مع بدء عمليات استعادة محافظة نينوى والموصل تعرف على الامبراطورية الآشورية التي حكمت الشرق القديم كله قبل 2800 آلاف عام
في الوقت الذي أعلنت فيه القوات العراقية بدء عملياتها العسكرية لاستعادة مدينة الموصل من تنظيم داعش، نود ان نقدم نبذة عن تاريخ المنطقة التي يسيطر عليها التنظيم حاليا، وأدت هذه السيطرة إلى تدمير عدد كبير من أهم الآثار التاريخية القديمة للآشوريين الذي حكموا من نينوى الشرق الأوسط القديم كله..
ضمن فعالية محاضرات (وحدة حضارات العراق) التي يرعاها اتحاد الجمعيات الديمقراطية العراقية في هولندا بالتعاون مع النادي الثقافي المندائي ورابطة المرأة العراقية في لاهاي مساء السبت 7/ 5/ 2011 ، والتي يقدمها الدكتور خزعل الماجدي فقد كانت المحاضرة السادسة بعنوان (الحضارة الآشورية : العظمة إلى أقصاها ) حيث تناول المحاضر عبر اكثر من 180 سلايد شرح تاريخ وحضارة الآشوريين بمنهج علمي رصين ،
قدم المحاضر الشاعر والناقد التشكيلي كريم النجار الذي قدم نبذة عن المحاضر وتحدث عن أهمية الفنون في الحضارة الآشورية وعن عظمة هذه الحضارة الرائدة ،
ثم تناول المحاضر تاريخ الآشوريين في خمسة مراحل هي(العتيق ،القديم ، الوسيط ، الحديث ، المتأخر ) فقد رأى أن المستوطنات الآشورية الأولى ظهرت في حدود 4000 ق. م في شمال العراق وكانت هذه المستوطنات تنمو مع الزمن حتى اذا ماظهرت الحضارة السومرية في مرحلتها القديمة وقعت تحت النفوذ السومري وثقافته ، ثم يبدأ التاريخ القديم من الفترة الأكدية حيث تبدأ أول الأسر الآشورية بالظهور وهي ست أسر زامت العصور الأكدية والسومري الحديث ودويلات المدن الآمورية والأسر البابلية الثلاث الأولى وكانت هذه المرحلة بمثابة مرحلة دويلات المدن الآشورية التي ظلت تنمو ببطء في ظل الثقافات التي أحاطت بها أو التي تبعت لها ،
ثم جاء العصر الآشوري الوسيط الذي لعبت فيه الأسرة السابعة الدور الرئيسي في محاولة نشوء دولة آشورية مضطربة الحدود والشخصية والإستقلال لكن نمواً مضطردا كان يدفع المدن الآشورية للوقوف بوجه التحديات الميتانية والكاشية والبابلية والآرامية لم تستطع خلاله أن تتكون دولة آشورية قوية بالمعنى الدقيق ، ثم تجيئ المرحلة الحاسمة في ظهور العصر االاشوري الحديث الذي شهد ولادة امبراطوريتين آشوريتين متعاقبتين كان لهما أكبر الأثر في تاريخ العالم القديم، فقد وسعت الإمبراطورية الآشورية بلدان الشرق القديم المعروفة آنذاك ونشرت حضارتها فيها ،
فقد ضمت مصر والشام والأناضول وغرب إيران وشمال الجزيرة العربية ، وكان أباطرتها رموزا للشموخ الحقيقي في الحرب والعمران معاً خصوصا ملوك العائلة السرجونية الأربعة (سرجون الثاني، سنحاريب، أسرحدون ، آشور بانيبال).وأسهب في الحديث عن بعض ملوكها مثل سمير أميس واسطورتها التاريخية التي رأى أنها مطابقة لسيرة الإسكندر المقدوني الى حد كبير، والملك العظيم آشور بانيبال الأول ، والملك الأخير الذي هو آشور بانيبال الثاني(سردنبال ) وأسطورته التاريخية التي أعاد فيها له الإعتبار. .ثم كشف المحاضر التحامل الذي قامت به التوراة على آشور وحضارتهابسبب السبي الآشوري لأهل السامرة وماكتبه الأنبياء العبريون الذين عاصروا آشور أو عاشوا فيها (ناحوم، أشعيا ، أرميا ، يونس) رغم أن المحاضر أكد على غياب الوثائق التي تؤيد وجود هؤلاء الأنبياء وانه يتعامل مع أخبارهم ونصوصهم كروايات أدبية وغير أركيولوجية.
في القسم الثاني من المحاضرة التي استمرت أكثر من ثلاث ساعات قدم الماجدي الجوانب الأربعة الكبرى للحضارة الآشورية وهي (السياسية ، الدينية ، الإجتماعية ، الثقافية ) والتي تضمنت تفاصيل دقيقة سلطت الضوء على المنجز الحضاري الكبير للآشوريين.
الحضارة السياسية للآشورين جعلتهم يقسمّون امبراطورتهم إلى 60 ولاية أهمها ولاية بابل ، وعينت حكاماً من أهل تك الولايات مقربين منها وكأنها جعلت من الإمبراطورية نظاما كونفدرالياً بلغتنا الحديثة وهو ماستفعله لاحقا الامبرطورية الرومانية. عُرف الملك الآشوري بـ ¸الملك العظيم، الملك الشرعي، ملك العالم، ملك آشور، ملك أركان الأرض الأربعة، ملك الملوك، الأمير غير المنافس والذي يمتد حكمه من البحر الأعلى حتى البحر الأدنى·. وكان الملك رئيسًا أعلى للإمبراطورية الآشورية والكاهن الأكبر للإله آشور. وغالبا ماكان الابن الأكبر للملك هو وليّ العهد الذي يقوم بتصريف الشؤون الإدارية في البلاد متخذًا من قصر الإدارة سكنًا له.وكان الجيش الاشوري يتكون من حملة الأقواس وحملة الرماح، وقد استعملوا الأسلحة الحديدية والخيول في القتال واستعملوا المنجنيق لأول مرة ، وابتكر الاشوريون التجنيد الاجباري لهم وللتابعين لهم وسياسة الترحيل القسري للشعوب المحتلة.
وعن الدين الآشوري رأى المحاضر أنه يقترب من الدين البابلي في هيكله العام لكن الإله آشور كان هو الإله القومي للآشوريين وكانت زوجته هي الإلهة عشتار ولم يكن هناك حضور فاعل للإله تموز وكان آشور وعشتار إلهين محاربين بشكل مميز ، وفي الدين الآشوري ظهرت فكرة الجن والملائكة وأجنحتهم المثنى والثلاث والرباع (شيدو ولماسو) ومنهم تكون الثور المجنح والنسر المجنح والأسد المجنح.
ولم يكن هناك في الدين الآشوري ولا البابلي أفكار حول الجنة والنار والحساب والعقاب والثواب في الآخرة .وسادت أسطورة الخليقة بصيغتها الآشورية حيث يحتل الإله آشور مكان مردوخ ، وظهرت أساطير عشتار المحاربة وأساطير إله العاصفة (أدد) وإله المعرفة (نبو).وكان الكهنة يتكونون من ثلاث طبقات هم كهنة التطهير والتلاوة وخدم المعبد ، واحتفلات رأس السنة (أكيتو) هي أكبر الإحتفالات الطقسية .
وكان لشجرة الحياة الآشورية (يوني) أهمية استثنائية وكذلك لكائنات الحكماء السبعة (أبكالو ) التي هي كائنات الإله (إيا) والذين صوروا ايضا كملائكة للماء والهواء وفي يدهم سطول الزهور وثمرة الصنوبر المقدسة الدالة على الخلود .
وفي المظهر الإجتماعي للحضارة الآشورية تحدث المحاضر عن مكونات المجتمع الاشوري الخمس(الأشراف ، الصنّاع ، أصحاب المهن ، العبيد ، الرقيق ) وكيف كان هذا المجتمع محافظا نسبيا حيث ظهر فيه حجاب المرأة لأول مرة في التاريخ فعندما كانت المرأة تتزوج فانها تضع حجابا خفيفا على رأسها لكي تعرف بأنها متزوجة ، وكان هذا يحصل بشكل خاص مع سيدات الطبقات العليا من المجتمع، وكان الإجهاض ممنوعاًوالطلاق والأرث موجودين . وكانت أهم مهن المجتمع الآشوري هي الزراعة والتجارة والحرف والصناعة والري ، والمجتمع الآشوري تنظمه القوانين الآشورية المكتوبة وأهمها قانون تجلات بلاسر الأول .
وأسهب المحاضر في الحديث عن الجانب الثقافي من الحضارة الآشورية التي نقلتها لنا اللغة الآشورية وهي لهجة أكدية كانت تكتب بالمسمارية ثم كتبت في أواخر عهدها بالكتابة الأبجدية الآرامية . وكان الأدب الآشوري مكوناً من الأدب الديني (الأسطوري والطقسي والروحي والسحري) والأدب الدنيوي (الملحمي والقصصي والحواري والغنائي والأخلاقي ) وظهر في البلاط الآشوري الحكماء ومن أشهرهم (أحيقار) الذي ملأت شهرته أطراف العالم القديم . وفي الفنون تميز الآشوريون بمدنهم وعمارتهم الفخمة ونحتهم الفخم القريب من النحت الكلاسيكي عند الإغريق وهو الذي ألهم الإغريق في التركيز على المكونات التشريحية للجسد البشري والحيواني فقد كانت العمارة الآشورية مثالاً للطراز المعماري الراقي والمهيب المزين بمنحوتات الثيران والأسود المجنحة والأعمدة الآشورية الحلزونية الرأس والتي سبقت ظهور الأعمدة الأيونية الحلزونية الرأس الإغريقية وكذلك الأعمدة المزدوجة براس الحيوانات كالثور وكانت القصور والمعابد مكونة من طبقات وأدوار مرتبطة بسلالم داخلية وخارجية وتنتظمها الأقواس وتحيطها الأبواب الفخمة ،أما المعابد الآشورية فكانت فخمة وعالية الجدران لكن الزقورات الآشورية كانت تشمخ في المدن الآشورية كطراز معماري عظيم فاق كل التصورات .
النحت الآشوري المجسم شمل الثيران المجنّحة والأسود والملوك والآلهة ومنحوتات لجلجامش بصورته الآشورية المميزة وهو يتأبط الأسد أو يصارعه ، أما النحت البارز فقد كان معجزة حقيقية في النحت حيث يصور الحركات السريعة والقفز ومعارك الجيوش والصيد بمنتهى المهارة والدقة وكان يزين الجدران الداخلية والخارجية للقصور حيث يظهر وكأنه لقطات سيناريو لقصص حربية أو سلمية ويسمى بفن الجداريات النحتية .ويظهر التصوير الآشوري على الجدران وواجهات القصور الملكية وخصوصا الفريسكو الحاطي من تل بارسيب وهناك فن تزيين الطابوق وخصوصا من خرساباد وفن رسومات الزجاج وفن العاجيات الآشورية المميز وخصوصا عاجية الموناليزا الاشورية (التي ربما كانت لسمير أميس) واللبوة التي تفترس الزنجي وغيرها كثير جدا، كذلك يتميز فن الأختام الأسطوانية الذي يركز على الموضوعات الأسطورية ، ويلمع فن الزخرفة الآشورية لمعانا قويا وهو يجتاح بوبات القصور والمعابد ومداخلها وجدرانها الداخلية وهناك فن الديكور والحلي وأدوات الزينة ، وتظهر اللوحات الموسيقى الآشورية وأدواتها وهناك السلم الآشوري المتطور المدون بالعلامات المسمارية ، أما فن الأزياء الآشورية فهو فن متطور جدا وتسود فيه أزياء الملوك والملكات والأمراء بأبهى أشكالها والوانها مع مايرافقها من إكسسوارات وحلي .
ولعل أهم مافي الأدب الآشوري هي الحوليات التاريخية للملوك وأدب الرسائل ونصوص السحر والعرافة ونصوص الأحلام وتفسيرها والتي جمعها العالم أوبنهايم في (كتاب الأحلام الآشوري)، فضلا عن الإرث العظيم الذي قدمته لنا مكتبة آشور بانيبال (بحدود 22 الف لوح ) من مستنسخات أدب وعلوم وحكمة السومريين والبابليين وبذلك تكون هذه المكتبة قد أنقذت تراث وادي الرافدين من الضياع وقدمته في تبويب وتصنيف جددين .وفي العلوم الآشورية تحدث الماجدي عن العدسات الطبية الآشورية التي عثر عليها في خرائب احدى القصور وعن الواح الطب الخاصة بالتعاليم الطبية والعمليات الجراحية .وتحدث عن الزودياك الآشوري وأيام الكسوف والخسوف ومعالجة الأشهر الكبيسة..
واختتمت الأمسية بمناقشة الجمهور للمحاضر والتي تضمنت الأسئلة والإيضاحات التي اقترحها وناقشها هذا الجمهور النوعي الذي أصبح جمهورا ثابتا يحرص على حضور مثل هذه المحاضرات المهمة التي تعيد كتابة وعرض تاريخ وحضارة العراق بطريقة مميزة وجديدة ، ثم أعلن عن موعد المحاضرة القادمة في 4/6/ 2011 والتي ستكون عن الحضارة الآرامية : حاضنة الأديان التوحيدية الأربعة.