تاريخ المنهج العلمي هو التتبع للتغيرات في منهجية البحث العلمي، بغض النظر عن تاريخ العلوم نفسها. لم تكن قواعد المنطق العلمي واضحة؛ وكان المنهج العلمي موضوع نقاش حاد ومتكرر طوال تاريخ العلوم، وتجادل الفلاسفة وعلماء الطبيعة البارزين حول أولوية منهج أو آخر في التأسيس للمعرفة العلمية.
وعلى الرغم من الخلافات حول المنهج، إلا أن المنهج العلمي تطوّر في خطوات محددة.
ظهرت التفسيرات العقلانية للطبيعة، بما في ذلك الذرية، في كل من اليونان القديمة في فكر ليوكيبوس وديموقريطوس، وفي الهند القديمة في النيايا والفايشيشيكا والمدارس البوذية، في حين رفضت الشارفاكا المادية الاستدلال كمصدر للمعرفة، وفضّلت التجريبية التي كانت دومًا محل شك.
كان أرسطو رائدًا في استخدام المنهج العلمي في اليونان القديمة إلى جانب تجاربه البيولوجية وأعماله في المنطق، حيث رفض الإطار الاستنتاجي البحت، وفضّل التعميمات الناتجة عن ملاحظة الطبيعة.
تركّزت بعض أهم المناقشات في تاريخ المنهج العلمي على العقلانية، خاصةً تلك التي نادي بها رينيه ديكارت؛ والاستقرائية، التي حظيت بأهمية خاصة عند إسحاق نيوتن وأتباعه؛ والفرضية الاستنتاجية التي تصدّرت النقاشات في هذا المجال في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي.
ونهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلاديين، كان الجدل حول الواقعية الفلسفية مقابل اللا واقعية مسيطرًا على نقاشات المنهج العلمي كنظريات علمية قوية تمتد خارج نطاق الإدراك، بينما في منتصف القرن العشرين، عارض بعض الفلاسفة البارزين وجود أي قواعد عالمية للعلم على الإطلاق.
في القرون الماضية، طُورت بعض الطرق الإحصائية للمنطق في مواجهة عدم اليقين، كامتداد لطرق استبعاد الخطأ. كان ذلك توابع لنهج فرانسيس بيكون في كتابه «الأورغانون الجديد».
كما أظهر استدلال بايزي قدرة الفرد على تغيير معتقده في مواجهة الأدلة، وهو ما سُمي بمراجعة المعتقدات. وظهر أثر ذلك في أعمال فرانك رامزي وجون مينارد كينز ووليم ستانلي جيفونز.
المنهج القديم
بردية إدوين سميث
بقيت كتابات لعدد قليل من المناقشات الصريحة للمنهجيات العلمية من الحضارات القديمة. أقصى ما يمكن استنتاجه عن المنهجيات التي سادت العلم في تلك الفترة ينبع من أوصاف الجدالات القديمة حول الطبيعة في تلك الكتابات الباقية.
اشتمل النص الطبي المصري القديم الذي اكتشفه إدوين سميث، ويرجع إلى حوالي سنة 1600 ق.م، على العناصر التالية: الفحص، والتشخيص، والمعالجة، واستنباط سبب المرض، من أجل الاستشفاء من المرض، التي تدلّل بقوة على توازي الفكر حينئذ مع المنهج التجريبي الأساسي للعلم، الذي لعب دورًا بارزًا في تلك المنهجية وفقًا لرأي مؤرخ الطب القديم جيوفري لويد. كما اشتملت بردية إبيرس (حوالي سنة 1550 ق.م) أيضًا على دلائل حول التجريبية التقليدية.
في منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد في بلاد الرافدين، تطور علم الفلك البابلي ليكون أقدم صور علم الفلك العلمي، حيث كان أول محاولة ناجحة للغاية تعطي وصف رياضي مُعدّل للظواهر الفلكية.
ويزعم المؤرخ أسجار آوبي أن «كل علوم الفلك اللاحقة سواء علم الفلك اليوناني القديم أو علم الفلك الهندي أو علم الفلك الإسلامي أو الغربي – إن لم يكن بالفعل كل مسعى لاحق في العلوم الدقيقة – تعتمد على علم الفلك البابلي بطرق حاسمة وأساسية.»
أسس البابليون والمصريون القدماء الكثير من المعارف التقنية والحرف والرياضيات التي استخدمت في العرافة، وكذلك أسسوا المعارف الطبية، ووضعوا قوائم للأنواع كلها.
إلا أن البابليين على وجه التحديد اضطلعوا في تطوير أقدم صور علم الرياضيات التجريبي، أثناء محاولاتهم القديمة للوصف الرياضي للظواهر الطبيعية، ولكنهم افتقدوا عمومًا النظريات العقلانية التي تفسر ماهية الطبيعة.
كان الإغريق هم أول من اضطلع فعليًا في وضع أقدم التصورات حول النظريات العلمية العقلانية، حيث بدأت محاولاتهم نحو فهم أكثر عقلانية للطبيعة في الفترة بين سنتي 650-480 ق.م على يد مدرسة ما قبل سقراط الفلسفية.
كان طاليس أول من استخدم التفسيرات الطبيعية، عندما أعلن أن كل حدث له سبب طبيعي، وعلى الرغم من أنه عُرف بقوله «كل شيء تملؤه الآلهة»، بل وضحّى بثور عندما اكتشف نظريته.
أما ليوكيبوس، فقد طوّر نظريته الذرية القائلة بأن كل شيء يتكون بالكامل من عناصر خالدة مختلفة لا تتجزأ تسمى الذرات، وهي النظرية التي وضع ديموقريطوس تفاصيلها بعد ذلك.
افترض الفلاسفة الهنود القدامى أفكارًا مشابهة حول النظرية الذرية في مدارس نيايا وفايشيشيكا والمدارس البوذية الفلسفية.
كما انتهجت مدرسة شارفاكا الفلسفية المنهجية المادية للوصول إلى المعرفة، كما تشككت في أن التصور غير المشروط هو الأساس الوحيد للمعرفة الحقيقية، وحذّرت من أنه إذا كان بإمكان الفرد الاستدلال على الحقيقة، فلا بد له أيضًا أن يتشكك في تلك الحقيقة؛ فالحقيقة المستدل عليها لا يمكن أن تكون غير قابلة للنقاش.
في منتصف القرن الخامس الميلادي، تأسست بقوة بعض عناصر النهج العلمي، حتى قبل أفلاطون، الذي كان من المساهمين الهامين في هذا النهج الناشيء، بفضل تطوير بفضل الفكر الاستنتاجي الذي طرحه تلميذه أرسطو.
في محاورة بروتاغوراس، ذكر أفلاطون وجود تعليم للحساب والفلك والهندسة في المدارس. كما كانت الأفكار الفلسفية في ذاك الوقت معظمها متحررة من قيود الظواهر اليومية والفطرة السليمة.
بلغ هذا الإنكار للواقع مداه عند بارمينيدس الذي جادل بأن العالم واحد، وهذا التغيير والتقسيم لا وجود له.
وفي القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد، استخدم الطبيبان الإغريقيان هيروفيلوس وإيراسيستراتوس التجربة لتوسيع أبحاثهم الطبية؛ حيث وزن إيراسيستراتوس ذات مرة طائرًا في قفص عدة مرات، وأشار إلى أنه يفقد جزءًا من وزنه في الفترات بين أوقات إطعامه.
المنهج الاستنباطي الاستقرائي المتكامل
أعاقت مشكلة الاستقراء محاولات وضع منهج علمي في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، التي هي صياغة وضعانية منطقية، تقول بأنه لا شيء يُعرف على وجه اليقين، إلا ما هو ملاحظ في الواقع. انتقل ديفيد هيوم بالتجريبية إلى أقصى حدود الشك؛ فقال أنه ليس هناك ضرورة منطقية على وجوب التشابه بين المستقبل والماضي.
وبالتالي نحن غير قادرين على إثبات نجاح الاستدلال الاستقرائي نفسه بداعي نجاحه في الماضي. جاءت فرضيات هيوم بعد قرون عديدة من الافتراضات الكثيرة المبنية على افتراضات أخرى كثيرة لا ترتكز على الملاحظة التجريبية والاختبار.
انتقد إيمانويل كانط في كتابه «نقد العقل الخالص» في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي الكثير من فرضيات هيوم التشكيكية، ولكن دون أن يفنّدها.
ظلت فرضيات هيوم مسيطرة بقوة على وعي الطبقات المتعلمة في القرن التاسع عشر الميلادي، حيث كان التركيز حينئذ على مناقشة ما إذا كانت الطريقة الاستقرائية مازالت صالحة.
لاحظ أورستيد انحراف البوصلة إذا قطعتها دائرة فولتية سنة 1820 م.
تأثر هانز أورستد بشدة بكانط، خاصة بكتاب كانط «الأسس الميتافيزيقية للفلسفة الطبيعية». لخّص أورستد وجهة نظره العامة حول المنهج العلمي، التي تجاوز في بعضها وجهات نظر كانط، فقال: «للوصول إلى الكمال في معرفتنا للطبيعة، علينا أن نبدأ من النقيضين التجربة والفكر نفسه.
… كان من الواجب أن تنتهي الطريقة السابقة بقوانين الطبيعة، التي كانت تستخرج من التجربة، بينما الطريقة الأخيرة يجب أن تبدأ بالمبادئ، وتدريجيا، وتتطور شيئًا فشيئًا، حتى تصبح أكثر تفصيلاً من أي وقت مضى.
وبطبيعة الحال، أنا أتكلم هنا عن الطريقة كما تتجلى في عملية الفكر البشري نفسه، وليس كما هو موجود في النصوص المكتوبة، حيث وضعت قوانين الطبيعة التي استخرجت من التجارب السابقة أولاً، لأنها مطلوبة لشرح التجارب.
فعندما ينحدر المُجرّب في طريقه نحو القوانين العامة للطبيعة ليلتقي بالميتافيزيقي في صعوده، يصل العلم إلى كماله.» وفي سنة 1811 م، ضرب أورستيد في كتابه «المدخل الأول إلى الفيزياء العامة» أمثلة على خطوات الملاحظة والافتراض والاستنباط والتجربة.
وبناءً على أبحاثه حول الكهرومغناطيسية التي أجراها سنة 1805 م، اعتقد أورستيد أن الكهرباء تنتشر من خلال هيئة ترددية (تتذبذب). وبحلول سنة 1820 م، شعر أورستيد بالثقة الكافية في معتقداته، فعقد العزم على شرحها في محاضرة عامة، وفي واقع الأمر لاحظ أورستيد التأثير المغناطيسي الصغير للدائرة الكلفاني (الدائرة الفولتية)، دون تجربة.
تحديد مبادئ العلوم
في سنة 1831 م، نشر جون هيرشل كتابه «محاضرة تمهيدية لدراسة الفلسفة الطبيعية» التي حدد فيه مبادئ العلوم، حيث قال بأن القياس ومقارنة الملاحظات ضروريان للعثور على الأمور العامة في القوانين التجريبية التي تصف أنظمة الظواهر، ثم يأتي دور الفلاسفة الطبيعيين للعمل للوصول إلى هدف أعلى للعثور على قانون الطبيعة العام الذي يشرح أسباب وآثار وجود تلك الأنظمة.
يجب العثور بعد ذلك على فرضية توضيحية لتقييم الأسباب الحقيقية المستمدة من التجربة، على سبيل المثال الدليل على تغير المناخ في الماضي قد يكون نتيجة لتغيرات في شكل القارات، أو التغيرات في مدار الأرض. أي أنه يمكن الاستدلال على الأسباب المحتملة قياسًا إلى الأسباب المعروفة لظواهر مماثلة.
كان من الضروري تقييم أهمية الفرضية؛ فقال: «يجب أن تتمثل خطوتنا التالية في التحقق من الاستقراء على توسيع نطاق تطبيقه على الحالات غير المنصوصة في الأساس، بتغيير الظروف التي حددنا عليها أسبابنا، بهدف التأكد مما إذا كان تأثيرها عام أم لا؛ ولدراسة تطبيق قوانيننا في أقصى الحالات.»
كان كتاب ويليام ويويل «تاريخ العلوم الاستقرائية، منذ القدم وحتى الوقت الحالي» (1837) مقدمة لكتابه «فلسفة العلوم الاستقرائية» (1840) الذي حلّل فيه المنهج بضرب الأمثلة على تكوّن الأفكار. تبعت محاولات ويويل خطة بيكون لاكتشاف فن فعال للاستكشاف.
سماه طريقة الفرضية الاستنتاجية (التي نسبتها دائرة المعارف البريطانية لنيوتن)؛ وهو أيضًا من صاغ مصطلح «عالم». درس ويويل الأفكار محاولاً بناء علم عن طريق توحيد الأفكار إلى حقائق. وحلّل الاستقراء إلى ثلاث خطوات:
اختيار الفكرة الأساسية، مثل المكان أو العدد أو السبب أو التشابه.
وضع تعديل أكثر خصوصية لتلك الأفكار، مثل دائرة أو قوة منتظمة، إلخ.
تحديد المقادير
وفق ذلك، قام بتطبيق تقنيات خاصة للعدّ مثل المربعات الدنيا والمنحنيات والمتوسطات، وطرق خاصة تعتمد على التشابه (مثل أنماط المطابقة)، وطريقة التدرج، وطريقة التصنيف الطبيعي (مثل التصنيف التفرعي).
ولكن دون الحاجة إلى استكشاف أو اختراع أو فطنة أو عبقرية في كل خطوة. كان مفهوم ويويل للعلم مشابه لمفهوم هيرشيل، واعتبر أن الفرضية الجيدة يجب أن تربط بين الحقول التي اعتُقد سابقًا أنها غير مترابطة، وهي العملية التي سمّاها «توافق الأدلة».
ومع ذلك، رغم اعتقاد هيرشيل أن التطور سيتواجد بصورة طبيعية وليس بطريقة خارقة، عارض ويويل ذلك، واعتبر أنه لا يوجد سبب طبيعي ظاهر للتكيف، لذا فالسبب المجهول لا بد وأن يكون إلهيًا.
مساهمة ستيوارت ميل
تحفّز جون ستيوارت مل لنشر كتابه «نظام للمنطق» سنة 1843 م، بعدما قرأ كتاب ويويل «تاريخ العلوم الاستقرائية».
يمكن اعتبار مل الحلقة الأخيرة في سلسلة مدرسة الفلسفة التجريبية التي بدأها جون لوك، الذي أكسب المفكرين من بعده سمة أساسية بالبحث بأنفسهم بدلاً من قبول أحكام الآخرين.
واعتقد بأن المعرفة يجب أن تستند على التجربة. وفي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، كان لكلود برنارد أيضًا تأثيرًا، خاصة في تطبيقه للمنهج العلمي على الطب. في كتابه «مقدمة لدراسة الطب التجريبي» (1865)، شرح ما الذي يجعل النظرية العلمية مقبولة، وما الذي يجعل العالم مكتشفًا حقيقيًا.
وعلى النقيض من معاصريه من الكتاب العلميين، كتب برنارد عن تجاربه وأفكاره، واستخدم صيغة الحديث عن نفسه.
كتب وليم ستانلي جيفونز في كتابه «مباديء العلم: مخطوطة في المنطق والمنهج العلمي» (1873, 1877) في الفصل الثاني عشر الذي عنوانه “الطريقة الاستقرائية أو العكسية”، ملخص لنظرية الاستدلال الاستقرائي، فقال:
«بالتالي هناك ثلاث خطوات لعملية الاستقراء:
وضع إطار لبعض الفرضيات من أجل تحديد طبيعة القانون العام.
استنتاج بعض النتائج المترتبة على هذا القانون.
مراقبة ما إذا كانت النتائج تتفق مع مهام معينة تحت الاختبار.»
وضع جيفونز بعد ذلك أُطُر تلك الخطوات في صورة احتمالات طبقها بعد ذلك على القوانين الاقتصادية. ويرى إرنست ناغل أن جيفونز وويويل لم يكونا أول الداعين إلى مركزية الفرضية الاستنتاجية في منطق العلم.