عن مشاكلنا كمجتمعات عربية كتب منصور الناصر
سؤال يشغل بال الجميع منذ قرون ولا جاوب ناجح، وهو لماذا مشاكلنا مستعصية ولا علاج لها؟ السبب في رأيي، هو أننا حتى حين نلتقي، لا نتحدث “مع” بعضنا إنما “عن” بعضنا. أي أننا نجعل الآخر، بصفته آخر، تهمة!
وهذا ما يحول فضاء أي حوار بيننا إلى صالة محكمة لا تتلى فيها الأفكار والرؤى.. إنما لائحة الاتهامات.
الأمر لا يتعلق بالحوار بين أتباع مذهب وآخر أو بين دولة وآخرىإنما في علاقاتنا الخاصة أيضا، بدءا من علاقتنا مع الأب والأبن والأم والصديق، وانتهاء بالزوج أو الزوجة.
المحصلة النهائية لهذا “التوجه الذهني” الذي تغذيه ثقافاتنا وعاداتنا الموروثة تسفر عن ثلاث نتائج:
1- هذا الفضاء المسموم الذي ننشأ ونعيش فيه، من المهد إلى اللحد!
2- تدمير كل فرص التواصل، ومن ثم التعاون بيننا، بما يؤدي إلى استحالة نشوء أي نظام أو منظومة إنسانية لفترة كافية في ظل هذه الاجواء المعادية، وهو أمر يفسر عجز مجتمعاتنا “المتدينة” عن تقديم اي إضافة حضارية، بين الامم الأخرى.
وتلك الامم لم تنجح في الذي هي فيه حاليا إلا بفعل نجاحها في إحداث عمليات تراكمية، منظمة ودقيقة، والامثلة كثيرة في القرن العشرين، يكفي تذكر تجارب ماليزيا، كوريا، سنغافورة، اليابان، بل وحتى رواندا!
3- هذا يجعل أي فرد يعيش وسط هذه المجتمعات (المعاصرة زمنيا فقط)، يشعر وكأنه موجود وسط غابة من الاحراش الكثيفة جدا، ولا يوجد فيها أي تنسيق ولا وضوح في الرؤية.
أي محاولة منه لفعل أي شيء ستواجهها صعوبات لا نهاية لها.
يمكن اكتشاف هذه التعقيدات في جميع مجالات الحياة العربية خاصة، سواء على صعيد الخدمات أو العمل أو التربية والتعليم وحتى الثقافة والسياسة والدين والرياضة وغيرها.
هذا الفضاء هو الذي يشجع على نشوء أديان وعقائد تتاقلم مع هذه الأجواء، وتتغذى عليها، على حساب مذاهب وعقائد أخرى، وعندها يكون ظهور حركات دينية أو سياسية متطرفة، أمر طبيعي، يحظى بالقبول الجماهيري العام “المنفعل أصلا”، جراء “استنشاقه” للهواء الفاسد لهذه الأجواء..
وهي أجواء كما قلنا، تجد “راحتها” في كل ما يساعد على انتشار الأفكار العنصرية والتكفيرية، والتطييفية، والجندرية وغيرها. وليس في أجواء تحث على التعاون والتسامح والتفاهم والتكافل كالتي توجد في بقية المجتمعات المعاصرة لنا حاليا، وخاصة تلك التي لا تحكمها سلطات عقائدية-استبدادية.
المناخ هو السبب وليس القيم المنتشرة فيه
المشكلة اننا نخطئ فهم ورؤية الواقع المتشظي حولنا على حقيقته، فنحن بدلا من أن نرجع سبب ما نحن فيه إلى هذه الاجواء المسمومة، نسيء الفهم ونعتقد أن قيم الكراهية أو العنصرية المنتشرة بيننا مثلا، هي سبب وجود هذا المناخ الرئيسي.
والحقيقة هي أن “أجواءنا” جاهزة سلفا، ويمكن اعتبارها البيئة الحاضنة المثلى لانتشار هذه الأفكار والقيم.
لا حاجة للقول إن قيم الكراهية والتكفير والتخوين وغيرها موجودة دائما، لكنها لا تنتشر إلا حين تجد الأجواء والتربة الملائمة لها.
القيم الإنسانية أشبه بالبذور، لا يمكن أن تنمو إلا في بيئة مناسبة لنموها.وكل من ينظر لتاريخنا وواقعنا سيكتشف الهوة الكبيرة التي تفصل بين الجميع، وتمنع تواصلهم ولو كانوا داخل بيت واحد أو دين واحد أو عمل مشترك واحد.
قد يعترض أحدنا ويقول: هذه مبالغة، فهناك تواصل وتعاون.. فنحن جميعا لدينا عائلات ومؤسسات دينية وسياسية متماسكة إلى حد لا بأس به.
وأقول هذا صحيح ولكن يجب أن نسأل: وبصفتنا منحدرين من سلالات ثقافية شرقية، كيف نحقق التواصل بيننا،؟الجواب أننا لا نستطيع تحقيق أي تواصل وتعاون بيننا إلا بالقوة.
وهذا الحال هو ما يدفع كل واحد منا لأن يكون مهووسا بالاستحواذ على أكبر قدر من السلطة، والقدرة على ممارسة العنف.
من هنا فإن عملية الإصلاح لا يمكن أن تنجح أبدا في تغيير واقعنا، لأنها مجرد معالجة لسلوكيات موجودة بشكل طبيعي في جميع المجتمعات..
الحل الوحيد هو في تغيير المناخ. أو الفضاء التواصلي العام على حد تعبير هابرماس.
لكن المشكلة إن “المناخ” لدينا في هذه البلدان والشعوب التي ما زالت مقيمة في كهوف أفلاطون، قد جرى بيعه بالكامل لجهة ما، وبكل ما فيه!
ولنا في كل عهد مالك حصري له قديم، وإن كان يبدو دائما وكأنه جديد!
ثمن الواحدية الباهض
لاشك أن الفكرة التوحيدية التي جاءت بها الاديان، عظيمة. لكن ثمنها كان باهضا. حتى على من ابتكرها، وأعني اليهود، فهم آمنوا بالفكرة، وسرعان ما تلقفها الآخرون، وحاربوهم باسمها!.
لم يكتفوا بذلك، بل حاربوا كل من لا يعتقد بما يعتقدون، والسبب أنها مزجت بين شهوة السلطة والطغيان لدى الأفراد، وبين الإيمان الديني.
كان الدين قبلها طقسا، واحتفالا، وتقاليد خاصة بكل جماعة، ولا يتخيل أحد أن من الممكن جعلها عامة ويعتنقها جميع البشر، وبالشكل نفسه.
كانت نضحا خاصا وسمة مميزة لكل فرد ولكل جماعة بشرية. بدليل أننا لا نجد ذكرا لحروب دينية قبل الاديان الشمولية.
الدين التوحيدي، ارتقى بالإنسان بطريقة معاكسة تماما للتطور الطبيعي، أي أنه لم يرتق بعقل الإنسان، إنما بالجانب القطيعي الغريزي فيه. وهذا هو سر انتشاره السريع ونجاحه في التغلغل في القلوب والعقول.
والسبب بسيط، وهو أن الجانب الغريزي-القطيعي للإنسان، ما زال هو الأقوى. وفي المقابل ما زالت عملية التفكير والتحليل المنطقي، شاقة ولا يحبذها كل إنسان.
هذا يفسر وجود طبقة النخبة في المجتمعات، وحجمها الصغير مقارنة بالطبقات المتخلفة معرفيا، أو شبه الجاهلة الأخرى.
التوحيد كما قلنا فكرة هائلة، كان من الممكن اكتشافها، وليس استثمارها كما حصل فعلا. وهذا الاكتشاف قامت به الأديان الغنوصية وقبلها الفلسفة اليونانية.
شخصيا أعتقد أن فكرة التوحيد لم يكن مصدرها اليهود، إنما طالي الملطي في القرن السادس ق.م. فهو أول من قدم فرضية علمية أو فلسفية بمعنى الكلمة، ولا تقوم على آلهة ولا قوى خارقة. إنما على مادة طبيعية.
هذه الفكرة أشعلت نار العقل البشري منذ تلك اللحظة، واتجهت حرائقها، في اتجاهين الأول فلسفي عقلي، والثاني توحيدي-ديني.
هل هنالك حلول ممكنة؟
الحلول تبدأ بتقبل فكرة النقاش والحوار. رفع هالة المقدس عن حياتنا وقبلها رفع هالة الخوف من رفعه، اتقان فن مواجهة الأزمات والمشكلات أولا بأول.
فماذا نفعل نحن؟ نتهرب من مواجهة مشاكلنا، نتبع ثقافة الاجتناب، نتحاشى التعرض لأسسنا الثقافية، وأصول الأصول.
نشعر وكأننا سننتهي تماما إن امتلكنا شجاعة التغيير الجذري لأفكارنا الخاطئة.
الحل هكذا سشيكون في الجواب على هذا السؤال: كيف تطورت البشرية؟ ولماذا تخلفنا عنها؟
الجواب نعرفه جميعا. بالعلم وليس الدين. الدين الشمولي لا يصنع الحضارات، بل يسحقها.
وإلا ماذا بقي من حضارات بابل وفارس ومصر والرمان واليونان؟ التاريخ يقول إذا دخل الدين الاستبدادي قرية، فقل عليها السلام.
تطور ورقيّ الإنسان ليس نتيجة إيمانه بالمقدسات بل التصدي لها.
الشعوب لا تتطور أبدا إلا عندما تخرج من قمقم الدين، والتاريخ كله شاهد.
لا نقصد الدين الذي تؤمن به أنت وانا، إنما الدين العام، الشائع الذي أصبح سياسة ومصالح، محطات فضائية وإعلامية وتقف خلفه مخابرات واستخبارات.
الديمقراطية ليست حلا سحريا
الديمقراطية ليست حلا سحريا، إنها مجرد أداة لحل مشكلة تداول السلطة، لكنها لا تنفع حين تكون ثقافة المجتمع العامة قائمة كليا على فكرة الواحدية.
أي وهم امتلاك الحقيقة، وتكثيفها على صورة إمام مقدس أو استعادة لحظة تاريخية مقدسة.
والواحدية فكرة سياسية في النهاية، رغم شكلها المزيف الديني، بل ان مظهرها اي الدين، وجد لتأدية هذه الوظيفة حصرا.
فماذا يختلف إيماننا بوجود خليفة أو بطل عن لإيماننا بوجود ديكتاتور؟
ثقافتنا وإيماننا يؤمن بظهور سلطان عادل يحكمنا. وهذا هو أقصى حد لأحلامنا، ولجميع ثقافاتنا!
وهو ما نحصل عليه فعلا، وللمرة الألف وطوال الألف سنة الماضية!
الحل هنا أصبح واضحا اي رفع الغطاء الديني وكشف حقيقته المزيفة، وهذا لا يتم بالحديث عن لا عقلانية أساطيره ولا تناقضاته العقلية ولا تاريخ رموزه الدموي.
كما ينشغل كثيرون، فهؤلاء يديمون شروط اللعبة، وينفعون الخطاب الديني أكثر مما يضرونه.
الحل هو في كشف عجز الخطاب الديني الهائل عن معالجة مشاكل الحاضر وأزمات الإنسان المعاصر.
طبعا هناك طبقة اعلامية دينية متخصصة في تشتيت الانظار عن هذه الحقيقة، بطرق خبيثة ومحتالة تخصص فيها رجال الدين والأصح تجار الدين. بإدعاء ان العلة في رجال الدين، وليس الدين نفسه.
فلن تجد تاجر دين يمدح تاجر دين آخر!، كلهم متنافسون، ويبحثون عن المزيد من الأتباع، ولن يفوزوا إلا بتشويه سمعة بعضهم البعض.
ثقافاتنا تنشر قيم الكراهية
ثقافتنا وهي دينية، تنشر الكراهية، وتحارب في افضل الأحوال الحب والمحبة والمحبين
اي انها، كما نعرف، تشعل الفتن والحروب وتنشر التعاسة. هي لهذا ثقافة لا تؤمن بالصداقة إنما التبعية، ولغاية واحدة وحيدة هي وضع الحواجز وتقديس آيات الكراهية.
والأخيرة بالطبع لا علاقة لها لا بالعدالة ولا بالإنسانية.
لكن ما غاية كل الإنسان؟ أن يعيش في سعادة. وهذه لا تتحقق إلا باشاعة قيم الصداقة.
إنها اهم من العدالة و”الحق” و”الباطل” فإذا كان الناس أصدقاء فماذا سنفعل بالعدالة؟.