في كتابهما «علم الاجتماع الدِّيني: الإشكالات والسِّياقات»، (ترجمة عز الدِّين عناية، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 1432هـ – 2011م)، يناقش كلٌّ من: سابينو أكوافيفا وإنزو باتشي الإطار التَّاريخي والنقدي لظهور وتطور علم الاجتماع الدِّيني؛ وذلك بالتركيز على جهود كلٍّ من: أوغست كونت، وإميل دوركهايم، وجورج سيمل، وماكس فيبر؛ وصولاً إلى يورغن هابرماس، بالإضافة إلى رصد التطور الحاصل على مستوى المفاهيم: من الوظيفية إلى نظرية النُّظم، وعلائق الدِّين بالأخلاق والاقتصاد، والنظر إلى الدِّين بوصفه عاملاً من عوامل التّغيير الاجتماعيّ.
ولعلّ أهمية هذا الكتاب تعود – في ناحية من النواحي- إلى أهمية المؤلِّفَيْن. فسابينو أكْوافيفا يعدُّ من الرَّعيل الأول المؤسِّس لمدرسة علم الاجتماع في إيطاليا؛ فهو من مواليد العام 1929، وله ما يزيد على الأربعين كتاباً أشهرها على الإطلاق كتابه: «أفُول المقدَّس في المجتمعات الصّناعية» (1961)، والذي تُرجم إلى العديد من اللغات الحيّة.
أمَّا إنزو باتشي؛ فهو أستاذ علم الاجتماع بجامعة بادوفا بإيطاليا أيضاً، كما أنه رئيس الجمعية العالمية لعلم الاجتماع الدِّيني، ومن أبرز أعماله: «الإسلام وأوروبا: أنماط الاندماج» (2004).
يُركّز الكتاب، في جزء كبير منه، على إبراز الفارق بين «الدِّين» من جهة، و «التَّدين» من جهة أخرى، وصولاً إلى الحديث عن تمايز مُواز بين كلٍّ من: «المقدّس» من ناحية، و «المدنّس» من ناحية أخرى.
ولا شك في أنَّ الدَّين يُشكِّل نوعاً من المرجعية والمعين الرّمزي والعاطفي للأفراد. وهذه الفكرة تبدو طاغية لجهة الحضور ضمن تضاعيف اهتمامات وكتابات روّاد علم الاجتماع الدّيني المعاصر.
سيمل: الحياة صراع بين الروح وما تخلقه
لكنّ عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني جورج سيمل (1858- 1918)، والذي كان مُعاصِراً لدوركهايم، طالَب علماء الاجتماع الدِّيني بإعادة قراءة أعماله المتعلّقة بالظاهرة الدِّينية، والتي تأتَّى الاهتمامُ بمقاربتها بشكل مزدوج: ففي مستوى أول نعثر في فكره على ملامح نقد الوضعية والفلسفة الكانطية المحْدثة.
وفي مستوى ثان أدخل سيمل تمييزاً بين الدِّين والتَّدين، استبق فيه مـعالجـةَ نـقطة منهجية تَلْقى حفاوة كبيرة في أبحاث علم الاجتماع الدِّيني المعاصر.
فالحياة – كما تتبدَّى من عمل سيمل الأبرز: «عن فلسفة الدِّين» (1912)- هي عبارة عن صراع دائم بين الرُّوح والأشكال التي يخلقها، والتي منها ما يصير ثابتاً عبر الزمن وتجسيداً للقيم الرُّوحية؛ خصوصاً حين تتحول إلى مؤسَّسات اجتماعية قاهرة.
فالرُّوح – بشكل أساسيّ – هو مبدأ التَّحقُّق الفرديّ في مقابل تشْييئ الأشكال الاجتماعية، ولذلك يجري النظر إلى الموت كاختتام لمسار التحقُّق الفرديّ.
الدين دافع حيوي أما التدين فسعي للسيطرة عليه
وانطلاقاً من هذه الإشارات الجوهرية، يتحرّك سيمل باتجاه مُقابلة الدِّين بالتَّدين؛ إذ يُمثِّل الدِّين الدَّافع الحيويّ بينما يُجسِّد التَّدين الشَّكل الاجتماعيَّ الذي يسعى إلى الاستحواذ والسَّيطرة على الأول.
فالتَّدين هو تجربة ذاتية عن علاقة بشيفرة غريبة للحياة نفسها، وفي هذه الشيفرات التي تصوغها الأشكال الاجتماعية للدِّيني من المسيحية إلى البوذية يجد التَّدين الذَّاتي إجابةً في الحاجات الحيوية العميقة؛ كالحاجة إلى «المطلق» الذي يتجاوز حدود الخصوصية المميّزة للوجود الإنسانيّ، أو الحاجة إلى «العشق» الذي يتجاوز الآثار الفعلية في المحبّة.
يتحصَّل مما سبق، أنَّ الدِّين يُبلور التَّدينَ لكنّ هذا الأخير يُشكّل مبدأ التّجديد الملازم للأول. فكيفما كان التّدين فهو ليس بالضرورة مُتحجِّراً في أشكال اجتماعية ثقافية، كما حدث تاريخياً في البلدان ذات الأثر الكاثوليكي، أو الإسلامي.
على أنَّ ثمة صورتين، أو بالأحرى استعارتين، متميزتين على صلة وثيقة بعلم الاجتماع: الأولى تلك المتعلّقة بالنّظام الاجتماعي، والخاضعة لمنطق الدِّينار والسُّلطة. والثانية تلك المتعلّقة بالعالم الحيوي حيث الصلة بالظّواهرية، وحيث يتقاسم الأفراد – عبر نشاطهم التواصليّ – دلالات وقيماً مشتركة.
ومن هنا جاء انشغال هابرماس بالحركات الدّينية المعاصرة التي تطرح أسئلة جذرية، وتحاول مواجهة تشْيئة وتبخيس حياة الأفراد الذين لا يواجهون خطاب الادعاءات الاقتصادية للنّظام فحسب؛ بل يواجهون أيضاً صياغات منطق أشكال الحياة برمّتها.
وهكذا تتحول الصّراعات الاجتماعية، التي تؤجِّجها حركات الاحتجاج المعاصرة، في الأخير إلى صراعات رمزية تتعلَّق بالمجال التّعبيري وبالقيم أيضاً.
تعريف غلوك للدين
في السِّياق ذاته قدَّم غلوك تعريفاً للدِّين ميَّز فيه بين خمسة مستويات، أو خمسة عوامل، تسمح بتحديد «التَّدين»، وهي: الاعتقاد الدِّيني، والممارسة الشَّعائرية، والمعرفة، والتَّجربة، والانتماء.
ويُقصد بالاعتقاد الدِّيني عادة: مجموع التّصورات التي يبلورها الأفراد أمام كائن أعلى، أو قوة متعالية، أو خارقة. وهو بهذا المعنى عبارة عن علاقة تتضمَّن خضوعاً وعجزاً واعترافاً بمحدودية الكائن البشري إزاء كائن أشد قوة. وعلى ضوء هذا الإقرار يصوغ الأفرادُ أنظمتهم المعرفية/ الدِّينية.
وتبعاً لذلك يبدو الفرق بين الدِّين والاعتقاد؛ فالدِّين هو صياغة اجتماعية، وهو نظامٌ من الإجابات عن حاجات إنسانية، بينما الاعتقاد عبارة عن عالم رمزي يتم إملاؤه عبر الاحتضان الاجتماعي، كما أنَّه يلبي حاجة فطرية وإنسانية للاكتشاف والمعرفة.
في هذه العوامل الخمسة يمكننا الوقوف على مستويين رئيسين: المستوى الأول تتضافر فيه بعض العوامل معاً فتكون لها درجة الكثافة نفسها والتّمازُج الدّاخلي، لكن في مستوى ثان يمكن أن تُوحي في حالات معينة بحضور بُعْدٍ من أبعاد التَّجربة الدِّينية قد لا تبدو له دلالات على ارتباطه بأبعاد كلاسيكية أخرى من التَّدين.
وبهذا تفترض الأوجه الخمسة رؤية مضبوطة للدِّين؛ فهو عبارة عن نسق متكامل لتنظيم الحاجات الأساسية للكائن البشري، كما أنه يمثّل استراتيجية معرفية، وشكلاً من الإفصاح عن سلوكيات طقوسية، وضرباً مُنظّماً من العقائد، وهو في النهاية آلية اجتماعية ثقافية لتحديد الهوية العرقية والسِّياسية وما شابهها.
على العكس من ذلك يرى فوكوياما أنَّ الانتماء الدِّيني في الواقع ليس طرفاً مُكوِّناً للتَّدين؛ بمعنى أنه أثر من آثار التَّدين وليس مظهراً بنيوياً فيه.
ومع ذلك فإنَّ كلّاً من الدِّين والتَّدين يشتمل على عدد من الأبعاد المعرفية والنفسية والاجتماعية مما يستدعي تعدُّد المناهج في مقاربتهما، أو على الأقل بذل الجهد لإيلاء اهتمام خاص للمساهمات العلمية التي تشتمل على مشارب مختلفة مثل: علم النفس، والتّاريخ، وعلم الإناسة؛ بل وبعض العلوم التّجريبية كعلوم الحياة وعلم الجينات.
من جهة أخرى، يشير مفهوم «المقدَّس» إلى شيء يُدركه البشر خلال حياتهم، ويُخلِّف فيهم آثاراً وقوّة بحيث يمكن لهذه التَّجربة أن تتفجَّر في أية لحظة من حياة الفرد بما يؤثِّر في مواقفه وسلوكياته العملية. بمعنى أنَّها تجربة تفكيكية تبدع منظومة جديدة من الأفكار والقيم، وتُوجِّه أفعال الأفراد بما يتَّسق مع مبادئها.
ومن اللافت للنظر في هذا السِّياق أنَّ الجذر اللغوي لكلمة «مقدَّس» في اللغة اللاتينية يعود إلى مفردة «Sacer» التي تحمل معنى مزدوجاً: الأول يشير إلى «ما هو حِكْر على الآلهة»، أمَّا الثاني فيشير إلى «ما يُثير الرّهبة». وتبعاً لذلك؛ يتضمّن مصطلح «Sacrificio» معنيين مختلفين: «إضفاءُ القداسة» من جهة، و»الهلاكُ موتاً» من جهة أخرى.
فالأضحية عنصر أساسيٌّ في العديد من الدِّيانات التَّاريخية، وبواسطتها يُعانق البشر عالمَ الألوهية عن طريق التوسُّط الذي يضمنه الكاهن في الممارسات الطقوسية المتعلِّقة بها. وبهذا المعنى يتقابل «المقدَّس» مع «المدنَّس» مع ما يبقى خارج «الحرم القدسي». فالمقدَّس يشير إلى كائن تمَّ الإصغاء إليه، أو إدراكه كمصدر أول للحياة والقوّة.
وهو – بحسب مقاربات أخرى- هيئةٌ للحياة نفسها؛ إنّه الاعتقاد الجمعيّ في نظامٍ ما فوقَ اجتماعيّ، وتعبير متسام عن حاجة تتجاوز حدود النفعية، للتضامن والتشارك في الواقع غير العملي.
أمَّا في ما يتعلَّق بأبعاد التَّجربة الدِّينية وتجلياتها؛ فيمكن القول: إنَّها تُولِّد مشاعر امتلاء، كما تولِّد لدى مُعتنقيها إحساساً بالأمان، والزَّهو، والخشية، والرّهبة، والغرابة أيضاً. وجميع ذلك يقود إلى إحداث تغييرات عميقة في الحياة العاطفية والأخلاقية على مستوى السّلوكيات اليومية.
ففيما بدت «الممارسة الدّينية» لدى علماء الاجتماع حدثاً اجتماعياً هيّنَ المعاينة والتَّرجمة في نسب إحصائية تُعالَج على أساس معايير متنوعة من العمر والجنس والمهنة والفضاء الجغرافي وما شابه ذلك؛ بقي انشغال علماء الاجتماع، خصوصاً في أوروبا، محكوماً بانشغالات الكنيسة الكاثوليكية في ما يتعلق بتراجع الممارسة الدِّينية أيام الآحاد.
ولهذا السبب بات تحليل التوافد على القدّاس يوم الأحد عنصراً رئيساً. وبموازاة ذلك راكم علم الاجتماع بشكل متطور معارف وتجارب تتعلَّق بضروب التَّحاليل المرتكزة أساساً على «الممارسة الدّينية»، لتشمل مقاربات أوسع وأكثر شمولاً في شأن «أفول المقدَّس»، أو صياغة أنماط الاعتقادات الدِّينية.
ضمن هذا السياق تحدَّث ديجونغ وفولكنر ووارلاند عن عامل وحيد للتَّدين بمثابة نتاج التواصل المتين بين الأبعاد الثلاثة: التَّجربة الدِّينية، والاعتقاد الدِّيني، والممارسة الدِّينية.
الدين الباطن و الدين الظاهر
أمَّا آلبورت؛ فقد ميَّز بين الدِّين «الباطن» والدِّين «الظاهر»، حيث يتجلَّى الأخير بمنظومة اعتقاداته في الممارسات الخارجية، بل أحياناً في شكل مُرائي، بغرض إبداء هيئة اجتماعية، أو لفت الانتباه، أو الدخول ضمن شريحة أرقى اجتماعياً.
في حين أنَّ الدِّين الباطن يتميّز بنوع من الاعتقاد والممارسة الدِّينية التي يكون الفرد بموجبها أكثر شغفاً بخدمة معتقده من تسخيره لأغراضه الشخصية. ففي مقابل أولئك الذين يُظهِرون إيمانهم بغرض التعبير عن وفائهم الخاص لجماعتهم الدينية، ثمة من يعيش في الممارسة فرصةَ إيمانه الخاص. وبين هذين المثالين ثمة مسار طويل تحضر فيه أنماط وسطى من المشاركة الدّينية.
وختاماً ينحو الدّين في المجتمعات الغربية المعاصرة إلى التحول إلى شأن خاص، معيش بأشكال مُسْتَترة، حيث باتت معدلات أداء الطقوس في المذاهب الدِّينية الكبرى تحوم حول 20 و 30 في المئة بين أفراد الشعب، وهذا لا يعني أنَّ التّجارب الدِّينية والرُّوحية خارج السِّياقات التَّقليدية بصدد الانحدار، بل إنَّ المؤشِّرات الحديثة تشي بخلاف ذلك. ومن ثمّ بات التركيز في أبحاث علم الاجتماع الدِّيني المعاصر مُنصبّاً في الآونة الأخيرة على الأشكال غير المؤسَّساتية للمعيش الدِّيني، مع التّعويل على أدوات منهجية مُلائمة لقياس وقائع مُتمنِّعة عادة ومتميّزة بقلة الظهور الاجتماعي.
وهذا التحوُّل من «الجليّ» إلى «الخفي»، ومن «الظاهر» إلى «الباطن»، يمكن فهمه في ضوء أنَّ المجتمعات الأوروبية كانت حتّى نهاية الخمسينات من القرن العشرين مجتمعات أقل تنوعاً وأقل تعقيداً، مما باتت عليه خلال العقود الثلاثة الأخيرة. ففيما كان يسهل في الحالة الأولى تحديد المركز الحيوي لنظامٍ اجتماعيٍّ دينيٍّ مُهيمن؛ صار من الصعوبة بمكان القيام بذلك في الوقت الرّاهن. فبقدر ما يتمأسس الدّين في الزّمن الرّاهن بقدر ما تشتدّ مخاطر ارتفاع عدد الذين ينحون إلى «الاستقلال النّسبي» مقارنة بمؤسَّسة الانتماء الأساسية/ الكنيسة. ففي جلّ التقاليد الدِّينية الكبرى تطوّرت اتجاهات معارضة داخلية، وضعتْ مبدأ السُّلطة الدِّينية في أزمة، كما هدَّدت بنسف التَّراتُبيات الدَّخلية الصَّلبة؛ مما أحدث انشقاقات وانقسامات داخل الحقل الدِّيني برمّته… وتلك قضية أخرى.
محمد حلمي عبد الوهاب
قراءة ثانية للكتاب
كتاب مترجم من الإيطالية يتناول الأوضاع القانونية للإسلام
تشهد أوروبا في الزمن الحاضر جدلاً متنوّع الأشكال مع الإسلام الحاضر على تراب القارّة. فعدد المسلمين في الراهن يفوق الأربعين مليون نسمة، وبات مرشّحا إلى تطوّرات حثيثة في غضون السنوات القليلة القادمة. ما دعا إلى خوض سياسات عدّة، تنوّعت فيها الطروحات بتنوّع المجتمعات الحاضنة والفلسفات الاجتماعية السائدة.
ورغم أن شقّا هائلاً من هؤلاء المسلمين وُلد، أو عاش دهراً من حياته في أوروبا، فضلا عن أن عددا كبيراً منهم يحمل جنسيات تلك البلدان، فإن الكثير منهم لا يزال يعاني رهقاً، قد لا يكون مقصودا أحيانا، وإنما جرّاء تحوّلات اجتماعية موضوعية، تسير وفق نسق بطيء. في الحقيقة كانت الآثار التي هزّت تلك الملايين من المسلمين عميقة.
صارت على إثرها ألسن الوافدين ترطن بلغات أوروبا ولهجاتها، ومنهم من استحكمت بلسانه عجمة إن نطق بلغة الآباء، هذا إن لم يكن قد نسيها. كما أن قلوب كثيرين منهم باتت تهفو إلى ما تمور به وقائع تلك البلدان، ناهيك عن تطبّع المولودين بطباع الأهليين، سلوكاً وفعلاً وخلقاً. بيد أنه في خضمّ ذلك الدمج القسري أو الاندماج الطوعي بقي التديّن، بمعناه السوسيولوجي الواسع لا بمعناه الفقهي المانع، بارزاً ولافت الحضور، في كل من باريس ولندن وروما وأمستردام وستوكهولم، وغيرها من العواصم والمدن الأوروبية، بل أيضا في أرياف أوروبا وبلداتها المتناثرة بين الغابات وفوق الجبال.
فعلاً نواة الدين هي مربط الفرس في ذلك السجال الدائر. فأوروبا تشهد ما يشبه مرج البحرين، بين ثقافتين وحضارتين. لذلك يبقى تحدّي الملايين المسلمة مرهوناً أساسا بتطوير الإسلام الديناميكي، حتى لا تبقى الجموع المستوطنة عائمة، دون المساهمة الحضارية المرجوّة والفاعلة، وحتى يحاصر ذلك التنافر لصالح تآلف وتمازج حقيقيين.
فليست أوروبا فحسب أمام هذا الاختبار الحضاري العسير، في استيعاب “الدخيل” وهضمه، بل الجموع المسلمة أيضا طرف رئيس في هذا التحدّي، لذلك كلاهما فاعل ومفعول به.
متابعةً لهذه التحولات أصدر “مشروع كلمة للترجمة” في أبوظبي ضمن مبادرة التعاون مع “معهد الشرق في روما” كتاب “الإسلام في أوروبا: أنماط الاندماج” وهو من تأليف عالم الاجتماع الإيطالي إنْزو باتشي وترجمة الأستاذ الجامعي التونسي عزالدين عناية.
الكتاب هو مقارنة بين قوانين وتشريعات فرنسا وألمانيا وإنجلترا وهولاندا وبلجيكا والبلدان الأسكندنافية، فضلا عن بلدان جنوب أوروبا مثل إيطاليا وإسبانيا، في ما يخص التعامل مع الظاهرة الإسلامية. يعالج البحث تشريعات هذه البلدان في تعاطيها مع الدين عموما ومع الإسلام خصوصا.
مبيّنا الكاتب تنوّعات التشريعات الأوروبية في تعاملها مع المسألة الدينية. فبرغم ما تجمع أوروبا من سمات عامة إلا أن وضع المسألة الدينية يتغير من بلد إلى آخر. فإن يبدو موضوع الإسلام تقليديا من حيث التعامل معه في بعض التشريعات، نظرا إلى خبرة السنوات مع الهجرة أو جراء الماضي الاستعماري، فإن ذلك الموضوع يبدو طارئا في بلدان أخرى. وبالتالي، فالكتاب هو مدخل قانوني واجتماعي، لا غنى عنه، للإلمام بإشكالية معاصرة، باتت من أوكد المسائل المطروحة في السياسة الأوروبية.
مؤلف الكتاب هو البروفيسور إنزو باتشي، أحد أبرز علماء الاجتماع في إيطاليا. يتولى في الوقت الحالي رئاسة قسم علم الاجتماع في جامعة بادوفا. من أعماله المنشورة: “سوسيولوجيا الإسلام” 2004، و”لماذا تخوض الأديان الحروب؟” 2006.
أما المترجم عزالدين عناية، فهو أستاذ تونسي يدرّس بجامعة الأورينتالي في نابولي وجامعة لاسابيينسا في روما، نشر مجموعة من الأبحاث والترجمات منها: “الاستهواد العربي في مقاربة التراث العبري”، دار الجمل 2006؛ و”علم الأديان.. مساهمة في التأسيس”
المركز الثقافي العربي 2009.
الإسلام في أوروبا: أنماط الاندماج
إنْزو باتشي
ترجمة: عزالدّين عناية
قراءة ثالثة للكتاب
علم الاجتماع الدّيني: كتاب علمي عن سبل فهم الظواهر الدينية
علم الاجتماع الدّيني : كتاب علمي عن سبل فهم الظواهر الدينية
ينشر في حريات يوم 16 – 11 – 2012
ترجمة التونسي عزالدين عناية
تسود في مجال دراسة الدين، في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، غفلة هائلة عن الأدوات المعرفية العلمية المتّصلة بتتبّع الظواهر الدينية. وتكاد الأعمال المؤلَّفة أو المترجَمة في علم الاجتماع الديني لا تتجاوز عدد أصابع اليد، ناهيك عما في مجالات أخرى قريبة، مثل الإناسة الدينية أو علم النفس الديني أو تاريخ الأديان، التي يبدو الانشغال بها منعدما معرفيّاً وأكاديميّاً.
يأتي كتاب “علم الاجتماع الديني” المترجم من الإيطالية في وقت تشهد فيه الثقافة العربية حاجة ماسة إلى هذه النوعية من المؤلفات العلمية. حيث يهدف بالأساس إلى تقديم ملخّص إجمالي للمحاور الكبرى لعلم الاجتماع الديني، كما حضرت في طيّات الأعمال الكلاسيكية الكبرى للفكر الاجتماعي.
إذ يتناول بالدراسة والمعالجة مفاهيم أساسية، مثل المقدّس، والدين، والتديّن. سواء برسم الخطوط الكبرى ذات الصلة، بالتعريفات أو الإجراءات، لتحويل المفاهيم المجرّدة إلى مؤشّرات تجريبية، دون إفراط في النقاشات النظرية والمنهجية، التي قد تجعل النصّ مغرَقا في التخصّص ويجافي الأهداف التعليمية التي يرنو بلوغها.
نواقص أقسام علم الاجتماع العربية
رغم انتشار أقسام علم الاجتماع، في جلّ جامعات البلدان العربية، فإنها ما زالت تشكو بعض النقائص اللافتة. تتلخّص أساسا في عدم قدرة علم الاجتماع المستورَد على الإحاطة بإشكاليات الاجتماع العربي، والدين إحداها، إذ ثمة اغتراب للمعرفة عن واقعها.
وهو عجز ناتج عن مناهج تدريس تعوّل على استعراض النظريات والمناهج السوسيولوجية الغربية، تعريفيا وأحيانا بافتتان، يفتقد لتعريبها الوظيفي، ونقصد به جعل تلك الأدوات المعرفية في خدمة الواقع الديني العربي لفهم مضامينه وتحولاته وتحدياته.
ولذلك فغالبا ما أتت نقولات “الكونْتية” و”الدوركهايمية” و”الفيبيرية”، والمدرسة الجدلية، ومدرسة جورج لوبرا ومثيلاتها، عروضا تاريخية باهتة لا أدوات معرفية مرشِدة. خصوصا وقد طالت تلك المدارس مراجعات عميقة وتسربّت الشكوك إلى مدى إلمامها بحقبة عودة المقدّس وما تطفح به من مفارقات عجيبة.
فهذا الكتاب المترجَم، هو بالأساس كتاب تعليمي، ينأى عن السجال الإيديولوجي المتوتّر في إصدار المواقف بشأن الدين، ويتطلّع إلى ترسيخ المعالجة العلمية الهادئة للظواهر المتصلة به.
وليس غرضه الاكتفاء باستعراض النظريات الكلاسيكية، أو التعريف بالرواد في مجال علم الاجتماع الديني، بل يسعى أساسا إلى الإمساك بخلاصة المقاربات السوسيولوجية، ووضعها على محك المواجهة مع الظواهر الدينية، واختبار مدى قدراتها على الإحاطة بها من عدمه.
فالعمل الحالي المترجم ليس انتصارا أو دحضا للعديد من الإشكاليات المطروحة، كالعلمنة، والدين وممارسات العنف المقدس، والدين وإثارة الصراعات، والدين والتغيير الاجتماعي، وغيرها من المسائل، بل يأخذ بيد الباحث والدارس ليدلّه على مسالك الإحاطة بتلك الوقائع.
وهو ما يحتاجه الباحث الاجتماعي العربي اليوم. إذ ثمة تديّن شعبي واسع في الواقع، مؤثر وفاعل وحاسم، في عديد الخيارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لكنه خارج المتابعة والفهم والإحصاء.
فما معنى أن تبقى ظاهرة مثل ظاهرة “الإسلام السياسي” خارج تناول علم الاجتماع العربي؟ وما معنى أن تبقى المسيحية العربية إشكالية طائفية داخلية ولا يرصدها علم الاجتماع في الجامعات العربية؟ وما معنى أن تغيب الدراسات العربية عن الوجه الديني الخفي للغرب، والعربي يلهج بذكره وحضوره وتأثيره صباح مساء؟
ثمة تدابر بين مجالين في الوسط الأكاديمي العربي، رغم اشتراك وتداخل الحقول بينهما. فغالبا ما انفصلت الدراسة في “كلّية الشريعة” عن الدراسة في قسم علم الاجتماع، ولا نقول تميزت، فذلك عائد لطبيعة اختلاف منهجي المقاربتين. الأمر الذي أفرز بالنهاية خرّيج دراسات إسلامية نائيا عن المتابعة الخارجية للظاهرة الدينية، ويفتقر إلى أبسط الأدوات العلمية في الشأن.
وبالمقابل أفرز باحثين اجتماعيين يفتقرون إلى خبرة التعامل مع المادة الخام، المادة الأولى، في مجال الدين، وربما طغت دراساتهم الخارجية على الداخلية منها، التي تفتقد إلى الحميمية مع التجربة الدينية. لذلك يبدو تطوّر علم الاجتماع الديني في الثقافة العربية رهين هذا التقارب، وربما يستدعي السياق التذكير بأن ابن خلدون قد احتضنته الزيتونة.
المترجم عزالدين عناية، هو أستاذ تونسي خرّيج الجامعة الزيتونية في تونس والجامعة الغريغورية في إيطاليا، يدرّس في الوقت الحالي في جامعة لاسابيينسا في روما، سبق أن ترجم كتاب “علم الأديان: مساهمة في التأسيس” لميشال مسلان، ونشر العديد من الأعمال منها: “نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم” في دار توبقال في المغرب، و”العقل الإسلامي” في دار الطليعة في بيروت.