بقلم محمد مسلم/التقرير
مع مرور العام القادم 2016، سيمضي على ما تم التعارف عليه باسم حدود “سايكس-بيكو” مئة عام، عانت منها المنطقة الأكثر سخونة سياسيًا وعسكريًا في العالم من ويلات حروب وأزمات عدة؛ أنهكت شعوب المنطقة وجعلت الشرق الأوسط واحدًا من أهم لوحات الحرب والاقتتال في العالم.
منذ أن انتهى صناع القرار من تثبيت الحدود التي رسموها بعد مئات التعديلات وحتى اليوم الأول لانطلاق الحراك الثوري في سوريا، تُطرح بتقطع خرائط التقسيم وإعادة تصميم المنطقة بشكل مباشر وصريح، ومع احتدام الصراع السوري؛ طفت إلى الواجهة أولى الخرائط التي تتحدث عن تقسيم سوريا باقتطاع دولة الساحل، الدولة التي طلبها العلويون أيام الوجود الفرنسي ورفضها الفرنسيون في ذلك الوقت.
اليوم، وبعد سنوات من بدء الكفاح المسلح الذي خاضته جماعات من كافة الأطراف ضد جماعات من كافة الأصناف، تعود قصة إعادة ترسيم الحدود إلى الواجهة بقوة، خاصة عندما يتكلم صانع قرار إقليمي كالرئيس أردوغان عن الموضوع ويحذر منه؛ بل ويهدد قيام أي دولة في الجنوب التركي.
كل الكلام عن إعادة ترسيم الحدود يتفاعل مع الأحداث والمتغيرات المتسارعة في المنطقة، وحسب وجهة نظر أخرى، كل الأحداث والمتغيرات المتسارعة تتفاعل لإعادة ترسيم الحدود، وفي كلا الحالتين نجد الشرق الأوسط أمام منعطف تاريخي جديد سيحدد مصيره لسنوات طويلة قادمة.
منطقة الشرق الأوسط من أشد مناطق العالم توترًا وصراعًا، وذلك عائد لسببين رئيسين يولّد كل واحد منهما الآخر بطريقة ديناميكية؛ فطبيعة المنطقة وموقعها الجغرافي ومزيج الشعوب الإثني المذهبي الأيديولوجي في مقابل أطماع دولية وتضارب مصالح إقليمية يجعل تحقيق السلام لمدة عشر سنوات فقط فيها أمرًا مستحيلًا تمامًا.
انطلاقًا من هذا الواقع، يمكن تحديد الصراع في فئتين رئيسيتين: إحداهما صراع “داخلي-داخلي” بين مكونات المنطقة، مدعومًا من الخارج، والأخرى صراع “خارجي-خارجي” متوقفًا على تطورات الداخل؛ ومن هذا المنطلق يمكن أن نفهم حقيقة ما يجري من أزمات وصدامات عالمية تجعل الملف السوري مثلًا والوضع الإقليمي عمومًا بهذا التعقيد الشديد.
على المستوى الداخلي، يعيش الشرق الأوسط عدة معارك داخلية ذات أشكال ومنطلقات متعددة، إضافة إلى حرب ضروس بين الشيعة والسنة بشكل رئيس، تخوضها أطراف النزاع بميليشيات محلية تطحن بعضها وتقتات على الدعم المقدم من الإيرانيين كداعم أساسي للجماعات التي تحمل النسخة الإيرانية من الفكر الشيعي، والداعمين الذين يجدون في اكتمال مشروع الهلال الشيعي انتهاء لوجودهم؛ هذه الحرب مترافقة مع حرب أخرى يخوضها الأكراد مع محيطهم من مبدأ قومي يتغذى من سوابق تاريخية من الاضطهاد والشعور بالغربة ويقظة قومية كردية تتعلق بطبيعتهم كشعب، في صورة لا يمكن أن تنفصل عن الأحداث المشابهة في ليبيا أو اليمن.
أما على المستوى الخارجي، فتقاطع المصالح والرغبة بالنفوذ في منطقة فيها كل المغريات بدءًا من الدينية والأيديولوجية وحتى المنافع الاقتصادية والتجارية يجعل كل أقطاب القوة في العالم لاعبًا أساسيًا في ساحة الشرق الأوسط، إضافة إلى الوجود الإسرائيلي الذي يزيد من تأزم المشهد وتشابكه.
يولّد الاحتاك بين مستويين من الصراع الخارجي والداخلي صراعًا آخر “خارجيًا-داخليًا” يكون محوريًا أحيانًا، ويتجلى ذلك في الدعم الغربي الشرقي للحرب الإيرانية العراقية أو التدخل الغربي المباشر في حرب الخليج.
باستدعاء كل تلك المعطيات حول طبيعة الصراع المحموم الشائك في هذه البلاد، وبدون أن ندخل في تفاصيل ما وراء التعقيد من انقلابات فكرية مفاجئة للجماعات العسكرية والانتصارات الهوياتية شديدة الجذرية أو التبدلات السياسية الطارئة؛ يمكن أن تبدأ بتصور خريطة التقسيم بين إرادة أصحاب الأرض ومخططات اللاعبين الدوليين.
كل الروابط بين أصحاب الأرض هشة بامتياز، كل المحاولات التي قامت بها حركات وطنية لخلق أرضية مشتركة بين الشعوب التي تعيش ضمن الحدود السياسية القائمة فشلت بسبب وجود تيارات أشد قبولًا جماهيريًا وفشل التيارات الوطنية حقيقة بالوصول لكرسي الحكم؛ إذ لم يكد ينتهي العرب والأتراك من دعواتهم القومية حتى غرق بها الأكراد وطفا في المنطقة العربية تصنيف على أسس مذهبية تضمن الاحتفاظ بالهوية الدينية التقليدية التي باشر الإيرانيون بغزوها، والتي عملت عدة حكومات أوليغارشية ذات شعارات وطنية على طمسها.
يستغل هذه الهشة في التركيب البنيوي للمنطقة اليمين المتطرف الأمريكي، والمحافظون الجدد على وجه الخصوص، ويستخدمون التباين الشديد بين المكونات الموجودة لإيجاد حالة من الصراع طويل الأمد تؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق المصالح الغربية وتمت عنونة هذا الأسلوب بالفوضى الخلاقة.
تبدو وجهة نظر الغرب نحو المنطقة مرتبكة قليلًا، ويمكن تأكيد هذا عندما نضع في الحسبان تضارب المصالح “الغربية-الغربية”؛ إلا أن استراتيجية العموم منهم لا ترفض على الأقل مشاريع تفتيت منطقة الهلال الخصيب، وإعادة تركيبها بما يحقق المصالح الكبرى، خاصة مع تنامي عدة أعداء في الشرق، أهمهم الإيرانيون، مع ملاحظة أن الغرب لا يملك وجهة نظر واحدة تجاه كيفية التقسيم؛ فإن كان البعض يميل نحو تقسيمه على أسس مذهبية عرقية، فإن البعض الآخر مصرّ على إبقاء الكيانات الوطنية مهما كان الثمن؛ وذلك استنادًا إلى رؤى معينة وحسابات تخص المصالح الغربية.
كل الأطراف لها مصالح بالتقسيم إن تم، بالقدر نفسه الذي ستخسر فيه إن لم يؤد التقسيم إلى استقرار؛ فاللعبة في الشرق الأوسط مصممة بحيث لا يكون فيها رابح، الهدف من اللعبة ألا تكون خاسرًا وحسب، وبذلك ستكون واحدًا من الرابحين؛ فإن تم التقسيم ستستفيد إسرائيل من انتهاء وجود كيانات ثابتة وحواضر في محيطها يمكن أن تهدد وجودها إن وصل إلى سدة الحكم جماعات ترفض كيانها، وفي المقابل ستكون أمام تهديد مباشر طويل الأمد من قبل الجماعات الإسلامية التي ستنمو وتتغذى في مناطق النزاع والفوضى، تركيا ستتخلص من حكومات عربية ممانعة لتطلعاتها الإقليمية وستجد نفسها أمام المعضلة الكردية من جديد، الإيرانيون سيجدون في مناطق النزاع مسرحًا للعمل على تنفيذ الهلال الشيعي ولكنها ستكون أمام حرب طويلة مع الميليشيات السنية التي قد يتم تفعيلها داخل الحدود الإيرانية، السعوديون سيجدون قواعد أكثر موائمة لحكمهم ولكنهم سيكونون في عين العاصفة بين سندان الإيرانيين ومطرقة الجماعات الجهادية، أما شعوب البلاد التي تغرق في الصراع فستربح الاستقرار المؤقت وتخسر الحلم القريب، وهكذا جميع الأطراف.
في متابعتي لبعض التعليقات المنشورة منذ 8 سنوات عن الموضوع نفسه، قرأت كثيرًا من التهكم عن مشاريع التقسيم بوصفها أمريكية صهيونية لن تتم، لفت نظري التشابه الشديد مع الذي ينشر هذه الأيام من تعليقات؛ حيث الإشادة ببعض مشاريع التيار الجهادي في العراق على غرار الإشادة بها اليوم في سوريا، والتأكيد على حقوق الأكراد في الاستقلال، وكثير من التعليقات المتشنجة التي تظهر حالة الانقسام الحقيقي لا الحدودي لشعوب المنطقة.
وهذا الانقسام الحقيقي هو الذي يعتمد عليه صناع الخرائط عند وضعها، وأشهرهم برنارد لويس، تأتي شهرة هذا الرجل من حيث استعانة إدارة جورج بوش به كمستشار لها قبل غزو العراق، ومن حيث إن الخرائط المفترضة متشابهة إلى حد معين، كانت خرائط الرجل وتصميماته هي الأكثر موائمة لمصالح اللاعبين الدوليين وواقعية وتناسبًا مع تطلعات أصحاب الأرض.
اعتمد برنارد لويس في رسمه الذي يبدو أن الأطراف التي حسمت أمرها بضرورة تقسيم المنطقة قد تبنته على أسس عرقية مذهبية، مستثنيًا مصر والسعودية من التقسيم الكامل، ما عدا اقتطاع سيناء لصالح إسرائيل، وهذه أكثر نقاط عقلانية المخطط؛ إلا أن هذا المخطط الذي سيطرأ عليه تعديل تلو تعديل دون أدنى شك حتى يستتب الأمر في مشهد مشابه لسيناريو التعديلات التي طرأت على المخطط الأساسي لسايكس بيكو.
فالغرب لا يضع تصوراته مجردة ويطبقها، بل يتفاعل مع كل التطورات المرحلية بما يتناسب مع التطلعات العليا والمصالح الرئيسة له، بينما يستمر اللاعبان العربيان الأساسيان، العربي السني ببناء مواقفه بشكل ارتجالي غير متزن، واللاعب العربي الشيعي بالغرق في وحل تصورات الإدارة الإيرانية؛ وهذا ما يجعل منهما الحلقة الأضعف إلى اللحظة، بينما حدد الأكراد والأقليات العرقية والمذهبية العربية هدفًا هو الحفاظ على كياناتهم الموجودة في كل من سوريا والعراق ببناء إدارات ذاتية تبعدهم قدر الإمكان عن الصراع في المنطقة وتخرجهم من المرحلة الراهنة بأقل الخسائر الممكنة.
في ظل هذا الوضع، نستشعر أن استمرار الحرب بين الأطراف المتصارعة يسرّع من عملية التقسيم، ولكن نظرة إلى واقع الحال في كل من سوريا والعراق ومحيطهما الإقليمي يجعلنا نعيد النظر في الموضوع؛ إذ إن الأطراف التي تمد الصراع لم تحسم أمرها، والأتراك مثلًا اتخذوا موقفًا حاسمًا يرفض التقسيم من الأساس.
إذن؛ كيف ستخرج المنطقة من الأزمة التي ستبدأ نيرانها بالخروج نحو البلاد المجاورة عاجلًا أم آجلًا؟ وهل سيكون مصير الهلال الخصيب كمصير السودان؟
يعلم الإيرانيون أنهم مستهدفون بخطة التقسيم إن بدأت عجلتها بالتدحرج، وهذا ما سيشكل ربما لأول مرة تقاطع مصالح مع الجار العدو التركي، والعدو التقليدي في السعودية في مرحلة تالية، وبمعنى آخر سيتوقف بدء تقسيم الهلال الخصيب على مستوى رعونة الطرف الإيراني الذي إن استمر في التصعيد ضد الأطراف الإقليمية فإن الأطراف الإقليمية ستجد نفسها في موضع حرج يضطرها للقبول بالخطة الغربية بتقسيم المنطقة كلها، بما فيها إيران.
لن يتم تقسيم الهلال الخصيب بنفس السهولة التي تم فيها تقسيم السودان؛ إلا إن أدركت الدول جميعًا أن اضطرام حرب في وضع التوازن الذي يعيشه العالم اليوم لن يكون أقل كارثية من الحربين العالميتين الأولى والثانية معًا، واستطاعت النخب السياسية ومراكز صنع القرار أن تجد حلًا لا يكون فيه خاسرٌ بشكل كامل.
في الوقت الحالي، سيستطيع الأكراد وعدة أقليات أخرى الحصول على إدارات ذاتية في المناطق التي يسيطرون عليها؛ مما سيمنحهم وقتًا إضافيًا لترتيب أوراقهم وتنمية اقتصادهم، بينما سيستمر الإيرانيون ومن خلفهم بدعم الوضع القائم بين السنة والشيعة، وبما أن الطرف الداعم للعنصر السني لا يستطيع اتخاذ زمام المبادرة؛ فستبقى المناطق السنية التي تسيطر عليها التنظيمات الإسلامية تعيش وضعًا من الفوضى والحرب، وهذا ينطبق على العراق وسوريا بنفس السوية؛ إلا أن تحركات الفصائل السنية المتواجدة في كلا البلدين لتأسيس مشروع دولة ينقذ وجودهم الذي بات مهددًا بحق، وهم في هذه الحالة التي سيتخذون فيها وضعية “شمشون” سيدفعون الجميع إلى حرب واسعة النطاق؛ إذ لو استطاعت الفصائل السنية في سوريا أن تؤسس كيانًا شبه مستقر على شاكلة الأكراد، سيجد السنة في العراق متنفسًا طال انتظاره ومساحة حركة في الشرق السوري بديلًا عن الجنوب العراقي؛ مما قد يتطور تحت ضغط ظروف معينة لإعلان دولة سنية حدودها سوريا الحالية والشرق العراقي السني، وهذه خطوة ستؤدي إلى نفس نتائج ارتفاع مستوى رعونة الإيرانيين.
يبقى أن نستذكر وجهة النظر الدينية التي تتبناها كل التيارات اليمينية من الأطراف المتصارعة التي تتحدث عن ديمومة حتمية الصراع وتؤكد أن الجهاد أو الحرب المقدسة في هذه الأرض، أرض الشام، باقٍ إلى قيام الساعة، والحرب مستمرة كلما خمدت ستستعر من تحت الرماد أقوى مما كانت عليه.
أما من ناحية إنسانية، فإني آسف لكل قطرة دم تراق في هذه المعارك، وأتمنى لو تنتهي مآسي الشعوب التي تقطن المنطقة في أقرب وقت ممكن، وأحمل مسؤولية الدماء المراقة إلى كل تلك الجماعات الإقليمية والمحلية التي لم تعد تستطيع التمييز بين الهدف الأسمى والأهداف المرحلية.
المصدر: موقع التقرير