صناعة النسيج في الموصل: .كراس للاستاذ سعيد الديوه جي
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث -جامعة الموصل
” صناعة النسيج في الموصل “من روائع شيخ المؤرخين الموصليين المعاصرين الاستاذ سعيد الديوه جي ، والذي ترك لنا ثروة من الكتابات والدراسات والكتب التي توثق للموصل تاريخا وسياسة واقتصادا واجتماعا وثقافة وتراثا وادبا وفكرا وصناعة وتجارة .
والموصل تعد من المدن الصناعية في كل العصور.
ففي اواخر القرن التاسع عشر – وقبل دخول السلع المصنعة الاوربية الموصل- كان هناك اكثر من 3000 معمل نسيج وحياكة
..والموصل معروفة بصناعة قماش الموسلين القطني المشهور في اوربا ..
الاستاذ الديوه جي استفاد من احتفال المنشأة العامة للغزل والنسيج في الموصل لمناسبة مرور 30 سنة على بدءها بالانتاج 26-3-1957وحتى 26-3-1987 ليضع للمحتفلين وبناء على طلبهم كراسا عن صناعة النسيج في الموصل .ذكر الاستاذ طه محمود سلطان المدير العام للمنشأة العامة للغزل والنسيج في الموصل في مقدمته للكراس ان أصل ما قدمه الاستاذ الديوه جي ، هو محاضرة القاها في الاحتفالية وبها حاول التواصل بين حاضر الموصل في صناعة النسيج وماضيها من اجل ان يكون ذلك حافزا لتوسيع الحركة الصناعية وتطويرها ..أية روحية هذه افتقدناها اليوم .
في الكراس متابعة لتاريخ صناعة النسيج في نينوى الاشورية والموصل العربية الاسلامية والموصل الحديثة.
منسوجات الشعر والصوف والمنسوجات القطنية ونسيج الحرير .قال ابي سعيد المغربي الذي زار الموصل سنة 1256 عن الموصل واهلها :” واهلها أهل تدقيق في الصناعات “.
وثمة اخبار عن ان المرأة الموصلية كانت تتخذ من الحرير ثيابا وتزين تلك الثياب بالحواشي المقصبة والمزركشة بخيوط الذهب .أية رفاهية هذه كانت عليها المرأة الموصلية !!جاء في حكاية الحمال مع البنات وهي احدى حكايات الف ليلة وليلة : ” فبينما هو في السوق ،متكأ على قفصه ،اذ وقفت عليه امرأة ملتفة بأزار موصلي من حرير مزركش بالذهب وحاشياته من قصب ” .ولم ينس الديوه جي ان يقف عند ابرز من كان يتقن صناعات نسيج الحرير وغيره .فضلا عن ذكره لاسواق الموصل وخاناتها وقيصرياتها والمتخصصة ببيع الانسجة القطنية والصوفية والحريرية .
رحم الله الديوه جي الذي اهداني كراسه هذا متوجا بتوقيعه مع اطيب تمنياته لي في 2 رمضان المبارك 1313 هجرية .
أين الموسولين؟
بالأضافة الى القطن والبروكيد والتافتا وهي كلمات عربية دخلت اللغات الأوربية، اسهمت الموصل الى العالم بمفردة ارتبطت بأسمها منذ القرن الثالث عشر في ايطاليا وفرنسا، ومنذ القرن السابع عشر في بريطانيا..هي الموسولين او الموسلين.. والموسلين نوع من الأقمشة ناعمة الملمس متقنة النسج كانت تصنع في الموصل على العهد الأتابكي ويصور ماركو بولو الموسلين على انه قماش محبوك من الحرير والذهب..ولكن معنى الموسولين تغير لاحقا ليعني نوعا من الأقمشة القطنية رقيقة الملمس تستخدم في اغطية الأسرة وفي القمصان والثياب ..وغالبا مانشاهد الموسولين في لوحات فنية تصور ملكات النمسا وفرنسا كماري تيريزا وماري انطوانيت مما يشير الى انتشار هذا النوع من القماش الموصلي في اوربا في القرن الثامن عشر وندرته الا اننا نراه على ماري انطوانيت ثوبا ابيضا رقيقا اشبه بالشاش الأبيض..
والأغلب ان الموسولين كان قماشا فضيا مذهبا رقيق الملمس يترك انطباعا بالراحة واليسر في ارتدائه وانه كان يصنع من خيوط ذهبية وفضية ربما دخل فيها الحرير والخيوط الذهبية والفضية ليست من الذهب والفضة بل تلون احيانا بألوان ذهبية وفضية..وان افترضنا ان هذا القماش لاوجود، له فلابد من تفسير انتشار مفردة الموسلين وارتباطها بالموصل عبر القرون الوسطى وحتى الوقت الحاضر..الأمر الذي يؤكد وجود مثل هذا القماش وأن الموصل هي من كان يصنع هذا القماش ويتاجر به..
ولكن اين الموسولين؟ كما يتساءل الرحالة واليس بج الذي زار الموصل عام 1911؟ لنشاهد حالة اسواق الموصل في بدايات القرن العشرين في رواية هذا الرحالة في كتابه “على ضفاف النيل ودجلة”:
(ومباني سوق الموصل بالمقارنة مرتفعة، و تجري فيها تجارة واسعة..ولكن الرحالة الذي زار اسواق اسطنبول والقاهرة وبغداد لايجد في اسواق الموصل الكثير مما يثير اهتمامه..فلم اجد سوقا للتحف ولم يكن لدى التجار الذين يتعاملون بالأقمشة مايعرضونه باستثناء الأقمشة الأنكليزية من مانجستر والمنسوجات الحديثة من حلب..وقد طال سؤالي من غيرما جدوى عن عينة من [الموسولين] الذي اخذ تسميته من مدينة الموصل واشتهر في المشرق كله بسبب الوانه الجذابة وجودته، ولكن كل مارأيته كان قد صنع في انكلترة وقد لف على الواح كرتونية انكليزية وغلف بورق أنكليزي وختم بالعلامات التجارية لصناع انكليز ذائعي الصيت
..وفي احد المحلات رأيت عقاقير ايطالية تحمل اسماء لاتينية وطنجرة نحاسية كبيرة لطبيب ايطالي كان قد جاء من جزيرة ابن عمر..ويلعن اهل الموصل الكلاب كلها بأستثناء السلوقي، ولكن مع كل التناقضات التي يتصف بها المشارقة، نجد ان المسلمين والنصارى يشترون خبزا من الأسواق في ايام الجمع ليطعموا به الكلاب الجائعة المنتشرة في الطريق الى المقابر لزيارة قبور موتاهم..
ولاحظت ان المسلمين ينفقون كثيرا من المال لشراء الخبز للكلاب.. ولم اجد سكائر معروضة في السوق.. وماوجدته نوع من التبغ يطلق عليه “التتن” ويباع على شكل أوراق كبيرة يقوم الزبون بتكسيرها وسحقها ثم لفّها بورق الواحدة منها ضيقة في احدى نهايتها وكبيرة في الأخرى وغالبا ماتنفتح من تلقاء نفسها فيسقط محتواها على ثياب المدخن..وهناك العديد من الجوامع والمساجد في المدينة غير ان احدا منها لم يلفت انتباهي من الناحية المعمارية..ولكن أفضل ملامح الجوامع منائرها التي تعطي للموصل منظرا أخاذا..
ولكن معظم المنائر لايقف باستقامة ومنارة الجامع الكبير المعروفة بالحدباء منحنية وفيها انتفاخ واضح في أحدى جوانبها..وكانت بعض القبب والمنائر مزخرفة بالخزف المزجج والمنظم بانساق غاية في الجمال والأخرى بالفسيفساء الحجري غير ان نزرا قليلا فقط بقى من تلك الزخارف في مكانه..ويقينا فان منارة مزخرفة بالقرميد المزجج اللامع لهي ملمح غاية في الروعة ..غير اني لم اجد مؤشرا على اي جهد للحفاظ على المباني الأسلامية وترميمها او صيانتها..ويبدو ان الميل السائد هو في في ترك جدار او قنطرة او قبة ليد البلى ثم اصلاحها بعد ان تؤول الى الخراب)..
في هذا النص، يميط واليس بج اللثام عن طبيعة التحولات الكبيرة التي تعرضت لها الموصل في عمارتها واسواقها على نحو مماثل لجيمس سلك بكنكهام .. بعبارته ذات الدلالات العميقة (وكانت بعض القبب والمنائر مزخرفة بالخزف المزجج والمنظم بانساق غاية في الجمال والأخرى بالفسيفساء الحجري غير ان نزرا قليلا فقط بقى من تلك الزخارف في مكانه) مما يشير الى حجم الخراب الذي نال الموصل بسبب ماتعرضت له من اهمال على العهود التركمانية ثم ما اصابها من إذى من جراء الغزو الفارسي الذي اتمم به نادر شاه ماقام به اسلافه هولاكو وتيمور من تخريب للمدينة وتدمير لمعالمها وصروحها واسواقها ومبانيها وصناعتها واصنافها..فللموصل جذورا ضاربة العمق في التاريخ الحضاري للشرق الأدنى..
وأسواقها أقدم من اسواق اسطنبول وقونية والقاهرة واسواق شمالي افريقيا بل واسواق دمشق وحلب على الرغم من عتق اسواق هاتين المدينتين..غير ان المدن المذكورة لم تتعرض لما تعرضت له الموصل من عدوان وتخريب جاء على الحرث والنسل ودمر مظاهر الحضارة والتمدن وعطل فيها اسواقها ونتاجها ..فواليس بج يسأل متحيرا عن عينة من الموسولين..ولم يجدها ..والمشكلة ان احدا من التجار من اهل الموصل في باب السراي حيث سأل عنها لم يسمع او يعرف شيئا عن الموسولين.. بل وربتما ظن انه يسأل عن قماش أنكليزي وليس عن قماش موصلي فأخرج له اقمشة انكليزية ..ولو افترضنا جدلا أن واليس بج اسهب قليلا مع التاجر الموصلي فوصف له رحلة ماركو بولو وحدثه عن الموسولين وارتباطه تسمية وتصنيعا بمدينة الموصل، فأني لا أخال ان التاجر الموصلي سيعرف اي شيء عن ماركو بولو او عن الموسولين الذي ينتسب مثل اشياء أخرى كثيرة في تاريخ الموصل وارضها الى الذاكرة التي يبدو انها تغطس تدريجيا في مياه النسيان!
وفي الختام لايسعني إلا أن اشيد بزملائي واخوتي ابناء الموصل النجباء ممن كان لهم قصب السبق في الكتابة والبحث والتوثيق في تاريخ الموصل وتراثها..وكان لأسهاماتهم المتميزة روح اتلمسها في كل سطر اكتبه فهم مصدر الهامي وحبي للكتابة في تراث أحدى اعظم واهم المدن في الشرق الأدنى مدينتي مدينة الموصل وهم الأستاذة الكبار المرحوم سعيد الديوه جي والمرحوم عمر الطالب والمرحوم عبد الحليم اللاوند والمرحوم عبد الجبار الجومرد والمرحوم أحمدعلي الصوفي والمرحوم نجيب يونس والمرحوم عبد الخالق الدباغ والمرحوم سالم عبد الرزاق والمرحوم الأستاذ الشهيد طلال الجليلي والمرحوم الأستاذ الشهيد عبد الجبار عبد مصطفى والأستاذ مثري العاني والأستاذ صديق بكر اغوان وعبد الجبار محمد جرجيس ممن قرأت لهم ومن المؤرخين والأكاديميين الدكتور عماد الدين خليل و الدكتور ابراهيم خليل العلاف والأستاذ أزهر العبيدي والدكتور نمير طه ياسين الصائغ والأستاذ ذنون الطائي والدكتور محمود الحاج قاسم والأستاذ قصي أسماعيل آل فرج والأستاذ أحمد اسماعيل العمريوالفنان صبحي صبري والأستاذ احمد عبد الله الحسو والأستاذ جزيل الجومرد والأستاذ سيار الجميل والأستاذ سمير بشير حديد والدكتور رياض الدباغ والأستاذ زهير الشاروك والأستاذ ازهر السماك والأستاذ طارق شريف والأستاذ فواز جارالله ممن اسهم في مجال الأقتصاد والأستاذ الفنان المتفرد طلال النعيمي والأستاذ جمال الدين العلوي والأستاذ خليل علي مراد ممن اسهم كثيرا للموصل بحثا وتدريسا وألأستاذ أحمد قاسم الجمعة والأستاذ سطام حمد الجبوري والأستاذ صلاح حميد الجنابي والأستاذ حسين الجبوري والأستاذ عامر سليمان والأستاذ عامر الجميلي في الأجتماعيات والجغرافيا والآثار، والأستاذ حسيب حديد والأستاذ عدنان سامي نذير والأستاذ وائل النحاس والأستاذ عوني يونس السبعاوي والأستاذ أحمد الفكاك والشاعر القاص والناقد الأستاذ نجمان ياسين والمهندس عبد الرزاق الحمداني والعم مشتاق الدليمي والقاص انور عبد العزيز والأخ سالم ايليا وشعراالأستاذ ذنون الأطرقجي والأستاذ عبد الوهاب اسماعيل والأستاذة بشرى البستاني وفنا رفيعا الأستاذ يوسف ذنون والأستاذ حسب الله يحيى والكاتب المجدوالمجدد أسامة غاندي وابن الموصل البار واثق الغضنفري والكاتب سعود الجليلي والشاعر الفذ معد الأعراقوأخوة يوطنون القلب لاتسعفني الذاكرة في تذكر اسهاماتهم في سجل الأبداع فهم كثر..وحسبي ان اكون قد امتعت القاريء الكريم والأساتذة الأفاضل في هذه الجولة المختصرة في تاريخ المدينة..
ملاحظة حول الصور:
تم اختيار الصور من بين عدد كبير من الصور التي تمثل اسواق الموصل وبغداد ودمشق واسطنبول..ومن بينها صورة رسمها فلاندين لسوق من اسواق بغداد عام 1838 تصور تجارا بملابس تقليدية قديمة يتعاملون بالمسابح والسيوف.. واخرى تمثل سوق الموصل المسقف كما زاره جيمس سلك بكنكهام عام 1823 ..ونلاحظ ان السوق مطابق تماما لوصفه !ذ استثنى هذا السوق باعتباره الأفضل في الموصل واسماه القيصرية..ونشاهد قيصرية مماثلة لسوق بغداد في لوحة اخرى لرسام مجهول تمثل سوق الميدان وجامع ..ونرى في لوحة اخرى بائع الشربت في مدخل سوق في دمشق لعله السوق المجاور لسوق الحميدية كونه الأقدم في البناء..وصور الأسواق في فن التصوير الليثوغرافي والتصوير الرومانطيقي الأستشراقي كثيرة بما لايقاس وبمقدور القاريء الأطلاع عليها والمقارنة فيما بينها فالأسواق الآسيوية وخاصة الفارسية على سبيل المثال صروحية في مداخلها بائسة في دواخلها على عكس اسواق دمشق والقاهرة العادية في مداخلها الثرية في دواخلها..بينما لانجد هذه الصروحية في اسواق حلب والموصل وبغداد، كما أن والأسواق تتغير دايكرونيا اي عبر الزمن فقد تبدأ عظيمة بحجم الحضارات والدول التي اسستها ثم تنحدر وتتراجع بسبب المحل او السبات الحضاري كما حدث بأسواق بعينها في آسيا أو كما حدث بسبب الحروب العدوانية لأسواق الموصل او كما حدث لبغداد التي تشتهر بأسواقها القديمه التي تعود الى عصر تأسيسها على عهد المنصور ومنها مايزال قائما حتى يومنا هذا على الرغم من الويلات التي تعرضت لها عاصمة الرافدين العباسية كالطوفانات المتكررة والحرائق والحروب ومن اشهر اسواق بغداد سوق الحيدر خانه ، وسوق السراي وسوق الميدان المعروف بسوق احمد الكهية او سوق الأحمدية والساعجية والأطرقجية والحدادين وسوق الأرز والعباءات وسوق الصفارين (الصفافير) الذي يرتاده السواح بكثرة لشراء الأواني النحاسية والتحف ويتصل بسوق هرج المحاذية للمدرسة المستنصرية وسوق العطارين التي اطلق عليها فيما بعد سوق الشورجة ..وتكثر في بغداد الخانات كخان مرجان وخان جغان (سوق الصواغين) وخان قنبر علي وغيرها ..ولم اعثر في كتب الرحلة عن اوصاف لأسواق بغداد لكثرتها وتنوعها..فبغداد اشبه بسوق كبيرة تمتد من الدروب المتفرعة من شارع الرشيد بدءا بالميدان وحتى الكرادة ..
ولاتختلف اسواق الكرخ عن اسواق الرصافة من حيث كثرتها وتنوعها فقد كان لكل حرفة أو صنف سوقا منفصلة أو دربا او عقدا (عكد) خاصا بها توازي اسواق الرصافة كسوق الفاكهة وسوق الوراقين وسوق الصيارفة وسوق البزازين وسوق القصابين والخزارين وسوق الكتب وغيرها..وقد تسمى السوق في بغداد باسم تاجر أو مالك اوعلم من الأعلام كسوق دانيال وسوق الموله خانه (نسبة الى تكية صوفية) وسوق السلطان احمد الكهية (الميدان) وارخيتة وحنون والعجيمي وحمادة وغيرها.. فلا عجب ان يجد الرحالة نفسه في مدينة سوق وفي سوق مدينة فيتردد ايها يصف وايها بأيها يقارن….لذا اقتصر اختياري في وصف بغداد على الصور النادرة.. وتمثل الصور الأخرى أسواقا عربية فضلا عن جوانب مختلفة من أسواق الموصل ومنطقة باب الطوب بوجه خاص..
الكاتب: صلاح سليم علي
الموسلين.. جماله يأتي على حساب بصر نساجيه
تنسجه أنامل فتيات صغيرات ويمكن طي 50 مترا منه داخل علبة ثقاب
نيودلهي: براكريتي غوبتا
كشف المصممون في عروض الأزياء التي أقيمت في الهند خلال العام الحالي، أن قماش الموسلين التقليدي خامة مهمة لا يمكن الاستغناء عنها. فهو من الأقمشة القديمة التي تناسب كل الفصول والمناسبات.أول ذكر لقماش الموسلين جاء في كتاب «أرثاساسترا» الاقتصادي من تأليف كاوتيليا عام 300م، بينما ذكر تاجر عربي في القرن التاسع الهجري، يدعى سليمان، أن أصل هذا القماش هو البنغال. وكان التجار الأجانب يأتون من بلاد بعيدة، مثل شبه الجزيرة العربية وإيران، ومن أرمينيا غربا، والصين والملايا والشام شرقا، لشرائه.
وتكمن أهمية وجمالية الموسلين البنغالي، حسب ما ذكر في كتاب «الجغرافيا» لبطليموس، في نعومته ورقته، إلى الحد الذي يجعل من الممكن أن يمر ثوب كامل منه من حلقة ضيقة.
ولا شك في أن هذا القماش تمتع بمكانة وشهرة عالمية منذ مئات السنوات، حيث يعتقد أنه استخدم ككفن لمومياوات الفراعنة. واشتهرت مدينتان هنديتان؛ هما: ماشيليباتنام في جنوب الهند ودكا في البنغال، بنسجه، بينما يشير المؤرخ الروماني الشهير بليني إلى أحد أنواع الموسلين الهندي الذي يعرف باسم جهونا والذي كانت ترتديه النساء الرومانيات من الطبقة الراقية من أجل التباهي بأجسادهن. وكانت الإمبراطورية الرومانية تستورد كميات كبيرة من هذا القماش، الموشى بالفضة أو الحرير، من الهند، وكان يعرف آنذاك باسم كاسيدا. أقبلت عليه أيضا الإمبراطوريات الصينية المتعاقبة. وتم تصنيع الموسلين في الهند قبل استقلالها، حين كانت الأراضي الهندية تضم الهند وباكستان وبنغلاديش، في البنغال بالأساس، حيث كان يعرف بموسلين دكا، وهي عاصمة بنغلاديش الآن.
خلال حكم المغول كان يحظى نساجو هذا القماش بالتشجيع والرعاية من قبل الحكام، لأنه كان ينسج خصيصا من أجل الملك ويعرف باسم «ملمولكاس»، وكانت جودته لا تضاهيها أفضل الأقمشة الأوروبية، ولم يكن ينافسه في المكانة سوى قماش الـ«أبراوان»، أو المياه الجارية. وتقول القصة إن جودة قماش الـ«أبراوان»، جعلت الإمبراطور يوبخ ابنته أورانغزيب لعدم تواضع ملابسها. وكان ترتيب قماش الـ«شابنام» أو ندى المساء، هو الثالث من حيث الجودة ونادرا ما نرى قماشا مثله هذه الأيام. ويلي هذا الـ«سركار علي» والـ«تونزيب».
كان الموسلين يصنع يدويا برقة وشفافية لا مثيل لهما، لأن عملية نسجه كانت صعبة جدا. في البداية، كان على النساجين العثور على نوع جيد، ثم تأتي مرحلة الدقة، حيث لا يمكن القيام بهذه العملية إلا في الصباح الباكر أو العصر لتفادي حرارة الشمس الشديدة. ويبلغ عدد الخيوط في أفضل نوع من هذا القماش 1.800 لكل بوصة، بينما يكون عدد الخيوط اللازمة لصناعة كل بوصة في الأنواع الأقل جودة 1.400. وفي النهاية، تأتي روعة هذا القماش على حساب بصر النساجين. في المقابل، كانوا يتمتعون بمكانة اجتماعية متميزة.
واستمر بيع قماش موسلين دكا في لندن حتى عام 1813، وكان يحقق أرباحا نسبتها 75%، لأنه كان أرخص من الأقمشة البريطانية، والسبب أن الخوف من المنافسة جعل البريطانيين يفرضون ضريبة على المنتجات الهندية قدرها 80%، بالإضافة إلى أن ظهور ماكينات النسج سدد ضربة قوية لصناعة الموسلين. بحلول عام 1817، وصل الخيط الإنجليزي المصنوع من الماكينة إلى دكا وكان سعره ربع سعر النسيج الهندي.
لم يكتف البريطانيون بهذا الهجوم، بل قطعوا أصابع النساجين البنغاليين المتخصصين في هذا القماش. كان هدف البريطانيين إنشاء صناعة للنسيج في مانشستر والاستفادة من كل السوق الهندية الكبيرة بتصدير الأقمشة إليها. ولتنجح هذه الفكرة كان لا بد من تدمير صناعة النسيج في الهند، بما في ذلك قطع أصابع فناني الموسلين حتى لا يتمكنوا من إنتاج هذا النوع الراقي من القماش، مما يساعد على رواج أقمشتهم.
لكن لا شيء يمكن أن يضاهي الصناعة اليدوية وجودتها، فالموسلين في أفضل أحواله يكون خفيفا ورقيقا جدا إلى الحد الذي يجعل من الممكن أن تزن الياردة منه 10 غرام، و6 ياردات منه يمكن أن تمر عبر خاتم يرتدى في السبابة. وكتب دكتور تايلور، خبير النسيج البريطاني، عام 1840: «حتى في يومنا هذا، ورغم المثالية التي تحققها ماكينات النسيج، لا يمكن أن ينافس أي قماش أقمشة دكا في الشفافية والجمال ورقة النسيج». ويذكر تايلور: «لقد كان الموسلين أسطورة لأنه يمكن طي ثوب طوله 50 مترا من هذا القماش داخل علبة ثقاب». وكان أكثر النساجين من الفتيات ذوات الأنامل الرقيقة الماهرة اللاتي يتمتعن ببصر حاد وتتراوح أعمارهن بين الثامنة عشرة والثلاثين.
وأوضح قائلا: «خلال العصور الوسطى، كان أفضل موسلين في دكا يخصص للبلاط الإمبراطوري. وكان يتم التعامل مع أشهر نساجين وكأنهم موظفون في البلاط ولا يسمح لهم بنسج الموسلين لآخرين». كما كانت عملية النسج تعتمد على الطقس، حيث لا يمكن تجفيفه جيدا وإلا فسيصبح هشا ولن يحتمل أي ضغط ويكون من المستحيل العمل عليه. ولا بد أن تكون لرطوبة الجو مواصفات بعينها، حيث يمتصها النسيج من الهواء. وللحفاظ على النسيج من الحرارة، ينبغي أن يبنى سطح من ثلاث طبقات عازلة. تصنع أول طبقة من القش، والثانية من القصدير، والثالثة من خشب البامبو. وخلال فصول الصيف، يتم تعليق قطعة قماش مبللة على النوافذ للحد من تأثير الهواء الساخن.
من السمات المميزة لقماش الموسلين، التي يعشقها المصممون، قدرته على متابعة شكل الجسد والانسدال عليه، مما يزيده أنوثة ورقة. ويستخدم المصممون اليوم الموسلين الهندي كقماش معياري أثناء عملية القص قبل الخروج بالشكل النهائي للفستان المصنوع من أقمشة باهظة الثمن. وكذلك من السمات الأخرى المميزة لهذا النوع من القماش هو إمكانية صبغه وتلوينه وتطريزه. ويمكن أن يتم استخدام الكثير من الأشكال والتصميمات المختلفة التي تكسبه تفردا وتجعله متعدد الاستخدامات.
ويتجه القماش، الذي كان في أوج مجده، ببطء نحو القمة مرة أخرى، فهناك محاولات دؤوبة في مدينة كالنا بولاية غرب البنغال لإعادة إحياء صناعة نسيج الموسلين، خصوصا بعد أن أتى آلاف النساجين الهندوسيين عام 1947 وفي نهاية السبعينات من بنغلاديش إلى البنغال. وفي العقد الماضي، أخذ سوجاي ناغ، مسؤول تنفيذي رفيع المستوى في شركة «تاتا أيرون آند ستيل كوربوريشين»، على عاتقه مبادرة إنشاء مركز لصناعة الساري من الموسلين، يعمل فيه نساجو مدينة كالنا. وتم اتخاذ خطوات للتنسيق مع صناع الموسلين في بنغلاديش حتى تستطيع كلا الدولتين الاستفادة من انتعاش هذه الصناعة. ورابندراناث ساها، أحد ناسجي الموسلين الذي فاز بجائزة قومية، ينتج خلال السنوات القليلة الماضية 500 وحدة من الغزل، وينسج أنواعا جيدة تجعلك ترى العشب إذا بسطت ساريا من الموسلين عليه. وليس ساها هو مخترع الموسلين ذي الخمسين وحدة، فقد تمكن نساجو نبادويب في عام 1992 من إنتاج الموسلين ذي الخمسين وحدة بشكل تجريبي، لكن تكلفة الإنتاج كانت مرتفعة جدا، مما تعذر معه تحويله إلى منتج تجاري. ما قام به ساها أنه ثابر واستمر في إنتاج هذا القماش إلى أن نجح أخيرا، ويبيع حاليا مترا منه مقابل 2000 روبية، ولا يوجد سوى القليل من العملاء، على حد قول ساها من منزله في كالنا، رغم أنه يمكن وضع سار كامل من هذا النوع بداخل قشرة جوز هند. لقد تطلب إعادة سحر ماكينات الغزل اليدوي إلى البنغال نحو قرنين من الزمن. ولحسن الحظ، لم يختف فن نسج الموسلين، بل مر فقط بفترة خمول بسبب غياب الرعاية، لكنه الآن ينهض مثل طائر العنقاء على حد قول أمريتا موكيرجي من سوترا، الذي يعمل بدأب من أجل إعادة إحياء بعض التقاليد المندثرة في صناعة النسيج في البنغال. من جهته، يقول رئيس المركز الحرفي الهندي، كستوري غوبتا مينون، إن كلمة الموسلين تذكره بوالدته وهي تروي له الحكايات التي يوصف فيها الموسلين بأنه أزرق بلون السماء، وخفيف بخفة النسيم، ويمكن أن يمر من خاتم. وحاول كستوري خلال عمله مسؤول تطوير ماكينات الغزل اليدوي، أن يولي اهتماما خاصا بإعادة إحياء الموسلين، وتشجيع الكثير من المصممين في شبه الجزيرة الهندية على استخدام موسلين دكا الأسطوري المصنوع يدويا، الذي اختفى من الهند بعد الانقسام. مع ذلك، يعود فضل إعادة إحياء هذا القماش إلى مصممة الأزياء مادو جين، التي كانت تعمل بدأب واجتهاد على مدى الخمسة وعشرين عاما الماضية من أجل إعادة إحياء صناعته وجعل حرفته جزءا من عالم الأزياء. فهي التي أعادت تقديم موسلين دكا إلى الوعي الهندي وإلى عروض الأزياء، بما في ذلك الموسلين القطني الهندي، الذي يعتبر نوعا آخر استعمل بوفرة في صناعة «الكورتا» والمنامات و«الغاغرا»، وهي تنورات طويلة، فضلا عن الساري في العروض الأخيرة. رغم أن هذه القطع تعرف إقبالا أكبر في فصل الصيف، إلا أن ما يثير الانتباه فيها أن تصاميمها أصبحت أكثر ابتكارا، وليس أدل على هذا من قطعة الـ«غاغراتشولي»، وهي بلوزة، من تصميم أنجو مودي ارتدتها نجمة السينما الهندية مادهوري ديكسيت، وكانت مصنوعة بأقمشة هندية تقليدية جدا، منها الموسلين والتوسار.