عالم المستقبليات يوفال نوح هراري يعتبر من أبرز الباحثين المعاصرين الذين يهتمون بالبحث في التطور البشري، في علاقة بكل ما يحيط به سياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا واجتماعيا وأيديولوجيا.
البشرية تحتاج إلى التأقلم مع عصر ما بعد الليبرالية
أصبح المؤرخ والباحث يوفال نوح هراري ظاهرة عالمية بسبب كتبه التي تستكشف ماضي الإنسانية ومستقبلها، وتحاول الإجابة على الأسئلة التي تكمن وراء وجودنا. جعل هراري من دراسة البشر مهنته. تغوص أفكاره في عمق الحياة البشرية وما تشهده من تطورات على مدى التاريخ وإلى أين ستؤول في عصور الذكاء الاصطناعي، ضمن قراءات تبدو للوهلة الأولى وكأنها “خيال علمي”، إلا أنها في الحقيقة من صميم هذا الواقع الذي مر بمرحلة تغيير وجودي تحتاج فيها البشرية إلى التعاون.
لندن- روبوتات تقوم بوظائف بشرية وذكاء اصطناعي يخترق الدماغ البشري، إلى حد قريب كانت مثل هذه الفكرة مجرّد سيناريو لفيلم خيال علمي، لكنها اليوم في طريقها لتتبلور كحقيقة وأمر واقع، تحتاج البشرية إلى أن تـتأقلم معه، مثلما هي بحاجة إلى أن تتأقلم مع متغيرات كثيرة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. ويعني التأقلم هنا، وفق الباحث والمؤرخ يوفال نوح هراري، الاستثمار في استكشاف العقل البشري وتطويره، حتى لا يفقد إمكانياته، حيث “يجدر بنا أن نحاول أن نفهم عقولنا بصورة أوضح قبل أن تعمل الخوارزميات على تشكيل مواقفنا بالنيابة عنا”.
يعتبر عالم المستقبليات يوفال نوح هراري من أبرز الباحثين المعاصرين الذين يهتمون بالبحث في التطور البشري، في علاقة بكل ما يحيط به سياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا واجتماعيا وأيديولوجيا. وهو يرى أن البشرية ستعيش عدة سنوات صعبة سيتعين على الناس فيها إعادة تدريبهم، وتظهر وظائف جديدة، وبعض الناس لن يكونوا قادرين على الحصول على هذه الوظائف الجديدة، ثم ستظهر كنتيجة لذلك مشكلة البطالة الكبيرة. ولكن في النهاية تستقر الأمور ويحدث بعض التوازن، وسيتولد نوع جديد من الاقتصاد. أما بخصوص ما يشهده النظام الدولي القائم من تغييرات، فيرى أن إصلاحه يكون بالجمع بين الهوية الوطنية وروح الشعوب العالمية.
جلب هراري الانتباه سنة 2011 بكتابه “العاقل ـ موجز تاريخ الجنس البشري”، وفيه انشغل بالبحث عن الإنسان، وكيف وصل إلى حالته الراهنة؟ وكيف سيكون مستقبله؟ وما هي العلاقة بين التاريخ وعلم الأحياء؟ وهل هناك عدالة في التاريخ؟
وفي سنة 2015 أصدر كتابه الثاني “هومو ديوس” أو “موجز تاريخ الغد”؛ ومن خلاله يعود إلى الماضي، متناولا تجربة الإنسان مع القضايا الأخلاقية المستمدة من التاريخ. وحاول رسم صورة لمستقبل البشرية من خلال دراسة فردية الإنسان هذه المرة، إضافة إلى ما أنجزته البشرية في الزمن الراهن واتصال هذا بمسار الإنسان.
ومؤخرا، شغل يوفال نوح هراري العالم بأحدث إصداراته، وهو كتاب “21 درسا للقرن الحادي والعشرين”، وتطرق فيه إلى قضايا أكثر ارتباطا بما يجري على الساحة الدولية الراهنة، وإلى الحديث عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وظاهرة تغير المناخ واحتمال نشوب حرب عالمية ثالثة، وهشاشة الديمقراطيات الليبرالية والأخبار الملفّقة وتدفق البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي.
وقد كتب جون ثورنهيل، في صحيفة فاينانشال تايمز، عن هذا الكتاب قائلا “إذا كنت تشعر بخيبة أمل بشأن حالة العالم، فمن الأفضل ألا تقرأ كتاب ’21 درسا للقرن الحادي والعشرين’، وهو أحدث كتاب للنجم الفكري يوفال نوح هراري”. وأضاف “في هذا الكتاب تُعلن وفاة القصة الليبرالية التي ألهمت وعملت على استمرارية الغرب لأكثر من قرن من الزمان، وهي تتبع إلقاء القصص الفاشية والشيوعية في مزبلة التاريخ”، واليوم تحتاج البشرية إلى التأقلم مع “عصر ما بعد الليبرالية”.
تراجع الديمقراطية الليبرالية
يتحدث يوفال نوح هراري، في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ)، عن نقاط الضعف وتراجع الديمقراطية الليبرالية، مشيرا بقوله “إنني أواجه معضلة شخصية خطيرة عندما يتعلق الأمر بالليبرالية. فأنا أعتقد أن القصة الليبرالية معيبة، كما أنها لا تقول شيئا عن حقيقة الإنسانية، وبالتالي علينا أن نتجاوز ذلك من أجل البقاء والازدهار في القرن الحادي والعشرين”.
ويضيف في مقابلة أخرى مع صحيفة لوموند الفرنسية أن الديمقراطية الليبرالية تفترض أن الدماغ البشري أشبه بصندوق أسود مليء بالرغبات والأفكار. ويتخذ البريكست كمثال للتوضيح، قائلا “هذا النظام يفترض أن الناخب يعرف ما يفعله. نقرّر خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي لأننا نعطي قيمة عالية لشعور الناخب البريطاني. ولا أحد يشكّك في مصداقيّة هذا الشعور. ومع ذلك، تنشأ الأزمة الحالية من حقيقة أن لدينا تقنيات لقرصنة الناس، وليس فقط أجهزة الهاتف أو أجهزة الكومبيوتر المحمول. الثورة هي أنه يمكننا أن نفهم رغباتك، مشاعرك وأفكارك ومن ثم نحكم السيطرة عليك”.
ويربط هنا بين تأثير الأخبار والإعلانات والمعلومات والبيانات الضخمة المتدفقة عبر الشبكة العنكبوتية، وطريقة التأثير في ذلك الصندوق الأسود (الدماغ)، مشيرا إلى أن الشركات تستخدم الذكاء الاصطناعي لفهم الناس بشكل أفضل وبالتالي التلاعب بهم. ويستطرد موضحا أنه يمكن خلق شبكة مناعة ضد هذه القرصنة من خلال استخدام التقنيات نفسها للسماح للناس بفهم بعضهم البعض بشكل أفضل. ويقول “نحن عرضة للخطر اليوم لأننا لا ندرك ضعفنا. ولهذا السبب يجب أن نبدأ بالتخلي عن وهم الإرادة الحرة الكاملة”.
إرادة حرة
في كتابه “هومو ديوس” يقول هراري “إن العلم يثبت أن البشر ليست لديهم إرادة حرة، ولكن الخوارزميات البيولوجية هي التي توجههم. وإن قراراتنا ليست نتيجة لعملية عقلانية، حتى إذا كنا نعتقد ذلك”، وحول ما قاله في كتب أخرى عن كيفية جعل الناس يفكرون في المستقبل، وأن تكون لديهم القدرة على اتخاذ القرارات بصورة أفضل في العالم الذي يرغبون في العيش فيه، يفسر هراري ذلك قائلا إن “البشر لديهم إرادة، وهي ليست حرة. فأنت لا يمكنك اختيار ما ترغب في الحصول عليه. ومن المؤكد أن البشر يتخذون خيارات، ولكن هذه الخيارات ليست مستقلة بذاتها، فكل خيار يعتمد على الكثير من الظروف البيولوجية والاجتماعية والشخصية، التي لا يمكنك اختيارها بإرادتك. فأنت لم تختر جيناتك ونوعك ووالديك وجيرانك وثقافتك”.
ويضيف أن “الفكرة التي ترى أن البشر كائنات مستقلة تماما، تختار أفكارها ورغباتها بحرية، هي فكرة سخيفة علميا وخطيرة سياسيا”، ويوضح أنه “في القرون السابقة كان الخطر محدودا، لأنه لم تكن لدى أي حكومة أو مؤسسة المعرفة البيولوجية والقدرة الحاسوبية اللازمة للتحكم في أفكارك ورغباتك، ولكن الآن، بعض الحكومات والمؤسسات تكتسب القدرة على الاختراق والتلاعب بالآخرين، وأسهل من يمكن التلاعب بهم، هم أولئك الذين يعتقدون أنه لا يمكن التلاعب بهم، لأن لديهم ‘إرادة حرة’”.
وعما إذا كان ذلك يمثل تحذيرا، قال إنه يحاول “تنبيه البشر إلى حقيقة أنهم حيوانات قابلة للاختراق، ولأنهم ليسوا كائنات مستقلة تماما، يمكنني محاولة التأثير في قراراتهم”. ويضيف أن “بعض القرارات تسبب الكثير من المعاناة، في حين أن القرارات الأخرى تساعد في منع المعاناة. أما السؤال الكبير بالنسبة لي، فهو كيفية تحرير أنفسنا من المعاناة، إن أحد الشروط المهمة جدا لتجنب المعاناة، هو الهروب من الأوهام التي تستولي علينا بشأن أنفسنا، والتي تشمل الوهم بأن رغباتنا تعكس ‘إرادة حرة’”.
ويوضح أنه ”من الممكن أن يساعد إدراك ذلك في أن نصبح أقل انشغالا بشأن رغباتنا. ويعطي البشر أهمية كبيرة لرغباتهم، ويحاولون السيطرة على العالم بأسره وصياغته وفقا لتلك الرغبات. إذا كنت تفهم أن رغباتك ليست نتيجة اختيار حر، فمن المأمول فيه أن تكون أقل انشغالا بها. إذا فهمنا أنفسنا ورغباتنا كما هي حقا، فسيجعل ذلك العالم مكانا أفضل بكثير مما لو كنا نحاول تحقيق أي رغبة تطرأ على أذهاننا فقط”.
ويؤكد هراري “ما نعتقد أنه أكثر مشاعرنا أصالة يمكن أن يكون نتيجة للتلاعب الخارجي. لا يمكننا الوثوق في أنفسنا كليا. كانت لدينا تعويذة في القرن العشرين: ‘ثق بنفسك، اتبع قلبك’. لكن قلبك يمكن أن يكون عميلا روسيا! هذا لا يعني أنك لا تستطيع أن تثق في أحد. لكن يجب أن ندرك أننا عرضة للتلاعب”.
شكل جديد للبشر
يفترض أن الذكاء الاصطناعي سوف يصل إلى حده الأقصى بحلول عام 2025، وهو أبعد ما يكون عن الحقيقة. نحن لا نقترب حتى من القدرة الكاملة للذكاء الاصطناعي. هو فقط يُسرع في تطوره، إلى درجة أن بعض التغييرات الضخمة ستحدث في هذا المجال بحلول عام 2025. لكن ستشهد البشرية تغييرات أكبر بكثير في عام 2035 على سبيل المثال، وحتى تغييرات أكبر في عام 2045، وسيتعين على الناس حينها إعادة ضبط أمور حياتهم ومعيشتهم بناءا على ذلك.
وتنبأ هراري بأنه من الممكن أن يؤدي دمج التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي إلى شكل جديد آلي من البشر، أو إنسان شبه مبرمج، وأنه من الممكن أن تتم معالجة بعض البشر بمخلوقات أكثر تعقيدا، كما نعالج بعض الحيوانات اليوم، لكن كيف يمكن وقف هذا التطور؟
يجيب هراري على ذلك قائلا ”نحتاج إلى فهم أفضل بكثير للعقل البشري. من المرجح أن تستخدم الحكومات والمؤسسات والجيوش التكنولوجيا لتعزيز المهارات التي تحتاجها، مع إهمال احتياجات البشر الأخرى والإمكانيات البشرية المجهولة”.
ويضيف “على سبيل المثال، من المحتمل أن تشجع الحكومات والمؤسسات على تطوير الذكاء والانضباط، مع الاهتمام قليلا بتنمية الروحانية، والتعاطف مع الآخرين والشعور بما يمرّون به. وستكون النتيجة عندئذ بشرا يتمتعون بقدر كبير جدا من الذكاء والانضباط، ويفتقرون إلى التعاطف والعمق الروحي”.
ولتوضيح ذلك قال هراري “قمنا بتطبيق ذلك مع الأبقار، بتربية أبقار تتسم بالهدوء، تنتج كميات هائلة من الحليب، ولكنها أقل نشاطا من أسلافها البرية”. ويمضي قائلا ”إننا نقوم حاليا بخلق بشر يعملون كشرائح فعالة في آلية ضخمة لمعالجة البيانات… في الواقع، من الممكن أن نفقد جزءا كبيرا من إمكاناتنا البشرية دون أن ندرك حتى أنها لدينا. ولتجنب ذلك، نحن بحاجة إلى الاستثمار في استكشاف وتطوير العقل البشري، وذلك بقدر ما نستثمر في استكشاف وتطوير التقنيات الجديدة، على الأقل”.
ثلاث أخطار
يرى هراري أن البشرية تواجه أزمة وجودية بسبب ثلاث مشكلات متداخلة: الحرب النووية والاضطراب التكنولوجي، وأيضا تغير المناخ. ويقول هراري في هذا السياق إن “أزمة البيئة ليست سوى واحدة من ثلاثة أخطار كبيرة تواجهها البشرية حاليا، وهي تغير المناخ، والحرب النووية، والفوضى التكنولوجية. حتى لو نجحنا في منع تغير المناخ والحرب النووية، فإن الذكاء الاصطناعي والهندسة البيولوجية من شأنهما تعطيل سوق العمل والنظام العالمي، وحتى أجسادنا وعقولنا”.
تبين أفكار هراري أنه يميل إلى العولمة باعتبارها النظام الأفضل لتأمين مستقبل البشرية، حيث يرى أنه “على البشر العمل معا لحماية قيمهم وتعزيز مصالحهم المشتركة. وتعد أفضل طريقة لتعزيز هذا التعاون هي تسهيل حركة الأفكار والسلع والأموال والأشخاص في جميع أنحاء العالم”.
تتعارض هذه الفكرة مع توجهات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يتوجه إليه هراري محذرا إياه من أن “الوطنية” (بمعنى الانغلاق) لا يمكنها أن تحل التهديدات العالمية وتبعد الأخطار عن الولايات المتحدة الأميركية. ويؤكد بقوله “لا يمكنك بناء جدار ضد الشتاء النووي أو ضد الاحترار العالمي ولا يمكنك تنظيم الذكاء الاصطناعي أو التكنولوجيا الحيوية على أساس وطني”. ويضيف “ما سيحدث بالفعل ليس حتميا، فهو يعتمد على قراراتنا. ولكن لمنع أسوأ النتائج، نحتاج إلى تعاون عالمي. فليس من الممكن أن تقوم أي دولة بمفردها بحل واحدة من هذه المشكلات”.
ويشدد على أن “الاستقلال مجرد خيال. لكن لم تعد هناك أي دولة مستقلة في العالم. لا يهم ما هو مكتوب في بعض الوثائق”. ويبرر هذا الموقف نظرة هراري القاتمة من عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتي وصفها بأنها “في الأساس تشويش. لا أعتقد أنها بطبيعتها فكرة سيئة… لكن التوقيت رهيب… إذا انشق الاتحاد الأوروبي إلى 28 دولة مختلفة، فسيكون من الصعب للغاية التفاوض على اتفاقيات المناخ، ووجود جبهة مشتركة ضد عمالقة التكنولوجيا. كل دقيقة تنفق فيها معاهد المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على بريكست تأتي على حساب القضايا الوجودية”.
يوفال: سنقهر الموت قريبا
أزاميل/ العرب
سيظهر في الغد من يقول: ماذا نفعل بكل هؤلاء البشر؟
برلين – لا يمكنك رؤية المستقبل، دون أن تكون قد نظرت طويلاً في الماضي لتدرك كيف وصلت إلى هذه اللحظة. هذا ما فعله يوفال نوح هراري في دراسته لتاريخ الجنس البشري، كي يتمكن من إدراك أو تنبؤ مستقبل ذاك الجنس.
في زمن سحيق، كنا كائنات غير مهمة، كما يقول هراري. لم يكن تأثيرنا يتعدى تأثير كائن هلامي مثل “قنديل البحر”. لكننا اليوم صرنا حكاماً لكوكب الأرض. والسؤال المهم هنا؛ هو كيف تمكنا من التطور إلى هذه الدرجة؟ يتساءل ساخراً “ما الذي يجعلني أكثر رقياً من الشامبانزي؟ مع أنني وبشكل محرج أكثر الكائنات شبهاً بالشامبانزي نفسه؟”.
من فكرة القرد ذاتها، يذهب هراري بعيداً، بتحليل منطقي لما يمكن أن يحدث لو وضع إنسان وقرد في جزيرة ليصارعا من أجل البقاء. يؤكد المؤرخ وعالم المستقبليات الإسرائيلي، أن القرد سيربح تلك المقارنة. من هنا فإن القيمة الكبرى للفوارق بين الحالتين لا تكمن في الفردية منها، بل في الجمعي. أو في سلوك الجماعات لا في نشاط الأفراد.
ضرورة المجتمع
إن البشر يتحكمون اليوم بالكوكب، لأنهم أكثر الحيوانات قدرة على التعاون فيما بينهم. مع إضافة صفة “المرونة” لذلك التعاون الكبير بين البشر. لأن هناك كائنات أخرى تتعاون فيما بينها، كالنحل على سبيل المثال. لكن تعاونها صارم ومنضبط ولا ينطوي على المرونة التي يتمتع بها البشر.
فلا يمكن للنحلات أن يعملن سوى بطريقة واحدة. ولا يمكن لهنّ أن يعدن بناء نظام تعاونهن ذاك إذا ما انهار بين يوم وليلة. لا يمكنهن إعدام الملكة إذا لم تنجح في قيادتهن. أو تأسيس جمهورية النحل.
الجانب الآخر الذي يرد به هراري على أسئلته يتعلق بالمرونة والتعاون، فهناك آخرون غير البشر قادرون على فعل ذلك، لكنهم يقومون به ضمن نطاقات ضيقة جداً تتطلب معرفة كلّ منهم بالآخر لينشأ ذلك التعاون. لكن البشر لا يحتاجون تلك المعرفة لينشأ فيما بينهم تعاون مرن وبأعداد هائلة.
تعاون البشر المرن هذا، لا يتوقف على الإنجازات الهائلة، برأي هراري، بل أيضاً على الكوارث التي تسبب بها الإنسان، والجرائم التي “ارتكبناها ونرتكبها الآن” كما يقول. فالسجن مثال حقيقي على نظام التعاون البشري المرن. كما هو حال المسالخ، ومعسكرات الاعتقال، وغير تلك الأمثلة الرهيبة.
لكن ما الذي يجعل البشر يتعاونون وبشكل مرن وعلى نطاق واسع؟
الخيال هو الجواب. فنحن كما يعتقد هراري، قادرون ليس فقط على ابتكار القصص الخيالية، بل على تصديقها أيضاً. فجيراننا في الكوكب، مشغولون بتفسير الواقع. كما يفعل القرد حين يقول لقرد آخر “انظر. هناك أسد يقترب”. لكننا نفعل أمراً غير هذا. “البشر يستخدمون لغاتهم، لوصف الواقع الخيالي، فيقولون على سبيل المثال: انظروا. هناك إله فوق الغيوم، وإذا لم تفعل ما آمرك به، فهذا الإله سيقوم بإرسالك إلى الجحيم”. ووحدهم البشر يمكنهم استعمال تلك الميزات من أجل التعاون فيما بينهم، إذا ما صدّقوا جميعاً هذا الخيال الذي احتوته الجملة السابقة عمّا يوجد فوق الغيوم.
بالمقابل لا يمكنك أن تقول لقرد “أعطني موزة، لأنك إذا فعلت، فستذهب بعد موتك إلى جنة القرود، وهناك ستكون آلاف الموزات بانتظارك”.
هراري وهومو ديوس
لكن أكثر أمثلة هراري إثارة، كانت حديثه عن المال. فالمال من وجهة نظره، نموذج قويّ جداً على تطبيق الخيال الجماعي والإيمان به وبناء التعاون بين البشر على أساس ذلك في ما بعد. فقطعة الورق الخضراء التي يسمّونها “دولار”، هي شيء لا قيمة له، لكن المصرفيين والاقتصاديين ووزراء المال في العالم قالوا لك إن قطعة الورق الخضراء التافهة هذه “يمكن أن تشتري لك عشر موزات” وأنت صدقتهم، وستذهب بها إلى بائع يصدّق هذا الأمر أيضاً، وسيقوم بإعطائك مقابلها الموزات العشر. المال هو أكثر خيال يصدّقه البشر، فليس كل البشر يؤمنون بالإله. وليسوا جميعاً من المؤمنين بحقوق الإنسان. لكنهم دون أيّ استثناء مؤمنون بالمال.
هراري يؤمن بأننا، نحن البشر، نتحكم بالكوكب، لأننا نعيش في عالمين متوازيين، بينما تعيش الحيوانات في العالم الواقعي المادي فقط. عالمها يتكون من “الكينونات الموضوعية” كالبحار والأنهار والجبال. ونحن أيضا نعيش في عالم موضوعي. ولكننا قمنا عبر العصور ببناء طبقة أخرى من الواقع الخيالي
يقول هراري إننا نتحكم بالكوكب، لأننا نعيش في عالمين متوازيين، بينما تعيش الحيوانات في العالم الواقعي المادي فقط. عالمها يتكون من “الكينونات الموضوعية” كالبحار والأنهار والجبال. ونحن أيضاً نعيش في عالم موضوعي فيه البحار والأنهار والجبال. ولكننا قمنا عبر العصور ببناء عالم آخر. طبقة أخرى من الواقع الخيالي، مكوّن من الآلهة والمال والحقوق والأمم وغيرها. ومع مرور الزمن، أصبح هذا الواقع الخيالي أكثر قوة من الواقع المادي. وأصبح بقاء تلك الكائنات الموضوعية المادية متوقفاً على الكائنات التي أتى بها الخيال، فبقاء الجبال والأنهار مرتبط اليوم بقرارات غوغل والولايات المتحدة الأميركية والبنك الدولي، وهي أشياء موجودة فقط في خيالنا.
مستقبل البشرية
ولد يوفال نوح هراري في إسرائيل في العام 1976، وهو يهودي من أصول أوروبية شرقية، ودرس وعاش في حيفا، حصل على الدكتوراه من أكسفورد في العام 2002. وهو أستاذ محاضر في قسم التاريخ في جامعة القدس، تخصص في التاريخ العالمي، التاريخ العسكري وكذلك تاريخ أوروبا في العصور الوسطى.
كتابه “العاقل ـ موجز تاريخ الجنس البشري” صدر للمرة الأولى باللغة العبرية في العام 2011، ثم ترجم إلى الإنكليزية في العام 2014 ليتم نقله إلى أكثر من 30 لغة حول العالم. وأصبحت كتبه هي الأكثر مبيعاً في إسرائيل وفي العديد من البلدان.
انشغل هراري بالبحث عن الإنسان، وكيف وصل إلى حالته الراهنة. وكيف سيكون مستقبله. وما هي العلاقة بين التاريخ وعلم الأحياء؟ وهل هناك عدالة في التاريخ؟
عمله الآخر هو “هومو ديوس” أو “موجز تاريخ الغد” الذي صدر في العام 2015 وترجم إلى الإنكليزية في بريطانيا هذا العام 2016. في “هومو ديوس” يعود هراري إلى الماضي، متناولاً تجربة الإنسان مع القضايا الأخلاقية المستمدة من التاريخ. ويحاول رسم صورة لمستقبل البشرية من خلال دراسة فردية الإنسان هذه المرة، إضافة إلى ما أنجزته البشرية في الزمن الراهن واتصال هذا بمسار الإنسان.
يبدأ هراري منذ ما يسمى بـ”الثورة اللفظية” للإنسان. أي منذ تمكّن البشر من إلقاء الأوامر لأول مرة عبر اللغة. تلك الأوامر هي ما صارت لاحقاً مفاهيم تتحكم بوجودهم وحياتهم في ما بينهم. القدرة على إعطاء تلك الأوامر، مكنت البشرية من تحقيق إنجازات هائلة عبر تاريخها الطويل.
ويشرح هراري التهديد الذي تمثله التكنولوجيا على البشرية، وعلى استمرار قدرتها على إعطاء معنى للحياة، في ظل البيئات الجديدة التي نشأت بفعل التطور العلمي، وهو يتنبأ بأن الأجيال البشرية القادمة يمكنها أن تتوصل إلى قدرات خارقة تخوّلها من قهر الموت، والعيش إلى الأبد. فكيف سيكون شكل الحياة حينها؟
أخطر تنبؤات هراري حول مستقبل البشرية يتمثل في قوله “أتوقع أن يقوم البشر خلال القرنين القادمين بتحديث أنفسهم إلى فكرة كائن إلهي، من خلال التلاعب البيولوجي”. ويعلل هذا بالقول “إن شيئا لم يتغير بيولوجيا منذ أربعة مليارات سنة. ولكننا سنكون مختلفين عن بشر اليوم كاختلاف قرود الشامبانزي عنا الآن” |
يرى هراري في كتابه “ما بعد الإنسان العاقل” أن الثورة الصناعية قد أنتجت فئات عمالية مدنية، وخلال المئتي عام الماضية، ارتبط الحراك السياسي والاجتماعي بتلك الفئات. اليوم نشهد فئات مهملة كبيرة من البشر الذين لا عمل لهم، بعد دخول التقنيات الحديثة حياتنا، مثل الآلات الذكية والكومبيوترات وغيرها. أدوات يتحسّن أداؤها باستمرار. وهذا التطور مرشّح لجعل البشر ينتقلون إلى كرسي الاحتياط في جميع المهام. وحينها سيكون السؤال أمام البشرية في القرن الحادي والعشرين؛ بماذا سنحتاج كل هؤلاء البشر؟ أو ما هو الداعي لكل هذا العدد من البشر؟
يحاول الإجابة على تلك الأسئلة، بالقول “نبقيهم في عالم المخدرات، أو في ألعاب الكومبيوتر”. ويتوقع هراري أن يتم تقسيم البشرية إلى أثرياء وفقراء، الأثرياء سيكونون بمثابة الآلهة الافتراضية. والفقراء سينحدر بهم الحال إلى درك سحيق.
يقول هراري إننا مبرمجون لأن نكون متذمّرين، وحتى عندما يحصل البشر على المتعة ويحققون الإنجازات، فإن هذا “لا يكفيهم بل يريدون المزيد”، ويضيف “أتوقع أن يقوم البشر خلال القرنين القادمين بتحديث أنفسهم إلى فكرة كائن إلهي، من خلال التلاعب البيولوجي أو الهندسة الوراثية أو بخلق سايبورغ يكون جزء منه عضويًا وجزء غير عضوي”. ويعلل هذا بالقول “إن شيئًا لم يتغيّر بيولوجيًا منذ أربعة مليارات سنة. ولكننا سنكون مختلفين عن بشر اليوم كاختلاف قرود الشامبانزي عنّا الآن”.
ووسط حروب الشرق الأوسط الدينية، يرى هراري رأيا آخر، غير ما تؤمن به أطراف النزاعات في تلك المنطقة المشتعلة. فهو يعتقد أنّ المكان الأكثر قداسة الآن على ظهر الكوكب، ليس الأرض المقدّسة في الشرق الأوسط. بل “وادي السليكون” حيث يطوّر الباحثون هناك “ديناً تكنولوجياً” سينتصر على الموت.
الأيام الأخيرة للموت
باحث يؤمن بالخيال مثل هراري، يعتقد أن الدلائل كلها تشير إلى رجل القرن الحادي والعشرين، جادّ في طلب الخلود والمحافظة على الشباب الدائم ومكافحة الشيخوخة. أما الموت فهو كما عرفناه سابقاً، صراع شرس مع الجوع والمرض.
ومن خلاله استمدت حياتنا قيمتها المقدسة في العالم الواقعي. لذلك كان الموت هو ضمان الاستمرار بالنسبة إلى البشرية. ومع الوقت، وتطور الوعي بين الناس، وشيوع المعلومات الطبية، أصبح حتى الناس العاديون، الذين لا انخراط لهم في البحث العلمي يتابعون عن كثب، سير المعركة مع الموت. كما اعتادوا على متابعة آخر التطورات في الأبحاث الطبية.
أصبح البشر يفكّرون في الموت، بطريقة تقنية لا أكثر. ومع الوقت قلّت القداسة التي كانت تصبغه. ولم يعد الموت ذلك الشبح الذي يرتدي عباءة سوداء، ويأتي لخطف الأرواح.
فعندما يذهب شخص إلى الطبيب ويقول “دكتور، ماذا لديّ؟”، سيجيب الطبيب بشيء من هذا القبيل “لديك مرض السلّ” أو “أنت مصاب بالسرطان أو ”لديك مرض الزهايمر”. فيسأله الشخص “وماذا سيحدث؟” فيجيب الطبيب “الموت”. تلك الإجابات، برأي هراري، هي إجابات تقنية لا أكثر، وهي تشخيصات علمية، وبنود في كتب الطب والأكاديميات، ونتائج لعمل ميكروبات محددة ومسببات لم تعد خافية على أحد.
وبالمنطق ذاته، فإن شيئاً ما سيحدث، ويجعل البشرية تتغلب على هذه التقنيات، وبالتالي ينتهي الموت إلى الأبد. لأن الأمراض التي لا تتفوّق على معارفنا، لا تغلبنا، ولكننا نتقبل الهزيمة أمام السرطان والسلّ. بينما لا نحرك ساكناً أمام الزهايمر، مع أن الحق في الحياة لا يقتصر على وقت محدد. فشرعة حقوق الإنسان لا تنص على أن “لكل فرد الحق في الحياة حتى سن الـ90″. بل تقول إن “كل شخص له الحق في الحياة”.
المشروع الرائد بنظر هراري، هو “هزيمة الموت” وهو يستند في قناعته تلك إلى الكثير من الإشارات الصادرة عن مراكز الأبحاث. وكذا ما يشي به التقدم السريع في مجالات الهندسة الوراثية، وعلاجات التجدّد، والبيولوجيا الإلكترونية. هذه الأمور تجعل المستقبليين يتوقعون انتصاراً على الموت يتحقق في غضون بضعة أجيال . البعض يقول إن هذا التاريخ سيكون في 2200، والبعض الآخر يقول إنه سيتحقق بحلول العام 2100.
المصدر: العرب /إبراهيم اللجين