من دكتاتورية الفرد الى دكتاتورية المجتمع
جمال علي الحلاق
الحوار المتمدن-العدد: 3168 – 2010 / 10 / 28 – 12:48
المحور: المجتمع المدني
هذا المقال لن يتحدّث عن التابوات ( الجنس ، الدين ، السياسة ) التي تحجّم العقل العربي كما لو أنّها تنبت من الهواء ، لكنّه يحاول بخباثة أن ينبش في تراب الأرضية التي تنتصب فوقها هذه التابوات ، أيّ أنّ المقال نبش في تراب ( دكتاتورية المجتمع ) ذاته الذي يقف داعماً ومحفّزاً على إعادة إنتاج هذه التابوات ضمن أمثاله الشعبيّة التي تسيّج نهاره وليله معاً ، فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكنّنا أن نتحسّس الثقل الهائل للدكتاتورية في مثل شعبي بسيط : ” إلبس ما يعجب الناس ” ، ترديد المثل بشكل يومي يضفي عليه صفة القداسة ، وبالتالي يتمّ التعامل معه من هذا المنظار لكن تحت قناع ( العيب ) ، هذا المثل نموذج على المقولات والأمثال التي ساهمت ولا تزال تساهم في عرقلة وتأخير أيّ حركة تغيير في المجتمعات العربية .
مقالي هذا يكرّس النظر على المجتمع الذي يتبنّى الدكتاتورية ، ويتقمّصها في نفس الوقت ليقف عائقاً إزاء أيّ محاولة للخروج ، المقال يتحدّث عن الكمّاشة ذات الفكّين ( فكّ دكتاتورية المجتمع مقابل فكّ دكتاتورية النظام الحاكم ) والتي يذهب ضحيّتهما معا كلّ صاحب رغبة في التغيير والتجدّد .
أحاول هنا أن أكشف القناع عن حقيقة راسخة نشعر بها جميعا ولو بمستويات مختلفة كلٌّ بحسب اقترابه من الخطوط الحمراء التي تسيّج أرصفة حياته اليومية .
من السهل جداً الحديث عن دكتاتورية نظام حاكم ، والأكثر سهولة من ذلك هو إحالة الدكتاتورية الى فرد ، وتحويل المجتمع ككلّ الى ضحيّة ، لكن ، مع زوال هذا الفرد وبقاء الحال على ما هي عليه ، فهذا يكشف وبوضوح صارخ أنّ من تمّ تحويله الى شمّاعة أخطاء لم يكن هو الشمّاعة الوحيدة ، وأنّ هناك أنواع وأشكال من الدكتاتورية ما يعجز عن حملها فرد واحد مهما بلغت سلطته ، لكنّها في نفس الوقت دكتاتوريّات مقنّعة يعيشها المجتمع على أنّها حالات صحيّة غير مأزوم منها ، وهذا يتطلّب دراسات جديدة تُعيد قراءة مفهوم الدكتاتورية أصلاً ، لكنّني هنا سأتحدّث فقط عن ( دكتاتورية الهويّة ودكتاتورية الأصالة ) التي يترنّح المجتمع العربي كمخمور تحت هيمنتها .
بدءاً ، الثالوث القمعي المقدّس ( الجنس ، الدين ، السياسة ) ، وأنا أضع الجنس أوّلاً لأنّه المغذّي الرئيس للتابوات كلّها ، أقول أنّ هذا الثالوث القمعي لم ينتصب فجأة داخل المجتمعات العربية ، ولم يتشكّل إعتباطاً ، فكلّ تابو على حده يمثّل شريحة مجتمعية تقوم بعملية تأسيس وتأثيث التابوين الآخرين ، وبالتالي فإنّ هذا الثالوث يعمل باستمرار على تمتين صلادة بعضه للبعض الآخر ، فالبناء الهندسي للجنس مثلا – والقائم على مركزية الذكر وهامشيّة الأنثى – يدعم البناء الديني الذكوري ، مثلما يعمل الأخير على صيانة البناء الهندسي للجنس بإضفاء صفة القداسة عليه تحت أقنعة التحريم وثقافة العار والعيب ، ومن مصلحة البناء السياسي أن يؤثّث الحسّ الديني داخل بنية المجتمع ، وتفعيل حسّ الحرام كلّما انحسرت سلطة القانون ، السياسي يستخدم الديني ككارت أحمر لطرد أيّ فرد غير مرغوب فيه ، هكذا تتظافر هذه التابوات بدعمٍ من الشرائح الاجتماعية التي تمثّلها لتنتصب كخيمة تجثم على عقول ونفوس المجتمع ككل .
الحالة تشبه ضرباً من الفانطازيا ، فالمجتمع المقموع بتابوات معيّنة يتحوّل بشكل تدريجي الى مجتمع قامع بنفس التابوات ، لكنّه هنا سيمارس آلية معاكسة لآلية الحكومات التي تمارس القمع ضدّ المجتمع ، ذاك أنّ المجتمع يتبنّى التابوات – أيّاً كانت – ليمارس القمع ضدّ نفسه بدءاً ، أيّ أنّ الحكومات تمارس الدكتاتورية ضدّ مجتمعاتها بشكل سادي ، بينما يمارسها المجتمع ضدّ بشكل مازوشي ( نوع من جلد أو تعذيب الذات ) .
عملية تبنّي التابوات من قبل المجتمع تجعل الأخير يتعامل مع أيّ محاولة للتغيير باعتبارها محاولة إنسلاخ من هويّة المجتمع ذاته ، وباعتبارها عملية هدم لأصالة مقدّسة ، رغم فراغ هذه ( الأصالة ) – في أغلب الأحيان – من أيّ حسٍّ إنساني ( مقارنة بالمجتمعات التي تبنّت مفاهيم حقوق الإنسان ) ، وهذه القراءة تقود المجتمع ، بل تدفعه الى التعامل مع حالة الخروج هذه لا بحسّ إنساني ، بل بحسّ ديني أو بحسّ عرفي أو بحسّ حزبي ، أي التعامل مع أيّ محاولة تغيير من داخل قالب ثابت لا يمكن المساس به أو الخروج عليه .
أريد أن أقول أنّ الأخذ بمفهوم ( الأصالة ) يعني الوقوف ضدّ حركة قانون النشوء والإرتقاء الطبيعي ، وضدّ قوانين حركة التاريخ البشري أيضا ، لأنّ مجتمع ( الأصالة ) سيكون معني بالحفاظ على النوع على حساب الكم ، ولن تقود التغيّرات الكميّة على الساحة الاجتماعية الى تغيّرات نوعية ، الإقرار بالأصالة هو إقرار ببطلان قوانين الديالكتيك ، الأصالة بوضوح أعلى هي تعطيل لحركة التاريخ البشري ، إن لم تساهم في قتل الحركة أصلاً .
وبالتأكيد سيكون هناك أكثر من مستوىً ، وأكثر من شكلٍ للقمع يمارسه المجتمع ضدّ نفسه ، تتدرّج هذه المستويات تحت مسمّيات ثابتة تشير كلّ تسمية منها الى الشريحة الإجتماعية التي تتبنّاها ، لذا نجد مثلا هيمنة كلمات مثل : ( حرام ، عيب أو عار ، ممنوع ) على شرائح إجتماعية مختلفة لكنّها تتظافر لتمثّل النسيج الكلّي للمجتمع ، فالحرام يشير الى الشريحة الإجتماعية التي تتبنّى الدين سلوكاً حياتيّاً ، بينما يشير ( العار ) الى الشريحة الإجتماعية التي تتبنّى العرف الإجتماعي كسلوكيّات يومية ، أما كلمة ( الممنوع ) فإنّها إشارة واضحة الى الشريحة الإجتماعية التي تتبنّى القانون المدني في إدارة شؤون حياتها ، وبالتأكيد فإنّ عملية الفصل بين شريحة وأخرى لن يكون سهلا ، يمكن فعل ذلك مع الأفراد ، لكن سيكون صعبا حين نبدأ بالتعامل مع المجتمع ككل ، أو حتى مع شريحة منه .
وكتطبيق لهذا الكلام ، يمكن أخذ أيّ حالة ( غسل عار ) نموذجا ، فهنا تتم المساكتة – عن عمليات القتل – حكوميا ودينيا وعرفيا ، وهذا الاتفاق على ( المساكتة ) هو الزي الأكثر وضوحا لدكتاتورية المجتمع بكلّ شرائحه الحاكمة ، لأنّ القانون هنا يغازل الحسّ الديني والعرفي معاً . والأدهى من ذلك أن تصطف النساء الى جانب قتل غسل العار باعتباره أمراً صحيّاً ، وهذا إقرار بالدكتاتورية دون الشعور بثقلها على الكاهل .
كذلك يمكن أخذ حالات قتل ( المثليين ) وتظافر المجتمع على حالة الرفض لهم ، كلّ شريحة تتحرّك بدافع مختلف ، إلا أنّ الشرائح جميعا تتفق على القبول بعمليات القتل ، في إشارة تؤكد أنّ المجتمع لم يصل بعد – على الصعيد الحياتي – الى إدراك معنى الخصوصية الفردية ، ولم يصل بعد الى إدراك معنى الحريّة الشخصيّة ، لم يصل بعد الى إدراك إمكانيّة العيش خارج نطاق الدين والعرف الاجتماعي ، وهذه القضيّة من الخطورة بحيث يتحوّل المجتمع فيها بأكمله الى مراقب قامع ، أي أنّ هناك حسّ دكتاتوري داخل كلّ فرد ، ويمكن تأجيج هذا الحسّ من قبل جهات معيّنة مستفيدة في أيّ لحظة ، وتحت أيّ ذريعة ، لأنّ بنية المجتمع مهيأة تماماً لمثل هكذا ممارسات إجتماعية .
هذه الإنتباهة تجعلنا نتوصّل الى نقطة مهمّة جداً خصوصاً في حالة العمل على تغيير الأوضاع الاجتماعية من الناحية التطبيقية ، فالتغيير لا يتمّ عبر صياغة القانون بدءاً ، بل أنّ عملية التغيير تبدأ من الشارع الحياتي ، القانون يأتي لاحقاً ، لا يزال القانون في المجتمعات العربية بمثابة حلم ، وهذا بحدّ ذاته يكشف الهوّة العميقة بين مدنية بعض القوانين العربية وبدويّة سلوكيّات مجتمعاتها ، المطلوب هو النزول الى الشارع والعمل على ردم الهوّة عبر السلوك المدني ، تفعيل الحسّ الإنساني والإعتراف عبر السلوك بسموّه على الحسّ الديني والعرفي والحزبي .
الشارع بحاجة الى مماحي كثيرة ، لا تعمل على الحذف فقط ، بل على ملئ الفراغ بممارسات مدنيّة ، الشارع بحاجة الى سلوك مدني لينتبه لحجم الدكتاتورية التي يمارسها ضدّ نفسه دون الشعور بفداحة الأمر ، وبالتأكيد فأنّ أيّ هشاشة تطرأ على إيّ تابو ستقود حتماً الى هشاشة مشابهة للتابوات المجاورة .
دكتاتورية المجتمع مثل بناء هائل قائم حجر على حجر ، لذا فإنّ إزالة حجر هنا أو حجر هناك سيقود حتماً الى خلخلة البناء ككل ، وبالتالي الى إنهياره .