عن أمسية أمستردام للشاعر منصور عبد الناصر
أزاميل / أمستردام/ سالم سليمان
شهدت مدينة أمستردام في هولندا الشهر الجاري، عقد أمسية شعرية للشاعر العراقي منصور الناصر،بحضور حشد كبير من المثقفين العرب والعراقيين وجمهور واسع من العرب المقيمين في هولندا، وفيما أثارت النصوص التي قرأها الشاعر نقاشا واسعا بينهم نظرا لتطرقها لقضايا سياسية وثقافية وتاريخية خطيرة ومازالت فاعلة في حياتنا.
ودعا الشاعر إلى إشاعة قيم المحبة والسلام بين الناس جميعا والكف عن إثارة الخلافات القائمة على الاساطير والأوهام.
وافتتح الأمسية الفنان المسرحي صالح حسن فارس بالترحيب وبتعريف الحضور بشكل مختصر بالشاعر والمشاركين معه في ألامسية …
ومن ثم كانت الكلمة للشاعر والإعلامي شعلان شريف تطرق فيها الى المراحل المتغيرة والمتطورة في الشعر العراقي الحر منذ الاربعينات وعرج خلالها بالتعريف بالشاعر منصور واشعاره وتقديمه للحضور.
بدأ الشاعر منصور الناصر بإلقاء الضوء على مراحل تجربته الشعرية منذ بداياتها منصف ثمانينات القرن الماضي حتى لحظة مغادرته العراق عام 2006 نتيجة العنف الطائفي.
ومن ثم بدأ الفصل الاخر من الامسية بإلقاء الشاعر قصائده مع نغمات عود العازف الرائع منير كوران مما اعطت للقصائد جمالية ورومانسية استيعاب وخلقت مزاج وانسجام سماع للقصائد بأنصات جيد لدى الحضور.
وقد تلاحمت قصائد الشاعر منصور الناصر مع نغمات عود الفنان منير كوران في أمسية شعرية أحتوتها جمعية الرافدين الثقافية العراقية في أمستردام.
ويمكن ان نقسم محور اهتمامات قصائد الشاعر منصور الناصر إلى عدة توجهات منها
1 – قصائد ضد التطرف الديني وكان من المفروض أن تكون اول قصيدة يقرأها الشاعر في الامسية وهي عبارة عن دعاء “شعري” ، إلا أن الفنان صالح حسن فارس فاجأ الجميع وحتى الشاعر نفسه بنهوضه فجأة وقراءته لها وهو يتحرك في أرجاء القاعة باسلوب مسرحي أخاذ لفت انتباه الجمهور وإعجابهم..وراح يقول “أيتها السماء ! يا أيتها السماء !! ابتعدي قليلا ..قليلا قليلا ..أرجوك : نريد …نريد أن… أن نرفع رأسنا”
وهنا يستخدم الناصر كلمة السماء بمعناها الديني المتطرف كما يبدو لا اللغوي..وهو يشير عبرها إلى “سلطة” هذه السماء الكبيرة في زمننا الحالي وسيطرتها على الكثير من عقول الناس وتهديدها وعنفها ضد العقول المتحررة والمتنورة بالعلم والمعرفة.
ثم قرأ قصيدة اخرى في الامسية واكتفى بالمقطع الاخير منها وربما يكون قد تحفظ على قراءة جميع مقاطعها وهي:
انهم يتحدثون باسم الله
في كل مكان…
وهو ساكت
لا أحد يعرف ما الامر
يبدو أن هناك شيطانا ما
خلف كل هذا ” الحماس ” !
*****
كانت تدهشني
وأنا صغير
بروق المنابر
ورعود الكراسي
لم أكن حينها
أفهم شيئا
.. وما زلت !
2 – قصائد تتكلم عن الكوارث التي حلت بالشعب العراقي ومعاناة الشاعر من هذه المأساة فيذكر في مقطع لقصيدة
” العراق نخلة تحترق
ونحن بالتأكيد ثمارها السوداء …. ”
وفي عام 2005 كان الشاعر في بغداد واحس بالوضع الصعب والمأساوي الذي حل بهذه المدينة ذات التأريخ الثقافي والحضاري.
وتأثر بحالة الشعب المتروك للاقدار الكارثية ومقارنتها بحالة الفئة الحاكمة المحصنة والمحمية بأسوار المنطقة الخضراء رغم الطائفية والتناقض والصراع فيما بينها فكتب:
هنا تنزع شوارع بغداد
عن جسدها الفاتن
ثياب الحروب والمآتم
وهناك خلف تلك الاسوار الخضراء
عناكيب تحوك بصمت
جلاهيب الحروب القادمة
وفي نقده للذات العراقية التي تكرر انتخاب الفاسدين من خلال تضليل عقل الانسان فكتب قصيدته ” أغرب ما فينا ” وهذا مقطع منها :
أغرب ما فينا
أننا انتخبنا الظلام سيدا أوحد
… وأطلقنا على النور السهام
ألقينا على فرس الضوء الحجاب…
اتّخذنا ملك العتمة “عشيقا “
ورمينا عليها
…ازار المحصنات
أغرب مافينا
أن كلماتنا تقتل من تشاء , ساعة تشاء .. وكيفما تشاء
أغرب مافينا ..
أن صدرنا يكاد يختنق من وطأة أوهامنا
.. وأكتفينا فقط بصب لعناتنا – كما هي العادة –
.. على الهواء !
تسلط الحكام في ديارنا يجعلك إما أن تغادر هذه الديار وأما أن تعيش بوجهين ولسانين كتب الشاعر منصور قصيدته بعنوان “بذور الحب أم الجحيم ” وهذا المقطع الاخير من القصيدة :
في ديارنا هذه
جنات كثيرة
ولم نزرع فيها يوما
الا بذور الجحيم
في ديارنا هذه
عليك، لكي تبقى حيا
أن تعيش بوجهين.. ولسانين
.. وحين تموت أيضا !
في ديارنا هذه
لا توجد طرق كثيرة
انما طريق واحد لا غير
محتشد بالآيات واللافتات
وعلينا جميعا أن نتذابح منه
وفيه واليه!
لم تنبح هذه الكلاب ؟ … سؤال يطرحه الشاعر في قصيدته الكوميدية الممزوجة بالدرامة بأستغراب عما تريده هذه الكلاب من هذا النباح في الماضي وفي الحاضر ولا زالت تنبح ونباحها أكل رؤوسنا ودمر حياتنا وجعلها في أسوأ حال :
لم تنبح هذه الكلاب ؟
قدمنا لها كل ما تريد
لم يبق معنا أي شيء
مع هذا ما زالت تنبح طوال الليل والنهار
وفي كل مكان
لا أحد يعرف ماذا تريد
مرة طلبنا من هذه الكلاب مقابلة القائد الأعلى أو حتى المتحدث بأسمها
لكنها أستعظمت الأمر
منعت نساءنا من الخروج لسنوات…
وأرسلتنا عنوة لمحاربة كلاب متمردة على الحدود تجرأت على النباح بطريقة أخرى
في الحقيقة, أغلب رفاقنا بدءوا يتقربون لها
وراحوا يتفننون في تقليد نباحها
بينما أختار آخرون الخروج بحثا عن أرض بلا كلاب
… ولم يرجعوا حتى الآن.
الخلاصة.. نحن نعيش الآن في أسوأ حال
النباح أكل رؤوسنا
صور الكلاب تملأ شوارعنا
وحتى بيوتنا
ولكننا .. مازلنا .. نتساءل , وبحرقة
.. لم تنبح هذه الكلاب؟
كما والقيت في الامسية قصائد أخرى نالت استحسان الحضور لكونها تنبع من واقعه الحالي وايضا الماضي … وتطرق الشاعر منصور الى مشكلة الشاعر وسط المجتمع فذكر أن “الشاعر يشعر بلعنة الكتابة والشعر ومن خلال تجربتي الشخصية تجعلني شخص مختلف ومنعزل وصاحب وجهة نظر مختلفة عن الجميع وهذه ما يتلوها من خسارات كثيرة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي , الكتابة الشعرية تربك الشخص وتحوله الى شخص منفصل ” وبهذا الصدد القى هذه القصيدة:
قال لي مازحا
ما الذي سيفعله الشعراء
مع حروبنا هذه التي لا تنتهي
قلت له سيأكلون قصائدهم
ويشربون البحر الكامل بكأس الرجس
ثم قال وكان جادا
وما الذي ستفعله ديوكنا الكبيرة؟
قلت له: سيواصلون هضم لحمنا الحي
ويسحلون ما تبقى من جسدنا في شوارع مدننا المحجبة
وايلامنا العاوية.
وهنا بادرني غاضبا :
ولكن ما الذي سيفعله الناس؟
قلت له: لا شيء ابدا لا شيء
لكنهم سيطالبون المزيد !
أما الفصل الأخير من الأمسية شمل طرح الأسئلة من قبل الحضور على الشاعر منصور عبد الناصر وكانت بمجمل محتواها عن بداياته الشعرية وآفاق كتابته للشعر مستقبلا وبعض الرموز الشعرية في قصائده …. كانت الأمسية ممتعة وتجاوب معها الحضور.
وقال الشاعر حول الوضع في العراق الآن “إن العراق بالصورة التي نعرفها عنه لم يعد موجودا، لهذا فان حنيننا إليه يكاد يكون حنينا لعالم ومناخات لم تعد موجودة، ليس بسبب فارق الزمن الذي انقطعنا فيه عن عراقنا، بل بسبب سيادة قيم ومعتقدات لم تكن موجودة فيه وفي اغلب سنوات القرن العشرين، مشيرا إلى ان القيم الفئوية والطائفية الدينية هي السائدة الآن، وهي قيم أصبحت مهيمنة وتدير شؤون الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي في جميع انحاء العراق تقريبا، ولهذا فأن وجود أشخاص “مثلنا” نشأوا في ظل أجواء مختلفة تماما يعد نشازا وتعارضا لا يمكن إصلاحه بسهولة”.
ملاحظات او استنتاجات حول ما طرحه الشاعر منصور عن مشاعره من الشعر:
هنا اطرح وجهة نظر بها نوع من النقد للصورة التشائمية للشاعر منصور وأحساسه بأن الشاعر يشعر بالعزلة وتسلط عليه لعنة الكتابة وأن الكتابة الشعرية تربك الشخص …. فأرى أن الشاعر يكتب للناس والشعر والكتابة تقربه منهم أذا كانت كتاباته وشعره يحاكي مآسي وصعوبات الحالة المعيشية لمجموع واسع من الجمهور … وهذا التبادل الشعوري بين الشاعر والجمهور عبر شعره الجميل يصبح الناس قريبون منه ويجعله في حالة تفائل وراحة نفسية.
ولكن من خلال متابعتي لكتابات وقصائد الشاعر منصور عبد الناصر أتحسس أنا أيضا بما يعانيه الشاعر من جمهور المتخلفين البعيدين عن الثقافة المتحضرة والمتنورة بمفاهيم العصر.
فالشاعر منصور في بعض قصائده يصب جام غضبه على الجانب الوهمي المتخلف للدين وتأثيره في منطقتنا على عقل الأنسان وهذا ما يضعه في موقف محرج .
ولكن التحدي ومواجهة التخلف عبر العلم والثقافة بمحتوياتها المتنوعة ( الشعر, الرواية, والمقالة, …وغيرها) سيساهم في خلق مستقبل متحضر … فالتطور الحضاري لا يبنى من فراغ وأنما بالكفاح والعمل الدؤوب لناس مضحين لا يصيبهم الارباك واليأس ويخلدون أسمائهم على مدى العصور .
وادناه مجموعة أخرى من نصوصه
الإنسان هو المعجزة وليس الإله
سالم سليمان – امستردام 20 – 10 – 2015