10 تموز 2015 الساعة 23:39
تعرّف الملايين حول العالم إلى عمر الشريف (1932) وهو يأتي اليهم، خطوة خطوة، ببطىء شديد، من بعيد، من عمق البادية. كان ذلك قبل أكثر من خمسين عاماً، في “لورانس العرب” لديفيد لين. رجل عربي متشح بالسواد على ظهر جمل يخرج من اللامكان، يقطع الصحراء تحت شمس قاتلة ويقترب في اتجاه الكاميرا. الكلمة الأولى التي يلفظها في الفيلم، وهو يحدّق في جثة الشخص المرمي على الأرض: “لقد مات!”. اليوم، عمر الشريف يعود الى هذا المشهد، الى تلك الأفق المغبشة التي خرج منها وأعاده اليها مرض الألزهايمر، بعدما ترك بينه وبين العصر الذهب للسينما نصف قرن من الصعود والهبوط، من الانكسارات ولحظات السعادة العابرة والأحلام والنهايات المكلومة. لكن اليوم، الملايين هم الذي يقولون عنه: “لقد مات”!
رجل الحبّ اليتيم
مسبّع كارات، كوزموبوليتي، لامنتمٍ، صاحب كاريزما، هذا بعض ما يمكن أن نصف به الرجل المتعدد الذي “قضى” وهو في الثالثة والثمانين من العمر. رحل متعباً، مكسوراً، مرتوياً ربما، بعدما هيمنت عليه وطأة السنين وثقل التجربة، بل التجارب. لم ينتظر كثيراً، سوى أشهر معدودة بعد رحيل فاتن حمامة، السيدة التي عاش معها واحدة من أكثر قصص الحب صخباً في الحياة وعلى الشاشة، ولم يتزوج من بعدها، وفي اعترافه انه لم يحبّ سواها. في رصيده التمثيلي أكثر من ستين فيلماً، متنوعة الاتجاهات، إلا أنّ الأفلام الجماهيرية السهلة الخفيفة هي التي طغت على سجله، إذا استثنينا بعض العناوين الكبيرة التي توّرط بها. لم يملك عمر الشريف عنواناً ثابتاً، ولا رقم هاتف محمولاً. تنّقل بين عواصم العالم، قطنَ في الفنادق وأمضى أيامه بين كازينوات الساحل الفرنسي ممارساً هوايته المفضلة: المقامرة. يمكن القول إنه عاش. عاش كثيراً. عاش بكل ما أوتي من قوة وضعف. قضم الوجود بأسنانه!
فيكتوريا أنقذته
روى دائماً أنه أصبح ممثلاً مشهوراً بفضل الفرنسيين. الفرنسيون؟ نعم! فهذا الاسكندراني المولد واللبناني الأصل (اسمه الحقيقي ميشال شلهوب)، التحق في طفولته بمدرسة للكاثوليك في مسقطه، إلا أنّ جودة الأطعمة الفرنسية هناك جعلته يزداد وزناً، فنقلته أمّه الى كلية فيكتوريا حيث تعلّم اللغة الانكليزية. لغةٌ أتاحت له أن يتقدّم لدور في “لورانس العرب” مطلع الستينات، وينال عنه لاحقاً جائزة “غولدن غلوب” لأفضل ممثل في دور ثانٍ. باختصار، دورٌ شرّع له أبواب السينما خارج مصر. التحق بالأكاديمية الملكية للفنون المسرحية في لندن. كان في مطلع العشرينات، عندما مثّل في “صراع في الوادي”، إخراج يوسف شاهين. إنه الفيلم الذي جعل حياته تنقلب رأساً على عقب. ظلّ يعمل لثمانية أعوام في السينما المصرية، في إدارة بعضٍ من أهم صناعها، من كمال الشيخ الى صلاح أبو سيف، قبل أن ينطلق الى فضاء العالم الأوسع.
تحديقة عمر
لا يمكن الحديث عن عمر الشريف من دون ذكر “دكتور جيفاغو” (1965) لديفيد لين: بوريس باسترناك، لحن “أغنية لارا” لموريس جار، جولي كريستي… ثم، تلك التحديقة المرّة، الغارقة في الدموع، سحر بها الشريف عدداً لا بأس به من المشاهدين حول العالم. عرف لين كيف يلتقط رومنطيقيته، وسط أجواء الثورة والنزوح والخراب. عن دوره هذا نال جائزة “غولدن غلوب” ثانية، هذه المرة لأفضل ممثل في دور رئيسي. كرّت سبحةٌ من الأفلام التي طرحت الشريف نجماً بالمفهوم التقليدي للكلمة: “فتاة طريفة” لهربرت روسّ، “مايرلينغ” لتيرينس يانغ، “مايريغ” لهنري فرنوي، وصولاً الى أفلام أقلّ وهجاً في السنوات الأخيرة كـ”موسيو ابرهيم وأزهار القرآن” لفرنسوا دوبيرون (نال عنه “سيزار” أفضل ممثل)، أو “روك القصبة” للمغربية ليلى مراكشي، آخر فيلم مثلّ فيه ــ واضطلع فيه بدور الميت. مصرياً، كان أطلّ في السنوات الأخيرة، في كلٍّ من “المسافر” (2008) لأحمد ماهر الذي شارك في مسابقة البندقية (كرّمه المهرجان الايطالي في مناسبة مرور خمسين عاماً على انطلاقته) و”حسن ومرقص” (2008) لرامي إمام، حيث التقى عادل أمام.
“الندم؟ لا أعرفه؟”
يصعب إيجاد خط واضح يعبر كلّ هذه الأفلام، إلا انّها نتيجة حتمية لرغبته في أن يكون حاضراً خارج أسوار التصنيفات. فعندما سأله صحافي من “باري ماتش” مثلاً قبل أكثر من عشر سنوات، إن كان نادماً على بعض خياراته، ردّ قائلاً: “كرهتُ معظم الأفلام التي أنجزتها، لكني لست نادماً على شيء، سواء في مهنتي أو في حياتي. بل أنني لا أفهم معنى كلمة “ندم”. أعرف أني لحظة فعلتُ ذلك كان عليّ أن أفعل. هذا كل شيء. ثم إني لا أحبّ النظر الى الوراء. يبقى لنا مع كل يوم يمضي القليل لنعيشه، وبقدر ما يقصر الزمن تتضاءل رغبتنا في تذكّر الأمور السلبية. المستقبل قصير. الماضي طويل جداً. لا أريد محوه، بيد أني لا أفكر فيه. قررت منذ بضع سنوات أن أحيا اللحظة الراهنة فقط”.
عبد الناصر والاستخبارات
غير مرة، أعلن موقفاً صريحاً ضد الأنظمة الشمولية، وأشهر عداءه لنظام عبد الناصر الذي صارح أحد النقاد العرب بالقول إنّ هذا النظام أراده جاسوساً لاغتيال بعض الحزبيين. وروى أيضاً أنّ الاستخبارات المصرية حاولت تجنيد فاتن حمامة للعمل معها لولا تدخله لـ”إنقاذها”. كان يتباهى كونه اعتنق الاسلام عن اقتناع، ولم يتوانَ عن الإعلان ذات مرةٍ، أنّ على السنّة والشيعة أن يقاتلوا اليهود الإسرائيليين بدلاً من التقاتل في ما بينهم. في المقابل، كان الغضب يستبد به فجأة، فينال من هيبته، ليُقدِم على تصرّفات يعود ويندم عليها أحياناً، كالتعرض الى شرطي أو صفع صحافية. بيد أنه حمل قلب طفل، يكبي عندما يتألم أو يشاهد فيلماً، كما صرّح في مقابلة مع “باري ماتش”: “ديانتي هي التسامح. لكنني أرى أني أضحي مع العمر أقلّ تسامحاً وأكثر غضباً. أتساءل كيف يحصل ذلك إذْ كنتُ أخال شاباً أننا نغدو أكثر حكمة مع التقدم في العمر. لكن ذلك ليس صحيحاً على الإطلاق. الشيوخ ليسوا حكماء، ذاك لأنهم في بساطة، لا يملكون الوقت لإضاعته“.
عاش كلّ دقيقة
أضحى عمر الشريف عبر السنوات نموذجاً للفنان اللامنتمي. عاش غريباً مغترباً بين متروبولات العالم، بعيداً من “الهويات القاتلة”، مسلّماً قدره للشهرة والنجومية، ومحافظاً بشغف الرهان المتأصل فيه والمتجسّد في عشقه للمقامرة وسباق الخيل الذي كان يُخسّره الأموال وإنما يمنحه الأمل. هذا الكسول في طبيعته، كان يحتاج الى مَن يهزّه دائماً. ينفق كالمجنون ولا يأبه لخسارة المبالغ الطائلة. حتى في سبعيناته، كان يعيش كل دقيقة الى أقصاها، يفعل كل ما يفعله على نحو كامل وبمنتهى الشغف والأناقة. الخوف الوحيد لديه حول الزمن الذي يمضي، كان يتعلّق بالصحة. لم يخفْ من الموت بل من الألم، من الانحطاطين الجسدي والذهني. أرعبه ذلك. لم يكن يتحمل عوزه الى أحد يعتني به.
“مرساتي”
عاش وحيداً بعدما قرر الانفصال عن فاتن حمامة. يقول: “أرغمتُ على أن أعيش حياتي كلها مثل بدويّ. فأنا الممثل الوحيد في العالم الذي لا يملك جنسية محددة لمهنته. إني مصريّ لكني لا أنجز أفلاماً مصرية. ألعب دوماً دور الغريب. لا أملك في الحقيقة جذوراً. إني غربيّ الثقافة جداً وشرقي المزاج جدا. ميلودرامي جداً. الممثلون الفرنسيون يصوّرون أفلامهم في فرنسا ويعيشون فيها معظم الأحيان. أنا أجد نفسي دائماً في أماكن مختلفة. لم أحظَ طويلاً بمرفأ أشدّ إليه مرساتي“.