تاريخ النشر: الخميس 13 يوليو 2017
د. خزعل الماجدي
السحر والدين مشتركان في جذور بداياتهما وفي طبيعتهما، ولكن السحر سبق الدين واختلف عنه رغم أنه لم يفارقه، إذ يكاد السحر يهيمن على أغلب عصور ما قبل التاريخ الطويلة منذ عصور الباليوليت والميزوليت، وحين نشأ الدين بوضوح منذ النيوليت والكالكوليت تغيرت المعادلة وأصبح الدين مهيمناً والسحر خاضعاً للدين. أما في العصور التاريخية القديمة، بشكل خاص، فقد توارى السحر على هامش الدين لكنه ظلّ قوياً بتأثيره وتجلى في تيارات سحرية دينية، وأصبح مسؤولاً في كل أحقاب التاريخ عن التبدلات النوعية في الدين.
السحر والعرافة
وضع أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة كامبردج السير جيمس فريزر (1854- 1941) عمله الكبير (الغصن الذهبي) المؤلف من 13 مجلداً بآلاف الصفحات، والذي تناول فيه سحر الأقوام البدائية المعاصرة، والتي كانت تعيش قديماً، مع مقدمة نظرية حول السحر وعلاقته بالدين، ثم لخّص هذا العمل في مجلد واحدٍ.
وقد أوضح أن الفكر البشري يمر بثلاث مراحل هي (السحر، الدين، العلم). وستحقق جميع المجتمعات هذا التطور بشكل متفاوت وقد ميَّز بشكل واضح بين هذه المصطلحات الثلاثة وفرز التداخل بينها حين قال إن السحر جاء قبل الدين وهو بمثابة الدين الأول للإنسان ولكنه يختلف عن الدين بمعناه المعروف، فالسحر بالنسبة له «إيمان بقوى أعلى من قدرة البشر، ومحاولة لاسترضائها أو استعطافها &ndash يتعارض عموماً مع الدين الذي يفترض أن السيطرة للبشر، لكن الدين نشأ عن إدراك أن السحر قد فشل». وبقوله هذا نفهم أن (ممارسات) السحر لم تكن تتعارض مع (الأفكار) الدينية. وقد وسع فريزر نطاق المقارنة بين السحر والعلم، فالسحر بمنزلة (أخت غير شرعية للعلم) قائم على قانونين مغلوطين: أولهما قانون العدوى، أي أن الأشياء التي كانت في وقتٍ ما على اتصال بعضها مع بعض تظل تربطها علاقة حتى لو فصلت بينها المسافات. أما الثاني فهو قانون التشابه، الذي يذهب إلى أن النتائج تشبه مسبباتها، لكن إذا ما ثبت يوماً أن السحر صحيح وفعال (فهو ليس سحراً إذنْ، وإنما علم). (*)
كان السحرُ أول أشكال العلاقة بين الإنسان والمقدّس، والمقدس في السحر هو القوة أو الطاقة السارية في الكون، ولذلك فهو أول قناةٍ للاتصال بين المقدّس والإنسان.. وتتضمن هذه القناة شحنات مُرسَلة من الإنسان إلى المقدّس (وهو ما نسميه بالسحر أو الطاقة المرسِلة) وشحنات مُستَلمة من المقدّس إلى الإنسان (وهو ما نسميه بالعرافة أو الطاقة المستلِمة).
سبق السحر، إذن، الدين واجتمعت فيه شحنة المقدّس الكوني والبشري فأصبح الساحر بمثابة المتصّل الوحيد بالطاقة الكونية والقادر على التعامل معها وفق ما يريد سواء بالتحكم بها (عن طريق السحر) أو بالتنبؤ بما يحصل (عن طريق العرافة).
كانت مرحلة السحر قد بدأت في العصور الحجرية القديمة (الباليوليت الأسفل) ثم تشكّلت بأنماط عبادية مختلفة (الفتيشية، الحيوانية، الشامانية، الأرواحية، الطوطمية). جعلت الفتيشية المقدّس أو القوة السارية على شكل بؤرة هي الفتيش Fetich أو الشيء المعبود كالحجر أو الشجر أو العظم حيث تجتمع شحنة المقدّس في شيء واحد ويُطلِق عليه اسماً، وبذلك تكون القوة السارية غير مشخصةٍ بل متخفيةٍ وراء شيء محدد، ثم شخّصت الأرواحية (أنيميزم) هذه القوة بروحٍ حيةٍ تسري في الكون.
أما الطوطمية فقد أعطت هذا المقدّس صورة (جماد، نبات، حيوان، رمز) وركّزت على الكائنات الحية والحيوانات بشكل خاص وادّعت أن المؤمنين بهذا الطوطم ينحدرون نسلاً منه، فهي، إذن، نقلت المقدّس من البؤرة الشيئية إلى البؤرة الحيّة، وأصبح الحيوان، بصفةٍ خاصةٍ، يجسد هذا المقدّس.
وسواء كان السحر فتيشياً أو أرواحياً أو طوطمياً، على المستوى العملي، إلاّ أنه كان على مستوى اللغة مجسداً في كلامٍ مختزلٍ يُقرأ على شكل (التميمة Charm) فالساحر يعبر عن نصّه السحري في التميمة التي قد تأخذُ أسماءً أخرى حسب وظيفتها مثل التعويذة إن كانت تطرد هذه القوى الخفية (التي تجسدت في المرحلة الأرواحية بالشياطين)، أو الرُقية التي تحاول إحاطة الشخص بسور من الحماية أو الحجاب الذي يفعل الشيء ذاته وغيرها..
وإذا كانت التميمة قد عبرت عن نفسها في عصور ما قبل التاريخ بالرسومات والخطوط والإشارات فإن أقدمها وأشهرها رسومات الكهوف والصخور التي كانت تطعن هذه الفتيشات أو الطواطم لتعبر عن صيدها والسيطرة عليها.. لكن الحضارات التاريخية شهدت التمائم المكتوبة على العظام والقماش والحجر والجلد والخشب.. ثم على الورق بكلمات هي أشبه بالصرخات والاستغاثات ومحاولات دفع الشرِّ والأذى أو بمحاولات استدراج القوى الخيّرة لتسوير وحماية الشخص عن طريق الرُّقى، والحقيقة أن كلّ هذه المحاولات تدفع بنا إلى اللامألوف وتجعلنا في الدهشة لما يترتب عليها من أخيلة واستعارات غريبةٍ، ومن هنا نشأ السحري الذي جسّدته (التميمة) في أفضل أشكاله.
في المقابل كانت الحياة الدنيوية اللاسحرية تحتفي بالجنس، الذي كان مشاعاً قبل تكوّن الأسرة إبان عصر اكتشاف الزراعة، لقد كان الجنس أساس الحياة وتكاثرها وازدهارها لكنّ الدين (البدائي ثم المتطور) كان ينظر إليه، في الغالب، نظرة الضد. ولذلك عمد إلى إخفائه في طبقات من التابو والحرام ثم أعطاه تحديدات شرعية ولم يكفّ عن مطاردته في كل المراحل. وكان الجنس ينبثق هنا وهناك في نسيج الحياة مثل الينابيع لكن الدين كان يغطيه أو يحاول إخفاءه.
لقد كانت الطاقة الإيروسية في الجنس والحب وكان خير من يمثلها على مستوى الفن هي (الأغنية Song) التي لا تعبر عن الإيروس الجنسي فقط، بل عن إيروس الحياة كلها.
مع الأرواحية بدأ الإنسان يتخيل هذه القوة السارية لا على شكل شيء أو حيوان، بل على شكل أرواح خفيةٍ، وهنا بدأت أول عتبات الميتافيزيقيا في شكلها الساذج.
الفتيشية شخّصت القوة السارية للكون في شيء والطوطمية جعلتها شيئاً حّياً، أما الأرواحية فقد جعلتها روحاً بعيدةً، وهكذا تشكّل عالم روحي خارج الإنسان يتكون من كائنات روحية كان بعضها ما زال يغطسُ في عالم السحر.
لقد تمّ تصور هذه القوى الروحية التي تسري في الكون والإنسان والأشياء، بل وتمّ تسميتها، وقد أخذت النصوص الدينية تتطور من التميمة نحو نصوص تنادي الأرواح والكائنات الروحية وأصبح التوسل والحذر والتعويذ والإحاطة والرُقى موجّهة إلى هذه الأرواح.
المقدس والمدنّس
تقومُ فكرةُ الدين، كلُّها، على أساسِ وجودِ جوهرٍ مقدّسٍ تدور حوله كل منظومة الدين ومكوناته الأساسية (المعتقد، الأسطورة، الطقس، الأخرويات)، وهذا الجوهر المقدّس هو الطاقة والشحنة والقوة المركزية التي تشيع الانسجام في المادة وتجذبها نحوها، وقد عبّرت عن هذا الجوهر تيارات سحر وأديانُ العصور الحجرية بالقوة السارية غير المشخصة، وهي قوّة المقدّس الكوني، طاقة الكون، التي يشعر بها الإنسان ولا يعرف معناها وهي طاقةٌ تأخذ شكل القوة السارية لكنها تتجلى في بعض مظاهرها العظمى في توازن الكون وقوى الكواكب والمجرات وتناغمها.. ولهذه القوة مظاهر مضطربة أنتروبية تعبر عن التحول من نظام معين إلى آخر وتنفض أعباء النظام القديم عنها وتظهرُ على الأرض في الطوفانات والعواصف والزلازل والبراكين. وقد انتبه الإنسان لهذه القوة السارية ولكنه لم يستطع، آنذاك، أن يفسرها علمياً فخاف منها وسجد لها.
أطلق الإنسان على جوهر المقدّس الديني، آنذاك، أسماءً مختلفةً لكنه كان يعني شيئاً واحداً هو الله/ الطاقة وهو جوهر الكون. لكن الإنسان لم يتعرف على هذا المقدّس بصيغة واحدة، بل بصيغ متعددة تطورت عبر التاريخ من السحر إلى الأرواح إلى الآلهة إلى الله، وتشكل هذه العتبات التطور الروحي للإنسان وهو يتلمس هذا المقدّس بمراحل متتالية ومتداخلةٍ في آن واحد.
وفي مقابل العالم الديني المقدّس الذي هو، عند الإنسان، استشعارٌ أو حدسٌ لطاقة الكون كان هناك العالم الدنيوي والمدنَّس الذي هو تماسٌ مع المادة، وهكذا وضع الإنسان هذين العالمين المتميزين في تضادّ شديد: الأول هو العالم المقدّس الذي يسعى الدين لكشفه والتمثل به، والثاني هو العالم المدنَّس الذي تسعى الدنيا لكشفه والتمثل به، وكان هذا التعارض، قديماً وحديثاً، مثارَ جدلٍ ساخنٍ وتصادمٍ شديدٍ فقد كان المقدّس يعادل القوة والطاقة والمشبع للكيان والفاعلية بينما كان المدنَّس يعادل الخواء والمادة المتهافتة الزائلة والزيف.
ورغم أننا لا نميل لفصل الدين عن الدنيا فهما متداخلان، لكننا من أجل الدراسة النظرية وإلقاء الضوء على المحركات الدينية والدنيوية وهي تلتحم وتنفصل رأينا النظر إلى كلّ منهما بمحركاته وقواه الداخلية.
لقد عرفنا أن جوهر الدين يكمن في المقدّس، أما جوهر الدنيا فيكمن في المدنَّس، وهو ما يراه الدين في الدنيا. وقد حاولنا البحث عن نواة وجوهر هذا المدنَّس فوجدنا أنه يكمن في الجنس، فالجنس هو جوهر المدنَّس وجوهر الدنيا، مثلما رأينا أن الطاقة السارية هي جوهر المقدّس.
وبذلك نحصل على هذه المتناظرات المهمة (الطاقة السارية، الطاقة الإيروسية)، (المقدّس، المدنَّس)، (الروحي، الجنسي)، (الإلهي، البشري)، (الديني، الدنيوي)… الخ وتشطرُ هذه المتناظرات العالم كلّه إلى متناظرات مماثلة لها، فالمكان المقدس والمعبد والعمود المقدّس وسرّة العالم هي أماكن نشكونية مشحونة بالمقدّس وهي مركزية في مقابل الأماكن الكونية التقليدية كالبيوت والساحات والشوارع التي هي أماكن دنيوية محيطية.
وكذلك ينقسم الزمان إلى زمان نشكوني مقدّس أسطوري حصل فيه حدثٌ عظيم مثل بداية الخليقة أو الطوفان أو الوحي أو الشهادة.. الخ، في مقابل زمن تاريخي تقليدي يضج بالأحداث الدنيوية العادية.. وتتم استعادة ذلك الزمن الأسطوري من خلال طقوس الأعياد الدورية التي هي استذكار لذلك الزمن وإعادة تكثيف له وسط تراتب الزمن التقليدي وكذلك تتناظر الرموز السماوية عن الرموز الأرضية ويتناظر النص المقدّس (الكتاب المقدّس) عن بقية الكتب ويحمل النبي كثافة المقدّس أكثر من غيره من البشر وهكذا.. كان المقدّس منذ العصور الحجرية القديمة أمراً مدهشاً وغامضاً شدّ الإنسان إلى عالم آخر وجعله يشعر أنه لا يعيش وحيداً في هذا الكون، بل أنه مرتبطٌ بجوهرٍ كونيٍّ سرعان ما سيعود إليه ويتحد به بعد الموت. وقد أطلق الإنسان على جوهر المقدّس آنذاك أسماء مختلفة لكنه كان يعني شيئاً واحداً هو الله/ الطاقة الذي هو جوهر الكون، أما أول طرق التعامل الجدية مع هذا المقدّس فقد كان السحر (الذي هو أول عتبات الدين) وقد كان السحرُ إما حقيقياً يتضمن وجود قوةٍ براسيكولوجية خارقة عند المتعبد تؤثر على بعض قوانين القوة السارية، أو وهمياً شكلياً يحاول أن يؤثر، من منطلق نفسي، على قوانين هذه القوة.
تمائم
سواء كان السحر فتيشياً أو أرواحياً أو طوطمياً، على المستوى العملي، إلاّ أنه كان على مستوى اللغة مجسداً في كلامٍ مختزلٍ يُقرأ على شكل (التميمة Charm)، فالساحر يعبر عن نصّه السحري في التميمة التي قد تأخذُ أسماءً أخرى حسب وظيفتها مثل التعويذة إنْ كانت تطرد هذه القوى الخفية (التي تجسدت في المرحلة الأرواحية بالشياطين) أو الرُقية التي تحاول إحاطة الشخص بسور من الحماية أو الحجاب الذي يفعل الشيء ذاته وغيرها..
وإذا كانت التميمة قد عبرت عن نفسها في عصور ما قبل التاريخ بالرسومات والخطوط والإشارات، فإن أقدمها وأشهرها رسومات الكهوف والصخور التي كانت تطعن هذه الفتيشات أو الطواطم لتعبر عن صيدها والسيطرة عليها.
قوى الكون
لقد تمّ تصور هذه القوى الروحية التي تسري في الكون والإنسان والأشياء، بل وتمّت تسميتها، فقد أدخل العلاّمة كودرنجتن مصطلح الـ (مانا Mana) الذي وجده منتشراً، على نطاق واسع، بين الجماعات التي تسكن ميلانيزيا وبولنيزيا والفلبين، حيث يسود الاعتقاد بقوى خارقة غير مشخصة يطلق عليها اسم الـ (مانا) أو الـ (مانيتو) التي تنبتُ في الأشياء، والغريب أن الرومان أيضاً كانوا يطلقون اسم الـ (مانا) منذ الألف الأول قبل الميلاد على الأرواح.
…………………………
- ديفيز، أوين: السحر (مقدمة قصيرة جداً)، ترجمة رحاب صلاح الدين، مراجعة هبة نجيب مغربي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة (2014).