نتعرف في هذا الفصل على موقف الصحابة من الخمر الذي كان هو و الميسر من الامراض الاجتماعية التي ضربت يثرب و تغلغلت في احشائه . و قد كان الرسول يدرك ان الخمر تؤذي و تنقص من مروءة و شرف الرجل و تدفع به الى ممارسات تسئ الى سمعته ، بالإضافة الى انها توهن قوته و كفاءته ، لكن لكونها متمكنة من نفوس الصحابة فإن الوحي نزل بتحريمها على مراحل و ليس دفعة واحدة . يوضح الكاتب انه بسبب شجار حدث بين سعد بن ابي وقاص (من المهاجرين) و عتبان بن مالك (من الانصار) نزلت الاية :” يا ايها الذين امنوا انما الخمر و الميسر و النصاب و الازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر …” (سورة المائدة الاية 90-91) تحرم الخمر فأمر ابو طلحة خادمه انس بن مالك بتكسير دنان الخمر. و الواقع اننا نجد صعوبة في هضم هذه الرواية لان الاية نزلت باجتناب الخمر لا بتحريمه و شتان ما بين الامرين الشيء الذي دفع الفقهاء الى اعتبار الاجتناب اشد من التحريم رغم ان الاجتناب هو امر مخفف بينما التحريم امر مشدد ، ثم ان الاية التالية التي سنوردها لا تدعم موقف الفقهاء المتشدد من الخمر و هي :” قل لا اجد في ما اوحي الي محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة او دما مسفوحا او لحم خنزير فإنه رجس او فسقا اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ و لا عاد فإن ربك غفور رحيم ” (سورة الانعام الاية 145) . كما يتضح من الاية فإن الخمر لم يذكر في لائحة الاطعمة المحرمة و هو ما يجعل الاجتناب لا يرتقي الى مرتبة التحريم . و عليه فاننا نتحفظ على فكرة تحريم الخمر في المجتمع الاسلامي في عهد الرسول .
ننتقل بعد ذلك الى دراسة ردود افعال الصحابة بعد نزول الامر بالاجتناب لنرى فعلا هل اجتنبوا الخمر ام لا . يوضح الكاتب ان الصحابة انقسموا الى ثلاث فرق و هي فريق المتعاطين و المتعودين الذين كفوا عن تعاطيه ثم فريق المعتمدين الذين التفوا حول نص الاية بالتخفيف من حدة الكحول عن طريق اضافة الماء اليه او اعتبار ان اية التحريم او الاجتناب ارتبطت بظروف خاصة لم يعد لها وجود و هو ما يؤدي بنا الى قيام نظرية تاريخية النصوص اما الفريق الثالث المدمن على الخمر فلم يمتنع رغم توقيع الحد عليه عدة مرات لهذا فقد استمر بعض الصحابة يشربون الخمر وراء الابواب المغلقة و هو ما كان يدفع عمر بن الخطاب الى التجسس عليهم و مداهمتهم بشكل مفاجئ مثلما فعل مع ابي محجن الثقفي .
لقد كان حضور الخمر في حياة الصحابة من القوة و الجبروت ان جعلهم يطوعون النص لصالح الواقع و الامثلة كثيرة.
فها هو الصحابي قدامة يلتف على اية الاجتناب باستعماله الاية التالية (ليس على الذين عملوا الصالحات جناح فيما طعموا اذا ما اتقوا و امنوا وعملوا الصالحات )(سورة المائدة الاية 93) لكن العباس رد عليه بان الله انزلها عذرا للماضين لمن شربها قبل ان تحرم . اما الصحابي ابي طلحة الانصاري فشرب نبيذ الزبيب و التمر على اعتبار ان الرسول نهى عن ذلك للعوز في ذلك الزمان (احكام القرآن للجصاص) ما يجعلنا نعتبر هذا الصحابي احد رواد نظرية تاريخية النصوص .
ويورد الكاتب بضعة امثلة توضح ان كبار الصحابة تعاطوا الخمر ، فحسب ما جاء في كتاب احكام القرآن للجصاص نجد ان عمر بن الخطاب جلد اعرابيا شرب من الشراب عينه الذي كان يتناوله عمر ! و ان بن عمر كان هو ايضا يشرب النبيذ الشديد اقتداء بابيه و كذلك فعل عبد الله بن مسعود و ابو الدرداء و بريدة و اخرون (نفس المصدر السابق) و ان علقمة شرب عند عبد الله بن مسعود نبيذا مشتدا صلبا و كذلك علي بن ابي طالب الذي كان يشرب نبيذا مشتدا كان يعتاده (المبسوط للسرخسي) .
وننهي هذا الفصل بالحديث عن المدمنين من الصحابة الذين عجزوا عن الاقلاع عن شرب الخمر كأبي محجن الثقفي الذي جلده عمر ابن الخطاب عدة مرات دون جدوى ثم نفاه الى جزيرة في البحر و قد انشد في حبه للخمر قائلا :
اذا مت فادفني الى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
و لا تدفني بالفلاة فانني اخاف اذا ما مت الا اذوقها
و هناك الصحابي نعيمان بن عمرو الانصاري الذي شهد العقبة وبدرا و كان يشرب الخمر و عاقبه النبي مرارا على ذلك دون ان يقلع عنها . و من النساء الصحابيات كانت هناك ام سليم التي كانت تشارك زوجها ابي طلحة في شرب الخمر و توافقه على رأيه بتاريخية اية الاجتناب و انها جاءت وقت العوز .
يعد هذا الفصل اكثر الفصول اضطرابا من الناحية النقدية في مؤلف شدو الربابة.
يصر خليل عبد الكريم على منهجه الازهري المؤمن بصدق الرواية لمجرد ان سندها صحيح علما ان ابن خلدون نفسه رفض هذا المنهج و اعتبره نقدا خارجيا و نادى بنقد داخلي سماه المطابقة اي مطابقة الرواية او الخبر مع الواقع و امكان حدوثه . يصر خليل عبد الكريم على عقلنة اللامعلقن فتذهب تحليلاته ادراج الرياح.
اوضح الكاتب ان هناك صحابة امنوا بوجود الغيلان و قد استند في ذلك على كتب القزويني و ابن كثير .
فمثلا ذكر القزويني ان عمر بن الخطاب راى الغول في سفره الى الشام قبل الاسلام فضربه بالسيف ، اما ابن كثير فذكر ان الصحابي ابو ايوب الانصاري كانت الغول تجئ و تأكل من طعامه . مشكلة خليل عبد الكريم انه لجأ الى نقد الصحابة قبل ان ينقد كتب التراث التي يتمسك بها كثيرا بسبب عقليته الازهرية . ان كثيرا من هذه الروايات تنخرط في مدح عمر بن الخطاب كإظهارها لشجاعته في مواجهته للجن و ان الجن بكت عليه عند موته مما يجعلنا نفهم انها موضوعة رغبة من واضعيها في الدفاع عن عمر و اعلاء قدره علما ان نفس الامر ينطبق على علي بن ابي طالب الذي هو ايضا تروى عنه حكايات اسطورية . الغريب ان الكاتب و هو يصر على ان هذه الروايات صحيحة لمجرد انها ذكرت في صحيح البخاري ينسى انه اعترف بكون حديث الرسول عن حفيده الحسن بأن الامة ستتصالح على يده حديثا موضوعا .
لا ينتبه خليل عبد الكريم الى ان اساس علم الحديث مبني على عدالة راويه و مادام الكاتب يطعن في كتابه هذا في عدالة قطاع كبير من الصحابة فهذا يعني ان احاديثهم المروية هي غير صحيحة و بالتالي تسقط نظريته بصحة الاحاديث النبوية المذكورة في الصحاح الستة. يتمثل تناقض خليل عبد الكريم في كونه لا يقبل بفكرة عدالة جميع الصحابة و يقبل في نفس الوقت بصدق احاديثهم .
نعود مرة اخرى الى مسألة الروايات اللاعقلانية التي اغرقنا بها الكاتب في هذا الفصل فيذكر ان النيل في عهد عمرو بن العاص سنة 20 من الهجرة تأخر فيضانه حتى هم اهل مصر بالجلاء عنها ! فارسل عمر بن الخطاب كتابا الى عمرو بن العاص و امره ان يلقيه في النيل الذي ما كان منه عند القاء كتاب عمر فيه الا ان فاض و رغم ان الكاتب يذكر ان المصريين خلال تاريخهم القديم لم يغادروا بلادهم ابدا بسبب انقطاع فيضان النيل الا انه (الكاتب) يثبت الرواية فقط لانها ظهرت في كتب يعتبرها موثوقة رغم ان ابن خلدون اعتبر ان روايات من سبقه من المؤرخين مهما كانت قوة سندها لا يمكن القبول بها ما لم تخضع لقانون المطابقة بل قال صراحة عن هؤلاء المؤرخين بانهم مدلسون .
و يحفل هذا الفصل بالروايات الخرافية التي تجعل الطبيعة و قوانينها الصارمة تحت تصرف الصحابة بفضل دعائهم المستجاب و موقفنا منها هو ان هذه الروايات و ما تحمله من احاديث عن كرامات الصحابة تشي بنفس صوفي غنوصي و عقلية تواكلية ظهرت في العصر العباسي بعد هزيمة المعتزلة و انتصار الاشاعرة . و رغم ذلك ينطلق الكاتب من هذه الروايات لدراسة عقليات الصحابة بينما الاصح هو الانطلاق من هذه الروايات لدراسة البيئة و العصر العباسي الذي كتبت فيه . فكما هو واضح فإن قيم و مفاهيم و عقلية تلك البيئة العباسية انعكست على هذه النصوص حين كتابتها من طرف البخاري و غيره.لذلك نعلن تحفظنا على التحليلات التي قدمها الكاتب في هذا الباب .
ينتقل بعد الكاتب لمناقشة مستوى الصحابة الادراكي فيورد امثلة لسلوك العرب الفاتحين توضح هذا المستوى ، فهم حينما فتحوا بلاد فارس و وجدوا كافورا (عطرا) اعتقدوا انه ملح الطعام فطبخوا به ، ثم ان صحابيا سبا امراة من اسرة غنية فجاءه اخوها يعرض عليه ما يريد من المال لاطلاقها فطلب الف درهم اعتقادا منه ان عشرة مائة هو اكبر عدد ، كما ان عمر كان يدخل يده في عقرة البعير الادبر ليداويه و كان يداوي ابل الصدقة بالقطران و هي تصرفات يعتبرها الكاتب دليلا واضحا على بداوة الصحابة و بعدهم عن الحضارة و قبل ان نحدد موقفنا من هذا التحليل نود ان نشير الى تناقض وقع فيه الكاتب ، فهو في بداية الكتاب يرفض فكرة ارتداء عمر بن الخطاب لباسا مرقعا و يورد ان عمر كان ثريا و الدليل على ثراءه انه دفع اربعين الف دينار / درهم لام كلثوم ابنة علي بن ابي طالب كمهر لها ، لكن الكاتب في اخر الكتاب يقبل برواية تقول : و رأى ابو عبيدة عمرا في ثوب مرقع فقال له : يا امير المؤمنين لو ركبت بدل بعيرك جوادا و لبست ثيابا بيضاء لكان هذا اعظم في عيون الروم. فقال : نحن قوم اعزنا الله بالاسلام فلا نطلب بغير الله بديلا .
اما بخصوص معالجة الكاتب للمستوى الادراكي لدى الصحابة فإننا نرى انها ليست صائبة، فهو ينطلق من تصرفاتهم وسلوكياتهم البدوية ليبرهن على تدني مستواهم الادراكي كأن يأكلوا الكافور و هم يحسبونه ملحا و ان يستمر ابي بكر في حلب نوق الجيران وبيع القماش حتى بعد تنصيبه خليفة او ان يجهل صحابي عددا اكبر من عشر مائة، في حين أن هذه الامثلة التي ساقها تدل على بداوتهم لا على بلادتهم او غبائهم أو تدني مستواهم الادراكي، لانه لو كان متدنيا لما تغلبوا على بلاد فارس وهي المعروفة بتاريخها العسكري العريق،
بل على العكس من ذلك عرف عرب الجاهلية و صدر الاسلام بالدهاء و الذكاء. فقد عرف ابا جهل (عمرو بن هشام) بانه حديد الذهن و كان العرب يلجأون اليه لاستشارته كذلك عرف عمر بن الخطاب بقدراته العقلية العالية لذلك منحته قريش منصب السفير في حكومة الملأ الاعلى و هو منصب يوازي في العصر الحديث منصب وزير الخارجية الذي لا يطاله الا شخص يتميز بمستوى ادراكي عال، كما اشتهر ابو سفيان بالحلم و الروية و هو طبع اورثه لابنه معاوية فعدته العرب من الدهاة وكذلك اشتهر عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة بالدهاء . و اشتهرت ايضا قبيلة بني ثقيف بدهاء رجالها لذلك كان العرب يرغبون في مصاهرتهم او حتى سبي نسائهم كما اشتهر في احدى الروايات ليكتسب ابناؤهم خصلة الدهاء و هو ما يعني انهم (العرب) كانوا يؤمنون بقانون الوراثة ويسعون من خلاله الى تحسين نسلهم و هذا دليل على نزوعهم العقلاني القائم على الملاحظة و التجربة.
كما لا ننسى ما قاله ابن خلدون في بدو الصحراء و كيف شرح ان هؤلاء بفضل تغذيتهم البسيطة الخالية من الاخلاط و المعتمدة اساسا على الحليب و التمر و اللحم، فإنهم يكونون اذكى من سكان الحواضر .
يوضح الكاتب أن جيل الصحابة كان جيلا فريدا، حيث كان أول من سمع القرآن من الرسول و شهد معه البدايات وهو يبني دولته و ينشر دينه، فانتقل من رجل يسخرون منه و يرمونه بالحجارة الى رجل يخطبون ودّه و يأتونه طائعين راغبين. لكن هذا الجيل انقلبت أحواله رأسا على عقب بعد أن انتقل من الفقر الى الغنى بعد تدفق غنائم الفتوحات، فانقلبت أحواله و اغترّ أكثره بالدنيا فتقاتل أفراده و تحاربوا و تنافسوا على الملك و السلطان.
لكن و ان كان الكاتب يوظف مشرط النقد لدراسة أحوال الصحابة فانه يهمله حينما يتعلّق الأمر بنقد المصادر المتعلقة بالسنّة النبوية على الخصوص.
فالكاتب يعتبر أنها (السنّة النبوية) نقلت صورة واقعية عن الصحابة، أما القرآن فنقل صورة مثالية عنهم بقوله ’رحماء بينهم’’ وهذا غير صحيح، فالقرآن أيضا تحدث عن المنافقين المحيطين بالرسول ووبخ عائشة و حفصة و نقل غضب الرسول من أزواجه و تردد الصحابة في طاعة الرسول (وهو ما يوضحه تكرر نزول الآيات الداعية لطاعة الرسول) بل وتركه قائما يخطب لوحده.
ومع ذلك فالكاتب يصر على رأيه و يعتبر السنة النبوية ديوان الاسلام و يرفض التشكيك فيها و يضع على رأسها صحيح البخاري و الصحاح الستة ثم موطأ مالك و مسند ابن حنبل و سنن البيهقي و الدارمي و مستدرك الحاكم و معاجم الطبراني (الكبير و الأوسط و الصغير) الخ من المصادر..و يرى أن انكار السنة و الاقتصار على القرآن فقط سيحرمنا من مصدر تاريخي مهم، لكنه لا ينتبه الى ان أحاديث السنة قد امتدت اليها يد التزييف لذلك كان من الأفضل لهم أن يعرض هذه الأحاديث على القرآن و الواقع، ثم يستبقي ما اتفق معهما و يسقط ما تناقض معهما (لا ترفض كلها ولا تقبل كلها) للاقتراب الى حد ما من الحقيقة التاريخية، لكن أن يقبل بروايات تقول أن النار لا تحرق و أن الثور يتكلم و ان الخيل تعبر الفرات ركضا فوق الماء الخ فهذا يضرب مشروعه العقلاني في الصميم.
يعود الكاتب في ختام مؤلفه شدو الربابة للتذكير بأن موضوع كتابه هذا هو على علاقة وطيدة بموضوع كتابه الأسبق قريش من القبيلة الى الدولة الذي عالج فيه الأسباب التي أدت الى تأسيس الدولة القرشية بالمدينة، أما كتاب شدو الربابة فهو دراسة لأحوال مجتمع الصحابة أفرادا و جماعات. لأجل ذلك أمضى الكاتب سنوات طويلة في جمع مادة هذا الكتاب ولم يقتصر فقط على كتب التاريخ بل اعتمد على سائر كتب العلوم الاسلامية ككتب تفسير القرآن و كتب الحديث وكتب أصول الفقه و الكتب التي تناولت الصحابة كمجموعة، مثل كتاب أسد الغابة في معرفة الصحابة و الاستيعاب.
و ذكر بأنه في دراسته للروايات ابتعد عن المنهج التبجيلي و التزم بالمنهج الموضوعي العلمي فلجأ الى تفكيك أحوال مجتمع الصحابة و تشريحه للكشف عن مغاليقه و استكناه غوامضه، ولكن مع ذلك فان الكاتب رغم المحاولات النقدية الطيبة التي أبان عنها كعدم الاستسلام للمنطق التبجيلي الذي يحكم تعامل المسلمين مع تاريخهم وهو الأمر الذي سبق و ان أشار اليه محمد أركون فانه (خليل عبد الكريم) تسامح مع الأسطرة المتفشية في هذه الروايات وهو الأمر الذي نبه اليه محمد أركون باستمرار.
وفي رأينا كان على خليل عبد الكريم أن يتعرف على مناهج أركون النقدية والابستمولوجية قبل الشروع في مؤلفه هذا.
ومع ذلك نتفق مع خليل عبد الكريم في كون مؤلفه هذا هو حلقة في سلسلة من الكتب التي سبق له تأليفها لتنوير الفكر العربي الاسلامي وتجديده، نذكر منها :
– الجذور التاريخية للشريعة الاسلامية
– قريش من القبيلة الى الدولة المركزية
– الاسلام بين الدولة الدينية و الدولة المدنية
– العلاقة بين الرجل و المرأة في مجتمع يثرب في العهدين المحمدي و الخليفي
ان هذا العمل يندرج في اطار التمرد على اللا مفكر فيه و ازالة القباب المقدسة التي تحجب عن العقل الاسلامي منافذ النور عن طريق الكشف عن الصور المزيفة التي تكونت لدينا عن مجتمع الصحابة، وهي صور قامت على دعامة تقديس الأشخاص ونفي العقل و ازدرائه، فأدى ذلك الى تخلف العقل العربي و الاسلامي و غرقه في التكرار والاجترار .
يشير الكاتب الى ان المنهج السائد في العصر الاسلامي الكلاسيكي الذي امتد الى حدود القرن الرابع الهجري لم يكن قائما على تقديس الصحابة بل كان مفكرو المعتزلة لا يتهيبون من نقد الصحابة و تفضيل بعضهم على بعض و تحديد مواقفهم منهم في الفتنة الكبرى و ما تلاها من أحداث دامية، ولذلك اعتبروا أن كل الصحابة عدول الا من قاتل عليّا. وهو موقف نقدي أفضل بكثير من موقف فقهاء السنة المعدلين لكل الصحابة صالحهم و طالحهم في استغباء واضح للمسلمين.
لقد تجادل المسلمون و أصحاب الديانات و المذاهب الأخرى في هذا العصر في جميع المواضيع الشائكة دون خوف أو وجل، فتناولوا مواضيع من قبيل الالوهية/الربوبية و الصفات و أزلية العالم و القضاء و القدر الخ.. و كتب في هذا المجال على سبيل المثال الرازي و ابن الراوندي و ابن طالوت و رد عليهم الجاحظ و الفارابي و الكندي و غيرهم دون أن يصادر أحدهم حق الآخر في التفكير.
و يختم خليل عبد الكريم كتابه بفكرة مبدعة (نتفق معه فيها) و هي اعتبار عصر السلف الصالح هو عصر المعتزلة لا عصر الصحابة، و انه هو الذي يجب أن نعود اليه و ذلك من خلال نزع القداسة و العصمة من أي شخص عدا محمد و الانعتاق من هيمنة النقل و سطوة النصوص الثانوية و تسييد حاكمية العقل المطلق و ذلك من اجل الخروج من محبس الأوهام و الخرافات و الأساطير.
يطرح السؤال بعد هذه الجولة الطويلة مع خليل عبد الكريم في عالم الصحابة حول انتهاء هذا العمل أم لا. هل أجاب شدو الربابة عن كل التساؤلات المفترضة عن تاريخ صدر الاسلام أم لا ؟ هل سيصبح الحديث بعد كتاب خليل عبد الكريم عن الصحابة مستهلكا أم ان عمله هو فاتحة لأعمال نقدية أخرى تسلط مزيدا من الضوء و التنوير على المناطق المعتمة من العقل الاسلامي؟ .
نرى من جانبنا أن شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة هو محاولة نصف موفقة لسبر أغوار الايديولوجيا السنية. فكما سبق و أشرنا، فان الكاتب لم يتحرر تماما من سلطة هذه الايديولوجيا باعتماده لنصوص تشع أسطرة، لذلك فهذا العمل الذي نعترف بأنه رائد هو بداية مشروع نقدي يهدف الى تنقية التراث الاسلامي و اعادة ترتيبه و تركيبه من جديد.
ان الغوص مرة اخرى في عالم الصحابة بأدوات منهجية أفضل و أكثر احترافية، سيمكننا ليس فقط من ازالة هالة القداسة عن الصحابة و بالتالي التحرر من سلطة اللا مفكر فيه بل أيضا اعادة كتابة التاريخ الاسلامي من جديد، تاريخ نفهم منه لماذا ظهر الاسلام و ماهي الاشكاليات التي واجهها و كيف تعامل معها.
ان الدارس لتاريخ الصحابة يجب أن يعلم أنه أمام تاريخ ديني مؤدلج يهدف الى تحقيق أهداف سياسية بحتة لطبقة حاكمة بأساليب دعائية دينية . هذا التاريخ تبلورت كتابته بالأساس في العصر العباسي الثاني و ما لم نضع في حسباننا الاشكاليات السياسية لهذه الفترة للدولة العباسية و منهم خصومها و منهم أنصارها و انعكاسات ذلك على عملية تدوين التاريخ الاسلامي، و دون الوعي بكل هذه التعقيدات تصبح أي عملية نقدية لهذا التاريخ ضربا من العبث .
ان التاريخ، بل كل التراث الاسلامي الذي بين أيدينا هو باختصار ايديولوجية الطبقة الحاكمة. وهي طبقة ارتضت لنفسها نمط الاقتصاد الاقطاعي، وهو اقتصاد راكد (بتعابير علم الاقتصاد الحديث) و لأنه راكد فان البنية الفوقية المنبثقة عنه ستدعو الى الحياة الراكدة، ممجدة في ذلك العالم الاخروي و عالم الأجداد الصافي المثالي الهانئ .
وبالتالي يصبح هدف كل حركة تنويرية هو انتاج ايديولوجية معاكسة تعبر عن مصالح الطبقة المحكومة فترى أن الحل يكمن في الاقتصاد المتحرك النامي، اقتصاد لا يعتمد على الغزو بل على الزراعة و الانتاج وهو ما سيؤدي الى انبثاق بنية فوقية ثقافية تمجد النشاط المركز بدلا من الابتهال الى الله (كما قال ماكس فيبر)، وتمجد كذلك الديموقراطية والعقلانية و المساواة و حقوق الانسان ضمانا لسلامة العملية الانتاجية .
ان مشكلتنا الأساسية كعرب و مسلمين هو ان التاريخ يمسكنا بدلا من أن نمسكه.
بعبارة أخرى نحن العرب لا نملك الوعي التاريخي، أي لا نملك وعيا بالمسار التاريخي الذي اتخذناه منذ 14 قرنا، ولذلك نكرر نفس الأخطاء و نفس التخلف.
لهذا تبقى مهمة المؤرخ العربي مهمة جليلة لايجاد هذا الوعي، فالتحرر من سلطة التاريخ العباسي و الايديولوجيا السنية السلجوقية البدوية، فالخروج من الروح المغترب عن ذاته الى الروح المتيقن من ذاته (كما قال هيجل ). وآنذاك تبدأ عجلة تاريخنا الحقيقي لا المزيف بالدوران .
كلمات مفتاحية