يمكن القول إن البحث في مسألة الفرق بين المنهج الاستقرائي والاستنباطي. هو بحث في صراع خاضته عشرات الشعوب والأديان والفلسفات طوال 25 قرنا حول المعاني والحقائق والأفكار وطرق تحصيلها.
هو صراع بين تصورين ورؤيتيتن للحقائق والوقائع والوجود. وكان يعبر على مدى التاريخ عن شخصية وثقافة كل امة من الأمم. وطالما شنت الأمم حروبا فيما بينها بناء على “تصوراتها” الاستقرائية أو الاستنباطية.
وهذا يعود إلى طبيعة كل منهج من المنهجين. وصعوبة التوحيد بينهما في جميع الأحوال. ويمكن اختصار القول فيهما بأن المنهج الاستقرائي هو نمط من التفكير يقوم على “يقينية” التجربة. أي المدرك الحسي “وليس العقلي أو النقلي”، بينما المنهج الاستنباطي يستمد يقينه من علاقات المقدمات. أي يجب أن يحرص الباحث على عدم وجود أي تناقض بين النتائج والمقدمات.
تعريف الاستقراء
يمكن تعريف الاستقراء على أنه “عملية ملاحظة الظواهر وتجميع البيانات عنها للتوصل إلى مبادىء عامة وعلاقات كلية”. (الرفاعي، 1998، ص 83).
وكلمة استقراء هي ترجمة لكلمة يونانية Enay Wyn ومعناها يقود. والمقصود بها هو قيادة العقل للقيام بعمل يؤدي إلى الوصول لمبدأ أو قانون يتحكم في الجزئيات التي تخضع لادراكنا الحسي. (بوحوش والذنيبات، 1998).
ولقد استخدم علماء الحضارة الأوربية الحديثة المنهج الاستقرائي في تحقيق تقدمهم الحضاري. ولقد استخدمه المسلمون قديما، فقد استخدمه ابن الهيثم وغيرة من علماء المسلمين في كتاباتهم.
وفي المنهج الاستقرائي ينتقل الباحث من الجزء إلى الكل. أو من الخاص إلى العام حيث يبدأ الباحث بالتعرف على الجزئيات ثم يقوم بتعميم النتائج على الكل.
ويشمل الدليل الاستقرائي الاستنتاج العلمي القائم على أساس الملاحظة والاستنتاج العلمي. القائم على التجربة بالمفهوم الحديث للملاحظة والتجربة (الرفاعي، 1998).
نوعا الاستقراء
ولقد قسم أرسطو الاستقراء إلى نوعين: الاستقراء الكامل والاستقراء الناقص ( بوحوش والذنيبات؛ الرفاعي، 1998).
الاستقراء الكامل:
هو استقراء يقيني يقوم على ملاحظة جميع مفردات الظاهرة موضع البحث لإصدار الحكم الكلي على مفردات الظاهرة. وهذا يبدو غير عملي من الناحية الواقعية لما يتطلبه الاستقراء الكامل من القيام بملاحظة كافة عناصر الظاهرة. وهناك من يعتبر الاستقراء الكامل استنباطا لأنه لا يسير من الخاص إلى العام بل تأتي النتيجة مساوية للمقدمة.
الاستقراء الناقص:
وهو استقراء غير يقيني حيث يقوم الباحث بدراسة بعض مفردات الظاهرة دراسة شاملة. ثم يقوم بتعميم النتائج على الكل، فالباحث ينتقل من المعلوم إلى المجهول.
مثال ذلك زيادة الكمية المطلوبة على سلعة معينة، مع ثبات العرض يؤدي إلى ارتفاع سعر السلعة. ومن هذه الملاحظة وصلنا إلى قانون الطلب.
مثال آخر كل منشأة صناعية تم ملاحظتها وتطبق الفكر الإداري الاستراتيجي تتمتع بمركز تنافسي قوي. لذلك فان المؤسسات التي تتمتع بمركز تنافسي قوي تطبق الفكر الإداري الاستراتيجي.
نلاحظ من المثال السابق أن الاستقراء يبدأ بسؤال أو مشكلة. ثم يقوم الباحث بأخذ عينة ممثلة من المنشآت المدروسة ثم يقوم بالدراسة الميدانية عليها. وما تم التوصل إليه من نتائج يتم تعميمها على كل المنشآت.
والاستقراء الناقص هو المنهج الذي يستند إليه العلم. وهو الأسلوب الذي ساعد بشكل كبير بناء الحضارة الكونية الحديثة.
والآن سنرى الفرق بين المنهج الاستقرائي والاستنباطي
3 . 4. 2: الاستنباط Deduction:
وهو الاستدلال الذي ينتقل من الكل إلى الجزء أو من العام إلى الخاص.
والاستنباط يبدأ أو يستند إلى مسلمات أو نظريات ثم يستنبط منها ما ينطبق على الجزء المبحوث. من هنا نرى أن ما يصدق على الكل يصدق على الجزء.
والاستنباط يمر بثلاث خطوات، وهي المقدمة المنطقية الكبرى، والمقدمة المنطقية الصغرى، والنتيجة.
مثال
لو كان لدينا مبدأ عام في الإدارة يقول أن كل المنشآت التي تطبق الفكر الإداري الاستراتيجي تتمتع بقدرة تنافسية عالية (مقدمة منطقية كبرى).
وكانت منشأة (العودة) تطبق الفكر الإداري الاستراتيجي (مقدمة منطقية صغرى)، إذن، منشأة (العودة) تتمتع بقدرة تنافسية عالية.
والمقدمة المنطقية الكبرى هي عبارة عن مبدأ عام والذي يعتقد بصحته (من المسلمات). والمقدمة المنطقية الصغرى وهي المبدأ الخاص أو الظاهرة المبحوثة والتي تنطبق مع المسلمات العامة.
والتوصل إلى النتيجة يتم عبر سلسلة من المقارنات والقياسات والربط المنطقي بين المقدمتين.
ومن الانتقادات الموجهة إلى المنهج الاستنباطي هو أن النتائج التي يتم التوصل إليها لا تخرج عن حدود المقدمتين. فإذا بدأ الباحث بمقدمة غير صحيحة فمن المؤكد أن ينتهي إلى نتيجة غير صحيحة.
وبسبب الانتقادات الموجهة إلى أسلوبي الاستنباط والاستقراء حول مدى دقتهما. استلزم الأمر المزج بين الأسلوبين للوصول إلى العلم والمعرفة الدقيقة.
وهذا الأسلوب الجديد سمي بالمنهج العلمي الحديث (الرفاعي، 1998).
المنهج الاستقرائي عند الإمام الشاطبي
مقاربة أولية
يعد علم” مناهج البحث العلمي” من العلوم التي استحدثت في المناهج الدراسية في الآونة الأخيرة. والتي لم يعرفها علمائنا من السلف، كعلم مستقل. ومعول الخلف فيه على ما أبدعه العقل الغربي من مفاهيم و مناهج وآليات. حتى اعتقد البعض منا أصالة هذا العلم في الفكر الغربي واستقلاليته بإبداعه وتبعنا له في ذلك.
إلا أن هذا الكلام ليس على إطلاقه. إذ أن علمائنا كان لهم يد في تطوير هذا العلم فلقد وضعوا في مصنفاتهم بعض المفاهيم الآليات التي يمكن أن نستخلص منها بعض ملامح مناهج البحث العلمي عند علمائنا المسلمين.
والغريب في الأمر أن بعض من صنفوا في مادة”مناهج البحث العلمي”. لم يشيروا لا من قريب و لا من بعيد لإسهامات علمائنا الأجلاء. مما جعلها مصنفاتهم مفصولة عن تاريخنا العلمي وعن تراثنا الفكري وموصولة بتراث الآخر .
ويأتي هذا البحث كمساهمة أولية في وصل و تأصيل المنهج العلمي من خلال تراثنا العلمي. وذلك من خلال عَلَم انفرد بأصالة إبداعه و بعمق منهجه إنه إمام المقاصد: الإمام الشاطبي.
الذي سنبرز توظيفه للمنهج الاستقرائي في حقل الدراسات الأصولية.
1) معنى الاستقراء:
الاستقراء لغة من قرأ الأمر أي تتبعه. ونظر في حاله، وهناك من يرى أنه من قرأت الشيء بمعنى جمعته وضممت بعضه إلى بعض ليرى توافقه واختلافه. و كلا الأمرين يعني التتبع لمعرفة أحوال شيء ما.
واصطلاحا: الاستقراء عند المنطقيين هو الحكم على كلي بما يوجد في جزئياته الكثيرة. ويعرفه الإمام الغزالي بقوله «هو أنه تتصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كلي.
حتى إذا وجدت حكما في تلك الجزئيات حكم على ذلك الكلي به». ويعرفه الدكتور عبد الرحمن بدوي بقوله:« تعميم من حالات جزئية تتصف بصفة مشتركة».
أقسام الاستقراء
و ينقسم الاستقراء إلى ناقص و تام: أما الأول فهو انتقال الذهن من الحكم على الجزئيات إلى الحكم على الكلي. وهو استدلال معرض للاختلال لاحتمال سقوطه بعدم استقراء جزئية واحدة.
وأما التام فهو انتقال الذهن من الحكم على جميع الجزئيات إلى الحكم على كليها.
2) طبيعة المنهج الاستقرائي:
يعتبر المنهج الاستقرائي من المناهج المشتركة بين العلوم الطبيعية و العلوم الإنسانية. وإن كان في الغالب يوظف في مجال دراسة العلوم الطبيعية.
و يعتمد منهج الاستقراء العلمي في مجال دراسة العلوم الطبيعية على«الملاحظة العلمية» في مجال الطبيعة.
والانتقال من ملاحظة قضايا جزئية تشير إلى ما نلاحظه إلى نتائج كلية تتضمن وقائع أو ظواهر أخرى.
سوف تحدث في المستقبل ولم تلاحظ بعد. وهذا يعني أن مقدماته تمثل الجزئيات التي تم استقراءها في الواقع عن طريق الملاحظة و التجربة. أما نتيجته فتعبر عن القانون العام الذي تندرج تحته الجزئيات التي شاهدناها. بحيث يمكن القول أننا نصل إلى تعميم ما جاءت به النتيجة من خلال الاستدلال الاستقرائي.
ولكنه لا يمثل ما شاهدناه فحسب، وإنما يعبر أيضا عن الوقائع التي سترد علينا في المستقبل .
ثلاث مراحل بحثية
ويمر الباحث في إعماله للمنهج الاستقرائي من ثلاث مراحل بحثية:
أولا: مرحلة البحث: و يستخدم فيها الملاحظة والتجربة.
للوقوف على ما بين الأشياء من أوجه شبه و اختلاف.
ثانيا: مرحلة الاختراع و الاكتشاف.
وهي مرحلة وضع الفروض التفسيرية التي توضح العلاقة بين الظواهر المشاهدة أو التي أُجري عليها التجارب.
ثالثا: مرحلة البرهان و هي مرحلة تحقيق الفروض من خلال الرجوع للواقع.
3) المنهج الاستقرائي عند علماء المسلمين:
تعودنا أن نقرأ في كتب” مناهج البحث العلمي” أن بداية استخدام المنهج الاستقرائي في البحث كانت على يد فرنسيس بيكون و كلود برنار و جون ستيوارت ميل و غيرهم من المفكرين الغربيين. مع إغفال تام لإسهامات علماء المسلمين في وضع لبنات هذا المنهج و في تطوير آلياته و مفاهيمه.
رغم ما لإسهاماتهم من اثر عميق في تطور العلوم الطبيعية والإنسانية يشهد بها القاصي والداني. إلا أن غفلت بعض الباحثين في” مناهج البحث العلمي” عن تراثنا العلمي. حالت دون جلاء الإسهامات المنهجية لعلمائنا المسلمين في حقل المناهج العلمية.
ويكفي الرجوع إلى دراسات ابن الهيثم في علم البصريات و ابن النفيس في علم الطب و البتاني و الطوسي في علم الفلك و ابن حيان في علم الكيمياء و ابن خلدون في علم العمران. للوقوف على عمق توظيف و إعمال علمائنا المسلمين للمنهج الاستقرائي.
ماذا يقول ابن الهيثم؟
ولنقف في هذا المقام مع نموذج يظهر حضور المنهج الاستقرائي في الإنتاج العلمي الإسلامي. يقول ابن الهيثم:
« ونبتدئ في البحث، باستقراء الموجودات.
و تصفح أحوال المبصرات، وتمييز خواص الجزئيات؛ و نلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما مطرد لا يتغير. وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس. ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدرج مع انتقاد المقدمات و التحفظ من الغلط في النتائج.
ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه و نتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى. ونتحرى في سائر ما نميزه وننقده طلب الحق لا الميل مع الأهواء». وفي هذا القول الموجز كما يظهر جمع ابن الهيثم بين الاستقراء و القياس و قدم فيه الاستقراء على القياس و حدد فيه الشرط الأساسي في البحوث العلمية الصحيحة.
وهو أن يكون الغرض طلب الحقيقة؟ دون أن يكون لرأي سابق أو نزعة من عاطفة أيا كانت دخل في الأمر، ثم إقرار تلك الحقيقة على ما هي عليه.
وهذا ابن خلدون، كما يقول الدكتور علي سامي النشار «استخدم المنهج الاستقرائي في براعة نادرة لتفسير الظواهر العرضية التي قابلها.
تفسيرا يستند على التحليل والتركيب ومستخدما قياس الغائب على الشاهد من ناحية.
واستقراء الحوادث العارضة في المشاهدة، للتوصل إلى أحكام. فكان عمله باهرا في نطاق التاريخ».
وفيما يلي: القسم الثاني من مقال الفرق بين المنهج الاستقرائي والاستنباطي
4) المنهج الاستقرائي عند الإمام الشاطبي:
يتميز كتاب ” الموافقات” للإمام الشاطبي باعتماده المنهج الاستقرائي للاستدلال على القواعد و المسائل الأصولية و المقاصدية.
والإمام الشاطبي حدد منذ بداية كتابه المنهج الذي سيسلكه و يعتمده فقال:
« ولما بدا من مكنون السر ما بدا، ووفق الله الكريم لما شاء منه و هدى. ولم أزل أقيد من أوابده وأضم شواهده تفاصيلا و جملا.
وأسوق من شواهده في مصادر الحكم و موارده مبينا لا مجملا معتمدا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية.
ومبينا أصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية، حسبما أعطته الاستطاعة و المنة، في بيان مقاصد الكتاب و السنة».
و المتتبع لكتاب الموافقات يظهر له بجلاء التزام الإمام الشاطبي بالمنهج الاستقرائي. حتى إننا لا نكاد نجد قاعدة من القواعد العامة أو كلية من الكليات التي بحثها في كتابه هذا إلا و قد دلل لها – من جملة أدلتها- بالاستقراء.
سواء اكتفى في ذلك بالقول بأن تلك القاعدة أو الكلية محل الاستدلال قد ثبتت باستقراء موارد الشريعة و مصادرها من غير إيراد الجزئيات المستقرأة. أو إيراد طرف من تلك الآحاد المستقرأة .
أ- الاستقراء التام والناقص عند الإمام الشاطبي:
جرى الشاطبي على التقسيم المعروف للاستقراء إلى استقراء تام و استقراء ناقص. أما الاستقراء التام ، فالشاطبي – كغيره من العلماء و المناطقة- يرى أنه يفيد القطع.
وقد صرح بذلك في مواطن ، منها:
1. كون حقوق الله تعالى لا ترجع إلى اختيار المكلَّف. ومن تمّ لا يمكن لأحد إسقاطها، حيث يقول: «أما حقوق الله تعالى فالدلائل على أنها غير ساقطة. ولا ترجع لاختيار المكلَّف كثيرة. وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ومصادره…».
2. إثبات أن مورد التكاليف الشرعية هو العقل، حيث قال:«… والثالث: أن مورد التكليف هو العقل، وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام، حتى إذا فُقد( أي العقل) ارتفع التكليف رأسا». أما الاستقراء الناقص، فإن الشاطبي يرى أنه نتيجة الاستقراء قد تكون قطيعة و قد تكون ظنية.
حيث يقول:«إن الاستقراء هكذا شأنه؛ فإنه تصفح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام، إما قطعي، و إما ظني».
الشاطبي: هناك ثلاث شروط
وقد حدد الشاطبي ثلاثة شروط للتعميم الاستقرائي الناتج من استقراء ناقص حتى يفيد القطع هي:
التكرار: بأن تكون نتيجة الاستقراء قد تكرر تقريرها في النصوص الشرعية. كما هو الحال في التيسير و رفع الحرج، و منع الضَرر والضِرار.
التأكيد: بأن تكون نتيجة الاستقراء قد تم تأكيد مضمونها في مواضع كثيرة و ذلك بعدم استثناء موضع أو حال مما يشمله.
الانتشار: بأن ينتشر هذا المعنى في أبواب الشريعة. دون اقتصار على باب واحد من أبوابها. أما إذا كانت الجزئيات المستقرأة في قضية واحدة أو باب واحد فإنه لا ينتظم منها استقراء قطعي. بل تكون نتيجة استقرائها ظنية.
ب- الشاطبي و مجالات استخدام المنهج الاستقرائي:
استخدم الإمام الشاطبي المنهج الاستقرائي في كتابه ” الموافقات”. وسنقف مع بعض الأمثلة الدالة على ذلك:
1) المثال الأول:
في المقدمة الأولى التي أوردها في مستهل كتابه حيث قال: « إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية. والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي. بيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع».
2) المثال الثاني: إثبات مقاصد الشريعة؛
فلقد أثبت الشاطبي أن مقاصد الشريعة بمراتبها الثلاث: ضروريات، حاجيات، تحسينيات مرعية في الشريعة الإسلامية على أساس منهج الاستقراء. فقال: «وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع.
و دليل ذلك استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة. على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص».
3) المثال الثالث:
يقول الإمام الشاطبي: «و إنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية. تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق.
ولأجله أفاد التواتر القطع. وهذا نوع منه، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم. فهو دليلي المطلوب، وهو شبيه بالتواتر المعنوي…».
4) المثال الرابع:
قوله «و المعتمد إنما هو أن استقرينا من الشريعة. أنها وضع لمصالح العباد استقراءً…».
5) المثال الخامس: قوله: «و دليل ذلك استقراء الشريعة ، والنظر في أدلتها الكلية و الجزئية. وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة. على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص.
بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة».
هذه ملامح أولية للمنهج الاستقرائي عند الإمام الشاطبي، وما يكتنزه كتاب الموافقات أكثر مما ذكرناه. وإنما كان قصدنا الإشارة والتلميح إلى ضرورة العناية العلمية والمعرفية بتراثنا الفكري خصوصا في جانبه المنهجي الذي يعد مدخلا لتجديد نظرتنا إليه والاستفادة منه.
في أفق أن تستأنف الأمة الإسلامية نهضتها من أجل رفد الحضارة الإنسانية بما يسدد مسارها ويؤنس وحشتها.
اعتقد إن ابن الهيثم وابن خلدون لهم اسهاماتهم في مناهج البحث الحديثة ذلك لانهما اجترحا طريقا جديدة في البحث والتمحيص للمعارف السائدة في زمانها. واسسا لنفيسهما منهاجية عقلية بدأت بالشك في المسلمات المفترضة في عصرهما.
بالنسبة لنهج الشاطبي يختلف من حيث إنه اخضع منهجيته في القياس والاستقراء للاصول الفقهية السائدة في عصره والتي اعتبرت مرجعية ومعيارا للصحة والقبول. كالاجماع والتواتر… الخ. يقول الشاطبي
“فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، و لأجله أفاد التواتر القطع. و هذا نوع منه، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم. فهو دليلي المطلوب، وهو شبيه بالتواتر المعنوي”
لذا فمنهجية الشاطبي كانت محكومة باصول التشريع التي وضعها السابقين ودارت في فلكها ولم تكن تلك الاصول من المنهجية التجريبي او العلمي في شي، بل إن المنهج العلمي لفرانسيس بيكوت قد قام لدحض هذه الافتراضات التي يسلم بها الناس، ارجع لنضرية لاوهام الاربعة لبيكون.
ولذا فالتواتر والاجماع التي هي عند الشاطبي يقين، هي في نظر المنهج العلمي لا تفيد العلم ناهيك عنواليقين . فتواتر الناس واجماعهم كذلك ليس دليلا على الصحة. واذا نظرت للمجتمعات البدائية ستجدها تتواتر طرائق علاج مرضاها المصابين بالتيفوئيد بالرقص والاهازيج لكي تطرد الارواح الشريرة.
نعم هذا صحيح تماما..وهذه هي علة المنطق الاستنباطي القديم القائم على الحقائق الكلية التي اعتمدها الفقهاء كالحق والخير والشر الخ