عن الإلحاد والتمرد والفرد والجماعة وفكرة الخلاص وعلاقته بالعنف كتب منصور الناصر
الإلحاد جوهريا هو ليس إنكارا لوجود إله ودين
إنما هو تمرد على جميع أنواع السلطات القديمة..وخاصة الرمزية.
دون وعي هذه القضية
.. يصبح الإلحاد بملحديه، صرخة مهمشين، مجرد سفينة صغيرة مارقة في بحار ومحيطات الدين.
وهذه مفارقة، فأن يدعي المتدين هامشيته وأن صرخته تعبير عنها كما يقول ماركس، يصبح هو نفسه، داعية متحمسا لتهميش الآخرين..
وهذا مؤشر على خلل في النظرة الماركسية للدين. فيما هو دليل على قطيعية الإنسان المتدين، وولائه الأعمى لجماعته، بغض النظر عما يفعلون.
٢
ولكن لماذا هذا التمرد؟
انه حاجة أساسية للدفاع عن استقلالية الذات الإنسانية، ومحاولة السلطات الكبرى الثلاث عبر التاريخ وأعني الأب/الكاهن/الله، “تذويتها”، أو تدجينها بالمعنى الحيواني فعلا للكلمة..
الإلحاد هنا هو ثورة كامنة ليس على سلطة الحاكم.. إنما على هذه السلطة الثلاثية الخانقة التي لا يمكن نزعها من أي شيء حولنا، بل وحتى اي كلمة.
هنا يتضح الجانب السلبي من الإلحاد، وهو أنه إيمان مضاد في المستوى الديني نفسه، أي أنه لم يخرج من زنزانة الدين والإيمان وحتى الذات والهوية..
مغامرة الخروج من هذه الزنزانة، ليست خطيرة جدا.. بل شبه مستحيلة..انها أشبه بمن يحاول تبديل دماغ قديم نتاج آلاف العقول بدماغ جديد تمامآ.
وعي هذه الرؤية خطير جدا، ويفسر سر قوة الدين ونجاحه في البقاء “حيا” في عالمنا المعاصر..
يفسر أيضا مدى ضعف الإنسان وتناهيه وهشاشته.
حكاية الخيول ..
جاء في مروج الذهب للمسعودي أن بعض الحيوان كالفيلة والخيل والإبل، تجزع إذا وردت الماء الصافي للشرب، فتضربه وتكدره كي تشرب منه مطمئنة، وذلك”لمشاهدة صورها في الماء لصقالته وصفائه” ويقول إن هذا الأمر يحدث فقط مع “ما عظم من الحيوان” الذي متى ما رأى صورته منعكسة على صفاء الماء أعجبته لعظمها وحسنها”.. وبعيدا عن تفسير المسعودي الساذج المنتسب وهو نتاج منطق مجتمع قديم يعتبر حسن الهيئة الفردية مثلبة.. أقول.. كم نشبه في تصرفاتنا هذه الحيوانات “الكبيرة المتطورة بايلوجيا”؟
لم نخشى رؤية أنفسنا في المرآة ونحاول التهرب من مواجهتها.. سواء بتركيز النظر على مواضع جمالية معينة في وجوهنا أو الاكتفاء بأخذ نظرة عامة وسريعة على مرآة وعينا الداخلية؟
يتضح هذا لي من خلال ردة أفعال كثيرين كلما قدمت رؤيتي الخاصة لموضوع الدين.. أو أي موضوع.. فهم غالبا لا يرغبون بمناقشته أو “رؤيته” في مرآة أنفسهم.. يتهربون منه بطرق عديدة سواء بالغضب أو “تكدير” ماء الحقائق والمعلومات التي أقدمها.. لكي يتم تشويش الرؤية ولا يتحقق بالتالي “النظر”.
بل إن هناك من يقولها صريحة.. أترك هذه الأمور يا صديقنا.. لا أحد يشغل نفسه بها..
ربما يتضح سر هذا الموقف من حقيقة أن هذه الحيوانات تشترك معنا بصفات كثيرة منها أنها ثديية وأنها تعيش جميعا في قطعان ولا يمكن تصور وجود أحدها بمفرده.
..والخلاصة..يبدو أننا ما زلنا أسرى تاريخنا البيولوجي..وفيه تكمن كل عللنا.. وطبعا كل مخاوفنا
من هم المؤمنون، و لماذا يخشون مواجهة أنفسهم؟
ولكن من هو الذي يهاجم الإلحاد؟ هو الذي يستجيب لنداء القطيع..من يدافع عن الدين أي الجماعة ورب الجماعة
لكل جماعة رب يرعاها على الأرض ورب آخر في السماء أو في مكان أو شيء ما مقدس..تعبده الجماعة وتقدسه.
من يستجيب للنداء لا يصح القول بأنه يتحدث عن نفسه..
بل أنه ينكر نفسه..
مواجهة النفس ليست أمرا سهلا بل من أصعب أنواع المواجهات.. نحن جميعا نهرب من أنفسنا.. هناك من يفضل القتال على مواجهة نفسه والتفكير في شؤونها وشجونها..
نحن نعمل لكي ننسى ..لكي لا نواجه أنفسنا..
العمل يوفر لنا هذه الرفاهية .. لهذا نجد أن الإنسان يثير المشاكل في أيام العمل.. فهو لا يعرف ماذا يفعل..
عليه أن يواجه هذه الذات التي تشتعل داخله ..
الدين يوفر هذه الرفاهية المزيفة أيضا وبإفراط .. بل إنه يمضي أبعد ويتعمد زراعة الخوف داخل الإنسان. بدلا من مساعدته على التخلص منها..
لماذا نتدين؟
نحن نتدين لهذا السبب .. الدين يوفر لنا هذه الرفاهية.. كل شيء معد مسبقا..
لا حاجة لأن تطبخ اي فكرة أو أي قضية لمعرفة صحتها أو بطلانها .. ادخل فقط في مطعم احد رجال الدين.. وسيقدم لك وجبة جاهزة طبخها بنفسه أو برعاية الشيف أو كبير الطباخين..
وهذا كل شيء..
وحين تسأل كبير الطباخين أو الكاهن الأكبر من أين لك كل هذا العلم..يقول لك إنه الوحي أو السحر أو أنها قدرة خارقة ..
ستصدق ..لماذا؟ لأنك مستعد سلفا للتصديق ..
الدين يزرع الخوف بدلا من معالجته
الدين يوفر هذه الرفاهية المزيفة أيضا وبإفراط .. بل إنه يمضي أبعد ويتعمد زراعة الخوف داخل الإنسان. بدلا من مساعدته على التخلص منها..
انه يخترع فكرة الإله الغاضب الذي يحاسب ويعاقب بلدا من الإله الذي يرحم ويسامح ويداري وتعاطف..
يبتكرون إلها متطلبا لا يقدم شيئا إلا بشروط!
حكاية الرجل الأمي
هناك نكتة في العراق عن رجل لا يجيد القراءة والكتابة .. ذهب للشكوى
الآن اكتشفت نفسي
وللحديث صلة
زراعة الخوف
الدين متخصص في زراعة بذور الخوف والقلق والشعور بالذنب داخل الإنسان
هذا يجعلنا نلوم كل شيء حولنا إلا أنفسنا!
والصحيح ان نلوم أنفسنا على ما حصل.. أو نتناسى فكرة اللوم والخوف .. لأنفسنا فنحمل المجتمع وزر كل ما يحصل..
لكنك حين تحمل الدين وزر الأمر ..ينتفض بوجهك لماذأ؟
لأنه مرشدنا الروحي الذي يحملنا ذنب أنفسنا.. ويفتح لنا الطريق للخلاص منها !
الدين يعلمنا كيف لا نحترم أنفسنا
مهاجمته معناه العودة لأنفسنا… النظر إليها في مرآة نرسيس المخيفة! وهذا رعب حقيقي!
كيف ظهرت أقدم مهنتين في التاريخ؟
هكذا ظهرت أقدم مهنة في التاريخ وهي مهنة الكهانة .. ولا تنافسها على هذا القدم إلا مهنة الدعارة.. (والغريب أنهما اتحدا معا في فترات ما.. كما اتحد الدين بالسياسة في زمننا) .
رجل الدين والعاهرة في خصام مستمر .. كلاهما يعتمدان على الجمهور.. فهو مصدر رزقهما..
الأول يوفر فرصة للهرب من الجانب الإنساني الرفيع داخل الإنسان الفرد .. أي الأنا العليا..
والثانية توفر للجميع فرصة الهرب من الجانب الحيواني داخل الإنسان.. أي الأنا الدنيا..
ولكن هناك استثناءات.. فهما مثل أي تاجرين يضطران أحيانا للتحالف لتحسين ظروف “العمل” ..
وليس غريبا أن نجد معظم كبار المصلحين في التاريخ انحدروا من أمهات.. أقمن علاقات مريبة قبل إنجابهم، وهناك شكوك تحوم حول هوية آبائهم. وهذا كما يبدو كان أمرا طبيعيا.
نحن فقط نحتفظ بصدى غضب النصوص الدينية من زنا وما شابه.. وهو في الحقيقة.. تأكيد على أن الظاهرة منتشرة بإفراط..
ظهور فكرة الله وفكرة الخلاص
هكذا تم تصنيع فكرة الله.. أو المقدس..
اهمية الله وجميع المقدسات .. ليس لأنها مقدسة.. بل لأنها تخلصنا من أنفسنا.. وعناء مواجهتها ..
النفس أمارة بالسوء كما يقول القرآن .. وهذا صحيح..
ولكن السوء بالنسبة لمن؟ بالنسبة لكبير الآلهة وهو الذي يرمز للقطيع ككل ورب القطيع الأرضي أي الكاهن..
فكما قلنا.. رجل الدين كان حضوره أساسي لتوفير هذه الخدمة للجميع .. وهي خدمة لا تتعلق بالغذاء ولا الدواء ولا الجنس.. إنما خدمة الخلاص من وطأة الذات القاهرة والمخيفة.. لنتذكر أيام طفولتنا فقط لنعرف حجم الخوف الذي كنا نشعر به.. وحجم حاجتنا لحنان الأم والأب، ليس لأنهما يقدمان لنا حنانا إنما لأننا هربنا من ذاتنا ومخاوفنا .. وتبرعنا بأنفسنا تماما لهما.
نحن نفهم العالم غالبا بالمقلوب.. نقول خلاصا بالمعنى اللاهوتي لكي نشير إلى حالة أو ظرف مزعج أو مكروه، وهو منتشر في جميع الديانات. والفكرة هي الخلاص من الأنا أو النفس أو الروح سمها ما شئت..
وليس من الخطيئة كما تدعي المسيحية.. فقط لكي تقول لكل من ينام في احضانها، نم يا ولدي لقد فديتك وخلصتك من مشكلتك بنفسي.. فلا تقلق ولا تزعق ههه .. أي أن الدين أصبح هو الأم الحنون، التي تغنينا عن انفسنا..
عقيدة الخلاص وجدت باعتبارها خاصَّة بخلاص المؤمنين في الحياة الآخرة، وبسببها ظهرت مسائل مختلفة مثل عدد الأشخاص الذين يتمُّ لهم الخلاص، وإمكانيَّة خلاصهم، والدور الذي تمارسه الكنيسة في هذه العمليَّة…إلخ([7]).
لكنَّ عقيدة الخلاص لا تتعلق بالخلاص الأخروي، فهدفه أصلا انخراط البشر وتكاملهم مع الله، أي رمز القطيع إنه عمل مشترك بين الله والدين والإنسان، لكي يتعامل مع الواقع ويُشَكَّله، ويوجّهه، ويقوده إلى الكمال.
خلق العالم كأوَّل أعمال الله الخلاصيَّة
يُعَدُّ خلق الكون – كما جاء في سفر التكوين – هو أوَّل عمل خلاصي قام به الله. فالله قد خلق العالم من العدم، أو فلنقل حرَّره، ونظم عالم الأشياء. ومع بداية خلق العالم بدأ التاريخ، وبدأ النضال الإنساني، وبدأت عمليَّة الخلاص التي قادها الإله يهوه. ولأنَّ الإنسانيَّة هي مِحْوَر الخلق، فإنَّها تشترك مع الله في توجيه مسيرة التاريخ
2ـ خروج شعب إسرائيل من مصر كثاني أعمال الله الخلاصيَّة
يُعَدُّ الوعد بالخلاص في الآخرة ثاني عمل خلاصي رئيس بشَّر به الإنجيل. وما تاريخ البشريَّة في الحقيقة إلا تاريخ تحقيق الوعد الإلهي بالخلاص. وإنَّ الوعد بالخلاص في الآخرة، وتحقيق مملكة الله يتطلب منَّا جميعاً العمل على تقويض الظلم، وإعادة خلق الإنسان من جديد([22]).
الخلاص هنا لا يقتصر على البعد الديني بالمعنى السائد لكلمة دين، بل هو مقهوم شمولي يتعلق بالدين بصفته روح القطيع أو الجماعة.
فكرة الخلاص.. هي مصدر العنف بين البشر..
وهذا هو سبب العنف المنتشر بين جميع البشر. لأن هؤلاء الوكلاء الحصريين بأنفسنا والتحكم والتصرف بها، وأعني الساسة ورجال الدين.. استغلوا هذه الحاجة الإنسانية الطبيعية.. احتكروها لأنفسهم.. وباتت هذه البضاعة الخلاصية .. البضاعة الأكثر طلبا في السوق..
من هنا تكاثر عدد المعجبين بهذا الدين أو ذاك وتصارعوا فيما بينهم ..
مثلما تتصارع شركات الموبايل الآن والمعجبين بها فيما بينهم.. وهناك صفحات للمؤمنين بهذه الموبايلات الآن
الأمر نفسه ينطبق على أندية كرة القدم وأمثالها ..
ومن الطبيعي .. فإن كل بضاعة يزيد الطلب عليها ستشهد تكاثرا للباعة والتجار المشاركين..
ومن ينظر خلفه إلى بانوراما صفحات التاريخ البشري، ليشاهد حجم المعروض الذي نجحت في النهاية بضعة أديان في الوصول إلينا.. ليس لحكمتها وطبخها اللذيذ بل لأنها فرضت تناول طعامها عنوة على الجميع!
والآن وعودة إلى مقولة الإلحاد.. يظهر لنا الآن أن الإلحاد هو تمرد وردة فعل على هذا الطعام الديني الرديء ليس أكثر .. وغالبا ما يكون الملحد مجهزا بطبخة جديدة مختلفة يرى انها الأفضل..
أي ليس أكثر من مؤمن معكوس !