ينتقل الكاتب في هذا الجزء من مؤرخ الى عالم اجتماع ، و كأننا هنا امام دراسة سوسيولوجية لمجتمع يثرب . محاولة و ان اقررنا انها مثيرة و رائدة ، الا اننا لا نوافقها تماما فيما انتهت اليه . فالكاتب في نظرنا ارتكب اخطاء منهجية باعتماده لما جاء في المصادر التراثية دون تمحيص او بتقديمه لخلاصات و استنتاجات هي في نظرنا غير صائبة و غير دقيقة .
إن هدف الكاتب الاساسي هو عقلنة التاريخ الاسلامي في لحظته التأسيسية الاولى و ذلك من خلال العمل على عقلنة نظرتنا الى عالم الصحابة المبجل بنقدهم نقدنا تاريخيا علميا ، و لكن كان عليه و هو ينفذ هذه المهمة أن يعي ان نقد عالم الصحابة من خلال ما جاء عنهم في كتب التراث يستلزم قبل ذلك نقد هذه الكتب نفسها نقدا علميا . إن عقلنة نظرتنا لعالم الصحابة تستلزم قبل ذلك عقلنة نظرتنا لتراثنا الاسلامي المكتوب و الذي مر عبر القناة الاموية و العباسية (مدرسة المدينة و مدرسة بغداد) و بالتالي فإن ما وصلنا عنهم يتميز اولا بالنقص (لانه تعرض لمقص الرقيب الاموي و العباسي) و ثانيا بالاصطباغ بصبغة العصر الذي كتب فيه ، خصوصا العصر العباسي و هو ما سنوضحه فيما يلي من الفقرات . كما ان الكاتب قدم قراءات و تحليلات لما حصل في عهد الصحابة لم نوافقه على كثير منها ، لانه في راينا شأنه شأن كثير من الكتاب المعاصرين تسرع في تقديمها ، بينما يستلزم تاريخنا المعقد و المتشابك تأنيا أكبر .
لقد تناول الكاتب في هذا الجزء خطة الرسول لخلق الانسجام بين افراد دولته الناشئة في المدينة و الازمات التي اعترضته و كيفية تعامله معها ، كما تناول تفاعل الصحابة فيما بينهم و علاقتهم مع الخمر كأحد الظواهر الاجتماعية و نظرتهم للطبيعة و مستواهم الادراكي. و نحن كما قلنا نرى الكاتب قد توفق في اشياء و اخفق في اخرى .
يوضح الكاتب انه حينما شرع محمد في نشر دعوته و ما تضمنته من ثورة على قيم المجتمع القرشي المبنية على الاستضعاف و الاستكبار ، كان شيئا طبيعيا ان يواجه مقاومة عنيدة من طرف صناديد قريش المترفين الاقوياء ، لذلك حول اتجاهه نحو الطائف . لكن ردهم عليه كان سيئا فما كان منه الا ان توجه هذه المرة نحو يثرب التي كان لها استعداد كبير لتقبل دعوته نظرا لكون قبيلتي الاوس و الخزرج اليمنيتا الاصل كانتا تجاوران اليهود و بالتالي سمعتا منهم فكرة النبي المنتظر او الملخص المسطرة في كتبهم ، لهذا اجتمع للنبي في بني قيلة (الاوس و الخزرج) تأثرهم بأفكار الديانة اليهودية المتواجدة في يثرب و خؤولتهم له عن طريق بني النجار بالاضافة الى اصلهم اليمني المشهور عنه رقة العواطف و نزعته الوجدانية على عكس اهل مضر ذوي الطبع المادي الجاف . لهذا كان طبيعيا ان يسري التيار بين النبي و بني قيلة اليثاربة التي سيتحول افرادها الى اشد المخلصين لهذا الدين الجديد و سيسمون بالانصار .
يوضح الكاتب كعادته في تبديد الاوهام التراثية ان ما ذكر عن استقبال النبي بالأهازيج و الاناشيد من طرف النسوة و الاطفال غير صحيح و غير مذكور في كتب السيرة التراثية المعتمدة مثل سيرة بن هشام و السيرة الحلبية و السيرة النبوية لابن كثير ، و لكن الذي حدث هو ان النبي دخل المدينة تحت حراسة كثيفة من اتباعه . ” فلم يملك اليهودي ان قال بأعلى صوته : يا معشر العرب (و في رواية غيره :يابني قيلة ) هذا جدكم (اي حظكم) الذي تنتظرون . فشار المسلمون الى السلاح فبلغوا رسول الله بظهر الحرة ..و في لفظة اخرى ، فاستقبله زهاء خمسمائة من الانصار) (السيرة الحلبية).
اذن كما يتضح من كتب التراث المعتمد فإن الرسول دخل المدينة و هي تموج بالتيارات المتعارضة ما بين مرحب به و رافض له . و قد مثل المعارضة السياسية للرسول عبد الله بن ابي بن سلول الخزرجي الذي كاد ان يصير ملكا على الاوس و الخزرج لولا قدوم محمد و قد عرف برأس المنافقين . اما المعارضة الدينية فمثلها ابو عامر بن عمرو بن صيفي بن النعماني الاوسي الملقب بالراهب و قد رفض الاعتراف بنبوة محمد و فارق يثرب و معه خمسون رجلا من رهطه و شارك في التحزيب ضده فلقب بالفاسق .
كان على النبي امام هذا الوضع المتلاطم بين مرحب به و رافض له ان يعمل على تمتين الجبهة الداخلية لذلك كان اول قرار اتخذه هو المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار . و يلاحظ الكاتب ان الرسول راعى المكانة الاجتماعية في هذه العملية ، فآخى بين عثمان بن عفان و اوس بن ثابت ، الاول من بني امية و الثاني من بني النجار اخوال محمد في يثرب كما آخى بين خباب بن الارت الذي كان مولى لامرة تسمى ام انمار و بين تميم مولى فراش بن الصمة . و راعى ايضا المستوى المالي في الاعتبار فآخى بين عبد الرحمان بن عوف و سعد بن الربيع و كلاهما ثريان . و اوضح الكاتب ان الهدف الذي كان من وراء سياسة المؤاخاة هو : اختلاط المهاجرين و الانصار ، فيحدث الانسجام بينهما بدلا من الاستقطاب ، مما سيسمح بتغلغل المهاجرين في ثنايا المجتمع المديني و قدرتهم على رصد انشطة المعارضين و نقلها للرسول ، بالاضافة الى ان المؤخاة ستساهم في اعالة المهاجرين نظرا لما عرف عن الانصار من كرم ايثار . لكن الكاتب يشتط في تحليلاته حينما يعتبر ان مؤاخاة الرسول بين المهاجرين (اهل الحرم) و بين الانصار كانت مأثرة من طرفه اتجاههم (الانصار) جعلتهم يشعرون بالفخر مما رفع معنوياتهم و جعلهم يستميتون في القتال ! كما يخطئ مرة اخرى حينما يعتبر ان الدولة التي اسسها الرسول في المدينة كانت للقرشيين و ان الانصار لم ينتبهوا لذلك نظرا لطيبة قلبهم ! و هي فكرة يرددها كثير من الباحثين و اشهرهم سيد قمني في كتابه (الحزب الهاشمي) . ان السياسة تبنى على المصالح و مادام اليثاربة قد استقبلوا الرسول فلأنهم رأوا ان مصالحهم العليا تتوافق مع ذلك . لقد كانت يثرب هي غريمة مكة و ما يمكن قوله في هذا الصدد هو ان يثرب استقبلت الرسول و المهاجرين معه في اطار سياسة تمثلت في احداث انشقاق في قريش و ضربها بأبنائها . لكن الكتاب العرب و منهم خليل عبد الكريم مازالوا سجناء المركزية القرشية . و نعود لموضوع المؤاخاة و نطرح السؤال التالي : هل أثمرت المؤاخاة ثمرتها ؟
يجد المتتبع لأحوال المهاجرين و الانصار ان المؤاخاة لم تسهم في تقريب الشقة بين الطرفين بل ظلت التمايزات واضحة بينهم كما تبينه هذه الرواية. ” قال عمار ياسر : كان مسجد الانصار يسلمون فيه تسليمتين و كان مسجد المهاجرين يسلمون فيه تسليمة واحدة ” (الشرح الكبير للمقدسي) . بل ان هذه التمايزات تطورت احيانا الى احتكاكات حاول خليل عبد الكريم تقديم تفسير لها بالقول بان دوافعها تعود الى التنافس القديم بين المدينة و مكة الذي لم يشجع على الاختلاط بين الفريقين و هو ما يدحض فكرته حول تعظيم اليثاربة للقرشيين لأنهم اهل الحرم و ان كثيرين من اليثاربة اصيبوا بالاحباط عندما تهاوى مشروع تنصيب عبد الله بن سلول ملكا على يثرب (في الواقع هؤلاء يمثلون جماعة المنافقين بقيادة بن سلول) و قصر محمد مستشاريه على القرشيين الذين هم العشرة المبشرين و نحن لا نصدق هذه الرواية و نرى انها موضوعة مادام ان التاريخ الاسلامي وصلنا عن طريق الامويين لا عن طريق الانصار و ان العمالات ذات الخطر كالولاية على المدينة اثناء غيابه كان يمنحها للمهاجرين باستثناء اول مرة كان قد منحها لسعد بن عبادة و نحن نرد على خليل بأن هذه العمالات لم تكن ذات اهمية في نظر الصحابة بدليل ان عليا نفر منها و قال للرسول : اتتركني مع النساء و الاطفال ؟ . اننا نتفق مع الكاتب في كون الانسجام لم يحدث بين المكاوكة و اليثاربة و خير دليل على ذلك هو الحادثة التي وقعت بعد غزوة بني المصطلق حينما تنازع المهاجرون و الانصار و حاول عبد الله بن ابي بن سلول استغلال الحدث و تفجيره لولا ان الرسول تدارك الموقف و امر الناس بالرحيل لكننا نعلن تحررنا من المركزية القرشية فلا نصدق الروايات التي تدعي ان الرسول كان يفضل المهاجرين على الانصار و انه كان يؤسس لدولة قريش في المدينة دون ان ينتبه الانصار لذلك لانها غير واقعية و عبد الله بن ابي بن سلول و جماعته كانوا كفيلين بفضح هذا المخطط . كل ما يمكن قوله هو ان المهاجرين ربما بسلوكياتهم و تصرفاتهم كانوا ينفرون الانصار منهم اما عن حكاية تفضيل الرسول للقرشيين فتدحضها دعوته لحسان بن ثابت بهجو قريش اقذع الهجاء و هو امر متوقع في ظل الحرب النفسية المستعرة بين الطرفين و يناقض ذلك الحديث الموضوع القائل بأفضلية قريش و الروايات التي تدعي بان الرسول كان يغضب ممن يتهجم على هذه القبيلة .
لقد ظل الاستقطاب واضحا في المجتمع المديني بين الانصار و المهاجرين حتى وفاة الرسول و هو ما توضحه هذه الرواية : ” فبعد خطبة سعد بن عبادة و رد ابي بكر عليه قام الحباب بن المنذر فقال : يا معشر الانصار املكوا عليكم امركم فإن الناس في فيئكم و ظلكم و لن يجترئ مجترئ على خلافكم و لن يصدر الناس الا عن رايكم ، انتم اهل العز و الثروة و اولي العدد و المنعة و التجربة ذوو البأس و النجدة ” تاريخ الطبري . كما هو واضح فإن كلمات المنذر بن الحباب توضح انه اذا لم يذعن المهاجرون لقرار تولية سعد بن عبادة فسيرغمونهم على ذلك بالقوة مما يبين ان التنافر كان شديدا بين الطرفين و بالتالي يمكن القول ان سياسة المؤاخاة من طرف الرسول لم يكتب لها النجاح .
تستمر كاميرا خليل عبد الكريم في التجول داخل اروقة المدينة و توضح لنا مواقف الصحابة من يهود يثرب . يذكر الكاتب ان اليهود سبقوا الاوس و الخزرج في الاستقرار بيثرب و عندما قدم بنو قيلة استقروا بجانبهم و عمروا واحات قديمة و اخرى جديدة و ان اليهود فرقتان : فرقة نزحت من فلسطين و فرقة ارخى عبارة عن عرب تهودوا . و يذكر الكاتب بأن الاثاربة لهم سابقة في اعتناق ديانة النازحين الى بلدهم و استدل على ذلك بالعرب الذين تهودوا لكن هذا قول غير دقيق لان النازحين هنا هم العرب و ليس اليهود ، لأن يهود فلسطين هم اول من استقر بيثرب . اذن يصبح القول الصحيح هنا هو ان الاثاربة العرب لهم سابقة في اعتناق ديانة توحيدية سماوية حينما نزحوا الى يثرب و وجدوا اهلها اليهود على تلك الديانة . و هذه الواقعة التاريخية (اعتناق عرب يثرب للديانة اليهودية) توضح ان عرب يثرب لهم القابلية لاعتناق دين سماوي على عكس عرب قريش الوثنيين .
و قد حاول الكاتب ان يقدم تفسيرا لاسلام عرب بني قيلة بينما فشل اليهود في ضمهم الى ديانتهم فقال بان محمد عربي و كذلك بني قيلة ثم ان له اخوالا في بني النجار احد بطون الخزرخ بالاضافة الى شخصيته الكاريزمية و انه نبي و ليس حبرا ثم ان الدخول في ديانته كفيل بأن ينسي الاوس و الخزرج عداوتهما و ان النبي اسس دولة بجانب تبشيره بديانته في حين فشل اليهود في ذلك (اقامة الدولة). لكن مع ذلك لا يمكن الجزم بخصوص الاسباب التي اقنعت الاوس و الخزرج بالدخول في الاسلام بدلا من اليهودية ، فالابحاث في هذا المجال ما زالت في بدايتها خصوصا مع تجاهل المصادر التاريخية للانصار ، فلاشيء يمنع ان يكون الانصار قد تهودوا بكاملهم قبل الاسلام ثم عند ظهوره تحولوا اليه بل قد يكون التشابه الكبير بين الديانتين هو الذي سهل اقناعهم بالتحول الى الاسلام و تصديق الرسول كشخص ينزل عليه الوحي على عكس قريش الوثنية التي لم تر في الرسول الا مجنونا مسحورا.
و بخصوص العلاقة بين الاوس و الخزرج من جهة و اليهود من جهة اخرى فإنها لم تكن على ما يرم بل حصلت بينهم حروب و نزاعات انتهت بانتصار بني قيلة على بني النضير و قريظة باستعانتهم بملك غسان ، لهذا عند وصول المهاجرين الى المدينة كانت الغلبة للاوس و الخزرج على اليهود الذين لجأت بطونهم الضعيفة الى ربط الاحلاف سواء مع الاوس او الخزرج بينما استقل كل من بني قريظة و بني النضير بذاتهم نظرا لقوتهما و حصونهما . لكن رغم ما جرى بين عرب يثرب (الاوس و الخزرج) و اليهود من حروب ، فإن الطرفان تعايشا فيما بينهما و ربطا علاقات وطيدة . ذلك ان الانصار كانوا يقدرون ديانة اليهود على اعتبار انهم اهل كتاب و قد بلغ من متانة هذه العلاقات ان كان الانصار يودعون اولادهم عند اليهود يسترضعونهم و ينشأون عندهم على اليهودية التي لم يروا بأسا في اعتناقها من طرف ابنائهم . لذلك حينما صدرت اوامر محمد باجلاء يهود بني النضير و عاد اطفال الانصار الى ذويهم رفض هؤلاء الاطفال تغيير ديانتهم اليهودية فنزلت الاية تسمح باحتفاظهم بدينهم :” لا اكراه في الدين” .
و عمل الرسول على ادامة هذا التعايش فكتب وثيقة حينما استقر بالمدينة حدد فيها علاقة المسلمين باليهود و قبائلهم على اساس التعايش و التساكن و عدم التحالف مع العدو لكن القبائل اليهودية ممثلة في بني القينقاع و بني النضير و بني قريظة اخلت بهذا التعايش فتعرضت لعقاب الرسول المتمثل في الاجلاء عن المدينة بالنسبة لبني القينقاع و بني النضير و القتل و السبي بالنسبة لبني قريظة و فيما يخصنا فإننا نتحفظ على الرواية الخاصة بذبح افراد بني قريظة لانها غير واقعية فهي تخبرنا ان ستمائة يهودي استسلموا لقرار الذبح الصادر عن الرسول دون مقاومة رغم كونهم اقوى القبائل اليهودية من الناحية العسكرية . ان قبيلة محاربة كبني قريظة ستحارب بشراسة اذا علمت انه لا منجاة لها من الموت لتوقع اكبر الخسائر في عدوها لا ان تستلم بهذه الطريقة . و لهذا في العلوم العسكرية ينصحون القادة العسكريين بترك منفذ يفر منه الخصم لانه في حالة العكس سيقاتل قتال اليائس من النجاة و هو قتال يتسم بالانتحارية و يجعل انتصار الفريق الاخر مكلفا .لذلك نرى ان العقاب الذي تعرض له بنو قريظة لا يختلف عن العقاب الذي تلقاه بنو قينقاع و بنو النضير و ان التغيير الذي حصل على هذه الرواية يعود الى العصر العباسي لاهداف معينة .
فيما يخص العلاقات بين المهاجرين و اليهود فإنها لم تكن على ما يرام لان كل واحد منهما كان يبشر بديانة سماوية . ثم ان كلا اليهود و المهاجرين كانوا يمتهنون التجارة فقامت المنافسة بينهما بقوة . كما قامت المنافسة بين اليهود و العرب في المجال الديني باعتبارهم اصحاب اول ديانة سماوية و توفرهم على كتاب مقدس و معهد علمي ديني (مدارس او مدراس لان الكاتب يذكر اللفظين معا) بيثرب و كان فيهم احبار على قدر كبير من العلم كما وصفهم القرآن ( أولم يكن لهم اية ان يعلمه علماء بني اسرائيل ) 197 سورة الشعراء . و قد كان هؤلاء الاحبار دائما يدخلون في مجادلات عقائدية مع محمد تروم التشكيك في نبوته و نذكر منهم على سبيل المثال : عمر بن جحاش ، كعب بن الاشرف فنحاص ، الربيع بن ابي الحقيق ، كنانة بن الربيع و آخرون .. و قد قاموا بمساجلات فكرية و عقائدية مع النبي بحيث شغلت من وقته حيزا كبيرا ، لكن هذه المساجلات لم تحفظها لنا كتب الثرات للأسف مما يعطي الدليل على ان كتب التراث لم تحمل لنا كل ما جرى في عهد الرسول بل مارست تعتيما مقصودا على عدد من جوانب حياته .
اما عن الاوس و الخزرج فتذكر المصادر انه كانت بينهم خلافات واضحة وصلت احيانا الى الاقتتال . و قد حاولوا رأب الصدع بينهما بتنصيب عبد الله بن ابي بن سلول ملكا عليهما لكنهم في النهاية فضلوا محمدا عليه . و قد كان لقرارهم هذا المتمثل في احتضانهم للرسول و دعوته ان تحولت مدينتهم الى مركز ثقل الجزيرة العربية مما يعني ان قرارهم هذا كان صائبا على المستوى السياسي لكن الكاتب يقول في معرض تحليله ان الانصار غفلوا عن كون الدولة التي اسسها الرسول لم تكن دولتهم بل دولة قريش ما يعني ان الانصار كانوا مغفلين و هو امر لا يستقيم و نعيد و نكرر و نقول ان الرسول لو كان فعلا يؤسس لدولة قريش في المدينة و يعتزم اقصاء الانصار عنها لفضحه المنافقون و المعارضون لوجوده بها من اليثاربة و على رأسهم عبد الله بن ابي بن سلول . اذن المنطقي هو ان الرسول قدم ضمانات كافية للانصار بان الدولة دولتهم (بدليل انه عند فتح مكة ظلت عاصمة الدولة الاسلامية هي المدينة ) و هو ما جعلهم لا يلتفتون لتحريض عبد الله بن ابي بن سلول .
تشير المصادر الى ان الخزرج كانوا اكثر حماسا لدعوة الرسول من الاوس . فمثلا بيعة العقبة الاولى حضرها اثنان من الاوس و عشرة من الخزرج و العقبة الثانية حضرها احد عشر اوسيا و اثنان و ستون خزرجيا . كما ان المعارضين/ المنافقين للرسول من اليثاربة كانوا من الاوس اكثر من الخزرج الذين كان منهم اخواله بني النجار. و لقد لاحظ الرسول ان العلاقات بين الاوس و الخزرج لم تكن على ما يرام فحاول التأليف بينهم دون جدوى . كل ما حدث هو ان العداوة بينهما تحولت الى منافسة على خدمة الرسول ، فمثلما قتل الاوسيون كعب بن الاشرف قتل كذلك الخزرجيون ابن ابي الحقيق . لكنها مع ذلك لم تخفت و ظلت تستعر تحت السطح و تظهر من حين لاخر مثلما حصل من تلاسن حاد بين اسيد بن حضير احد زعماء الاوس و بين سعد بن عبادة احد زعماء الخزرج في المسجد بحضور الرسول حينما قال لهم من يعذرني من رجل قد بلغني عنه اذاه في اهلي. ثم ظهرت هذه الخلافات بوضوح يوم بيعة السقيفة حيث فضل الاوسيون بزعامة اسيد بن حضير مبايعة ابا بكر القرشي على مبايعة سعد بن عبادة الخزرجي مما يوضح ان الضغائن التي كانت بين هذين الحيين من قبيلة بني قيلة لم يمحها الاسلام و بدورنا نضيف ان قريش استطاعت ان تسيطر على الدولة الاسلامية الناشئة لا لأن الرسول كان يؤسس لها هذه الدولة في المدينة في غفلة من الانصار بل لان قريش استطاعت ببساطة اللعب على تناقضات المجتمع الاوس خزرجي فضمت الاوس اليها و حاصرت الخزرج و حرمت سعد بن عبادة من خلافة الرسول فضاعت جهود الانصار منذ اول لقاء لهم مع الرسول هباء منثورا.
ننتقل مع الكاتب بعد ذلك الى الحديث عن قريش و بني هاشم . يوضح الكاتب ان العرب كانت تعظم قريش التي تميزت بفضل رجالها الاذكياء في التجارة و الحرب و السياسة و الادارة و شؤون الحكم و الخطابة و البلاغة و الشعر ، كما أن نساءها تميزن بالجمال و الملاحة و يوضح الكاتب ان محمدا ظل بارا بقبيلته و فخورا بتفوقها و علو كعبها بدليل انه عارض قولة احد الانصار عقب معركة بدر حينما قال ” ما ضربنا الا بدنا صلعا” فرد عليه الرسول أنه لو قاس فعاله بفعالهم لادرك سمو قدرهم ، و الواقع ان هذا الرد من الرسول لا يمكن اعتباره اعجابا منه بقريش و استمرارا منه على الولاء لها بل فقط دعوة لهذا الانصاري بألا يستهين بخصمه لأن ذلك ليس من الحكمة في شيء ، اما الرسول فإنه كمكلف بالرسالة لا يمكن ان يعجب الا بمن يدخل في دعوته و يستجيب لها و اولهم الانصار لا بمن يقاومها و يحاربها . و لتوضيح هذه النقطة يكفي ان نستحضر الحوار الذي دار بين الانصار و الرسول في بيعة العقبة الثانية، ففي رواية كعب التي رواها بن إسحاق: ثم قال – يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم – : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ، فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال:نعم، والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع أزرنا منه، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر. فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إننا بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنّا قاطعوها – يعني اليهود – فهل عسيْت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم ” . إن الرسول في هذا الحوار يعلن انه قطع صلته بقريش و صار انصاريا و انه لن يتخلى عنهم و بالتي اذا وقف المهاجرون القرشيون ضد الانصار فإنه كما جاء في تعهده سينحاز الى الانصار . لذلك ما تذهب اليه تحليلات الكتاب العرب في ان الرسول كان يؤسس دولة قريش في المدينة نرى انه يدخل في خانة التحليلات السطحية غير المتحررة من المركزية القرشية التي عبرها اتانا هذا التاريخ الذي ندرسه الان . ثم انه اذا كان الكاتب يرى بان دعوة الرسول قامت على المساواة بين الناس و العدالة الاجتماعية و العدل في القضاء و اعلان كرامة الانسان و انها ضربت مصالح قريش و لهذا عادوها و حاربوها فهل من المنطقي ان يترك دولته بعد وفاته في يد هؤلاء فتعود الاوضاع كما كانت من قبل و هو الامر الذي حصل مع الامويين . و لأن الكاتب خاضع تماما للمركزية القرشية فإنه يرى ان الرسول كان يؤمن ايمانا راسخا بأن جزيرة العرب لا بد و حتما ان تلقي زمام امورها بين يدي القرشيين و يستدل بذلك بمجموعة من الاحاديث المادحة لقريش و يتغافل عن كون الاحاديث كانت مجالا واسعا لكسب التأييد السياسي بين الفرق الاسلامية المتصارعة و ان كل فريق كان يصطنع لنفسه الاحاديث التي تزكيه. و ننهي الحديث حول هذه النقطة بالقول انه لو اراد الرسول حفظ مكانة قريش لدى العرب كما يظن الكاتب لما امر شاعره حسان بن ثابت بهجوها هجاء مقذعا و هو يعلم شدة وقع الهجاء عليها الذي يفوق وقع حد النبال على حد تعبيره.
ننتقل بعد ذلك مع الكاتب لتسليط الضوء على بني هاشم . يوضح خليل عبد الكريم ان الرسول حرم الصدقة على بني هاشم و مواليهم ايضا و نظر اليها على انها اوساخ المسلمين تمييزا و تفضيلا لهم عن الاخرين ، لكننا نرد عليه انه فعل ذلك حفظا لكرامتهم و ايضا منعا لهم من استغلال قرابتهم له لأخذ اموال الناس بالباطل . اما عن علاقة الهاشميين بالقرشيين فيوضح الكاتب انها لم تكن على ما يرام و ان القرشيين كانوا يستصغرونهم و يسيئون معاملتهم الشيء الذي كان يغضب الرسول و لهذا دعا اكثر من مرة الى تقديرهم و حسن معاملتهم . و كمثال على استصغار قريش لبني هاشم نورد الرواية التالية : ” عن عبد الله بن عمر قال : انا لقعود بفناء رسول الله (ص) إذ مرت امراة فقال رجل من القوم : هذه ابنة محمد ، فقال رجل من القوم ، ان مثل محمد في بني هاشم كمثل ريحانة وسط النتن ” . يكشف لنا هذا المقطع من الحديث نفسية القرشيين اتجاه بني هاشم و كراهيتهم لهم مما اغضب الرسول كثيرا. و نذكر حادثة اخرى اغضبت الرسول من عمر بن الخطاب هذه المرة حينما لاحق ام هانئ لتبرجها و قال لها :” اعلمي ان محمد لا يغني عنك شيئا ” بدعوى انها ارتكبت مخالفة لكن الرسول نهره و قال له بأن شفاعته تنال قبائل غير معروفة فكيف باهل بيته ، لانه كان يعلم ان قريش تتصيد الفرص للإساءة لقبيلته.
ان قراءة الكاتب لهذه الروايات الخاصة ببني هاشم تتجه الى اعتبار ان الرسول كان يفضل بني هاشم على العرب و كما هو واضح فإن نقد الكاتب لعالم الصحابة و نقضه لأسس الايديولوجيا السنية القائمة على تعديل جميع الصحابة صالحهم و فاسقهم اسقطه في الايديولوجية الامامية الشيعية المنتصرة للآل البيت ، في حين ان هذه التصرفات من جانب الرسول لا يجب اعطاءها اكثر من حجمها ، لانها لا تعدو كونها صونا لكرامة بني هاشم وسط مجتمع قرشي اعتاد الاساءة اليهم من منذ ان طردهم من بطاح مكة الى ظواهرها . هذا دون ان ننسى ان تمييز بني هاشم عن العرب و تفضيلهم لا يتفق و المساواتية الاسلامية . إن حديث ” احفظوني في العباس فإنه بقية آبائي فإنه عمي و صنو ابي و ان عم الرجل صنو ابيه ” (الطبراني) يوضح غيرة قريش من بني هاشم و رغبتها الدفينة للنيل منهم و يوضح ايضا ان الرسول اقتصر رده فقط على القول و لم يلجأ لاستعمال القوة لمعاقبة المسيئين اليهم و هو دليل على انه لم يمنحهم أي امتياز داخل دولته لانه لو حكم باسم بني هاشم كما فعل الامويون او العباسيون لما تجرأ قرشي واحد على الاساءة لهاشمي في حياة الرسول و لكن الرسول كان يحكم دولة من نوع آخر قوامها المساواة بين الجميع مع حفظ مكانة الهاشميين طبعا وسط محيط قرشي معاد لهم . لهذا فنحن لا نتفق مع الكاتب فيما ذهب اليه و نرى بان الرسول لم يمنح اية افضلية سياسية لبني هاشم و انها كانت لمؤسسي الدولة الاسلامية الاوائل : الانصار.
يوضح الكاتب في نهاية هذا الفصل كيف آلت الخلافة الى ابي بكر عن طريق الخديعة ، فيذكر ان ابا بكر و عمر بن الخطاب تعمدا كتمان خبر السقيفة عن الهواشم ليضمنا عدم المنافسة و يفوز احدهما بالإمامة العظمى و كيف ان عمر بن الخطاب رفض ان يمنح الرسول كتابا يملي فيه وصيته لأنه فهم انه سيوصي بمن يخلفه على رئاسة الدولة و الذي بالتأكيد لن يكون ابا بكر او عمر ، و ان خلافة ابي بكر كانت مكيدة دبرت من طرف ابي بكر و عمر بن الخطاب و ابي عبيدة الجراح و ان الهاشميين و كبار المهاجرين كابي ذر الغفاري و عمار بن ياسر و عدد من الانصار رفضوا مبايعة ابي بكر و ان عمر بن الخطاب اجبر عليا على المبايعة و هاجم بيت فاطمة لما علم باجتماع المعارضين لأبي بكر هناك و كاد ان يحرقه بمن فيه . و هو ما يجعلنا نخلص في النهاية على ان العلاقة بين كبار الصحابة لم تكن مثالية بل اتسمت بالتنازع و التباغض و الصراع على السلطة منذ اليوم الاول لوفاة الرسول و ان كنا نختلف معه في كون علي هو الاحق بالامامة العظمى و نشير الى ان صاحبها الحقيقي هو سعد بن عبادة زعيم الانصار مادة الاسلام .