أدناه نص فيديو للكاتب منصور الناصر (ما زال الفيديو في طور المونتاج).
منذ أكثر من مئة عام والمفكرون والمختصون يبحثون في فكرة المقدس وسبب نشوئها، وحول هذا الموضوع، طرحت العديد من النظريات، وأخرها نظرية تؤكد ان القرف والاشمئزاز هما أصل المقدس والقداسة.
ومن بينهم مرسيا إلياد و رودولف أوتو الذي فسر الشعور الديني داخل الإنسان، بأنه يدل على (قوة إلهية)، فأسماها (المقدس)، والذى هو إله وشعور إلهي داخل الإنسان فى الوقت نفسه. واعتبر أوتو أن (المقدّس) بنية أساسية خفية جدا، تكمن في النفس البشرية، ويعبر عنها برموز، لا يمكن التعبير عنها لغويا.
أما قديما فقد طرحت فكرة الفطرة من قبل رجال الدين، وتقول إن هناك فطرة لدى الإنسان تدفعه لللخشوع لما هو مقدس وإلهي.. وهذا ما أثار سؤالا لم يحسم أمره حتى الآن، إلا دينيا.
والسؤال هو هل يولد الإنسان على الفطرة.. وهل هناك حقيقة علمية تقف خلفها أم أنها مجرد ادعاء ديني يروج له المتحيزون لدينهم سلفا ؟
فيما يقول رجال الدين أن سلوك الإنسان يميل فطريا إلى الدين وأن الدين حاجة أساسية فيه.
ولكن هذه الادعاءات لا تدعمها التجربة.
فقد تمكن العلماء من إحراز اتقدم كبير جدا في فهمهم للدماغ البشري فماذا وجدوا؟
وجدوا ان هناك صفات وسمات فطرية، لكنها مرنة جدا، وقابلة للتغيير، ويشبه العالم المختص في الدماغ، وهو ماركوس 2004 إن الدماغ اشبه بالدفتر، تكتب الجينات مسوداته الأولى أثناء التطور الجيني، ولا توجد في جميع فصوله إلا مخططات عامة تقوم بعدها التجربة بمراجعتها.
الأسس التطورية للمقدس
أدناه سنتحدث عن نظرية تحاول الكشف عن الاسس الأخلاقية التي أدت لنشوء جميع الثقافات والاديان وحتى العادات اليومية الفردية والاجتماعية، وكذلك السياسات.
وسنقسم هذه الأسس إلى خمسة تطورات اجتازها الإنسان ليصبح ما هو عليه حاليا.
- التطور الأول يتعلق برعاية الاطفال والتعاون في رعايتهم ورفض القسوة
- تطور أعراف التقيد بالأصول والتعاون ورفض الغش والاستغلال
- رفض الخيانة والمحافظة على الولاء للجماعة
- 4 تطور فكرة السلطة ورفض التخريب وتجاوز المراتب.
- تطور فكرة المقدس لمعالجة مشكلة الإنسان القارت وسأشرح معنى هذا المصطلح لاحقا.
وسأشير في نهاية الفيديو إلى علاقة الفكر اليميني والليبرالي المنفتح بهذا الموضوع.. كي أفسر فيه سبب تعصب الاديان والشخصيات المحافظة ومرونة الشخصيات اليسارية.
سأبدأ من التطور الخامس على ان أحاول الحديث عن التطورات المتبقية لاحقا.
البشر مخلوقات قارتة!
من ابرز مميزات البشر أنهم كالفئران يأكلون أي شيء، وهذا يجعلنا قادرون على أن نعيش في جزيرة جديدة كليا، دون ان نعجز عن إيجاد شيء نأكله!
أي اننا نجمع الصفتين صفة الحيوانات النباتية، والمخلوقات المفترسة؛ ويمكننا تناول النباتات واللحوم والفواكه على حد سواء.
هذه ميزة تكيفية ممتازة، لكنها خطرة، فقد نتناول شيئا جديدا ساما دون ان نشعر بذلك.
من هنا تطورت مشاعر القرف.. وهي قسمت البشر إلى نوعين نيوفيلي ونيوفوبي.. الأول ليبرالي منفتح على الجديد، والثاني منغلق متحفظ ويميل إلى التمسك بما هو مجرب ومختبر جيدا. \
والقرف خاص بالبشر، الحيوانات لا تعرفه فهي تكتفي برائحة الشيء أو طعمه لاتخاذ قرار بشأنه
البشر يحتاجون ما هو أكثر، معرفة من لامسها أو تعامل معها. وقد نرفضه تماما ولو كان من افضل ما يكون!
هذا القرف تطور حين نزلنا من الأشجار، وبدأنا نتحاشى نفايات الآخرين، بدلا من ترك جسمنا يتعامل مع جراثيمها.
من هنا ظهرت فكرة تجنب المرضى والمجذومين والاحتكاك ببعض الأشياء أو العكس.
فضلا عن اشياء تحضر إلينا في المخيلة، أو نخترعها.
هذا القرف هو نفسه الذي يصيب كثيرين حين يزورون اماكن اخرى. ومنه تطورت فكرة النجاسة والطهارة. والخشية من الأجانب أو لمس أشيائهم.
وهذه الخشية مبررة، وعلى الأخص في زمن الأوبئة، لأن الأوبئة والأمراض الجديدة، لا تأتي إلا عن طريق الأجانب، أما المشاكل الثقافية المهددة للسلام الداخلي للجماعات فتأتي أيضا من الخارج، سواء على شكل أفكار جديدة أو بضائع وتقنيات جديدة.
وهنا يواجه المخلوق البشري القارت معضلة النيوفيليا والنيوفوبيا من جديد. وعليها أن تحسم امر رهاب الأجانب او بدع الأفكار الجديدة.
هكذا ظهرت فكرة القداسة واصبحت نوعا من الحل “الأخلاقي”. فهي تقدم آلية دفاعية ممتازة، إما لجعل شيء ما غير مسموح بتدنيسه. أو غير مسموح بالتلوث بنجاسته.
كيف ظهرت فكرة الخير والشر؟
من فكرة الجيد والسيء المتعلقة بالطعام والغذاء ظهرت فكرة الخير والشر، فحين تأكل شيئا (او حتى تراه أو تلمسه)، ثم يدخل هذا الشيء فيك (جسديا او ذهنيا)، ستكون هناك عواقب إما جيدة او سيئة، لكن الجيد والسيء عبارات حديثة، العبارات البدائية لا تعرف هذه المصطلحات.
هناك خير وشر فقط. الخير هو قوة وطاقة يجب معرفتها والتوسل بها أو التقرب لها بطريقة ما. ما عدا هذا شر.
بعد “ولادة” الخير والشر، من رحم الكائن البشري “الكائن” داخل كينونة الطبيعة والوجود. ستولد بقية الأفكار، كالحق والباطل، النجاسة والطهارة، المقدس والمدنس. الله والشيطان. الخ
الإحساس بالقرف هو اصل فكرة القداسة، ومصدره جسدي-ذهني، اي لا يتعلق بالروح الدينية مباشرة. على العكس الروح التي يخترعها الديني هي التي تتغذى عليه، وتجعل من الدين نفسه مقدسا.
ولا حاجة للقول بأن دينا لا يؤمن أصحابه بأي مقدس مثبت فيه سلفا، لا يعد دينا . ولكن هذا لا يمنع من وجود مقدس غير مثبت، في عوالم النشاطات البشرية الأخرى، كالفن والموسيقى وغيرها.
القرف قد يكون أيضا هو سبب اختراع الاساطير والحكايات والخرافات المختلفة.. وبالتالي تشكل طقوس وعبادات وصلوات وتجمعات بشرية وأديان خاصة بكل منها.
تدنيس بركة ماء، أو مكان مقدس، أو حتى شجرة مباركة، قد يدفع إلى تشكيل مجتمعات تعاونية، لحمايتها، هذا التجمع سيشترك في تأسيس “منظومة” جديدة للقداسة والنجاسة، وعلى الجميع الالتزام بشروطها.
التثبيت والتقديس
هذا سيتوافق مع حاجة الإنسان للتعكز على فكرة ما تسمح له بالعقور على نقطة ما للتثبيت، والتثبت منها عبر استخدامه لشيء ما داخل البيئة التي اعتاد العيش فيها.
وما نقصده بالتثبيت، هو حاجة الأنسان الماسة للشعور بانتسابه إلى مكان ما أو إله او جماعة أو فكرة أو طوطم ما، يتيح له الاتكاء على “فكرته” المنعكسة داخله، لكي يستطيع من خلالها الانطلاق وفهم العالم وكل شيء سواه فيه أو حوله. فهو من خلال المثبِّت يستطيع بناء نظام العلاقات الخاص به بين الأشياء والأفكار والرؤى، وبما يسمح له بتكوين هويته الخاصة التي تميزه عن كل شيء عداه.
فعل التثبيت ضروري جدا للإنسان، إنه مركز العالم، وسرته التي يقوم عليها وإزاءها كل شيء بدونه سيشعر بالضياع وافتقاده لأي مرجعية، شعوره بالنفور أو القرف أو الإعجاب من اشياء تتواجد في بيئته، يتوافق مع حاجته لتثبيت نفسه، وتحديد مرجعياته وخصوصيته الإنسانية.
التثبيت مغارته أو ملجأه الخاص، كل ما عداه يجب أن يخشى منه ويوضع موضع الفحص والاختبار، وهذا غير ممكن دون وجود ادوات تسمح بذلك..
هنا حسم امر الفصل بين الإنسان وعالمه، وراح يزداد انفصاله عن العالم المحيط به، حين اضطر لانتقاء ما يراه مناسبا له، “وغير مقرف”.
وهذا لا يتم بشكل فردي، لأن القرف الفردي من أجنبي ما مثلا، لا يمكن له أن ينتقل إلى أفراد آخرين، ليصبح ثقافة عامة خاصة بكل جماعة، إلا إذا كان هناك قرف جماعي منه.. ومع الزمن، اتسعت دائرة القرف.
وبدأت الأشياء تنفصل إلى عالمين متضادين متعارضين.
لحظة ولادة المقدس
وبدأت تظهر أشكال القداسة الجماعية. أعلام رايات صلبان، ملابس مباركة، أو مدنسة،
حيوانات أو اشخاص مقدسين تقبل أيديهم مثلا، أو حتى اقدامهم.
أماكن مقدسة. تطورت حكاياتها في العصور التاريخية فظهرت أماكن مقدسة مثل أورشليم أو مثل مكة.
ويمكن أيضا إضافة أفكار حديثة للقائمة كالحرية والاخوة والمساواة .. ومفاهيم كالاديان والمذاهب الآيديولوجية، أصنام حجرية أو خشبية أو طواطم إلخ.
هناك انواع كثيرة ايضا من “القداسة” الاجتماعية، مثل تقديس الحياة البرية، أو عش الزوجية، أو المبادئ والثوابت المقدسة الخ..
هناك أيضا من يعتبر أن الجسد معبد يجب علينا تقديسه، ويجب عدم تدنيسه بممارسة الجنس المحرم.
قبل الزواج لأن العفة والفضيلة قيم مقدسة.. فيما تدان الرذيلة لأنها مدنسة وتدنس هذا المعبد الخ.
هنا يمكن فهم سر تحريم الزنا، فهو يدمر الجماعة البشرية، ويشيع الفوضى ليس في نظام العلاقات بين الجنسين، إنما في قضايا المواريث والأبناء والرعاية الخ. والبعض يشعر بالقرف من ممارسة الجنس نفسه!
ويعتبر الجسد البشري مكانا للدنس والرذيلة!
طبعا هذا عكس ما يدعو له بنتام صاحب مذهب المتعة والمنفعة من ضرورة إشباع متعنا وتقليل آلامنا.
وهذا هو جوهر الخلافات حاليا بين اليمين واليسار.
هناك كذلك انصار البيئة الذين لا يعترضون فقط على التلوث البيئي بل الإساءة للطبيعة وتدنيسها. ويشترك معهم النباتيون الذين يرون ان الحيوان مقدس كالإنسان ويجب عدم الاعتداء عليه.
لدينا أيضا حديث عن الاجهاض وحق الموت سريريا ونقل الاعضاء، بل وتخليق الأجنة البشرية وغيرها كثير.
الأمر نفسه يشمل الإرهابيين.. وإلا ماذا نسمي رفض الدواعش للغرب وثقافاته ومطالبتهم بالعودة للأصول أي (المثبتة الأصلية) عبر مذاهبهم السلفية؟
القرف ليس سيئا بالضرورة
ولكن يجب التذكير بأن مشاعر القرف والاشمئزاز، ليست سيئة بحد ذاتها، ففيها جوانب مفيدة حتما، وإلا لما استمرت بيننا، فلولاها لجرى انتهاك كل شيء، ورفعت الحدود بين الأشياء وأصبح كل شيء مباحا. وحلالا.
الحرام وهو أحد مظاهر القرف مهم ايضا، ولم يبتكره البشر اعتباطا، فلا يصح مثلا أن تستعمل جسدك كيفما شاء، كما تدعو بعض مذاهب التحرر المادية المتطرفة. إنه ليس آلة لتنفيذ اوامر إنسان يدعي الحرية والانفتاح ورفع الحواجز والحدود.
في النهاية من لا يستطيع فهم فكرة القداسة ودورها الخطير في تاريخ المخلوق البشري القارت، فلن يستطيع فهم أي مشكلة تواجه البشر يوميا!
مشكلتنا اننا كائنات تلتهم كل شيء أفكارا ومنتجات غذائية.. فهل كان من الأفضل لنا أن نعيش كالماشية تعرف ما تقتات عليه تماما، ولا تفكر بشيء آخر كما يفعل رعاتها؟.