عمانوئيل كانط : الدين في حدود العقل او التنوير الناقص- محمد المزوغي
المهمة التي ينبري لها هذا الكتاب ليست يسيرة.
إنه يضع تعاليم كانط الأساسية ومواقفه من الدين، والعقل، والإيمان، والتنوير، على مشرحة النقد.
ويستعرض المحاولات النظرية والعملية التي تجابه الفكر الديني كله، وتذهب به الاستنتاجات والتحليلات إلى تبيان وسطية كانط ومنحاه التوفيقي الذي يجمع بين الاتجاه العقلي والاتجاه الديني.
فماذا لو برهنت المقارنة مع الفلاسفة الماديين الفرنسيين أن كانط، وهو أحد آباء التنوير، ليس سوى متذبذب أقدم على تنازلات جد محرجة لحساب اللاهوت البروتستانتي؟
هذه القراءة النقدية للمشروع النقدي الكانطي من المنتظر أن يكون لها صداها في أوساط الدارسين والمؤرخين والمتابعين وذوي الاختصاص. {{قراءة: عبدالله المطيري}} {{الناشر: رابطة العقلانيين العرب ودار الساقي.}} {{تاريخ النشر2007}} {{عدد الصفحات: 220 صفحة .}}
*كانط منقودا!… هذه أول مرّة حسب علمي يصدر فيها باللغة العربية كتاب كامل لنقد الفيلسوف الألماني الكبير كانط صاحب النقد الشهير (نقد العقل المحض، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم). وقد كنا قدمنا بمناسبة صدور الترجمة العربية لنقد ملكة الحكم في هذا الملحق أربع حلقات عن فيلسوف النقد إيمانويل كانط ابتداءا من 20أبريل 2006العدد 13814.مؤلف كتابنا اليوم هو محمد المزوغي مفكر تونسي مقيم في إيطاليا من مواليد 1961متخصص في الفلسفة وخصوصا في الفلسفة المسيحية فترة القرون الوسطى. وهو أستاذ الفلسفة الإسلامية منذ سنة 1998بالمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية بروما. للمزوغي خط نقدي مستمر فقد قدم مجموعة كتب ذات روح نقدية سواء في الفلسفة الغربية ككتابه “نيتشه، هايدجر، فوكو. تفكيك ونقد”. أو في الفكر العربي كدراساته عن ابن خلدون وكتابه الأخير في نقد مشروع محمد أركون “العقل بين الوعي والتاريخ” الصادر عن دار الجمل مؤخرا.
هذا الكتاب هو قراءة نقدية لمشروع كانط النقدي وعلى وجه الخصوص كتابه “الدين في حدود مجرد العقل”. الكتاب الذي تظهر فيه بوضوح أفكار كانط فيما يتعلق بالدين. وهذا الموضوع أي علاقة الدين بالفلسفة أو الموقف من الدين بالنسبة للفيلسوف هو موضوع رئيس في طرح المزوغي ويمثل الأطروحة الكبرى في هذا الكتاب. مبكرا، وفي العنوان الرديف يصرّح المزوغي بنتيجة الكتاب وخلاصته “التنوير الناقص” الذي هو هنا تنوير كنط، فيلسوف التنوير الكبير. إن تنويره ناقص بحسب المزوغي بسبب موقفه المتردد في العلاقة مع الدين. هو تنوير ناقص مقارنة بتنوير الماديين الفرنسيين الذين كان لهم موقف حاسم وصريح من الدين. بينما بقي كانط كما يسميه المزوغي “فيلسوفا بروتستانتيا”.
في البداية لا بد من الاتفاق مع المزوغي على مبدأ النقد الذي لا يستثنى منه أحدا. لا يجب أن يكون هناك أحد فوق النقد، أيا كان. بل إن الفلاسفة هم أولى الناس بالنقد، كونهم يطرحون أفكارهم ومناهجهم المؤثرة كثيرا والتي هي عرضة، بسبب قيمة الفلاسفة، لأن تؤخذ بالتسليم دون فحص وتفكر وهذا ما سيؤدي بها إلى التحول إلى دوغما ضررها أكبر من نفعها ستبقى حجر عثرة في طريق تطور الأفكار لأوقات ليست بالقليلة. حين نتفق على هذه الفكرة الأولى، فكرة النقد، ننتقل بعدها إلى التفكير في هذا النقد، في علميته، منهجيته. بمعنى القيام بمهمة نقد النقد. وهي مهمة في غاية الضرورة، ففيها خلق لحيوية عالية في التفكير واستمرار لأجواء الجدل والفعالية العقلية. المزوغي بعمله هذا ساهم بتحريك الكثير من العقول والأفكار في الوطن العربي. لقد أعادهم إلى طرح الكثير من الأسئلة المهمة والرئيسة.
“الدين في حدود مجرد العقل “هو أحد آخر الكتب التي ألفها كانط سنة 1793فقد تلا ثلاثية النقد التي فحص فيها العقل والأخلاق وفلسفة الجمال. ثم توّج هذا المشروع الكبير بفحص موضوع الدين. حيث إنه لن يكتمل مشروع النقد دون فحص الدين. بوصف أن التنوير كما يرى كانط هو تحمل الإنسان مسئولية تفكيره واستقلاله بها. ولن تحصل هذه الاستقلالية ولا يمكن القيام بهذه المسئولية دون اتخاذ موقف واضح من الدين الذي يقدم منظومة متكاملة من الأفكار والمواقف. تعرّض كانط للتهديد من الدولة فور صدور هذا الكتاب، الذي لم يترجم بعد للعربية!،
ثم رد برسالة يوضح فيها أنه لم يهدف إلى رفض الدين أو تحقيره وأن كتابه غير مؤثر لأنه كتب للخاصة ولن يتأثر به العامة. لا يعتبر المزوغي موقف كانط المتناقض والمتردد من الدين نوعاً من التقية السياسية والاجتماعية بل هي تكمن في عمق تركيبة كانط الروحية.
فهو تربى وعاش حياة بروتستانتية لم يستطع القطيعة معها. لكانط موقف صارم من الطقوس الدينية فهو يرى أنها نوع من النفاق والعبث ويرى أن الإرادة الإنسانية لا تحتاج إلى مشرع من خارجها. ولكن كانط يتراجع ويتناقض يقول المزوغي” لكن كانط لم يتمسك، كعادته، بأطروحته تلك، ولم يذهب بها إلى مداها الأقصى: لقد حدّ من خطرها، بل انقلب عليها وتبنّى نقيضها. مثلما فعل في نقد العقل الخالص، بعد أن سدّ الأبواب في وجه أي تعقّل ممكن للكيانات الغيبية الدينية من وجهة نظرية بحتة. إلا أنه أعاد تأهيلها على المستوى العملي وجعل منها ركيزة الفعل الأخلاقي والإيمان. يعود كانط ليناقض أطروحته التي تقول إن الأخلاق لا تحتاج إلى تمثّل أي غاية، بل هي استجابة للواجب، يناقضها بأطروحة أن الأخلاق لها علاقة ضرورية بغاية متمثلة. “وهذه الغاية تستلزم وجود إله توجه الأمور له. يرى المزوغي أن إدخال مقولات لاهوتية في منظومة الفيلسوف الفكرية هو خيانة للعقل وتذبذب في الموقف الذي يجب أن يقطع فيه الفيلسوف مع كل التصورات الماورائية اللاعقلية. ينطبق هذا الكلام في حدود العقل المحض وكذلك العقل العملي (مجال الأخلاق) يجب أن تكتمل المنظومة الفلسفية المستقلة. يقول المزوغي” ما هو الشرط الأساسي لبناء أخلاق إنسانية بحتة والقطع النهائي مع المرجع اللاهوتي؟ ليس ثمة شك في أن الشرط الأساسي هو الارتكاز على مبادئ فلسفية ماديّة… وإلا ستعود الأخلاق إلى أحضان اللاهوت والدين. لم يتحقق نظريا ذلك المشروع، أي مشروع فك الرباط بين الأخلاق والدين، العقل والإيمان، إلا في القرنين السادس والسابع عشر مع ثلّة من الفلاسفة الفرنسيين ذوي التوجه المادي الإلحادي الصريح”.
تاريخيا كان فلاسفة الأنوار الألمان (كانط، هيجل، شلنج…) نشأوا نشأة دينية مكثفة وواصلوا علاقتهم بالدين حتى بعد تفلسفهم. بالتأكيد أنهم لم يبقوا على التدين التقليدي الذي نشأوا عليه ولكنهم رغم كل النقد ورغم كل الخروج عن التعاليم الدينية إلا أنهم لم يقطعوا مع الدين نهائيا بمعنى أنهم لم يتبنوا المادية والإلحاد الصريح. كان نيتشه يسخر من قومه ويصف فيلسوفهم أنه قس بروتستانتي. الجيل التالي من الفلاسفة الألمان تجاوز هذا الوصف وقطع جزء منهم خصوصا اليسار مع الدين أمثال فيورباخ وماركس. في فرنسا وإنجلترا يختلف الوضع فالفلسفة المادية كان لها الريادة وتبنى الكثير من فلاسفة التنوير القطع مع الأفكار الدينية بشكل جذري. نتحدث عن أمثال هيوم وديدرو وروسو.
يستحضر المزوغي في نقده لكانط أبرز النقودات التي قدمت ضد مشروع كانط، يستحضر نقد هيجل وشلنج وهردر وفون كلايست إلا أن الإشكالية الكبرى في نقد المزوغي لكانط أنه يصل من خلال التناقضات والترددات في مشروع كانط إلى أنه ارتكاس وردّة فعل ضد إنسانوية التنوير وخيانة لمبادئ التحرر. وهذا بالتأكيد ظلم كبير لأحد أكبر فلاسفة التنوير، الفيلسوف الذي قدّم أحد أكبر مشاريع التفكير البشرية والتي تتأسس على مسئولية الإنسان تجاه تفكيره. هذه المسئولية التي جعلها كانط شعاراً للتنوير. أن يخرج الإنسان من حالة القصور التي هو فيها ليتحمل مسئولية تفكيره ويقوم بمهامه. قام كانط بهذا الدور بامتياز. أما أن فلسفته لم تقطع مع اللاهوت وأن تصوره للدين يبقيه في حدود العقل. فهذه قضية لا تناقض التنوير خصوصا في الفترة التي عاشها كانط، فأفكار كانط التي وضعت الدين في حدوده الخاصة وحاول حصر ما يمكن تعقّله فيه كان لها وقع كبير في تحريك الفكر الديني في وقته. يعلق البروفيسور الفرنسي جاك دوندت، صاحب الدراسات المهمة عن هيجل، على هذه القضية قائلا “إن هذه الأفكار الكانطية لم تعد تصدم رجال الدين في عصرنا الراهن. فقد سمعوا بمثلها وأكثر!… ولكن مهما تكن درجة التساهل التي سمح بها التنوير الألماني، فإن أفكار كانط لها وقع الزلزال على معاصريها، وبخاصة تلامذة اللاهوت”.
إن مقولة التنوير الناقص التي يرادف بها المزوغي كانط تحتوي ضمنا على مقولة التنوير الكامل الذي يبقى أسطورة في العقول لا في الواقع. الواقع لم ولن يشهد تنويرا كاملا، باعتبار التنوير هو الوصول إلى المعاني الحقيقية للإنسان، إلى حريته وعقلانيته وفرديته. وبالتالي فإن كل تنوير هو ناقص بالضرورة لا انتقاصا منه ولكن إدراكا لمعنى أهداف التنوير وقيمتها. إذا كان التنوير شعاراً لمسيرة الإنسان الحقيقية للمعرفة فإن مشروع كانط النقدي ومجمل كتاباته هي في صميم التنوير. وليس الموقف من الدين هو من يحسم تنور الأفكار من عدمها بقدر ما هو العمل الجاد والصادق نحو الوصول للحقيقة والإخلاص لها. هو تحمل مسئولية التفكير والقيام بها.
يبقى الإنسان هو القيمة الأساسية في مشروع كانط النقدي وفي مجمل تفكيره ولم يتنازل عن هذه القيمة على طول الخط. كان لكانط ومع تطوره الفكري موقف وفهم خاص للدين فقد كان يرى الفصل الكامل بين الفلسفة والدين وبين العلم والدين ويرى أن المشكلات تظهر حين يحاول أحد منهم التدخل في الآخر وإخضاعه له. وقد رفض كنت جميع أشكال ما سمّي بنصرة الدين للفلسفة أو العكس، كما أنه رفض القول بلاهوت طبيعي مؤسس على معطيات عقلية. وعنده أن الفلسفة لا تحتاج إلى طقوس ولا تقشف ولا خلوة رهبانية عن طريق إماتة الجسد والزهد ليصل عليها الوصول إلى الحقيقة. إن قوانين ومبادئ العقل هي التي تكشف للإنسان ما يجب أن يؤمن به ويسلك بموجبه تجاه نفسه وتجاه الآخرين وتجاه الكائن الأسمى أيضا، مع الاحتفاظ الكامل بعقلانيته وحريته.
كان كنت رافضا بشكل كامل لسلطة رجال الدين. يذكر أنه كان من تقاليد الجامعات الألمانية أن يطوف الأساتذة والإداريون والطلاب في أول يوم دراسي “اليوم الأكاديمي” بالمدينة حتى يصلوا في الختام إلى كنيسة الجامعة حيث يصلي الجميع وينالوا بركة رجال الدين. كان كنت يطوف مع الموكب حتى إذا اقترب من الكنيسة انصرف عن الموكب واتجه لبيته.
هل يمكن أن نقول أن فولتير كان “مرتدا” عن التنوير أو “خائنا” له لأنه كان يقول إنه “لو لم يكن الله موجودا لوجب إيجاده”، لأنه لم يقطع نهائيا مع التصورات اللاهوتية. لا يمكن هذا وإلا وقعنا في الدوغما والوثوق. المزالق التي يمكن بسهولة أن يقع فيها دعاة التغيير والنهوض والتطوير. وهم بهذا يحكمون بالنهاية على مشاريعهم وأفكارهم. كان من أهم وأبرز النقد الموجه لعصر التنويرأن العقل فيه تحول إلى إله جديد، إله لم يعد أحد يستطيع مناقشته. أدى هذا إلى الوثوق بمبالغة في العقل البشري وإقصاء الجوانب الأخرى وإزاحتها مما أدى إلى الوقوع في الكثير من الشناعات.
في كتاب المزوغي الكثير من الجدية والعمل المتقن ولكنه في ذات الوقت يحتوي على الكثير من الوثوق والجزم والحدّة. لا يستطيع أحد أن ينكر أن الوبال العظيم الذي وقع على الفلاسفة إنما كان جلّه على يد رجال الدين تحديدا. فقد حاربوهم وحرّضوا عليهم الخاصة والعامة، ولكن هذا لا يعني أن يقف الفيلسوف موقفا عدائيا من الدين على هذه الخلفية التاريخية. بل يجب عليه أن يجعل الدين مفكرا فيه، بحرية وموضوعية. لن تكون الطرق أمامه سالكة خصوصا في العالم الإسلامي اليوم ولكن عليه ألا ينخرط دون وعي في معركة أيديولوجية يخسر فيها قيمته الحقيقية كونه مفكراً حراً يسعى جادا وصادقا للحقيقة.