فلسفة الدين: رؤية موجزة لمفهومها واتجاهاتها ومباحثها
الفلسفة والدين في الغرب الحديث
لم يغادر التفكيرُ الفلسفي بحثَ وتحليل قضايا الدين والمقدّس والإله، منذ نشأة هذا التفكير حتى اليوم. فليس هناك فيلسوف لم يتناول هذه القضايا ويعالجها إثباتاً أو نفياً. وفي وقت مبكر صنّف الفلاسفةُ مباحثَهم، في “الحكمة النظرية” إلى[1]: الإلهيات، الرياضيات، الطبيعيات…فدرسوا في الإلهيات بالمعنى الأعم الوجودَ المطلق، أي البحث عن أحوال الموجود من حيث هو موجود. فيما درسوا في الإلهيات بالمعنى الأخص وجودَ الله، وتوحيده، وصفاته، وأفعاله، وما يرتبط بذلك من مسائل.
كانت الإلهيات الطبيعية تستخدم مناهج البحث العقلية في الدفاع عن الإلهيات بالمعنى الأخص والبرهنة عليها. أمّا الفلاسفة الإسلاميون من الكندي إلى صدر الدين الشيرازي، فقد استوعبت الإلهيات بالمعنى الأخص، وما يتصل بها من مباحث النبوات والوحي وغيرها، مساحة واسعة من مؤلفاتهم[2].
اقترن اللاهوت الطبيعي باسم القديس توما الإكويني (1224 ـ 1274)، الذي يؤكد على إمكانية الاستدلال العقلي على كافة المعتقدات اللاهوتية، من دون حاجة للاستعانة بالوحي. واللاهوت الطبيعي يقابل اللاهوت الوحياني؛ وهو اللاهوت النقلي الذي يتخذ من الوحي طرقاً للوصول إلى المعتقدات. غير أنّ اعتماد العقل في إثبات المعتقدات يعود إلى ما هو أقدم من عصر توما الإكويني، فالفلاسفة اليونان استخدموا الأدلة العقلية في البرهنة على وجود الله.
إنّ قضايا الإله والدين والمقدس ما زالت حاضرة بكثافة في آثار الفلاسفة الغربيين، منذ العصر اليوناني حتى اليوم. ولا تتطابق رؤيتهم عادة لهذه القضايا مع آراء الكنيسة ولاهوتها، ذلك أنّهم يفكرون فيها ويتأملونها في سياق مفاهيمهم للوجود والمعرفة والقيم.
فمثلاً يعترف بنيدكت سبينوزا (1632 ـ 1677) لصديقه هنري أولدنبرج السكرتير الأول للجمعية الملكية في لندن، بقوله: “إنّني أعتنق رأياً عن الإله والطبيعة يختلف كلّ الاختلاف عن الرأي الذي يدافع عنه المسيحيون المحدثون، فأنا أعتقد أنّ الإلهَ هو ـ كما يقولون ـ العلةُ الباطنة للأشياء جميعاً، ولكني لا أعتقد أنه العلة المتعدية.
وأنا أقول: إنّ كثيراً من الصفات التي يرون، ويرى جميع الآخرين، الذين أعرفهم على الأقل ـ أنّها من صفات الإله ـ أرى أنّها أشياء مخلوقة.
ومن ناحية أخرى، فإنّ الأشياء التي يرون أنّها مخلوقة ـ بسبب تحيزاتهم ـ أرى أنّها صفات للإله، ولكنهم يسيؤون فهمها، وكذلك لا أستطيع أن أفصل الإله عن الطبيعة على الإطلاق. وهذا ما فعله كلُّ من أعرفهم”.[3]
إيمانويل كانت
وعلى الرغم من أنّ حضور ما يتصل بالله والدين كان لافتاً في الفلسفة الحديثة، لكنّ الفيلسوف “إيمانويل كانت” (1724 ـ 1804) كان أول من قدَّم صياغةً فلسفية معمقة هامّة للدين. إذ “كان يشعر أنّ الثقافة الغربية تعاني من آلام محنة، تتصل باعتقادها التقليدي في الله، وأنّ حلاً فلسفياً وسيطاً صادقاً قد أصبح ضرورة ملحّة”[4].
ففي كتابه “نقد العقل المحض” اقترح نظرية في المعرفة لا تقوم على أساس ميتافيزيقي، وناقش كافة البراهين الميتافيزيقية على وجود الله. وفنّد اللاهوتَ الطبيعي الذي كان سائداً في عصره.
وشدّد على عدم إمكان معرفة الله نظرياً. لكنه دافع عن الأساس الأخلاقي للدين والاعتقاد بالله، في كتابيه: “نقد العقل العملي”، و”الدين في حدود مجرد العقل”.
وحين نفى “كانت” الاعتقادَ النظري بالله، رأى الاعتقادَ الأخلاقي راسخاً لا يتزعزع. فإنّ: “مفهوم الله لا ينتمي أصلاً إلى الفيزياء، أو الى العقل النظري، بل إلى الأخلاق”[5].
الإيمان عند “كانت” يتأسس على الأخلاق، التي يحكم بها العقلُ العملي؛ بمعنى “أنّ الأخلاق إنّما تقود على نحو لا بدّ منه إلى الدين. الأخلاق مؤسسة على مفهوم الإنسان، الأخلاق لا تحتاج أبداً فيما يتعلق بذاتها إلى الدين، بل بفضل العقل المحض العملي، هي مكتفية بذاتها”[6].
الإنسان لا يتحلى بالأخلاق لأنّه متدين، وإنّما يتدين لأنّه أخلاقي.
ليس من الخطأ توصيفُ فلسفة “كانت” بمجموعها بأنّها “فلسفة دين”؛ ليس لأنّ بعضَ مؤلفاته تناولت وجودَ الله والدين، مثل: “بحث في وضوح مبادئ اللاهوت الطبيعي والأخلاق” (1762)، و”البرهان الممكن الوحيد لإثبات وجود الله” (1763)، و”الدين في حدود مجرد العقل” (1792).
بل حتى ما لم يكن كذلك من مؤلفاته، يتضمن فلسفة للدين، فثلاثيته النقدية: “نقد العقل النظري” (1781)، “نقد العقل العملي”، (1788)، “نقد ملكة الحكم” (1790)، يشتمل النقدُ الأول منها على بيان “إخفاق المحاولات النظرية للبرهان على المسائل الميتافيزيقية، والثاني يطرح المناقشة الخلقية بديلاً لتلك المناقشات، والثالث يركّز على النظام والجمال والغائية في الكون”.[7]
وينتهي النقد الكانتي إلى تفنيد حجج الرافضين لوجود الله، وأيضاً تفنيد حجج المثبتين لوجود الله، من خلال العقل النظري. لكنّ النتيجة التي يخلص إليها في “نقد العقل العملي” هي التسليم بوجود الله؛ ذلك “أنّ قانون الواجب، وهو ضروري مطلقاً في ميدان العمل، يقتضي بالضرورة القول بهذا الفرض المؤكد لموجود أعلى. وأمام ما يقتضيه العقل العملي يجب على العقل النظري أن يمتثل ويخضع”.[8]
هيغل
أمّا جورج ويلهم فردريك هيغل (1770 – 1831) فقد قدّم تفسيراً آخر، ترتكز فلسفته للدين فيه على “أنّ أساس الأشياء هو الحياة، أمّا الدين فهو رفع الحياة النهائية إلى مستوى الحياة اللانهائية”.[9]
ويقوم هذا التفسير على أساس فلسفة الروح لديه، فهو يرى “أنّ الفكرة تبلغ أوج نموها في الروح، وفي الروح تتعين الفكرة إلى أقصى درجة، وتصل حقاً إلى واقعها وواقعيتها العقلية.
فالفكرة المنطقية والطبيعية شرطان لتحقق الروح. وقد أخذ هيغل في استخلاص المعنى الأعمق والدلالة الأعم لكلّ مظاهر الفكر، فأنشأ لذلك فلسفة الحضارة الإنسانية.
ووضع الأسس الفلسفية للعلوم الإنسانية، ولم يقتصر على دراسة تفسير الحياة الباطنة، أي الروح الذاتية، بل سعى إلى دراسة الروح في ضروب نتاجها الخارجي، أي في أعمال الجماعات الإنسانية؛ من تاريخ وقانون وأخلاق معتادة، وهو ما يكون الروح الموضوعية؛ ثم في ألوان تحققها العليا، التي تشعر الروح فيها بأنّها في مكانها الطبيعي، مثل: الفن والدين والفلسفة، وهو ما يدخل في نطاق الروح المطلقة”.[10]
في ضوء مفهومه للروح المطلقة، رأى المطلقَ بوصفه روحاً. وكونُ “المطلق هو الروح، تلك هي الغاية التي يهدف إليها العلمُ كلّه، بل وكلُّ التاريخ.
من هنا يقول هيغل: إنّ المتناهي ليس شيئاً، إنّه ليس الحق، بل مجرد عبور وتجاوز لذاته، والروح إبطال للمتناهي، والمتناهي مجرد رؤية ناقصة لللّامتناهي. الروح – كما يقول هيغل- تتحرّر تحرّراً مطلقاً من الحد، ومن الغير في نهاية الأمر، كيما تصل إلى الوجود المطلق بذاته، وتصبح بهذا لا متناهية حقاً”.[11]
الروح المطلق يتجلى بثلاثة أنماط متنوعة في الفن والدين والفلسفة؛ فهو يتجلى حسيّاً في الفن، ورمزياً ومجازياً في الدين، وفكرياً مجرّداً في الفلسفة.
ويميز هيغل بين الروح المطلقة بوصفها كلاً باطنةً ومتطورةً في وعي الإنسانية، وبين إله الألوهية الديني. لكن عدم تنبه بعض الباحثين للفرق بين الله والمطلق الهيغلي أفضى إلى الكثير من الالتباس وسوء الفهم.
تنوّعت الآراء حيال فلسفة هيغل الدينية، فوصفها البعض بأنّها “لاهوت مقنّع”، أو “صورة مقنّعة من صور الفلسفة المسيحية”.
ولعل تفسيرَه للروح المطلقة في فلسفته يشي بتطابقها مع وحدة الوجود الصوفية. وكان هيغل أوّل من اتخذ “فلسفة الدين” عنواناً لسلسلة محاضرات على تلامذته، في السنوات 1821، 1824، 1827، 1831. وصدرت سنة 1832 بعنوان: “محاضرات في فلسفة الدين”.[12]
فيورباخ
وترسّم لودفيغ فويرباخ (1804 ـ 1872) خطى أستاذه هيغل في تكريس فلسفته لدراسة الدين واللاهوت، كما أكّد هو ذلك، وهو ما تشير إليه عناوين مؤلفاته: “حول الفلسفة والمسيحية” (1839)، “جوهر المسيحية” (1841)، “جوهر الإيمان حسب لوثر” (1844)، “جوهر الدين” (1845)، “محاضرات في جوهر الدين” (1851).
لكنّ موقف التلميذ ابتعد عن أستاذه حين أرجع اللاهوت إلى الإنسان، وشدّد على أنّ “سرّ اللاهوت هو علم الإنسان (الأنثروبولوجيا)”.[13] بمعنى أنّ فويرباخ يعزو ما يتّصف به الله من كمال إلى الإنسان. “فالإنسان هو نفسه الإله الحقيقي الوحيد.
وإنّ التفكير النظري في الله لا يتفق مع رغباتنا الذاتية فحسب، بل إنّ هذا التفكير لا يزيد على كونه أقنمة لتلك الرغبات”.[14] ويزعم فويرباخ أنّ أستاذه هيغل أول من أضاء له الطريق بوهج ساطع، “وكانت بذرة النزعة الإنسانية الملحدة كامنة في الفلسفة الهيغلية”.[15]
ماركس
استعار كارل ماركس (1818 – 1883) من فويرباخ مفهومه للاغتراب الديني وإلحاده، إلاّ أنّ ماركس وجّه نقداً قاسياً له، في كتابه: “أقوال تتعلق بفويرباخ” (1845). فرفض أولاً ديالكتيكه؛ الذي وصفه بأنه “استاتيكي وليس ديناميكياً، لأنّه يفصل الفكر عن الوجود”، مضافاً إلى رفضه ثانياً رؤيتَه للإنسان، ذلك “أنّه ينظر إلى الإنسان من ناحية النوع الطبيعي، فاصلاً إيّاه عن المحيط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فإنسان فويرباخ هو تجريد محض، لأنّه مفصول عن تاريخه، وعن مجرى الأحداث السياسية والاقتصادية”.[16]
كذلك أدان ماركس الروحَ المطلقة الهيغلية. وربطَ الدينَ ميكانيكياً بالاقتصادِ، ونمط تطور وسائل الإنتاج وطبيعةِ الملكية والعملِ والصراعِ الطبقي. ورسمَ موازنةً “بين الدين والملكية الخاصة؛ الأول يؤلف الاغترابَ النظري للإنسان، والثاني يكون اغترابَه العملي، أو انشقاقَه مع واقعه الخاص”.[17]
ولم يتحقق حلم ماركس باختفاء الدين، مع تطور وسائل الإنتاج والتحولات في شكل الملكية، ونمط الانتاج. ولم تنجز وعودُه للبشرية؛ بأنّ “الغاءَ الدين ـ بوصفه سعادة الناس الوهمية ـ شرطٌ من شروط سعادتهم الحقيقية”.[18] ذلك أنّ الحياة المعاصرة يسودها نضوبُ المعنى، وتفشي العدمية، وشيوعُ التشاؤم، وانطفاءُ التفاؤل والأمل، وذبولُ جذوة الحياة، وفشلُ المتع الحسية في إرواء الظمأ الأنطولوجي العميق للروح.
وهي بمجموعها تحيل إلى المتطلبات العميقة للروح البشرية، وحاجاتها الأبدية للوصال مع المطلق. ولعل ذلك هو السبب الرئيس لانبعاث الدين في المجتمعات المعاصرة، و”انتقام الله لنفسه”، بعد أكثر من قرن من وفاة ماركس.
إنّ فهم ماركس وتفسيره للدين يختزل الإنسانَ في احتياجاته المادية، من دون أن يستطيع استبطانَ أعماق النفس البشرية ومتطلباتها الروحية المزمنة. وهو ما وعاه وعالجه معظمُ الفلاسفة واللاهوتيين ممن سبقوا ماركس أو من جاؤوا بعده.
كذلك اختفت الذاتُ الفردية في الماركسية، وكأنّه ليس هناك سوى المجتمع، من دون أن تتنبه الماركسية إلى أنّ “الذات البشرية بطبيعتها؛ باطنية، داخلية، عميقة، تنطوي على أسرارها، وتتخصب وتغتني بمنابع إلهامها وديناميكيتها الجوانية، وتتحقق على الدوام حين تشرع بوجودها وتجاربها الخاصة.
ولا يمكن لنا اختراق هذه الحياة واكتشاف مدياتها، إلا بحدود ما تبوح به هي. يولد الإنسان بمفرده، ويحيا بمفرده، ويموت بمفرده، ويتألم بمفرده، ويشعر بالخطيئة بمفرده، ويؤمن بمفرده، ويستفيق ضميره بمفرده، ويجتاحه بمفرده أيضاً القلق واليأس والاغتراب والضجر والسأم والألم والحزن والغثيان وفقدان المعنى وذبول الروح وانطفاء القلب والجنون…إلخ.
لا تبدأ الحياة الإنسانية الحقيقية إلاّ عندما توجد الذات الشخصية وتتحقّق، وهذه الذات لا تتحقق من دون الفعل، فالوجود الإنساني لا يصل إلى الامتلاء إلاّ بالفعل وحده. الذات البشرية وجودها وصيرورتها الحرية، وحيث لا حرية تنطفئ الذات.
والحرية ليست أمراً ناجزاً قبل أن نشرع باستعمالها، وجود الحرية يعني ممارستها. والحرية لا تتحقق بعيداً عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته. لحظة تنتفي الحرية تنتفي الذات، ولا تغتني الذات وتتسع وتتكامل إلاّ بالحرية”.[19]
نيتشه
وكانت مواقفُ فلسفة فردريك نيتشه (1844 ـ 1900) من الدين واللاهوت والقيم عنيفةً وجذرية، وقد تركت مطالعتُه لمؤلفات آرثر شوبنهور (1788 ـ 1860) أثراً واضحاً في مواقفه من الدين واللاهوت.
لقد أعلن نيتشه عن “موت الله”، وشنّ حرباً شرسة على المسيحية متهماً إيّاها بمعاداة الحياة. كذلك رفضَ القيمَ والأخلاق التي تدعو لها، ووسمها بأنّها أخلاق للعبيد.
ولم تغادر الفلسفةُ الغربية قضايا الدين واللاهوت حتى الآن، فمع فلاسفة القرن العشرين، ومختلف التيارات الفلسفية التي سادت في هذا القرن، كالوجودية والوضعية المنطقية والفلسفة التحليلية والبنيوية والتفكيكية، نعثر على تأويلات ومواقف متنوعة لما يتصل بالميتافيزيقا والظواهر الدينية.
مضافاً إلى انفتاح العلوم الإنسانية على دراسة الظواهر الدينية، وتحليلها لغوياً، وهرمنيوطيقياً، ونفسياً، وأنثروبولوجيا، واجتماعياً، والكشف عن منابعها وتمثلاتها وتعبيراتها المتنوعة في الحياة البشرية.
والتوسع في دراسات مقارنة الأديان، والتعرف على منابعها المشتركة، وجوهرها الواحد، وما تنشده من غايات، ببناء كون قدسي يمثل مأوى للإنسان، والكشفِ عن الوشائج العضوية بين المقدس والمثيولوجيا في حياة المجتمعات البشرية.
فلسفة الدين
في نهاية القرن الثامن عشر، ظهر مصطلح “فلسفة الدين”، وهي نوع من الفلسفة تعتمد العقلَ في بحث وتحليل المقدسات والمعتقدات والظواهر الدينية وتفسيرها. ولا تتوخّى الدفاعَ عن هذه المعتقدات وتبريرها، مثلما يفعل اللاهوتيون والمتكلمون، وإنّما تهتم بشرح وبيان بواعث الدين ومنابعه في الروح والنفس والعقل، ونشأةِ المقدس وتجلياته في حياة الإنسان، وصيرورته وتحولاته في المجتمعات البشرية.
وبكلمة موجزة؛ فلسفة الدين هي التفكير الفلسفي في كل ما يتصل بالدين شرحاً وتفسيراً وبياناً وتحليلاً، من دون أن تتكفّل التسويغ أو التبرير أو الدفاع أو التبشير. و”تتناول فلسفة الدين أسئلة تتعلق بإمكان معرفة وجود الله، ومعرفة صفاته، وكيفية تحديد العلاقة بين الله والعالم، وكيفية فهم طبيعة الله (ماهيته)، والعلاقة بين وجوده وماهيته.
كذلك تتناول فلسفة الدين أسئلة تتعلق بطبيعة الدين نفسه، وطبيعة اللغة الدينية. بالإضافة إلى أسئلة تتعلق بمعنى العبادة الدينية، ودور الإيمان فيها، وعلاقة الإيمان بالعقل”.[20]
ولا علاقة لفلسفة الدين بإيمان فيلسوف الدين والباحث والدارس في هذا الحقل أو عدم إيمانه، كما هو حال المتكلم واللاهوتي في اللاهوت وعلم الكلام. ذلك أنّ الباحث في فلسفة الدين يفترض أن يكون محايداً يتحرى الموضوعية، وما يقود إليه العقل والأدلة في بحثه، فهو لا يعنيه تكريس المعتقدات الدينية، مثلما لا يعنيه نفيها.
ولا يتوقف تفكيره عند حدود أو سقف معين لا يتخطاه في بحثه، كما يفعل اللاهوتي والمتكلم الذي ينطلق من مسلمات اعتقادية، ولا يكف عن التدليل عليها من خلال الأدلة النقلية والعقلية.
فيلسوف الدين باحث يتحرّى الحقيقة، كما هو الباحث في أي حقل من حقول الفلسفة. ربما يكون فيلسوف الدين مؤمناً، مثل إيمانويل كانت، وكيركغورد، وبلانتنغا… وربما يكون ملحداً، أو لا أدرياً. يقول جون هيك: “فلسفة الدين ليست وسيلة لتعليم الدين، وفي الحقيقة لا ضرورة لتناولها من منطلق ديني.
من لا يؤمن بوجود الله، ومن لا يملك أي رأي حول وجوده من عدمه، ومن يؤمن بوجوده، جميعهم يستطيعون أن يتفلسفوا في الدين، وهو ما يحدث الآن بالفعل. إذن؛ فلسفة الدين ليست من فروع الإلهيات، أي التدوين الممنهج للعقائد الدينية، بل هي من فروع الفلسفة.
تتكفل فلسفة الدين بدراسة المصطلحات والأنظمة العقائدية، وممارسات من قبيل: العبادة، والتأمّل، والمراقبة التي تبتني هذه الأنظمة العقائدية عليها، ومنبثقة منها”.[21]
فلسفة الدين واحدة من الفلسفات المضافة، مثل فلسفة العلم وفلسفة القانون وفلسفة التربية…إلخ. فهي لا تختصّ بدين معين أو أديان خاصّة، وإنّما هي بمثابة فلسفة العلم التي لا تختص بعلم معين.
لكنّ نشأة فلسفة الدين في الغرب كانت سبباً لأن تتداول العقائد والمقدس والظواهر الدينية في المسيحية واليهودية، لذلك اهتمت بدراسة مفاهيم الخلاص والتضحية والقربان والتعميد، والتجسيد والتثليث، بموازاة دراسة الظواهر والمعتقدات الدينية المشتركة في غيرهما.
تصنيف بول ريكور
يصنّف بول ريكور الاتجاهاتِ الأساسيةَ في فلسفة الدين حتى أواخر العقد الثامن من القرن الماضي إلى خمسة اتجاهات[22]:
1- اتجاه الوجود ـ معرفة الله: ويشتمل على أربعة مسارات مهمة: مسار متأثر بأرسطو وتوما الإكويني، ومسار متأثر بهيغل، ومسار متأثر بهوسرل، والأخير متأثر بهايدغر.
2- اتجاه نقد الدين في الفلسفة التحليلية: ويشتمل أيضاً على مسارين مهمين: المسار الذي يهتم بلغة الدين، هل لها معنى أم لا؟ والمسار الآخر تتمحور قضيته الأساسية حول سؤال: هل يخضع كلام المتألهين للضوابط المنطقية والمعرفية نفسها؛ المعتبرة في علمية أي كلام آخر؟
3- الاتجاه المتأثر بالعلوم الإنسانية: وهو أيضاً على ثلاثة مسارات مهمة: المسار المتأثر بتاريخ الأديان المقارن، والمسار المتأثر بالعلوم الاجتماعية، والمسار المتأثر بعلم النفس بشكل عام، وبالتحليل النفسي بشكل خاص.
4- اتجاه الفنون اللغوية وفعل الكلام الديني: المتأثر بفيتغنشتاين المتأخر.
5- اتجاه هرمنيوطيقا لغة الدين
فلسفة الدين بوصفها فلسفة فإنها تستند إلى المنهج العقلي، ورغم تعدد المناهج في البحث الفلسفي، إلا أنّ منهج التحليل اللغوي “المنهج التحليلي” هو الأكثر تداولاً.
ذلك “أنّ الأثر الذي تركته الفلسفة الوضعية، ومن بعدها فلسفة فتجنشتين التحليلية على الفلسفة الأنجلو ـ أميركية، بعامة، انسحب بطبيعة الحال على فلسفة الدين.
إنّ هذا واضح من كون جزء كبير من الأدبيات المتعلقة بفلسفة الدين تطغى عليها أسئلة تدور حول مشكلة المعنى في الدين، وطبيعة اللغة الدينية، و(منطق) الخطاب الديني، وغير ذلك من الأسئلة ذات الطابع السيمانطيقي والميتا ـ لغوي والمفهومي”.[23]
مباحث فلسفة الدين
وتُبحث في فلسفة الدين القضايا المشتركة بين الأديان، مثل:
1-ماهية الدين: مفهوم الدين، مناشئ وبواعث الدين، أفق انتظار البشر من الدين، أثر الدين في حياة الفرد والمجتمع، الدين وإنتاج معنى لما لا معنى له في حياة الإنسان، حدود الدين؛ وهل أنّه شامل، أي دنيوي وأخروي، وما حدوده الدنيوية، أو إنّه للآخرة خاصة، مجالات الدين، جوهر وصدف الدين، أو الذاتي والعرضي في الدين، الثابت والمتحول في الدين، تطور الدين.
2-وجود الله: طبيعة وجوده، براهين وجود الله، صفات الله، أفعال الله، مفاهيم الله والألوهية في الأديان، طبيعة علاقة الإنسان بالله.
3-مشكلة الشر: كيف أنّ الشر بكافة أشكاله؛ الألم الجسدي، والنفسي، والأذى الأخلاقي، سواء نتج عن الأسباب والكوارث الطبيعية، أو ظلم الإنسان، يطرح بوصفه تحدياً لقدرة الله القادر على كل شيء، ولمحبته ورحمته التي تتسع لكل شيء.[24]
4-الإيمان والعقل والقلب: هل الإيمان منبعه العقل والقلب معاً، أو العقل فقط، أو القلب فقط؟ وهل يتعزز الإيمان بالعقل، أو أنّ العقل يقوّض الإيمان، كما يشدد على ذلك كيركغورد ودعاة النزعة الإيمانية؟
5-التجربة الدينية: بيان ماهية التجربة الدينية، أنماط التجربة الدينية، إمكانية معرفة صاحب التجربة الدينية بتفسيرها، هل هي عاطفة وشعور بالتبعية للحقيقة الغائية، أو شوق ووجد للحقيقة الغائية، أو هي كشف وإشراق وانخطاف للروح؟ ما الفرق بين تجربة المقدس وغيره؟ هل هي تجربة حسية وإدراكية؟ هل التجربة الدينية هي حقيقة وجوهر الدين؟
6-الوحي والإيمان: حقيقة الوحي، وهل هو نقل الحقائق الإلهية للبشر، أو هو تجسيد للإله في الإنسان؟ هل الوحي تجربة نبوية خاصة بالأنبياء، أو أنها تتحقق لسواهم؛ بالتسامي والارتياض الروحي، مثلما يعتقد بعض المتصوفة والعرفاء، وإن كان هذا النوع المكتسب من النبوة ـ حسب تسميتهم ـ هو نبوة إنبائية، وليست نبوة إبلاغ ودعوة لله؟
7-المعجزات والكرامات والخوارق: طبيعتها، أثرها في الإيمان الديني، شيوعها في مختلف الأديان، وهل هي استثناء أو خرق للقوانين الطبيعية، أو أنّها محكومة بقوانينها الخاصة، المحجوبة عن البشر؟
8-الخلود والبعث والقيامة: مصير الإنسان بعد الموت، مفهوم الموت؛ وهل هو انعدام للشخص البشري، أو أنّه انتقال من نشأة إلى نشأة؟ مفاهيم الموت والخلود والبعث المتنوعة في الأديان، ومفهوم التناسخ في بعض الأديان وعلاقته بالخلود والبعث، مفهوم القيامة والجزاء الأخروي، والخلاص، والنيرفانا.
9-الدين والعلم: هل ينتميان إلى حقل واحد، أو أنّ كلاً منهما ينتمي إلى حقل مستقل؟ هل الدين يتغذى ويترسخ بالعلم؛ أي رغم أنّه بموازاة حقل العلم، لكن العلم يدعم الدين، ويضيف له على الدوام ـ مع تقدمه ـ براهين وتفسيرات وآفاقاً جديدة؟
10-المعرفة الدينية: هل المفاهيم الدينية ذات معنى، أو أنّها تفوق المعارف البشرية وتختلف عنها؟ ما العلاقة بين المعرفة الدينية والمعارف البشرية؟ هل المعرفة الدينية ثابتة أو متغيرة؟ هل المعرفة الدينية تتطور وتتكامل تبعاً لتطور وتكامل المعارف والعلوم البشرية؟
11-الدين والأخلاق: هل الأخلاق تنشأ من الدين، أو ينشأ الدين من الأخلاق، أو أنّ أحدهما جزء من الآخر، أو لا علاقة بينهما، أو أنهما يلتقيان أحياناً في موارد، فيما يفترقان في موارد أخرى؟
12-التعددية الدينية: هل الأديان تجلٍّ متنوع لحقيقة الله الواحدة، بمعنى أنّ هناك حقيقة تتعدد السبل إليها تبعاً لتعدد وتنوع الأديان، ومن ثم فالكل مشمولون بالنجاة والخلاص، أو أنّ هناك ديانة واحدة حقة وما سواها باطلة، فمن لا يعتنقها لا أمل له بالنجاة؟ وهل التعددية الدينية هي تعددية على مستوى المعرفة، أو تعددية على مستوى النجاة، أو تعددية على مستوى التعايش؟
13-لغة الدين: هل لغة الدين عرفية، بنحو تكون إفادتها للمعاني بأساليب اللغة المتداولة نفسها في استعمال المجتمعات البشرية للغة، أو أنّها لغة رمزية، كما يقول بول تيليش: “إنّ لغة الإيمان هي لغة الرموز. الإيمان إذا ما فهمناه على أنّه حالة من الهم الأقصى فإنه ما من لغة له سوى الرموز”؟.[25]
هل لغة الدين لغة تماثلية كما يقول توما الإكويني؟ بمعنى أنّ صفة الخير لا يتطابق معناها حين نحملها على الله وعلى البشر، ذلك أنّ نحو الخيرية مختلف، لكنه غير مباين وإنّما هو مشكك. هل لغة الدين لا معنى لها، أي خالية من المعنى، أو هي بمثابة ألعاب لغوية، كما تقول الوضعية المنطقية؟
الهيرمونيطيقا
14-الهرمنيوطيقا: يُعرّفُ الإنسانُ بوصفه “كائناً هِرْمِنيوطيقيّاً”؛ أي هو ذلك الكائن الذي يمكنه، بل يلزمه أن يُترجم الوجود ـ أي كلُّ ما يقع في أفق تجربته الوجودية ـ محوّلاً إياه إلى عالَمه الخاص الداخلي؛ لكي يُدرِكه ويفهمه”.[26]
الهرمنيوطيقا حين تُستخدم في تأويل النصوص الدينية تحرر الدينَ من سجن الماضي، وتمنحه طاقة إضافية جديدة للحضور في العصر.
لا أحد من فلاسفة الدين لا يعتمد الهرمنيوطيقا في دراسة النصوص وتفسير الظواهر الدينية.
كلهم هرمنيوطيقيون يشتغلون بتأويل النصوص، ويعيدون صياغة مفاهيم الدين. حين تغيب الهرمنيوطيقا، يلبث المفسر غارقاً في التفسيرات التراثية، وقتئذ يفتقر الدين لإنتاج معنى جديد يمنحه لإنسان هذا العصر.
تتخشب اللغة عادة في عصور الانحطاط، ويتفشى فيها التكرار، وتنضب دلالاتها إثر الاستعمال التراثي لها، وتراكم طبقات دلالية تنتمي إلى مختلف مراحل مسيرة المجتمع التاريخية. وإذا تجمّدت اللغة يتجمد الفكر، تحديث الفكر يقترن بتحديث اللغة.
الهرمنيوطيقا تفتح أفقاً بديلاً لإنتاج المعنى وإثراء الدلالة وتجديد اللغة؛ بعبور الطبقات الدلالية التي راكمها الماضي، واستلهام روح ومقصد المعنى المحجوب، الذي يعد به النصُ المقدس إنسانَ الغد.
تفتقر المكتبة العربية إلى كتابات جادة في فلسفة الدين، ما عدا مؤلفات قليلة جداً.[27] وبعض الترجمات التي بدأها د. حسن حنفي بتعريب: “رسالة في اللاهوت والسياسة”، لإسبينوزا، ونشرها عام 1971. وصدّرها بمقدمة موسعة تتناول النقدَ التاريخي للكتب المقدسة، وضرورةَ إعادة قراءتها في أفق العصر ورهاناته.
يبدأ سبينوزا بهذه العبارة: “رسالة في اللاهوت والسياسة؛ وفيها تتم البرهنة على أنّ حرية التفلسف لا تمثل خطراً على التقوى، أو على سلامة الدولة، بل إنّ في القضاء عليها قضاء على سلامة الدولة، وعلى التقوى ذاتها، في آن واحد”.[28]
وتعريب د. فتحي المسكيني لكتاب كانت: “الدين في حدود العقل”، الذي صدر سنة 2012 ببيروت.[29]
ولعل كتاب محمد إقبال “تجديد التفكير الديني في الإسلام” هو أول دراسة جادة في فلسفة الدين، يؤلفها مسلم في العقد الثالث من القرن العشرين.[30]
توظف معظمُ الكتابات الجديدة بالعربية حول الدين العلومَ الإنسانية الغربية، وتستند إلى مفاهيمها ومناهجها في دراسة الدين والظواهر الدينية.
لكن قلما نجد تفكيراً فلسفياً في الدين والظواهر الدينية. ولعل ذلك يحيل إلى الموقف المتوارث المناهض للفلسفة، منذ الغزالي ومن اقتفى أثره، في تفسيقِ وتبديع وتكفير هذا اللون من التفكير، وإضفاءِ المشروعية على التفكير الكلامي فقط، الذي لا يتخطى الأنساقَ اللاهوتية للأشعري وابن تيمية والغزالي، ومقلديهم، وحتى لو حاول بعضُ الباحثين استعارةَ مناهج ومفاهيم من معطيات علوم اللغة والمنطق والفلسفة الغربية الراهنة، فإنّه يستخدمها لتبرير وتسويق ما قاله السلف. موهماً البعض بأنّه يعمل على “إحياء روح الدين”.
وهكذا يصدر بين الحين والآخر كتاب يعيد شرح “مقالات” الأشعري وابن تيمية والغزالي ومن نهج نهجَهم من المتكلمين، وفجأة ينخرط جماعةٌ من الكتّاب بالثناء عليه وتبجيله، وخلعِ الكثير من الألقاب على الكتاب والكاتب.
لا أعرف لماذا يتضامن بعض الباحثين في الدراسات الإسلامية مع هؤلاء المؤلفين، ويوهموننا بأنّ كتاباتهم إنّما هي ابتكار لـ”فلسفة الدين” في الإسلام اليوم.
بينما ليست تلك الكتابات سوى محاولات لتقويض وإجهاض أي مسعى جديد للتفكير الفلسفي في الدين.
لا يمكننا تحديث التفكير الديني في الإسلام إلاّ بالخلاصِ من الأنساق اللاهوتية المتوارثة، التي يجري فيها خلط وتلبيس بين الله وتصور البشر لله، بين المقدس وتصور البشر للمقدس، بين الدين ومعرفة البشر للدين. وفضحِ العنف والظلم والتعسف والطغيان الذي ظلّ على الدوام يستغل صورةَ الله، ويمارس العدوان ويسفك الدماء باسمه.
فلسفة الدين تعدنا بالكشف عن النظام المعرفي السائد في القرون الأولى للإسلام، الذي أنتج لاهوتَ المعتزلة والأشاعرة والشيعة، وكيف أنّ هذا النظام المعرفي انبثق عن العقلانية والفضاء المعرفي لعصره، وتلك العقلانية لم تعد معبّرة عن نمط وجودنا وفهمنا للحياة والكون اليوم.
فلسفة الدين تتيح لنا قراءةَ تاريخنا الروحي، ومعرفةَ كيفيةِ إنتاج المعنى في هذا التاريخ، والعلاقة بين السلطة وإنتاج المعنى. وتمنحنا أفقاً تأويلياً بديلاً يتيح لنا تجاوزَ الأفق التأويلي التاريخي للدين الذي أنتجه أفقُ انتظار السلف، ورؤيتهم الكونية، وكينونيتهم الوجودية.
لكلّ عصر تأويله للدين، والتأويل له عمر لا يتخطى العصر الذي أنتجه، ولولا هذا التأويل لما أمكن أن تتسع مقاصد وأهداف الدين وتمتد إلى ما هو خارج محيطها وسياقها التاريخي الذي ظهرت فيه.
فيلسوف الدين لا يكفّ عن البحث والتحليل والتفكير الحر، لشرح وبيان المعتقدات والمناسك والشعائر والتجارب الدينية والتوغلِ عميقاً في اكتشاف ما هو جوهري في الدين، والتعرفِ على أعماق التجارب الدينية، وتنوعها تبعاً للأديان والمجتمعات والأشخاص.
فيلسوف الدين يتبصر بعمق التجربة التاريخية للدين، ليكتشف أنّ معظم حروب الأديان تعود إلى التوظيف البشري للدين خارج حقله.
تعدنا فلسفة الدين ببيان أنماط التمثلات البشرية الزمنية المتغيرة للدين، وما يلابسها من تشوهات وإكراهات وتعصبات وعنف، تتصل عضوياً باستغلال الدين واستخدامه قناعاً لانتهاك قيم الحرية والإنسانية والعدالة، وأداة للتسلط والتعسف والاستغلال في حياة المجتمعات.
إنّ شغف الإنسان بالتفتيش عن المعنى لا يتوقف مادام حيّاً، ولا ينجز ذلك إلا الامتلاء الأنطولوجي. فلسفة الدين تتيح لنا التعرّف على المنابع العميقة للدين التي يرتوي بها الظمأ الأنطولوجي للروح البشرية.
[1]ـ لمّا كانت الفلسفة عند القدماء اسماً تندرج تحته المعارف العقلية بمجموعها، جرى تصنيف هذه المعارف إلى نوعين رئيسيين:
الأول: الفلسفة النظرية، أو الحكمة النظرية: هي التي يطلب فيها استكمال القوة النظرية من النفس، بحصول العقل بالفعل.
الثاني: الفلسفة العملية، أو الحكمة العملية: هي التي يطلب فيها أولاً استكمال القوة النظرية، بحصول العلم التصوري والتصديقي بأمور هي أعمالنا، ليحصل منها ثانياً استكمال القوة العملية بالأخلاق. وبكلمة أخرى: الحكمة المتعلقة بالأمور العملية التي علينا أن نعلمها ونعملها تُسمى حكمة عملية، بينما الحكمة المتعلقة بالأمور النظرية التي علينا أن نعلمها وليس علينا أن نعملها تسمى حكمة نظرية.
ويندرج تحت الحكمة النظرية:
أ ـ الإلهيات:
وتسمى العلم الإلهي، والعلم الأعلى، والعلم الكلي، والميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة)، والفلسفة الأولى تمييزاً لها عن الرياضيات المسماة بالفلسفة الوسطى، ذلك أنها تقع في مرتبة متوسطة بين الطبيعيات والإلهيات. وتعتبر الإلهيات لدى القدماء أشمل وأوسع من غيرها من العلوم، مضافاً إلى أنها برهانية ويقينية أكثر من غيرها.
وتنقسم الإلهيات إلى:
1 ـ الأمور العامة: وهي العناوين والأحكام والصفات التي لا تختص بموجود دون سواه، وإنما تسري في جميع الموجودات، ويتصف بها الموجود بما هو موجود، ولا يشترط أن يكون الموجود المتصف بها له ماهية معينة. وهي مثل: الحدوث والقدم، والوجوب والإمكان، فكل موجود إما أن يكون حادثاً أو قديماً، وكل موجود إمّا أن يكون واجباً أو ممكناً. ويُعبَّر عنها بـ “الأحكام العامة للوجود”، و”الإلهيات بالمعنى الأعم”.
2 ـ معرفة الله: ويدور البحث فيها حول وجود الباري، وتوحيده، وصفاته، وأفعاله، وما يرتبط بذلك من مسائل. وتسمى بـ “الإلهيات بالمعنى الأخص”، في مقابل “الإلهيات بالمعنى الأعم”.
ب ـ الرياضيات:
وتسمى العلم الأوسط، والفلسفة الوسطى لوقوعها في مرتبة متوسطة في سُلَّم المعرفة بين “الإلهيات”، و”الطبيعيات”.
ج ـ الطبيعيات:
وتسمى العلم الأدنى، والفلسفة الدنيا، لأنها تقع في أدنى المراتب في سُلَّم المعرفة، وفوقها تقع “الرياضيات”، فيما تكون “الإلهيات” العلم الأعلى. وهي تبحث في أحوال الأجسام الطبيعية.
انظر: د. عبدالجبار الرفاعي، مبادئ الفلسفة الإسلامية، بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، 2007، ج1، ص ص 12 – 16
[2]ـ لم نشأ الحديث عن العلاقة العضوية للفلسفة بالدين في مؤلفات ومباحث الفلاسفة الإسلاميين؛ لأنّ “فلسفة الدين” تبلورت في صيغتها الأخيرة في سياق الفلسفة الغربية الحديثة، ونحن في صدد التعريف بذلك.
[3]ـ جيمس كولينز، الله في الفلسفة الحديثة، ترجمة: فؤاد كامل، القاهرة: مكتبة غريب، 1973، ص 103
[4]ـ المصدر السابق، ص 230
[5]ـ المصدر السابق، ص 276
[6]ـ إيمانويل كانت، الدين في حدود مجرد العقل، بيروت: جداول، 2012، ص ص 11- 12، 45
[7]ـ د. أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين، بيروت: دار النهار، 1994، ص 78
[8]ـ د. عبدالرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1984، ج2، ص 281
[9]ـ المصدر السابق، ص 573
[10]ـ المصدر السابق، ص 589
[11]ـ المصدر السابق، ص ص 289 ـ 290
[12]ـ المؤلفات حول فلسفة الدين دشنها شلاير ماخر بكتابه “عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين” الذي صدر نهاية القرن الثامن عشر (1799). وإن كان بعض الباحثين يرجع بداية التأليف في فلسفة الدين إلى اللاهوتي الألماني ح.ل. فون موزهيم (1694 ـ 1755) بكتابه: “المبادئ التاريخية الكنسية للعهد الجديد”، الصادر سنة (1737). وتناول فردريك ويلهم شلنج (1775 ـ1854) موضوعات في فلسفة الدين في كتابه “محاضرات في الوحي والأساطير”، الصادر سنة (1843).
وهكذا تناول جون ستيوارت مل (1806 ـ 1873) موضوعات في فلسفة الدين في كتابه “ثلاث مقالات في الدين” صدر بعد وفاته سنة (1874). وفي سنة (1880) أصدر ج. كيرد كتاب: “مدخل إلى فلسفة الدين”. وفي سنة (1882) أصدر لوتزه كتاباً صغيراً هاماً، هو: “فلسفة الدين”. كما أصدر بون كتاب: “فلسفة الألوهية” سنة (1887). وفي (1888) نشر مارتينو كتاب: “دراسة الدين”، في مجلدين.
كذلك نشر في العام نفسه فون هارتمان كتاب: “فلسفة الدين”. وفي (1893) أصدر إ. كيرد كتاب: “تقييم الدين”. وفي (1894) صدر كتاب “أسس الاعتقاد” تأليف: بالفور. وفي سنة (1901) أصدر هوفدينج “فيلسوف دانماركي” كتابه: “فلسفة للدين”. وفي عامي (1901 ـ 1902) ألقى وليام جيمس مجموعة محاضرات، نشرت تحت عنوان: “تنوعات الخبرة الدينية”.
وفي (1905) أصدر سنتيانا (1863 – 1963): “العقل في الدين”، وهو الجزء الثالث من كتابه: “حياة العقل”. وفي العام نفسه نشر ج.ت.لاد كتاب: “فلسفة الدين”.
كما أصدر و.إ. هوكنج سنة (1912) كتابه: “معنى الله في الخبرات الدينية”. كذلك صدر في هذا العام كتاب دوركايم: “الصور الأولية للحياة الدينية”. وفي (1913) نشر جوزيا رويس في مجلدين: “مشكلة المسيحية”.
وفي (1917) صدر الكتاب الهام لرودلف أوتو “فكرة القدسي”. وفي (1923) نشر س.أ. بينيت : “دراسة فلسفية للتصوف”. وفي (1926) نشر وايتهد: “الدين في تكونه”.
و|لف تينانت في (1928 – 1930): “اللاهوت الفلسفي”، في مجلدين. وفي (1932) صدر كتاب: “منبعا الأخلاق والدين” لهنري برغسون. وفي (1939) أصدر ج.إس. بيكسلر: “دين من أجل العقول الحرة”.
وفي العام نفسه أصدر يونغ: “علم النفس والدين”. وفي (1950) نشر إريك فروم: “التحليل النفسي والدين”…هذه ببليوغرافيا منتقاة لما صدر في الغرب حول فلسفة الدين حتى منتصف القرن العشرين. انظر: د. محمد عثمان الخشت. مدخل إلى فلسفة الدين. القاهرة: دار قباء، 2001، ص ص 50 -54
[13]ـ جيمس كولينز، الله في الفلسفة الحديثة، ص 373
[14]ـ المصدر السابق، ص 338
[15]ـ المصدر السابقن ص 338
[16]ـ د. عبدالرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، ج2، ص 214
[17]ـ جيمس كولينز، الله في الفلسفة الحديثة، ص 359
[18]ـ المصدر السابق، ص 359
[19]ـ د. عبدالجبار الرفاعي، دعوة للخلاص من نسيان الذات، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، ع 55/56 (صيف وخريف 2013).
[20] ـ عادل ضاهر، فلسفة الدين، في: الموسوعة الفلسفية العربية، رئيس التحرير: د. معن زيادة، بيروت: معهد الإنماء العربي، 1988، مج2، ص 1000
[21]ـ جون هيك، فلسفة الدين، ترجمة: طارق عسيلي، بيروت: دار المعارف الحكمية، 2010، ص 3. إعادة صياغة الترجمة طبقاً للنص الإنجليزي الأصلي في:
Hick, John, H., Philosophy of Religion, 3rd ed. (Englewood Cliffs, New Jersey, Prentice – Hall Inc., 1983), p. 1
[22]ـ مصطفى ملكيان، فلسفة الدين: المجال والحدود، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، ع49/50 (شتاء وربيع 2012).
[23]ـ عادل ضاهر، الفلسفة والمسألة الدينية، بيروت: دار نلسن، 2008، ص 14
[24]ـ جون هيك، مصدر سابق، ص ص 61 – 83
[25]ـ Excerpted from Dynamics of Faith (New York: Harper & Row, 1957). pp. 43 – 54
[26]ـ د. جوزيبي سكاتولين، قراءة هِرْمِنيوطيقية للنص الصوفي، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، ع 57/58 (شتاء وربيع 2014).
[27]ـ من أعمقها كتاب د. عادل ضاهر “الفلسفة والمسألة الدينية”، الصادر سنة 2008. وهذا الكتاب هو الجزء الثاني في سلسلة أصدرها د. عادل ضاهر، وقبله كان قد أصدر عام 1990 كتابه “الأخلاق والعقل”، وهو الجزء الأول.
[28]ـ سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة: د. حسن حنفي، مراجعة: د. فؤاد زكريا، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1971، ص 107
[29]ـ إيمانويل كانت، الدين في حدود العقل، ترجمة: د. فتحي المسكيني، بيروت: جداول، 2012
[30]ـ يتألف كتاب محمد إقبال من ست محاضرات ألقاها في مدراس بالهند عام 1928، ثمّ أتمها بعد ذلك في الله آباد في عليكره، وصدرت في كتابه الشهير «تجديد التفكير الديني في الإسلام». ترجم الكتاب الى العربية عباس محمود، وصدر في القاهرة عام 1968