ذوات – نزهة صادق .. راجع المادة تحريريا: منصور الناصر
برز اسمه في سماء الفلسفة المعاصرة عموماً والفلسفة الوجودية خصوصاً، حيث أسس المذهب الوجودي وجعله من أكبر المذاهب الفلسفية المعاصرة، ووضع مجموعة من الأطروحات والمفاهيم التي عرفت بها الفلسفة الوجودية بمختلف تياراتها.
إنه مارتن هيدجر الفيلسوف الذي أقام البنيان العام للمذهب الوجودي، والقطب الذي بحث عن مفهوم الوجود من خلال إعادة تأسيس الميتافيزيقيا، ليكشف عن فلسفة الوجود، وليبحث عن الأنطولوجيا الكامنة المستترة بالطريقة الهيدجيرية التي بنى بها تصوراته للوجود، ليصبح بذلك فيلسوف الوجود وماهيته.
والفيلسوف الألماني مارتن هيدجر (1889 – 1976)، الذي درس في جامعة “فرايبورغ” تحت إشراف إدموند هوسرل مؤسس الظاهريات، ثم أصبح أستاذاً فيها، وجه اهتمامه الفلسفي إلى مشكلات الوجود والتقنية والحرية والحقيقة وغيرها من المواضيع التي تهم الإنسان في وجوده.
وكانت تجربة مارتن في القلق، متميزة وأساسية، حيث كشف عن معنى الوجود (L’être) انطلاقاً من العدم، ويرجع ذلك إلى تجربته الخاصة مع القلق الذي عايشه في علاقته بفكرة العدم؛ فالإنسان يقلق وذلك لإدراكه بأنه محكوم في النهاية بالموت الذي هو العدم نفسه.
القلق هو الخوف المطلق أمام العراء المطلق
والقلق ليس الخوف؛ فلم يكن القلق المبهم الذي عايشه مارتن ومنحه الإلهام لبناء نظريته ومفاهيمه، مرتبطاً بالشعور بالذنب بعد ارتكاب خطيئةٍ ما، كما عند الفيلسوف سيرين كيركغور، وإنما نشأ من الخوف من العدم، وكان مصدره الوجود. “وما القلق إلا حالة الخوف المطلق أمام العراء المطلق” كما قال.
https://www.youtube.com/watch?v=ebsizu8Hm_c
كشف مارتن هيدجر عن معنى الوجود (L’être) انطلاقاً من العدم، وبناء على تجربته الخاصة مع القلق وسؤال الموت.
في دراسته للوجود والعدم، انطلق هيدجر من دراسة الموجود (الذي هو الإنسان) لدراسة ماهية الموجود، حيث يرى بأن هذا الأخير هو كائن موجود في العالم، ومعنى ذلك أنه يتواجد ضمن الوجود المادي لأشياء العالم، لكنه يختلف عن هذه الأشياء بتميزه بخصوصيات ومنها ذاتيته وفرديته.
كما أنه يتواجد مع ذوات آخرى تشبهه وتختلف عنه؛ أي أن الذات ليست ذاتاً مستقلة تمام الاستقلال، بل على العكس من ذلك هي تتواجد مع ذوات آخرى؛ فالإنسان حسب هيدجر يتميز بوجودين: وجود في العالم ووجود مع الآخرين، إذ قسم هاذين الوجودين إلى وجود حقيقي، ووجود زائف.
وقد أوضح هيدجر فيما يخص تصنيفه للوجود بأن الوجود مع الآخرين يتجلى في أن الأنا الموجود في العالم يعيش بين الأشياء والآخرين، ويمتلك من الإمكانات والطاقات ما يمكنه من ربط علاقات إيجابية مع العالم الخارجي، ومن تقاسم وجوده مع غيره من الذوات الأخرى.
الوجود وجودان: حقيقي وزائف
موضحاً أنه على الرغم من هذه القدرات التواصلية التي يمتلكها الفرد في علاقته الوجودية مع الآخر، إلا أن هذا الوجود يحمل وجهان متناقضان، واحد سلبي والآخر إيجابي، وذلك تبعاً للأساليب التي ينهجها الفرد في حياته، حيث يعتبر الجانب الإيجابي أسلوباً أصيلا ويشكل نقيضه الأسلوب الزائف.
إذن فالوجود الحقيقي، على حد قول هيدجر، ينطلق من تحمل الإنسان لمسؤولياته واختياراته وقدرته على اتخاذ القرارات بوعي كامل بالأوضاع والظروف التي تحيط به.
أما الوجود الزائف، فيرى هيدجر أنه الوجود النمطي الغارق في الحاضر، حيث ينفصل الشخص عن اختياراته الذاتية وإمكانياته الخاصة، ويصبح تابعاً لإرادات الآخرين، فيسقط في حالة الاغتراب التي ينعزل فيها عن ذاته ويتحول وجوده إلى شيء غريب عنه؛ فالحياة اليومية على سبيل المثال تفرغ الذات من وجودها الحقيقي، وتصبح مهددة من طرف الآخرين ولا تشعر بوجودها الحقيقي.
تجاوز الزائف يتم بالقلق وليس الخوف
أجاب مارتن عن سؤال كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من هذا الوجود الزائف ليحقق وجوده الأصيل؟ معتبراً أن عملية التجاوز تتم عن طريق القلق وليس الخوف، مميزاً بينهما، فإذا كان الخوف من العدم، وهو الذي يدفع الإنسان إلى متاهات الثرثرة والفضول والغموض من أجل إخفاء ذاتيته والاطمئنان إلى الوهم.
الخوف لا يساعد على المعرفة إنما القلق
ذلك أن القلق يساعده على معرفة العدم؛ أي التعرف على جدلية الوجود والموت؛ أي أنه موجود من أجل الموت، وأنه سيموت وحده ولن يشاركه أحد في تلك التجربة الرهيبة؛ من هنا يوضح مارتن أن القلق هو الوسيلة التي يتعرف الإنسان من خلالها على حقيقته، والأكثر من ذلك على عبثية الوجود برمته.
أجاب مارتن عن سؤال كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من هذا الوجود الزائف ليحقق وجوده الأصيل؟
فالإنسان عندما يهرب من وجوده الزائف مع الآخرين يجد نفسه أمام حقيقة الموت الذي يضعه أمام اختيارين لا ثالث لهما، إما أن يفر إلى الآخرين ويحتمي بهم فيعود بالتالي إلى عالم الزيف والسطحية، وإما أن ينعزل لوحده، لينتظر مواجهة مصيره المحتوم.
أعاد هيدجر توجيه الفلسفة الغربية بعيداً عن الأسئلة الميتافيزيقية واللاهوتية والأسئلة الإبستمولوجية، ليطرح عوضاً عنها أسئلة نظرية الوجود (الأنطولوجيا)، وهي أسئلة تتركز أساساً على معنى الكينونة دا زاين (Dasein).
ولقد اتهم من قبل الكثير من الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين بمعاداة السامية، وتم لومه على انتمائه خلال فترة معينة للحزب النازي الألماني، وعلى الرغم من ذلك يبقى مارتن من الأقطاب التي أثرت بشكل كبير على أهم المدارس الفلسفية في القرن العشرين وخاصة الوجودية، التأويليات، فلسفة النقض أو التفكيكية، ما بعد الحداثة.
ويعد كتاب “الكينونة والزمان” الذي صدر عام 1927 من أهم ما كتب هيدجر في الفلسفة، حيث يعتبر المدخل الأفضل لقراءة الفلسفة الهيدجرية، إذ وضع فيه الأساسات والمنطلقات العامة لفلسفته الخاصة، وسعى من خلاله إلى التخلص من مرحلة التوظيف الأيديولوجي – السياسوي لاهتمامات الإنسان وهمومه، والقطع مع مرحلة تطويق أفقه بأنساق شمولية مسيطرة، وذلك بهدف إقامة نظرية متكاملة حول “الكينونة” من خلال وصف مادتها الأولية ألا وهي الكائن.
بعد أن خلق فلسفة جديدة، غادر هيدجر الحياة في 26 مايو(أيار) عام 1976، تاركاً وراءه إرثاً فكرياً، إذ أنه كوّن نسقاً فلسفياً مترابطا يغوص في الوجود والحياة، الشيء الذي لم يتكرر كثيراً في القرن العشرين عندما سيطرت الفلسفات الوضعية التي حاربت المذاهب الشمولية التأملية واعتبرتها مذاهب فارغة لا تؤدي ألفاظها إلى نتائج عملية.
صاغ مذهبا يبحث في المعنى قبل أي شيء
كما أن نتاجاته المتفردة في مجال المفاهيم الفلسفية جعلت من مارتن أحد أقطاب الفكر الفلسفي الوجودي التي صاغت مذهباً يبحث في المعنى قبل أي شيء، ويماهي الوجود بما هو وجود، متبعاً منهجاً شديد الصرامة وأحياناً شديد الصعوبة، ما جاء بفلسفة جديدة مخالفة لسياق الفلسفات الوضعية الشائع، والقفزات العلمية الهائلة، خصوصاً في مجال الفيزياء الرياضية (النظرية النسبية، نظرية الكوانتم).
مما لاشك فيه ان (هوسرل ) قد مارس تأثيرا علي (هيدجر)، ولعل سعي مؤسس الفينومينولوجيا من أجل جعل الفلسفة علما دقيقا وصارما، قد عمق اتجاها جذريا لدي (هايدجر)، الذي رأي أن هنالك تاريخا مطولا من المفاهيم عن الميتافيزيقا يستحق النقد والقلب الجذري إبتداء بـ(افلاطون) ومرورا بـ(كانت) حتي (نيتشة)، الامر الذي جعله يستدعي تاريخ الميتافيزيقا الغربية كله ليضعه أمام مساءلة نقدية.
أقبل (هيدجر) علي القاء محاضرات في مدينة (فريبورج )، ” فاقبل الناس علي الاستماع الي ارائه الفلسفية العميقة، وذاع صيته في الاوساط الفلسفية (3).
كان من سمات المناخ الفلسفي في القرن العشرين انه مناخا متوترا بين النزوع نحو العلموية وبين نقد هذا النزوع من قبل فلاسفة مثل: (هوسرل )، و(برجسون ) اللذين حاولا تأسيس ابستمولوجيا موازية للعلم تهتم بأمر الميتافيزيقا كما هو الحال لدي (برجسون ) الذي نادي بأن منهج العلم القائم علي الدوران حول الموضوع من الخارج لايقدم لنا معرفة في مجال الميتافيزيقا، لأن منهجها هو منهج النفاذ الي صميم الموضوع من خلال الحدس الذي يقدم لنا معرفة مباشرة.
لذلك مهما قيل بأن القرن العشرين هو قرن العلم والتكنولوجيا، فإن القول بانه هو ايضا قرن الميتافيزيقا يعد قولا صحيحا , ويكفي ان نقول ان مبحث الميتافيزيقا قد شهد في القرن العشرين ثورة كوبرنيقية هايدجرية أعلنت التحول من ميتافيزيقا الموجود الي ميتافيزيقا الوجود.
حيث اصدر (هيدجر) في عام1927م ” كتابه الضخم المسمي بإسم (الوجود والزمان )… ولاتنحصر اهمية هذا الكتاب في أصالة الطريقة التي عالج بها مشكلات الفلسفة الاساسية فحسب، وإنما تتجلي ايضا في المفاهيم الجديدة التي كشفت عنها دراسة هايدجر الانطولوجية لمقومات الوجود الانساني.”(4).
هيدجر معجبا بهيلدرلن
هكذا كان مفتتح الربع الثاني من القرن العشرين بداية لنوع جديد من البحث الفلسفي في مجال الميتافيزيقا , حيث قام (هيدجر ) بنشر رسالة “بعنوان (ما الميتافيزيقا ) كانت محاضرة ألقاها بجامعة فريبورج … سنة1929م بمناسبة تعيينه أستاذا خلفا لـ(هوسرل)، وقد تضمنت هذه الرسالة تسأولا عن العدم, وشرحا لمفهوم القلق، وبيانا لصلة العدم بالسلب، ودفاعا غير مباشر عن الميتافيزيقا “(5)
يتميز (هايدجر) بأنه قد حاول طرق عدة قضايا مثل: الشعر و الفن، وقدم حولها فلسفة، فعلي سبيل المثال كتب رسالة باسم (هليدرلن وماهية الشعر) عام 1936م، حيث قام في تلك الرسالة بتحليل “ماهية الشعر، وفهم ماهية اللغة ابتداء من ماهية الشعر. بل هو قد حاول أيضا ان يكشف لنا عن الانظار الفلسفية العميقة التي تنطوي عليها تأملات الشعراء , وقد بلغ من اعجاب (هايدجر) بالشاعر الالماني الرومانتيكي (هيلدرلن) أنه اهتم بتحليل بعض قصائده, فكتب تعليقات علي ثلاث من قصائده ظهرت علي التعاقب عام 1941م, وعام 1942م , وعام 1944م”(6).
إلا ان اهتمام (هايدجر) بمثل تلك القضايا , ليس اهتماما ثانويا أو هامشيا أو موازيا للموضوعات الفلسفية الرئيسية التي عمل عليها , بل بالاحري تمثل نماذج ايضاحية للقضية الميتافيزيقية التي تدور حولها كل الايضاحات الاخرى.
ما الميتافيزيقا؟
الميتافيزيقا هي العمود الفقري لفلسفة (هايدجر)؛ ولذلك تناولها في اغلب كتبه، أما على نحو مباشر حين يتساءل ما الميتافيزيقا؟ … أو علي حين غير مباشر عندما يعالج امورا … قد تبدو بعيدة عن مسألة تأسيس الميتافيزيقا لكنها في الحقيقة وسائل يتوسل بها لعرض هذه الفكرة الاساسية ودعمها لكن متي بدأ (هايدجر) السير في هذا الطريق؟.
حسبما يرويه (هيدجر) نفسه، فإن البداية ترجع الى ” صيف 1907م عندما كان شابا في المدرسة لم يتجاوز الثامنة عشرمن عمره، حين قرأ وقتئذٍ رسالة لـ(فرانتس برنتانو ) استاذ (ادموند هوسرل) بعنوان (في المعني المتعدد للموجود عند ارسطو) وكانت قراءة (هيدجر) لرسالة (برنتانو) هذه بمثابة المهماز الذي دفعه لوضه (سؤال الوجود)” (7).
سار (هيدجر) في طريق الميتافيزيقا وظل شديد الاهتمام بها، مداوما علي البحث فيها، ومنقبا في نصوص الفلاسفة القدماء، خاصة فلاسفة اليونان أمثال: (بارميندس)، و(إفلاطون ) , و(ارسطو) , وقارئاً متعمقا في ميتافيزيقا فلاسفة العصر الحديث، خاصة الفيلسوف الالماني (كانت) , الذي خصص له (هيدجر) رسالة بعنوان (كانط ومشكلة الميتافيزيقا)، في سنة 1929م . و”أحدثت ضجيجا حين نشرت” (8).
جاءت كلمة الميتافيزيقا عرضا او صدفة في سياق تصنيف اندرونيقوس الرودسي مؤلفات ارسطو بعد وقت متأخر من وفاته، وقصد بها المؤلفات التالية لمؤلفات علم الطبيعة، فكان ان سميت بما بعد الطبيعة، ومع مرور الزمن اصبح ما بعد الطبيعة اسم يطلق علي هذا النوع من العلم.
فهو” بحث في العلل الأولى” (9). . او دراسة الوجود بصفة عامة وملحقاته، أي مقولاته التي تعبر عن خصائص اساسية لهذا الوجود: كااجوهر، والعرض, والتغيير, والمكان والزمان …(10).
الميتافيزيقا بوصفها مبحثا فلسفيا كان موضوعا للفلسفة منذ القدم. وهي في نظرنا تتقدم وينضج البحث فيها مع مرور الزمان. فالميتافيزيقا في عهد كانت لا تشبه الميتاقفيزيقا في عهد ارسطو، كما ان الميتافيزيقا في عهد ارسطو لا تشبه الميتافيزيقا في العهد شبه الاسطوري او الاسطوري.\
والسبب كما نراه: هوانه كلما نضجت وقويت الاداة النقدية المعرفية كلما امكن القيام ببحث افضل عن سابقه، وهكذا فان التقدم في نظرية العقل ونظرية المعرفة ونظرية اللغة ونظرية الفهم والابستمولوجيا، اما يقود التقدم المعرفي في الميتافيزيقا.
وحتى يمكننا أن ندرك مدى التقدم الذي قطعه الانسان في البحث في مثل هذه الموضوعات الكبري فما علينا الا ان نتفكر في مجريات التطور التي تضم موضوعات تجمع معا الميتافيزيقا والاسطورة، لنعرف مدي التقدم الذي احرزته الميتافيزيقا مقارنة بما بقيت فيه الاسطورة من تخلف.
بدءًا لابد من أن نفترض أن موضوعات الأسطورة قد طرقت بإستمرار، وفي غير زمان ومكان. ولذلك فإننا واجدون أينما توجهنا ثمة محاولة فكرية هدفت إلي تقديم إجابات تجلي الغموض وتبدد الحيرة التي ظلت تلازم الإنسان وهو ينشد الفهم و الآمان لنأخذ علي سبيل المثال موضوع (البدء).
موضوع البدء:
مسألة البدء من المسائل التي ظلت تؤرق العقل الإنساني وتدفعه إلي تأملها والبحث عن سرها الذي خفي عليه. ومن هذا المنطلق لانجد “شعباً من الشعوب إلا ولديه أسطورة أو مجموعة من الأساطير في الخلق و التكوين واصول الأشياء ” (11).
ولعلنا واجدون أن هناك محاولات مختلفة في تفسير مسألة البدء , حيث نجد ضروب عدة من الأفكار أو المواد . فاذا نظرنا في الفكر اليوناني علي سبيل المثال , فسوف نجد أن (انكسيماندر ) وهو احد رواد (المدرسة الملطية ) يقول أن : ” اللامتناهي هو العلة المادية و العنصر الاول في وجود الاشياء … و رفض القول بأن يكون هذا اللامتناهي ماء او اي عنصر آخر. إذ أنه في نظره جوهر مختلف عن كل هذه العناصر.
وهذا اللامتناهي أزلي لا زمن له تصدر عنه كل السماوات و العوالم الموجودة في هذه السماوات “(12).
كما نجد معاصره وزميله (أنكسمينس ) يقول بأن “الجوهر الاول … هو الهواء، ومن هذا المبدأ تصدر الاشياء جميعاً بما في ذلك الالهة و الموجودات الالهية، وهذا الهواء ليس مرئياً لنا، ولكن البرودة و الحرارة و الرطوبة تجعل من الممكن رؤيته، والهواء في حركة دائمة لانه لو كان ساكناً لما حدث تغيير ما. وإختلافه في الموجودات المتكثرة يكون بفعل التكاثف والتخلخل.
وكذلك نجد لدي (هيراقليطس ) الذي عاش علي الارجح فيما بين (540 ق. م الي 475 ق . م )، وعرفت مدرسته “بمدرسة التغير الدائم” (13). محاولة لارجاع كل شئ الي النار حيث قال : “النار ماهية الاشياء جميعاً، وهذا العالم لم تصنعه الآلهة أو البشر، ذلك أنه وجد هكذا وسيستمر هكذا، وهو نار حية.
والسبب الذي دعاه إلي القول بأن النار هي العنصر المكون للوجود انها أقل العناصر ثباتاً، وهو لا يقصد بالنار هذا اللهيب فحسب بل الدفء و الحرارة علي وجه العموم” (14).
حكاية برغوشا الكاهن البابلي
ومما يحفظه لنا التاريخ أنه وفي القرن الثالث قبل الميلاد كان هناك كاهناً بابلياً يدعى (برغوشا) وضع العديد من الكتب باللغة اليونانية، وعرف بإسمه اليوناني (بيروسوس). ومن أهم مؤلفات هذا الكاهن كتاب ضخم عن تاريخ بابل وحضارتها، ولكن هذا الكتاب الهام ضاع. وبقيت منه شذرات في بعض مؤلفات الكتاب الكلاسيكيين، بينها هذه الشذرة التي يتحدث فيها عن أسطورة التكوين فيقول “في البدء لم يكن سوي الظلام والمياه “(15).
وقد جاء في ملحمة التكوين البابلية المعروفة بإسم ( الإينوما إيلش) وهي نص كتب بلغة أكدية، يرجح انها ترجع إلى أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، ما يشير إلي أن البدء قد تكون علي نحو مائي، حيث نجد في مطلع النص مايلي :
عندما في الاعالي لم يكن للسماء اي ذكر
ولم يخطربالبال إسم لليابسة تحتها
عندما لم يكن إلا أبسو , والدهما
وممو وتعامت – وهي التي ولدتهم جميعاً –
يمزجون امواههم معاً (16).
أما المصري القديم فقد أقام تصوره علي أساس أنه “كان في البدء محيط أزلي أطلق عليه (نون )(17). ونون هو “إله الخضم الأزلي … وهو المحيط المظلم اللامحدود ” (18). وفي مدينة عين شمس تم إكتشاف نص أسطوري فسمي لذلك بإسمها, وعرف ( بتاسوع عين شمس), وهناك أكثر من رواية له , حيث نجد في إحداها إيجاز لعملية البدء علي النحو التالي: ” أوجد الإله الخالق (أتوم ) نفسه في المحيط الأزلي , وربما كان ابناً لذلك المحيط المسمي (نون ) (19).
وفي التعاليم الاورفية ثمة حضور لفكرة التكوين، غير أن هناك أكثر من رواية عن ذلك المبدأ المكون للبدء حيث نجد بعض الروايات تري في (كرونوس – الزمان – … مبدأ للموجودات … وبعض الروايات … تجعل الليل هو الأول … بينما رواية أخري تبدأ بالماء، “ويرى آخرون – مثل المشائيين – ان الخلق الحقيقي عند الاورفية بدأ بالمحيط”(20).
وقد ذهب (طاليس) “الذي عاش في الجزءالاول من القرن السادس ق. م وتوفي عام (546ق.م) … الي القول : بان الماء هو العلة المادية للأشياء جمعيعاً. يقصد بذلك أن الماء هو المادة الاولي الخام لجميع الأشياء هذه المادة تتشكل و تتخذ صوراً وهيئات مختلفة “(21).
اذن فإن الميتافيزيقا في تاريخها البعيد لم تكن لتختلف وتتمايزعن الفكر الاسطوري اما مع تقدم المعرفة عموما فقد بدأت الميتافيزيقا تتحدد اكثر فاكثر لتعني “علم الوجود العام المدرك (existence)(22).
ومن هنا لانجد ان الميتافيزيقا متمايزة عن الاسطورة فحسب بل ايضا متمايزة عن الاداب و الفنون، ومتمايزة بشكل واضح عن العلم التجريبي، والعلم الهندسي والعلم الرياضي.
ميتافيزيقا ما قبل هيدجر:
ماقبل ميتافيزيقا هيدجر كان هنالك تاريخ طويل من العمل الفلسفي في الميتافيزيقا، ولكنه تاريخ لا يسير في خط واحد ومتجانس ومتطرد، انما هو تاريخ تحتشد فيه توجهات ونزعات جد مختلفة، فمنذ افلاطون الى هيدجر، تعددت منطلقات البحث الميتافيزيقي، وهكذا لم تكن كل ميتافيزيقا تقود بالضرورة الي الميتافيزيقا الاخرى.
ولسنا نزعم في هذه الورقة تقديم عرض لتاريخ الميتافيزيقا، ولكن حسبنا ان نشير علي نحو موجز الي اهم ممثلين لميتافيزيقا ما قبل هيدجر، وهما ارسطو وكانط.
من ناحية هايدجر فإن الميتافيزيقا السابقة رغم اختلافها عن بعضها البعض إلا ان ثمة رابط يصل بينها جميعا وهو: انها ميتافيزيقا في الموجود، الموجود في مجموعه، أي الموجود منظورا اليه في كليته المجردة.
وخير من يمثل هذا التوجه قديما هو ارسطو، الذي عبر عنه من خلال المقولات العشرة، فكانت ميتافيزيقاه في نظر هيدجرما هي إلا : امتداد للفيزيقا، او ضرب منها(23).
اما حديثا فإن خير معبر عن هذا التوجه هو كانط!، نعم كانت، فإنه مهما يبدو نقديا في فلسفته إلا انه في النهاية قد سقط في فخ ميتافيزيقا الموجود، فهو وإن لم يسقط كما سقط قبله ارسطو، إلا نه سقط سقوطا انتربولوجيا، فكان ان جعل بسبب ذلك الميتافيزيقا تغدو ميتافيزيقا في الموجود بما هو موضوع (24).
ميتافيزيقا هيدجر:
لا نستطيع ان نعثر على المفهوم الهايدجري للميتافيزيقا في تعريف معين، حتي نستطيع معه ان نقول هذا هو تعريف هايدجر للميتافيزيقا, وعلينا من ثم ان نأخذه ونضعه في مكانه لنؤسس حوله عرضا او تحليلا او نقدا.
وفي اعتقادنا ان هذه مشكلة سوف تواجه كل من يريد ان يبحث في مفهوم الميتافيزيقا عند هيدجر؛ لأن هيدجر لا يتكلم مباشرة وعلي نحو واضح ليقول هذا هو فهمي الخاص للميتافيزيقا, بل هو كعادته يعمد الي تطويل الموضوع, واثارة الاسئلة, وارجاء الاجوبة هذا اذا كان لديه اجوبة ليقدمها، بل هو يجعل من هذا المسلك نوعا من التربية المعرفية اذا يقول ان تكون قادرا علي طرح سؤال ما معناه ان تكون قادرا علي الانتظار ولو طال العمر كله.
لذلك فمن يطالب هيدجر بالاجوبة هو انسان متسرع لايحب الانتظار الطويل الذي ينشأ من معايشة الاسئلة(25).
في سنة 1929 ألقى هيدجر درسه الإفتتاحي في جامعة فرايبورغ بعنوان “ما الميتافيزيقا؟”. ومن خلال عنوان الدرس كان من المفترض أن يتكلّم مباشرة في موضوع الميتافيزيقا وأن يَستعرض، ولو بِعُجالة، تطورها التاريخي وإشكالاتها الراهنة والمعضلات التي جابهتها قديما وحديثا.
لكن هيدجر، منذ البداية، يُبَدّد هذا الإنتظار مُنبّها مستمعيه على أنه سوف لن يتكلّم مباشرة في الموضوع المُزمع البحث فيه، أعني ماهية الميتافيزيقا(26). بل إنه سيتطرّق لمناقشة مسألة ميتافيزيقية محدَّدة. لأنه بهكذا عمل، حسب زعمه، نلِجُ مُباشرة في عمق الميتافيزيقا، وفقط بهذه العملية نتركها تُعرب عن نفسها.
المساءلة الميتافيزيقية هي مساءلة شاملة تَعمّ كلّ شيء بما في ذلك الطرف الذي يطرح تلك المساءلة، أي الدازاين: إننا نحن الذين نتساءل هنا والآن، لأنفسنا فالإنسان هو الوحيد من بين الكائنات الأخرى الذي ينبهر أمام الوجود ويضع موضع تساؤل ذاته والعالم الذي يُحيط به, ويتميز عنه بنحو (الاهتمام)(27).
حسنا هذه مقدّمة واضحة ولا تستدعي كثير تمعّن لأنها تُعيد وتكرّر أطروحة هيدجر المركزية التي عرضها في ” الوجود والزمان”، ولا تضيف شيئا جديدا لتحديد ماهية الميتافيزيقا.
كيف أصبح العلم موضوع شغفنا؟
في البداية يتساءل هيدجر : ما الشيء الذي أصاب عُمق كينونتنا الذاتية كي يُصبح العِلم موضوع شغفنا؟. فمجالات العلوم بعيدة الواحدة عن الأخرى، إنها قطاعات متعدّدة الإختصاص ومشتتة لا يربطها الآن إلاّ التنظيم التقني في الجامعات وهي تحوز على معنى فقط من حيث غايتها العَمَلية المباشرة(28).
لكن تجذّر العلوم في أساسها الجوهري قد قُضِيَ عليه النشاط العلمي الذي اكتسح الساحة الثقافية في العالم المعاصر وأصبح المعيار الأوحد للفصل بين الحقّ والباطل، هو، في نهاية المطاف ـ حسب رأي هيدجر ـ ليس إلاّ طريقة خاصة في التعامل مع الكائن.
كلّ العلوم، بما هي كذلك، محكومة بمرجعيتها للعالم الخارجي، وغرضها الأساسي يقف عند حدّ البحث في مكوّناته الجوهريّة. هذه الطريقة في الإقتراب من العالَم نابعة من اختيار حرّ للكائن الإنساني. لكن هناك بالطبع تصرفات وحالات ومواقف إنسانية سابقة أو خارجة عن ميدان العلم، تتعلّق هي أيضا بالكينونة.
الفكر السائد يرى أنّ العلم هو مجال الموضوعية المطلقة، لأن العلم يَرفض تدخّل الذات في بناء موضوعها، بل إنّه يُعطي الكلمة الأولى والأخيرة صراحة للشيء ذاته .(29).
هذه الموضوعية العلمية التي تُمثّل أعظم المكاسب الإنسانية، من المفروض أن تُحظى بتقدير هايدغر وأن يشيد بها كمثال لما يمكن أن يكون عليه عمل الفيلسوف أو المؤرخ أو أي مُنظّر، لكن الموضوعية العلمية بالنسبة لهايدغر تمثل نقصا كبيرا لأنها خنوع و”انبطاح” أمام الموجود العيني الذي يتمنّى العالِم الكشف عن حقيقته، وهنا يبدو لنا هيدجر وكأنه كانط معكوسا، فكانط ينقد الميتافيزيقا باسم ابستمولوجيا العلم، أما هيدجر فينقد العلم بإسم نسيان الوجود.
ترى ألم يكن من الممكن حفظ الفروق ومحاولة نقد الميتافيزيقا من الداخل بدلا من الدوران حولها من الخارج؟
فنقدها باسم العلم ليس تأسيسا لها، ونقد العلم من اجل تأسيسها ليس هو تأسيسا لها.
ما هو جوهر النشاط العلمي إذن؟ هايدغر ينبئنا بذلك، دائما حسب طريقته الخاصّة في التعبير: الإنسان ككائن من بين الكائنات الأخرى، يشتغل بالعلم، وفي نشاطه هذا فإن ذاك الكائن المسمّى إنسان يُداهم، (يَقتحم) الموجودات كلّها، يُكسّر من طوقها ويَلِج في أسرارها العميقة.
لكن عملية المداهمة تلك لن تصل أبدا إلى هدفها المَرجُوّ، لأنّ، حسب هايدغر، ما يفحص عنه العلم هو الموجود فقط، ولا شيء خارجه.
ماذا عسانا أن نقول عن ذاك اللاشيء؟ وكيف يتعامل العلم مع انعدام الوجود؟ العلم يرفض اللاشيء (العدم) ويتركه معدوما: مِن مَسألة العدم، العلم لا يريد أن يعرف شيئا إلاّ أنه عدم. لكن، على الرغم من ذلك، حتى عندما يرفض العِلمُ الخوض في العدم فإنه في حاجة إلى العدم: ما يرفضه العلم هو في نفس الوقت ما يَطلبه(30).
ماهو العدم؟
ما العدم؟ وما علاقته بموضوع الميتافيزيقا وبالعلم؟ العدم ليس هو بِسَلب لصفة ما أو لمَحمُول معيّن، ليس هو حرمان المادة من الصورة، كما في مصطلحات أرسطو. العدم، يقول هايدغر، يختلف عن ذلك مطلقا.
فطِبقا لنسق المنطق العقلي كلّ سؤال وكلّ جواب هما من باب القضايا الحملية (آ هي بآ)، لكن إن كان العدم عدما مطلقا فإن السؤال والجواب الحمليّين لا معنى لهما. العقل البشري لا يمكن أن يفكّر وينتج معرفة ويوصلها إلى الآخرين إلاّ إذا عبّر عنها من خلال قضايا حمليّة، وبالتالي فإن الحديث عن عدم مطلق، غير خاضع لقوانين المنطق وخارج عن تقنين القضايا طبقا لمبادئ منطقية ثابتة، هو عبث نظري وخلف.(31).
لكن فكر هايدغر يكمن تحديدا في هذا الخلف بالذات، لقد لعِب الرجل على الإستثارة والعبث بالفلسفة طوال حياته. وإن تتبّع القارئ صفحات مقالنا هذا فسيرى أنّ الكاتب لم يجحف أبدا في حكمة على هايدغر.
أعود إلى ما كنتُ فيه: إلى مَن سنُوكِل المهمّة في سبر العدم؟ أإلى العلم؟ لا بالتأكيد، لأن العلم يبحث في الموجودات العينية ولا يتعدّاها إلى مناطق أخرى، والعالِمُ في نشاطه النظري، يخضع لهيمنة الواقع المطلقة.
إلى المنطق إذن؟ كلاّ، لأن المنطق يختزل كلّ شيء في قضايا حَمليّة على شكل موضوع ومحمول، أمّا الفكر ذاته فلا سلطة له أيضا على العدم لأن الفكر هو فكر شيء ما، والعدم ليس هو بشيء حتى يوصف ويُحكم عليه، العدم هو أكثر أصالة من لام النفي ومن السّلب(32).
كيف يمكن للعقل والمنطق أن يحسما الموقف بخصوص العدم؟ ألا يكون التناقض الظاهر الكامن في السؤال والجواب بخصوص العدم يرتكز في النهاية فقط على عماء العقل في تشرُّدِه؟
هكذا يتساءل هايدغر بفائض من الخطابة التي يعجّ بها هذا النصّ.
يمكننا أن نحدس مبكرا بأن كلّ المؤشرات تدلّ على أن التجربة اليومية (بكلّ ما تحمله من ذاتوية و لاعقل) ستحلّ محلّ الفراغ الذي تركه كلّ من العلم والمنطق والعقل. هذا هو الخطاب الذي يمرّره هايدغر والفكرة المركزية التي يريد أن يوصلها قرّاءه ومستمعيه.
فعلا، حتى وإن كان محظور علينا معرفة الوجود والمسك به، كما هو في ذاته عن طريق ملكات العقل النظري، فإن الحياة اليومية، على الرغم من تجزّئها، تسمح بالإبقاء على الوجود في وحدة الكلّ، وحتى عندما لا نكون منشغلين بالأشياء وبأنفسنا يُداهمنا هذا ” الكلّ ” مثلا في القلق الأصيل.
ما هو القلق الأصيل؟
ما معنى القلق الأصيل؟ وهل هناك قلق أصيل وآخر غير أصيل؟ وما دخل هذه الحالات الوجدانية الشخصية في ماهية الميتافيزيقا؟
القلق الأصيل، يُعرّفه هايدغر بأنه القلق العميق الذي يَغدُو ويَرُوح في باطن الإنسان مِثل الضَّباب الصّامت الذي يجمع كلّ الأشياء، كلّ الناس بمن فيهم نحن، في واقع لا مُبالاة غريبة هذا القلق ليس بالشيء السلبي والمكروه، كما هو الأمر عند الإنسان السويّ، بل إنه، حسب هايدغر: « يكشف عن الوجود في جملته»، ولا ينبغي أن يُنظرَ إليه من جهة أنه أمر عرضيّ وعابر، بل هو على العكس من ذلك الواقع الأساسي لوجودنا.
لكن، في خضم هذه التجارب الحياتية، هناك حالة نفسية خاصة ومتميزة تضع الإنسان أمام العدم ذاته. ما هي هذه الحالة؟ يجيب هيدجر بأنها (الكرب ) فعلا، مصطلح الكرب عنده يختلف جذريا عن مفهوم الخوف، لأن هذا الأخير يتحدّد طبقا لواقع مباشر ولشيء معيّن يهدّدنا من خارج، لكنّ الكرب حتى وإن كان من شيء ما، فهو لا يُحدَّدُ بهذا الشيء أو ذاك.
فالأشياء تبتعِد عنّا وفي ابتعادها تتوجّه نحونا، واضمحلال الأشياء لن يُبقيَ أمامنا إلاّ هذا اللاأحد، وعلى كلّ حال ” الكرب يكشف العدم” (33).
نحن مُعلّقون في الكرب، أو بالأحرى الكرب هو الذي يتركنا معلّقين لأنه يُذوّب الوجود في جملته، ونحن بالتالي نشعر بالذوبان معه وفيه. الكرب يفقدنا الكلام لأن العدم يهاجمنا، ينقضّ علينا، وتصمت أمامه كلّ محاولة لقول “هو”: هذا هو الدليل على حضور العدم: الكرب ، في نهاية المطاف، يكشف الوجود، ذلك لأن الإنسان حتى عندما تنقضي حالة الكرب العابرة فهي تبقى عالقة به وتحضره دائما في ذاكرته(34).
أخيرا ماذا عن العدم؟ العدم يتمظهر في الرعب لا كموجود أو كموضوع، بل إنه يُصاحب (يلازم) الكائن الإنساني في جملته، والمصاحبة هي الإضمحلال معا.
ماهية العدم هي الإعدام إنها ليست إعداما للموجود، ولا تنبثق من سَلبٍ ما… العدم ذاته هو الذي يُعدِم (35). وهذه العدمية لها فضائلها، لأنها، حسب هيدجر تضع الموجود هناك (الدازاين) أمام الوجود كما هو، وفقط عن طريق هذا العدم يمكن للإنسان أن يتوجّه نحو الموجود وأن ينشغل به.
ولكن بما أن الإنسان بماهيته يتعلّق بالموجود، أي الموجود الذي هو ليس هو والموجود الذي هو هو، فإنه، بما هو كائن هناك يأتي دائما من العدم والكينونة هناك تعني أساسا أن يبقى (الإنسان) مُنغمسا في العدم.
يعني أن الإنسان (الكائن هناك) هو دائما خارج الوجود في جملته، وهذا ما يسميه هيدجر التعالي: بدون الولوج المسبّق في العدم، فإن الدازاين لا يستطيع أن يحقّق التعالي
ها نحن أخيرا حصلنا على الإجابة عن سؤال العدم: «العدم ليس هو موضوع ما و لا هو، عموما، شيء ما. العدم هو ما يجعل ممكنا تمظهريّة الوجود بما هو كذلك أمام الإنسان (الدازاين)؛ العدم هو مبدأ السلب وليس العكس، فقوّة العقل تتحطّم أمام مساءلة العدم والوجود.
وهنا أصلا يُقرَّر مصير المنطق وهيمنته داخل الفلسفة: فكرة المنطق ذاتها تنحلّ في دوّامة المساءلة الأكثر أصالة أعمق من مطابقة السلب المنطقي تبقى صلابة الفعل الحاقد وحدّة الكُره, الكرب، على الرغم من أننا نبغي كَبته وإخفاءه، فهو حاضر وكالعدم هامد نائم فقط ذلك لأن تنفّسه كالرّجفة يخترق وجود الإنسان بأكمله رعب الإنسان الشجاع الجريء الذي لا يقبل أيّ تعارض مع الفرح أو حتى مع لذّة العيش الرّفيه حالة الإنسان هذه تجعل منه الخليفة الساهر على العدم (36).
يُجيب هيدجر عن سؤال “ما الميتافيزيقا؟”. الميتافيزيقا هي مساءلة ما وراء الموجود، للعودة إلى فهمه كما هو وفي كلّيته(37).
وفي مساءلة العدم يحصل هذا الذهاب إلى ما وراء الموجود؛ ولكن ما علاقة الميتافيزيقا بالعدم؟ يجيب هيدجر بأن الميتافيزيقا تشبّثت بأطروحة ملتبسة مفادها أنه “لا شيء يحدث من لاشيء” فعلا، الميتافيزيقا القديمة تتصوّر العدم كـ”لاوجود”، أي كمادة غير مصوّرة وغير قادرة من ذاتها على اكتساب صورة وشكل محدّدين الماهية هي الكائن الذي يتشكّل ويتمظهر كما هو كذلك في الصورة (في المنظر) لكن تعاليم العقيدة المسيحية ترفض حقيقة أن ” لاشيء من لاشيء”(38).
اللاهوت المسيحي أهمل علاقة الله بالعدم
مُضْفية على العدم معنى آخر، أي الغياب الكلي للموجود خارج الإله، وبالتالي فإن الموجودات حدثت من العدم طبقا لمبدأ ”من العدم حدث الموجود المخلوق”. هكذا فالعدم أصبح المفهوم النقيض للموجود الحقّ، أي (الموجود الأسمى)، الله أو خالق الكون.
المسألة الأساسية بخصوص العدم وقع تعتيمها، والدليل على ذلك أن اللاهوت (المسيحي) لا يعير أية أهمية للصعوبة التالية: ” إذا كان الله يخلق من لاشيء، يجب أن يدخل في علاقة مع العدم، لكن إن كان الله هو الله، فهو لا يستطيع أن يعرف العدم، نظرا لأن “المطلق” يقصي من ذاته كلّ عدمية(39).
على هذا الأساس فإنّ أطروحة هيجل التي تذهب إلى أنّ “الوجود الخالص والعدم الخالص هما نفس الشيء“، هي أطروحة مشروعة نظرا لأن الوجود ذاته في ماهيته متناه ولا يتمظهر إلاّ في تعالي الدازاين الذي يبقيه العدم في الخارج (40).
وبما أن المساءلة بشأن العدم تخترق الميتافيزيقا بأكملها، فهي تَضعُنا أمام القرار حول مشروعية مجال المنطق في الميتافيزيقا، وبالتالي تسمح لنا بإعطاء معنى آخر للفكرة القديمة التي تقول بأن ” لا شيء من لاشيء”.
الإنسان يمثل الوجود الأسمى وليس الله
هذه القضية يعيد طرحها هيدجر على الشكل التالي: “من العدم أُحدث كلّ موجود بما هو موجود” فعل الإحداث هنا مبني للمجهول، ومن هو ذاك المجهول يا ترى؟ ألا يكون الله، الوجود الأسمى؟ كلاّ، بل هو الإنسان، لأنه، حسب هيدجر، فقط في عدمية الموجود الإنساني، الوجود في جملته يصل إلى اكتماله الذاتي، طبقا لإمكانيته الخاصة، أعني حسب النهائية.
وهنا يبرز جليا خطأ العلم، لأنه لم يُعر الأهمية الكافية للعدم، ولذلك فإن ادّعاءه بالعلوّ والسموّ أمر مثير للضحك والعلم إن أراد الحيازة على مكانته التي يستحقّ، فعليه أن يعتنيَ بالميتافيزيقا وبإشكالية العدم: مُهمّة العلم لا تكمن فقط في جمع وتنظيم معارف متفرّقة، بل في فتح المجال الكلي لحقيقة الطبيعة والتاريخ (41).
فتجاوز حقل الموجودات العينية هو من جوهر الإنسان، هذا التجاوز هو الميتافيزيقا ذاتها، إذن «الميتافيزيقا هي من طبيعة الموجود الإنساني, وبالتالي لا يمكن أن تُختزل في قطاع من قطاعات الفلسفة الجامعية ولا هي محكومة بمجال الفكر الإعتباطي: “الميتافيزيقا هي الحدث الأساسي في الدازاين” ثمّ، نحن لا نأتي من خارج إلى الميتافيزيقا بل، بما أننا مَوجودون، فنحن كنّا ولازلنا دائما فيها(42).
خلاصة:
سواء كان هيدجر الاول ام الثاني , فان الفكرة الاساسية التي ظل ينادي بها هي نقد الميتافيزيقا الغربية ؛لانها لم تتجاوز الموجود الي الوجود , اي لم تتجاوز المنكشف الي اللاانكشاف, فوقعت بذلك في نسيان الوجود , والمهمة التي يضعها هيدجر علي عاتقه , ان يجعلنا نفكر في الوجود .
اهم المراجع والمصادر:
(1) د. زكريا ابراهيم , دراسات في الفلسفة المعاصرة , مكتبة مصر , ص396.
(2) المرجع السابق , ص396.
(3) المرجع السابق , ص396.
(4) المرجع السابق , ص397.
(5) المرجع السابق , 398.
(6) د. محمود رجب , الميتافيزيقا عند الفلاسفة المعاصرين , القاهرة : دار الثقافة للنشر والتوزيع , 2006م , ص43.
(7) المرجع السابق , ص44.
(8) إ.م .بوشنسكي , الفلسفة المعاصرة في اروبا , ضمن سلسسلة عالم المعرفة , العدد 165, سبتمبر /ايلول 1992م , 271.
(9) د.عبدالرحمن بدوي , ارسطو ,ط2 , بيروت: دار القلم , 1980, ص85.
(10) ا.د امام عبد الفتاح امام. الميتافيزيقا , ط2, القاهرة: نهضة مصر للطباعة والتوزيع والنشر.2007م , ص22 .
(11) فراسر السواح , المغامرات العقل الاولي , , ص31.
(12) د. محمد علي أبو ريان , تاريخ الفكر الفلسفي , الطبعة الخامسة , الاسكندرية :بدون أسم الناشر , 1972م , ص61.
(13) المرجع السابق ص62.
(14) المرجع السابق , ص 79.
(15) فراس السواح , الأسطورة و المعني , الطبعة الثامنة , دمشق : دار علاء الدين 1997 م, ص37.
(16) فرانكفورت وأخرون , ماقبل الفلسفة , ترجمة جبر ابراهيم جبرا , ص200.
(17) د: كارم محمود عزيز , أساطير العالم القديم , الطبعة الاولي , القاهرة : مكتبة النافذة , 2007م ص 109.
(18) ماريو توسي ,وآخرون , معجم آلهة مصر القديمة , ترجمة إبتسام محمد عبد المجيد,مراجعة د. محمود ماهرطه , الطبعة الاولي ,القاهرة : الهيئة المصرية العمة للكتاب , 2008م , ص116.
(19)د. كارم ,مرجع سابق , ص111 .
(20) د. حسام محي الدين الألوسي , بواكير الفلسفة قبل طاليس- أو من الميثولوجيا إلي الفلسفة عند اليونان , الطبعة الثالثة , بغداد : وزارة الثقافة و الاعلام , دار الشوؤن الثقافية , 1986م , ص242و 243.
(21) د. محمد علي أبو ريان , المرجع السابق , ص58.
(22) ا.د.مصطفي عبده , الميتافيزيقا: ضمن منهج الفرقة الرابعة بقسم الفلسفة ,جامعة النيلين , السودان , ص6 .
(23) ا.د امام , مرجع سابق, ص78.
(24) د. علي الفريوي, مارتن,نقد العقل المتافيزيقي,ط1, بيروت:دار الفارابي,2008م , ص289.
(25) د. محمود رجب , المرجع السابق , ص58.
(26) مارتن هايدجر, مقالة ماالميتافيزيقا ,ترجمة فاطمة الجيوشي , ضمن الفلسفة في مواجهة العلم والتقنية , دمشق : منشورات وزارةالثقافة , 1998م , ص5 .
(27) بوشنسكي ,المرجع السابق , ص274.
(28) مارتن هديجر, المرجع السابق ص6 .
(29) المرجع السابق , ص7.
(30) المرجع السابق,ص9.
(31) المرجع السابق, ص10.
(32) المرجع السابق ,ص10.
(33) المرجع السابق, ص14.
(34) المرجع السابق , ص14.
(35) المرجع السابق, ص16 .
(36) المرجع السابق, 20.
(37) المرجع السابق, ص21.
(38) المرجع السابق, ص22.
(39) المرجع السابق, ص22.
(40) المرجع السابق,ص22.
(41) المرجع السابق , ص23 .
(42) المرحع السابق,ص25).