كتب منصور الناصر
رفع متظاهرو انتفاضة تشرين العراقية شعارات ومطالبات عديدة من بينها من اشترط إلغاء الأحزاب لانهاء التظاهرات وهذا دعاني للتساؤل: أي أحزاب يقصدون؟ وهل لدى المحتجين تصور عن طموحاتهم؟ لماذا نحن فاسدون؟
ومن قال ان ما يسمى لدينا بالأحزاب هي أحزاب حقا؟
ما لدينا إقطاعيات وعصابات دينية عملها الوحيد هو النهب والسلب، لا البناء والتعمير.
ثم احنه ما عدنه سياسة أصلا، فكيف نشكل منها أحزاب بمعنى الكلمة!؟
كل ما لدينا هو دين سياسي، لا علاقة له عمليا، لا بدين ولا رسل ولا أنبياء، قدماء ولا حتى بسياسة بصفتها علما حديثا.
السياسة الحقيقية المثمرة لا تجعل المواطن العادي يشعر بوجودها، ولا ينشغل بها إلا نادرا
أما المزيفة فتجعله يلهث وراءها طول العمر ولا حديث له وللناس جميعا سواها!
.
والسبب وفقا لي، هو أننا كمجتمعات لا تكمن مشكلتها بعدم فصل الدين عن الدولة، بل في فشلها في فصل الدين عن السياسة، وليس الدولة، حيث إن الدولة “الحديثة” مرحلة متقدمة لم نستطع تحقيقها حتى الآن.
والحقيقة ان الدين ما زال لدينا هو السياسة، وهو “الشريعة” أو الدستور الذي تسير عليه أيضا، وكلاهما أي الشريعة والسياسة أدوات لا يسمح لها ان تخرج إلا من تحت عباءة الدين.
.
المشكلة ان هذا “النموذج السلطوي” ما عاد ناجحا في عالمنا المعاصر، فهو معد للعمل في بيئة مختلفة تماما..ومن أهم صفاتها الانغلاق ورفض الآخر المختلف..وهذه كانت مسالة مصيرية للشعوب القديمة وليس المعاصرة.
أما الصراع الجدلي الذي يديم ويطور حياة هذا النموذج فلا تعبر عنه الأحزاب انما المذاهب الجديدة المتصارعة (تمثلها حاليا مذاهب مثل الصدريين الدعوة، القاعدة النصرة داعش الخ).
.
من هنا نفهم مكانة الفساد بمفهومه الحديث، المركزية في إدامة عمل هذا النموذج، إنه الهواء الذي تتنفسه هذه المذاهب بقادتها اللصوص “المقدسين”، وبدونه تموت.
عمليات النهب والسلب واغتصاب الأراضي والعقارات وجمع الأتاوات هي الدورة الدموية الوحيدة لهذا النموذج، وليس دورة العمل والانتاج الكمي والنوعي.
.
هكذا لا تخطر ببال قائد الحزب الديني فكرة بناء مستشفى أو مدرسة مثلا..بل ببناء جامع أو مرقد ديني، لأن الأول يسحب من رصيده، وقد يصفره، فيما يضيف الآخر عليه وربما يضاعفه.
كما أن مضاعفة هذا الرصيد ليس مما يتم التغافل عنه أبدا، فهناك حركات دينية منافسة ستستغل أي بادرة ضعف فورا.
التعامل مع هذه الهموم هو ما كان يسمى سياسة “أي سياسة الخيل” ولا يقصد بها علم السياسة الحديث، والمختلف تماما.
من هنا كانت “حاجات” هذه المذاهب الدين-سياسية، تفرز مع الزمن قيما دينية مختلفة أكبر مميزاتها أنها رجراجة وتتقبل الشيء ونقيضه..الكذب يصبح صدقا مثلا، والقتل يصبح جهادا، والسرقة غنيمة والعكس صحيح وحسب الحاجة..وهذا ما عقد مشكلة بناء دولة قانون ومواطنة ومساواة في أغلب الدول العرببة والإسلامية.
.
والسؤال: ما أبرز ما افرزته ثورة تشرين؟ أنها أول محاولة جماعية واعية للخروج على هذا النموذج، أول محاولة خرجت عن سلطة المقدس وثنائية الدين-السياسة بشكلهما القديم..وقادها جيل فائق الحيوية والنشاط ومنفتح على العالم 🌏 لم يجد في “الإسلام السياسي” المهيمن ما يشفي غليله ويلبي حاجاته، فتجاوزه بوعيه المعاصر ، وخرج عليه منتفضا.. والمفارقة انه لم يثر عليه مباشرة، بل تجاهله وطالب فقط بحياة كريمة ووطن مزدهر تتوفر فيه أساسيات الحياة الحديثة.. وهذه وحدها عملية تؤدي مباشرة الى فصل للدين عن “سياسة” الحياة اليومية وكسر لهيمنته، فقد أدركوا أنهم ليسوا بحاجة “للاقتداء” بمقدس مفارق، وان كل شيء بحاجة لمراجعة الشاملة وتغيير.
وهي مهمة ليست سهلة ابدا..ولكن لا مفر!
وكلنا امل وثقة بأن يتكفل الجيل الجديد بمواجهتها.