قانون الخمور ومشروع تقسيم نينوى- هل من علاقة؟
صائب خليل
قانون منع الخمور الذي اقره البرلمان (1) من “ضربات المعلم” الحقيقية التي يضطر المرء أحياناً أن يرفع قبعته إعجابا بقدرة مبدعيها، حتى إن كان يوجه لها كل الاحتقار للأخلاقية التي تقف وراء أهدافها. وإن ابتعدنا عن بلاهة تفسير الحركات السياسية بأنها “صدف”، فسنجد أن هذا التوقيت يثير ألف شبهة. وقد كتب العديدين حول هذه النقطة، فكتب علي سعيد: “هلّا أخبرتم البرلمان العراقي إن “مؤشر دافوس” المعني بمراقبة التعليم في العالم قد أخرج العراق من التصنيف وجرى وضعه في مرتبة أقل من الصفر بأربع درجات!… إنّ “وكالة فيتش” المعنية بمراقبة اقتصادات العالم وتصنيفها بحسب القوة خفّضت تصنيفها الاقتصادي للعراق إلى مرتبة (سلبي)! إن المستشفيات الحكومية (تستخدم التلفون للتصوير) لعدم توفّر ورق الأشعة!
وكتب عقيل الأزرقي:” أنا يعرفون أصدقائي لا أحتسي فودكا ولا أعاقر تكيلا ولا أمزمز. لكن الذي يترك عوائل تعيش على القمامة ورجل يبيع أطفاله ويذهب ليشرع قانون يمنع الخمر هذا گواد وكلب أبن كلب مهما حسنت نواياه وجاي يبيع دين براس المطايا”.
.
لكن الأمر قد يكون ابعد من محاولة لإلهاء الناس في اختلاف على قضية مثيرة تمت تجربتها في السابق وأثبتت فعاليتها في صرف انتباه الناس. وأول من نبه إلى الـ “واوي” في القضية هو الصديق بسيم محمد مصطفى، حين نبه أن هذا القرار يأتي وكأنه تحضير لمرحلة ما بعد تحرير الموصل حيث ينتظر أن تُقام استفتاءات في مناطقها، وتساءل عن تأثير هذا القرار بشكل خاص، فكتب: “منطقة بعشيقة وسهل نينوى، بعد القرار التاريخي بمنع بيع وتصنيع الخمور (اللي صوتوا عليه بنص المعمعة!) لو رادوا “يخيروهم” حسب كلام سيدنا يونادم كنا، بين البقاء خارج الإقليم أو الانضمام للإقليم، المن راح يختارووون؟”.
وقد أرسل لي بسيم أيضا صورة لخبر غريب من سي إن إن اشبه بالإعلان عن “المشروب الأبيض في تركيا” اعيد نشره قبل أسبوع، وكأنه إعلان لأبناء المناطق المحررة: “في العراق – تحريم الخمور، وفي تركيا، العرق مسموح ومتوفر.”
.
لكن المشكلة، وهنا المهارة، ان الاعتراض على منع الخمر امر عسير في المجتمع العراقي، حتى لو عرف الناس ان من يقف وراءه هم ابعد الناس عن الدين، رغم انهم القائمون على اموره في العراق. فتفاخر عضو لجنة الأوقاف الدينية النيابية علي العلاق بالقانون مذكرا بأن التحالف الوطني هو صاحب المشروع، وان طعنه في المحكمة الاتحادية سوف يرد ” كون القرار دستوري والدستور أكد على رفض أي شيء يخالف الشريعة الإسلامية”.
وهنا مراوغة في العبارة لا تفوت المنتبه، فالدستور قال بـ “رفض أي قانون يتعارض مع الشريعة” ولم يقل انه يجب وضع قانون لتنفيذ كل جانب من جوانب الشريعة.
.
يعني لا يحق لنا اصدار قانون يفرض علينا قبول الربا، على سبيل المثال لأنه يتعارض مع الشريعة صراحةً، وهذا سيجبر المواطن أن يختار بين مخالفة الشريعة و مخالفة القانون ولذلك فهو مرفوض دستورياً. لكن هذا لا يعني أننا يجب ان نصدر قانوناً يلزمنا باتباع كل نص شرعي، وإلا تحول الحكم بالضرورة ومع الوقت إلى حكم الشريعة الإسلامية تماما. فما الذي سيمنع محمود الحسن ان يفرض بالقانون على الناس ان يصلوا؟ لقد كتبت نقطة الدستور بشكل يترك للمواطن الخيار دون ان يخالف الشريعة او القانون. فلا هو يلزمه بالشريعة قانوناً ولا هو يلزمه بمخالفتها إذا اطاع القانون.
فما يقوله علي العلاق مراوغة لفظية لا اكثر، لكن مؤيدو القانون لن يهتموا بذلك. البعض لا يرى من الإسلام غير منع الخمر والسفور.
.
لكن الحقيقة الأخرى التي يجب على المسلمين الملتزمين ان يدركوها هي ان العراق ليس بلداً إسلاميا، بمعنى التزامه بالشريعة الإسلامية قانوناً. وليس ذلك فقط لان فيه مسيحيين مثلا، وإنما لأن فيه ناس لا يؤمنون، بل وأيضا لأن فيه مسلمون لا يريدون تنفيذ كل ما جاءت به الشريعة أو لا يقتنعون بتفسيرات المشرعين فيها. وهناك أيضاً من لا يستطيع الالتزام حتى لو أراد، وهناك من يريد ان يفعل ذلك بإرادته وأن يصل إليه بطريقته وبالتدرج الذي يناسبه لا ان يفرضه عليه أحد. وكل هؤلاء عراقيون لهم الحق في بلادهم مثلما للمسلم الملتزم الحق في بلاده، ما داموا لا يعارضون حياة المسلمين الملتزمين ولا يحاربونهم في عقائدهم وأمورهم الشخصية.
.
لقد تم إدخال القانون، حسب الخبر، في آخر لحظة من مناقشة قانون موارد المحافظات، وهذه الحقيقة، إضافة إلى حقيقة انه ليس له علاقة مباشرة بطبيعة القانون الأصلي، تشي بأن وراء الموضوع مؤامرة حاولت حشر القانون، وأن شكوك الصديق بسيم أقرب إلى تفسيره من صحوة دينية تصادفت مع تحرير نينوى.
.
وما دمنا نتحدث عن اقتصاد والتزام ديني، فدعوني اذكركم باقتصاد إسلامي حقيقي وليس ما يدعو له علي العلاق والقاضي المتخلف محمود الحسن: كتاب “اقتصادنا” الذي كتبه السيد محمد باقر الصدر، والذي يدعي التحالف الوطني أنه يعتز به ويقدسه. دعوني اذكره، لأن تقديس هؤلاء له لا يبدو كافيا لجعلهم يقرؤونه. إنه يقول بـ “منطقة الفراغ” التي تركها المشرع ليملأها الحاكم بحسب الظروف وبروح الإسلام الباحثة عن صلاح المجتمع. فالدين يهدف لخدمة المجتمع وليس لخدمة الله، فلا أحد يستطيع ان يخدم الله. والظرف اليوم لا يتيح منع الخمر بقانون يخرج بلا اية دراسة هكذا، فيهدد وحدة البلاد ووحدة مجتمعه وزيادة الانشقاق فيه. فهل يعرف “علي العلاق” شيئا عن “منطقة الفراغ”؟ أراهن انه لا هو ولا هذا القاضي الأبله الذي لا يميز الآيات القرآنية من مقولات ابن خلدون، قد قرء الكتاب.
.
لم يكن الدين نفسه، يتيح حتى للرسول فرضه بالإكراه حتى على احب الناس على قلبه، فكيف يتاح لعلي العلاق ومحمود الحسن أن يفرضوا على الناس ما لم يتح للرسول نفسه؟ وإن كان الله قد الزم نبيه بالطريق الطويل والمضني، بأن “يجادلهم بالتي هي أحسن”، فكيف يتيح للفاسدين والحمقى والجهلة الذين لم يكسبوا ثقة الناس في أي شيء، ان يختصروا الطريق بقانون؟
.
ربما يجادل أحد بأن محمود الحسن قاض يعرف القانون. لكن معرفة القانون تشمل معرفة تاريخ القانون والمجتمع، ولنسأل: هل قرأ محمود الحسن أو بقية النواب الذين صوتوا على القانون، نتائج مثل ذلك القانون في بلدان أخرى سبق لها ان طبقته في بلادها؟ فهذا من اول متطلبات التشريع، لمن أراد للتشريع ان يكون لصالح المجتمع، وليس أن يكون محاولة لرشوة الله.
هل يعلم النواب أن “المافيا” في أميركا، وكل تأثيرها المدمر على كل التاريخ الأمريكي وبالتالي العالمي، وحتى اليوم، ليست سوى الوليد غير الشرعي لقانون تحريم الخمر في أميركا؟
.
لقد بدأت محاولات منع الخمر في اميركا في القرن السابع عشر وكان آخرها عام 1920. وكانت وراءها منظمات دينية وأخرى تدافع عن حقوق المرأة، وكانت تدريجية في نسبة الكحول الممنوعة ومدى تطبيقها، ورغم ذلك كانت النتيجة كارثية.
.
فسرعان ما ازدهرت جرائم تهريب الخمر لأنها صارت تعطي مردوداً مالياً كبيراً، ومنها نشأت المافيا. وصار لتلك العصابات من القدرات الاقتصادية ما تشتري به الحكومة والقضاة والشرطة، وشبكات أنفاق طويلة ومعقدة تحت المدن الكبرى. فاستشرى أذاها عشرات السنين ولم يتم التخلص منها حتى فترة قريبة، وبعد قتلها لعدد كبير من القضاة والشرطة والتسبب في دمار كبير للبلد. فتحول كبارها إلى اثرياء يتاجرون بما هو قانوني. وما تزال بقايا المافيات الإيطالية قوية على الساحة السياسية حيث اتهم الرئيس الإيطالي السابق برلوسكوني بالتعامل معها.
.
هل حققت عملية المنع الهدف المرجو منها؟ اختار البعض صنع الخمر منزلياً، وهي عملية سهلة ولا يمكن منعها، لكنها محفوفة بالخطر على الصحة. واختار البعض الآخر اللجوء إلى المخدرات.
وتبين إحصائيات المستشفيات في الولايات المتحدة أن معدلات الوفيات بسبب حالات التسمم الكحولي، والتي كانت في انخفاض مستمر قبل القانون، عادت للارتفاع بشكل سريع بعد سنتين من تطبيقه، لتصل إلى ارقام قياسية بلغت 639 وفاة في العام خلال الفترة من عام 1923 إلى 1927. (2)
السائد الآن هو أن “العملية فشلت”. فكما وصف أحدهم الأمر، “إن الحضر دمر صناعة الكحول وتوزيعها القانوني، لكنه فشل في أن يدمر الطلب على الكحول نفسه”.
.
وهكذا فكما نرى، القضية ليست بهذه البساطة أو البراءة. وبسيم قد يكون محقاً تماماً بشكه بوجود “واوي” في مكان ما، وأن من تحرك نحوه في هذه اللحظة إنما يعمل مع العصابة التي تريد تقسيم العراق. وهنا لا بد ان يسأل المرء: لماذا لا يحاول هؤلاء دخول الجنة من الطرق الأكثر سلاماً للمجتمع وللوطن، والتي لا يختلف عليها أحد؟ الطرق التي تكسب رضا الجميع ورضا الله معا، مثل محاربة الفساد او محاربة الفقر او تأمين الصحة، وكلها من أسس المجتمع الإسلامي التي يؤكد عليها جميع الأئمة وجميع المذاهب، بل وجميع الأديان ايضاً، ولا تنتج أية عصابات تهريب او تنشط أسواق المخدرات؟
قانون منع الخمر، ليس بدافع إسلامي إذن وليس بدافع الخير، وإن تلبس بالشكل الإسلامي. إنه من الحركات التي اسميها بحركات “رفع المصحف” على الرماح، التي قام بها معاوية بوجه جيش الإمام علي في معركة صفين، فلم يعد المقاتلون يستطيعون الاعتراض رغم علمهم بما في النوايا. وهو اشبه بخط عبارة “الله أكبر” التي قام بها الأكثر فسوقا، صدام حسين، لكن أحدا لم يجرؤ على رفعها من العلم خشية الاتهام بعدم احترام الدين. ومثلها أيضا قانون تزويج القاصرات وحتى محاولة تغيير اسم مدينة بابل الواضح الشبهة بالخيوط الإسرائيلية، أكثر من وضوح علاقته بالإمام الحسن.
.
إن هذا القانون ، مثله مثل تلك المحاولات، ضار، رغم كل ما قد يقال عنه، وإيقافه بحاجة إلى “دين شجاع” لا يخشى في الحق لومة لائم، ليضع الحقائق في مكانها الصحيح، وليس دين جبان يسعى إلى أن يأمن النص، حتى لو ناقض أهم أسس المعنى الإسلامي الذي يجب ان يمثل هدف كل نشاط ديني: “أن يكون في صالح المجتمع، في زمن ذلك المجتمع”. هذه هي الحقيقة وكل ما عداها ليس سوى محتالين يتقافزون على الدين، وجبناء يخشون مجابهتهم. لقد كان مثل هؤلاء خطرين دائما، لكنهم خطرون بشكل خاص عندما يكون المجتمع في أزمة، وتتآمر على تمزيقه قوى كبرى.
.
(1) البرلمان العراقي يمنع تصنيع وبيع الخمور
http://rudaw.net/arabic/middleeast/iraq/2210201611
(2) History of Alcohol Prohibition
http://www.druglibrary.org/schaf…/LIBRARY/studies/…/nc2a.htm
كفاكم رفعاً للمصاحف ايها الفاسدون
متى كان الرياء .. طريقاً للجنة؟