقتداء به في صبره وكثرة ذكره؛ فقال عز وجل: )اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب (17)( (ص)، فقد أمر الله – عز وجل – محمدا – صلى الله عليه وسلم – بأن يقتدي بداود في المصابرة, ولو قلنا إن داود لم يصبر على مخالفة النفس – كما يزعمون – بل سعى في إراقة دم امرئ مسلم لغرض شهوته, فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمدا – صلى الله عليه وسلم – أفضل الرسل أن يقتدي به في الصبر على طاعة الله؟!
كما أن الصفات والفضائل التي وصف وفضل بها داود – عليه السلام – في الآيات لا يتأتى معها ارتكابه المنكر, فنذكر من ذلك ما يلي:
· )ذا الأيد( أي: القوة، والمراد القوة في الدين؛ لأن القوة في الدنيا كانت حاصلة للملوك الكفار, وما استحقوا بها مدحا، والقوة في الدين هي العزم الشديد على أداء الواجبات وترك المنكرات, فكيف يوصف بها من لم يملك منع نفسه عن الميل مع الهوى والشهوة.
· )إنه أواب( والأواب: الرجاع, ولا يتصور من الرجاع إلى ذكر الله – عز وجل – أن يرغب في زوجة رجل آخر, وتشتد به الرغبة إلى حد محاولة الاستيلاء عليها عن طريق تعريض زوجها للقتل.
· )إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق (18) والطير محشورة كل له أواب (19)( (ص)، واللائق بتسخير هذه الأشياء للإنسان أن يقابله بالشكر والطاعة لا باتباع الهوى والشهوة.
· )وشددنا ملكه( (ص: 20)، وليس المراد منه أنه شد ملكه بأسباب الدنيا وحدها، فإن ذلك حاصل للملوك الكفرة, بل المراد تشديد ملكه في الدين والدنيا, ومن شدد ملكه في الدين لا يعجز عن منع نفسه عن القتل والفجور.
· )وآتيناه الحكمة( (ص: 20), والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علما وعملا, فكيف يعقل أنه اتصف بالحكمة مع ارتكاب ما لا يصدق إلا من الجهلاء الحمقى؛ كانتزاع زوجة مجاهد مخلص, والاحتيال لقتله؟!
· )وفصل الخطاب( (ص: 20)، قال ابن عباس: بيان الكلام أي: معرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير صعوبة في ذلك، وقال ابن مسعود: علم الحكمة والبصر بالقضاء.
ومن كان هذا شأنه كيف يجور على إنسان بريء, ويهضم حقه، ويظلمه لمصلحة نفسه؟ كلا، فهذه الصفات تدل على رسوخ قدمه – عليه السلام – في الطاعة، وشدة احترازه عن المعصية بما يبرئ ساحته مما نسبه إليه الأفاكون المبطلون, وقد أخبر الحق – عز وجل – أن داود له عنده منزلة عالية وحسن مرجع – وهو الجنة – فقال عن داود عليه السلام: )وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (25)( (ص: 25)، وفي هذه دلالة على براءته – عليه السلام – مما نسب إليه زورا وافتراءا, فإن الذي يستحق الزلفى وحسن المآب هو الذي يفعل الطاعة ويتجنب المعصية, أما من يسعى في قتل غيره والعدوان عليه في زوجته، فلا يستحق هذه المنزلة عند ربه، ولا يستحق هذا المدح والتكريم والثناء من المولى عز وجل [20].
وقد مدح نبينا – صلى الله عليه وسلم – داود – عليه السلام – وأشاد به قائلا: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده»[21]، وكانت عبادته – عليه السلام – من أمثل ما تكون العبادة, ولذا فقد كان صيامه وصلاته من أحب الأعمال إلى الله – عز وجل ـ, روى البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الصيام إلى الله صيام داود, كان يصوم يوما ويفطر يوما, وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود, كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه»[22] [23]؟!
وخلاصة القول في ذلك: أنه قد اتفق النقل والعقل على استحالة قبول هذه القصة المزعومة في حق سيدنا داود – عليه السلام – إذ لم يروها أحد من أصحاب الكتب الصحيحة، وإنما وردت في بعض كتب التفاسير التي لم تلتزم الصحة في كل ما نقلته، قد أجمع علماء الأمة على نكارة هذه القصة وغرابتها وبطلانها؛ لما فيها من إلصاق تلك التهم والأفعال المشينة إلى نبي من أنبياء الله المقربين، مما يتأتى من جراء ذلك الطعن في عصمة الأنبياء المجمع عليها سلفا وخلفا.
ثالثا. القصة في العهد القديم:
ومما يؤكد بطلان هذا الحديث وأنه مأخوذ من الإسرائيليات التي يروجها أهل الكتاب أن العهد القديم يذكر هذه القصة وينسبها إلى داود عليه السلام، ويجعله لم يراع أقل واجب نحو مجاهد مخلص لدينه ولأمته, بل جازاه بالتي هي أسوأ، فخانه في عرضه، واعتدى على شرفه, ولم يكتف بذلك، بل كاد له ليقتل من أجل الظفر بامرأته, والاستيلاء على زوجته, وهذه الأفعال بلغت غاية الخسة والنذالة, ووصلت بصاحبها إلى ما لا يكاد يوصف ضعة وانحطاطا, فهل يتصور عاقل أن يتأتى ذلك كله من أحد المصطفين الأخيار، والأنبياء المقربين؟!
وها هو سفر صموئيل الثاني يصور هذه الفرية يقول: “وأما داود فأقام في أورشليم. وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم. وكانت المرأة جميلة المنظر جدا. فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثي؟ فأرسل داود رسلا وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها. ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود وقالت: إني حبلى. فأرسل داود إلى يوآب يقول: أرسل إلي أوريا الحثي. فأرسل يوآب أوريا إلى داود. فأتى أوريا إليه، فسأل داود عن سلامة يوآب، وسلامة الشعب، ونجاح الحرب. وقال داود لأوريا: انزل إلى بيتك واغسل رجليك. فخرج أوريا من بيت الملك، وخرجت وراءه حصة من عند الملك. ونام أوريا على باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده، ولم ينزل إلى بيته. فأخبروا داود قائلين: لم ينزل أوريا إلى بيته. فقال داود لأوريا: أما جئت من السفر؟ فلماذا لم تنزل إلى بيتك؟ فقال أوريا لداود: إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام، وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي؟ وحياتك وحياة نفسك، لا أفعل هذا الأمر. فقال داود لأوريا: أقم هنا اليوم أيضا، وغدا أطلقك. فأقام أوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده. ودعاه داود فأكل أمامه وشرب وأسكره. وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده، وإلى بيته لم ينزل.
وفي الصباح كتب داود مكتوبا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا. وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت. وكان في محاصرة يوآب المدينة أنه جعل أوريا في الموضع الذي علم أن رجال البأس فيه. فخرج رجال المدينة وحاربوا يوآب، فسقط بعض الشعب من عبيد داود، ومات أوريا الحثي أيضا. فأرسل يوآب وأخبر داود بجميع أمور الحرب. وأوصى الرسول قائلا: عندما تفرغ من الكلام مع الملك عن جميع أمور الحرب، فإن اشتعل غضب الملك، وقال لك: لماذا دنوتم من المدينة للقتال؟ أما علمتم أنهم يرمون من على السور؟ من قتل أبيمالك بن يربوشث؟ ألم ترمه امرأة بقطعة رحى من على السور فمات في تاباص؟ لماذا دنوتم من السور؟ فقل: قد مات عبدك أوريا الحثي أيضا.
فذهب الرسول ودخل وأخبر داود بكل ما أرسله فيه يوآب. وقال الرسول لداود: قد تجبر علينا القوم، وخرجوا إلينا إلى الحقل، فكنا عليهم إلى مدخل الباب. فرمى الرماة عبيدك من على السور، فمات البعض من عبيد الملك، ومات عبدك أوريا الحثي أيضا. فقال داود للرسول: هكذا تقول ليوآب: لا يسؤ في عينيك هذا الأمر، لأن السيف يأكل هذا وذاك. شدد قتالك على المدينة وأخربها. وشدده”.
فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلها، ندبت بعلها. ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته، وصارت له امرأة وولدت له ابنا. وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب”. (صموئيل الثاني 11: 1 – 27).
وواضح من هذه القصة أنها تلصق بداود – عليه السلام – عدة نقائص:
· النظر إلى امرأة غيره عارية.
· حسد زوجها عليها.
· الزنا بها.
· التسبب في قتله, وقتل بعض الجنود معه.
وهذه الذنوب يأبى كثير من عامة الناس أن يرتكب بعضها, فما بالك بها جميعها, ومن نبي اصطفاه ربه واختاره ليصلح به المفسد ويقوم به المعوج، إن هذا غير معقول.
كما أنه من غير المعقول كذلك أن يكون العقاب الذي عاقب به الرب
داود – عليه السلام – هو تسليط أبشالوم بن داود على نساء أبيه، يزني بهن، ويهتك أعراضهن علانية, وأمام جميع بني إسرائيل، كما زعم ذلك سفر صموئيل الثاني: “هكذا قال الرب: هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك، وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك، فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس؛ لأنك أنت فعلت بالسر، وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس”. (صموئيل الثاني 12: 11، 12). ثم يقول: “فنصبوا لأبشالوم الخيمة على السطح, ودخل أبشالوم إلى سراري أبيه أمام جميع إسرائيل”. (صموئيل الثاني 16: 22).
فذلك هو عهدهم القديم الذي أورد هذه القصة ليلصقوها بنبي الله داود – عليه السلام – وليثبتوا عليه عددا من الجرائم وهي: القتل والزنا والخيانة لأحد جنوده, وهم يتعمدون ذلك في حق داود – عليه السلام – لأن عيسى – عليه السلام – من ذريته؛ ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه.
ومن حقنا بعد أن نقرأ هذا في العهد القديم أن نسأل المؤمنين به: ما عقوبة الزاني عندكم؟ أليس هو الرجم؟ ونص ذلك: “إذا زنى رجل مع امرأة، فإذا زنى مع امرأة قريبه، فإنه يقتل الزاني والزانية. وإذا اضطجع رجل مع امرأة أبيه، فقد كشف عورة أبيه. إنهما يقتلان كلاهما”. (اللاويين 20: 10 – 12)، فلماذا لم ينفذ الحد على داود لو صح وقوع هذه الجريمة منه؟
إن الشرائع لا تفرق في أحكامها وعقوباتها بين حاكم ومحكوم, ولا بين أمير وحقير, وقد ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم:«وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» [24].
ثم ما ذنب البريئات زوجات داود حتى يكن موضع الانتقام، ويسلط ابن داود عليهن يهتك أعراضهن؟ إنه لا ذنب لهن حتى يجري عليهن هذا العقاب, ثم متى عهد في الشرائع السماوية المعاقبة على الفاحشة بفاحشة مثلها وأفظع منها, ما سمعنا بهذا في شريعة من الشرائع.
وقد قال الأستاذ عبد الرحمن الجزيري تعليقا على هذا النص: هل من العدل الإلهي أن ينتقم الله من الأبرياء, فيسلط أبشالوم على السراري اللاتي لا ذنب لهن, فيهتك أعراضهن؟ وهل من المعقول أن يجعل الله الحد الذي وضع لزجر الجاني جريمة أخرى يعاقب عليها فاعلها؟ وهل يتصور مخلوق أن الله تعالى الذي يكره الفاحشة يسلط أبشالوم ليأتي بهذه الفاحشة بصورة من أفظع الصور, وهي ارتكابها مع نساء أبيه؟!
إن التوراة التي يعمل بها داود تجعل حد الزنا القتل، فلماذا أهمله الله تعالى مع داود، واستبدله بنفس الفاحشة التي تستوجب القتل؟[25] أيعقل ما يقولون وما يفترون؟!
إن وجود هذه القصة بالأسماء والأحداث نفسها التي وردت في العهد القديم يدل دلالة واضحة أن القصة التي وردت في هذا الحديث هي مأخوذة من الإسرائيليات؛ مما يثبت أن الحديث موضوع, وقد سبق أن ذكرنا أن الحديث لا يصح سنده، كما أنه لا يصح متنه, لما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة من صفات وفضائل لنبي الله داود – عليه السلام – والتي تدل على مكانته الرفيعة عند ربه ومنزلته العالية, فقال المولى – عز وجل – عن داود عليه السلام: )وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (25)(، وفي هذا القول المبارك دلالة على براءته – عليه السلام – مما نسب إليه زورا وافتراء, فإن الذي يستحق الزلفى وحسن مآب هو الذي يطيع ربه ويتجنب المعصية, أما من يسعى في قتل غيره، والعدوان عليه في زوجته، كما زعم الزاعمون في حق داود – عليه السلام – فلا يستحق هذه القربة[26]. كما أن نبينا الكريم – صلى الله عليه وسلم – لا يمكن أن يكون قد قال هذه الافتراءات على نبي الله داود – عليه السلام – لأنه – صلى الله عليه وسلم – هو الذي مدحه وأثنى عليه مبلغا عن رب العزة[27].
فكيف يبلغ نبينا الكريم – صلى الله عليه وسلم – هذه الصفات والفضائل عن داود – عليه السلام – بما فيها من مدح وثناء، ثم يقول عنه هذه القصة الشنيعة ذات الجرائم المنفرة, أيعقل ما يقولون؟! وهذا مما يبرهن على بطلان هذه الشبهة، وبيان وضع هذا الحديث وعدم صحته.
الخلاصة:
· إن هذا الحديث لم يذكره أحد من أصحاب الكتب الصحيحة، وإنما ذكره بعض المفسرين عن الإسرائيليات، والحديث من رواية يزيد الرقاشي عن أنس، وقد أجمع علماء الحديث على أن يزيد منكر الحديث، وبذلك فالحديث باطل لا يصح.
· إن هذه القصة من الأساطير المدسوسة، والقصص الإسرائيلية التي تتنافى مع العقيدة الإسلامية في عصمة الأنبياء، ولقد نبه أكثر المفسرين على بطلانها، وإن وقع بعضهم في خطأ فاحش حين نقلوها في تفاسيرهم، اعتمادا على ما جاء من أهل الكتاب من غير تحقيق ولا تمحيص.
· أما من ناحية متن الحديث، فإن ما ورد فيه من جرائم ملفقة وملصقة بنبي الله داود عليه السلام، وهي جرائم القتل والزنا والخيانة, والنظر إلى امرأة أجنبية عارية يتنافى مع ما ورد عنه في كتاب الله من صفات وفضائل تدل على رسوخ قدمه في الطاعة، وشدة احترازه من المعصية، كما أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد أثنى عليه ومدحه كثيرا؛ إذ أخبر – صلى الله عليه وسلم – أن أحب الصلاة والصيام إلى الله صلاة داود – عليه السلام – وصيامه، مما يبرئ ساحته مما ينسب إليه من جرائم بشعة يستنكف عنها عوام الناس.
· إن المتأمل في هذه القصة يجدها قد وردت في العهد القديم في سفر صموئيل الثاني الإصحاح الحادي عشر بالأحداث والأسماء نفسها، وهذا مما يؤكد ما ذهبنا إليه من أنها مأخوذة من الإسرائيليات التي كان يروجها أهل الكتاب، ولا أصل لها في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
المصادر والمراجع
*************
(*) دفاع عن السنة المطهرة, د. علي بن إبراهيم حشيش, دار العقيدة, مصر، ط1, 1426هـ/ 2005م.
[1]. باطل: رواه الحكيم الترمذي في “نوادر الأصول”، وأورده القرطبي في “الجامع لأحكام القرآن”، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (15/167). وذكره الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (314)، وقال: باطل.
. [2] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (15/176).
[3]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1400هـ/ 1980م، (4/ 31).
[4]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (21/ 187) .
[5]. تقريب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: أبي الأشبال صغير أحمد شاغف الباكستاني، دار العاصمة، الرياض، ط1، 1416هـ، ص1071.
[6]. كتاب الضعفاء والمتروكين، النسائي، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1406هـ/ 1986م، (1/ 251).
[7]. كتاب الضعفاء والمتروكين، النسائي، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1406هـ/ 1986م، (1/ 142).
[8]. كتاب الضعفاء والمجروحين، الدارقطني، تحقيق: السيد صبحي البدري السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1406هـ/ 1986م، ص179.
[9]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، هامش (17/ 233).
[10]. تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، دار الفكر، بيروت، ط1، 1404 هـ/ 1984م، (11/ 271).
[11]. دفاع عن السنة المطهرة, د. علي بن إبراهيم حشيسش, دار العقيدة, مصر، ط1, 1426هـ/ 2005م, ص136، 137.
[12]. انظر: تفسير الوسيط، د. محمد سيد طنطاوي، مطبعة السعادة، مصر، د. ت، (12/ 196).
[13]. إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، محمد بن محمد العماوي أبو السعود، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت، (7/ 222). عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، مصر، 1399هـ/ 1979م، ص354، 355.
[14]. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ,محمد ناصر الألباني ,مكتبة المعارف, الرياض، ط2، 1420هـ/ 2000م, (1/ 485) بتصرف.
[15]. صفوة التفاسير, محمد علي الصابوني, المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، د. ت، هامش (3/ 1218، 1219).
[16]. الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، تحقيق: د. محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (4/ 39).
[17]. لباب التأويل في معاني التنزيل، الخازن أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عمر الشيخي، (5/ 287).
[18]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، (13/ 179).
[19]. انظر: دفاع عن السنة المطهرة, د. علي بن إبراهيم حشيسش, دار العقيدة, مصر، ط1, 1426هـ/ 2005م,ص133: 136.
[20]. انظر: عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، مصر، 1399هـ/ 1979م, ص181، 182.
[21]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: البيوع، باب: كسب الرجل وعمل يده، (4/ 355)، رقم (2073).
[22]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، (6/ 525)، رقم (3420). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا، (4/ 1807)، رقم (2684).
[23]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، مصر، 1399هـ/ 1979م, ص179.
[24]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الغار، (6/ 593)، رقم (3475). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: قطع يد السارق الشريف وغيره، (6/ 2627)، رقم (4331).
[25]. انظر: عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، مصر، 1399هـ/ 1979م, ص214: 218.
[26]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، مصر، 1399هـ/ 1979م, ص182.
[27]. قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد عبد الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص357.