وصف بملك التشاؤم وبأنه رسول البؤس والعزلة الأكبر، لكنه مع هذا يمتلك أفكارا تبعث على بعض الأمل، وسيتضح ذلك حين سنتعرف معا على 9 دروس من شوبنهاور، ومن بينها درس في الحب!
قبل قرنين تقريبا نشر هذا الفيلسوف الذي وصف بالعبقري كتابه الأول والأهم العالم إرادة وتمثل. تأثر ببوذا وشعر شعر مثله بمعاناة البشرية من الألم والخوف والمرض والمعاناة.. وحاول مثله أن يجد حلا.
حتى إنه جدف لا يمكن أن يخلق هذا العالم إله إنما شيطان هدفه الاستمتاع بمعاناة البشر!، مع هذا حاول أن يجد حلا، وسنستعرض معكم هذا الحل الذي باتت تتضح مع الزمن أهميته،
عرف بكتابه العالم إرادة وتمثل الذي صدر عام 1818 بلغة سهلة غير معهودة بين الفلاسفة المعاصرين له وخاصة هبجل.
لم يحظ الكتاب بأي اهتمام، فأهمل الكتاب وبيع ورقا تالفا، ولكنه أصاب الشهرة وأصبح مؤثرا بعده، في عدد كبير من الفلاسفة وعلماء النفس والفيزياء مثل نيتشه وفتغنشتين وفرويد وآنشتاين وغيرهم.
في هذا الكتاب قام بتسمية قوة أساسية تتحكم بنا، ولم تكن تحظى بالاهتمام، وقال إنها أقوى من السببية والمنطق والعقلانية والحس الأخلاقي.
يقوم الكتاب على فكرة أن العالم الذي نراه غير حقيقي بالمرة، فهناك قوة خفية تقف خلفه وهي إرادة العيش، وبالألمانية wille zum leben .. وأن كل ما نراه هو ما تفرزه مرشحاتنا الشخصية
وهذه المرشحات بالمناسبة هي نفسها الموجودة في الفلسفة الهندية تحت اسم حجاب المايا. ويؤكد آرثر ان هذه الحجب تمنعنا من رؤية الواقع الحقيقي. والذي هو في جوهره عبارة عن إرادة، أي حاجة تتطلع دائما إلى المزيد.
الآن وبعد 200 سنة على ظهور هذا الكتاب، ما هي حاجة الإنسان الآن للعودة إليه؟ وماذا يمكن ان يقدم لنا؟
في هذا الفيديو سأتحدث باختصار عن سبعة عشرة دروس مهمة يمكن لشوبنهور أن يقدمها لنا في الحياة.
الدرس الاول: درس الحب!
إرادة العيش داخلنا تدفعنا بقوة وإلحاح دائم إلى الامام، وتجعلنا نتلهف دائما لتحقيق مصالحنا ورغباتنا
أكبر هذه الرغبات هي الرغبة بالجنس، فنحن جميعا كنا نتخيل في سنوات المراهقة سيناريوهات جنسية إيروتكية مع الشريك المرغوب. طبعا هذا لا يمنع أن هناك من وصل أرذل العمر وما زال يعيش وسط هذه الاحلام اللذيذة!
كان شوبنهاور ينظر للحياة على أنها شر مُطلق. تحيل كل سعادة إلى تعاسة، وكل راحة إلى شقاء، وكل صحة إلى مرض، واعتبر أن الشقاء والعناء والمرض والألم والموت الأصل والأساس، وما عدا ذلك هو الاستثناء،
مع هذا لم يقلل شوبنهور من شأن الحب، على العكس أعرب عن احترامه الشديد له.. لكنه انزعج من إساءة فهم الناس له لأنهم يعتقدون إنه مجرد تجربة تحدث بالصدفة ومن اول نظرة!
ويقول هذه نظرة سطحية لأن الحب تجربة عميقة، مرتبطة مباشرة بإرادة العيش، وأهم غايات هذه الإرادة وهي التكاثر أو إنجاب الأطفال.
ما سر كل هذه الضجة حول الحب؟
ويتساءل ما سر كل هذه الضجة عن الحب؟ لماذا كل هذا الإلحاح والجهد المبذول من أجله؟
ويرد قائلا: لأن الهدف من كل علاقة حب، هو اهم هدف من بين كل الاهداف في حياة اي شخص. ولهذا هو يستحق كل هذا الاهتمام.
طبعا نحن لا نفكر بالأطفال أثناء الاتفاق على موعد غرامي.. لأن إرادة الحياة داخلنا ستخدعنا وتجعلنا نفقد عقولنا في تلك اللحظات لكي تنجح في تلبية طلباتها.
لماذا؟ يجيبنا شوبنهور: لأننا لن نتكاثر بشكل صحيح إلا إذا تجاوزنا عقولنا! ولهذا احتج على مظاهر الملل والضجر والتضحيات من أجل إنجاب الابناء.
وقال لو فكرنا جيدا لاخترنا شركاء مختلفون تماما لحياتنا الجنسية. وليس وفقا لأوامر إرادتنا التي تجعلنا نظن أنهم شركاء مثاليون، والحقيقة هي أن اختيارنا خاضع لرغبتها بدفعنا للتكاثر بأي طريقة، مهما كانت عواقب ذلك علينا.
هي لهذا إرادة استبدادية، تحرضنا على اختيار شركاء معينين لتعويض ما ينقصنا، الطويل مع القصيرة، الأنف الكبير مع أنف صغير.. الأسمر مع الابيض، الرجال الضعفاء مع النساء الحازمات وهكذا.
ويقول نحن نذهب أبعد ونحب شريكا يكرهنا أحيانا ولا توجد علاقة مودة بيننا عدا الرغبة الجنسية، ومع هذا تقنعنا هذه الإرادة بأن الشريك الأفضل بألف طريقة وطريقة، وعلى حساب سعادتنا !
وهذا ما يحصل فعلا، فكثير من الزيجات حصلت دون وجود توافق ولو على ادنى المستويات.
بعد كل معاشرة جنسية أكاد أسمع ضحكات الشيطان!
ويضرب مثالا، بشعورنا بالوحدة والفراغ بعد لحظة وصولنا الأورجاسم أو الذروة الجنسية، بدلا من ان نشعر بالسعادة. وقال حرفيا “أكاد اسمع بعد كل انتهاء مضاجعة، الضحكات العالية للشيطان” !
يعتبر شوبنهور أن وعينا هو سبب تعاستنا، ويشبه حالنا بحال حيوان الخلد، الذي يقضي حياته في الظلام وبين الحفر. من اجل رعاية أبنائه الذين يشبهون دود الأرض ، ويبذل المستحيل من اجلهم.
يقول نحن نستحق الشفقة مثل هذا الحيوان، نقتل أنفسنا من اجل أن نفوز بعمل جيد يسمح لنا بالفوز بزوجة جميلة وانجاب ابناء ناجحين، وبعد خمسين سنة نكتشف حماقتنا !
ولماذا نرتكب هذا الخطأ؟ لأننا نعتقد أننا ولدنا لكي نكون سعداء! وهذا مصدر تعاستنا لأن الحياة وهذا الوجود لم يوضعا من اجل أن نعيش سعداء! وهذا هو معنى التجاعيد على وجوه المسنين.
وما هو الحل؟ هناك حلان الأول أن نكون زاهدين نتحكم بمشاعرنا الأنانية والجنسية وشهوتنا للهيمنة والتسلط والامتلاك.. نعيش خارج المدينة، ولا نتزوج.
الحل الثاني: ان نكرس وقتنا للفن والفلسفة وهذا سيسمح لنا بأن نعيش الحياة ولا نقاومها ولكن مشاهدة الأفلام والمسرحيات وسماع الموسيقى وممارسة فن الرسم وما شاكل، سيجعلنا نرى الحياة بلا أوهام.
الدرس الثاني: العزلة شر لابد منه!
نحن جميعا تنتابنا حالات نشعر فيها بالوحدة الملل العزلة وفقدان لطعم ومعنى السعادة الحقيقية مج
فبماذا ينصحنا شوبنهور حول هذه الامور؟
ينصحنا باكتشاف كل منا نفسه عبر العزلة: فعبرها فقط نكتشف أنفسنا، وبها نستطيع أن نكون من نكون حقا
حتى أنه يربط بين العزلة والحرية ويقول: من لا يحب العزلة لا يحب الحرية، لأننا لا نفوز بالحرية إلا حين نكون لوحدنا، أي أن الحرية صنو العزلة.
ويؤكد أن أكثر المتميزين بين البشر هم أولئك القادرون على العزلة، وكلما ازدادت قدرات الناس الاجتماعية، قلت قدراتهم الفكرية.. والعكس بالعكس.
والسبب أننا نضيع نسبة كبيرة من طاقتنا ليس على تطوير قدراتنا الفكرية، بل على استنزافها في علاقاتنا الاجتماعية.
بمعنى ان العلاقة عكسية: فكلما قللنا من علاقاتنا الاجتماعية، كسبنا وقتا أكبر لفهم معنى الحياة والوجود، ومن نحن حقا!
أعرف أن هذه الدعوة صعبة على كثيرين.. ولكن يمكن الموازنة، فنحن بحاجة لمواجهة أنفسنا، ومراجعة جميع تصوراتنا ومواقفنا. ويجب الانتباه نحن هنا لا نتحدث عن مواقفنا الاجتماعية أو الاقتصادية، إنما موقف كل منا كذات حرة تحاول أن تفهم موقعها في هذا العالم والوجود، وأشكال علاقاتنا وتواصلنا مع كل شيء.
لكن كيف نحقق هذا التواصل؟ يجيب شوبنهور، بالحرية! وهي لن نجدها إلا حين ننعزل تماما بين فترة واخرى.. ولكن كيف ننعزل؟
يقول: بالاعتكاف مثلا، وإبعاد كل مصدر خارجي عنا، نقطع التواصل حتى مع أقرب الناس إلينا، وطبعا الانترنت والموبايل وجميع وسائل التواصل.
ولكن يجب أن ننتبه ولا نقول سنمارس طقس الوحدة مثلا.. هذا خطأ يجب أن نميز بين العزلة والوحدة..
الوحدة هي أنك تشعر بحاجة ماسة إلى الآخرين، ولا تستطيع ذلك.
العزلة على العكس قرار واع تتخذه بنفسك، وأن تستمع بلقائك أخيرا مع نفسك، وعقد اجتماعات متواصلة معها!
اجتماعات لا مجال أبدا لدخول طرف ثالث عليها ! .. هناك اثنان فقط أنت وذاتك او نفسك!
شوبنهاور هنا لا يشجعنا على البقاء في عزلة، لكنه يدعو الجميع إلى أن يتعلموا فن العزلة لمقابلة أنفسهم، والعثور عليها، على أن يتخذوا هذا القرار بين فترة وأخرى.
ماذا نحتاج لكي نطبق هذا الدرس في حياتنا؟ نحتاج فقط لاتخاذ قرار العزلة والاعتكاف في وقت نحدده بأنفسنا بين فترة وأخرى. (وهو قرار مشابه لقرار الرسول الكريم بالاعتكاف في غار حراء، وكذلك الإمام الغزالي.
العزلة الدينية محاربة للنفس وليس اكتشافا لها
ويجب التنبيه، إلى أن العزلة الدينية، أمرها مختلف.. لأنها عزلة تدعوك إلى محاربة نفسك لصالح عقيدة ما خارجة عنك، وليس اكتشافها).
العزلة التي يعنيها شوبنهور هي بينك وبين نفسك فقط، الطرف الثالث غير موجود، سواء كان إلها تؤمن به ذهنيا، أو شخصا موجود في الواقع).
اقرأ كتابا، تمشى لفترات طويلة في الخارج، تأمل في العالم حولك، بهذه الطريقة ستعيد اكتشاف ذاتك.
الإنسان المعاصر أصبح شخصا منذورا للخارج بالكامل تقريبا، تتقاذفنا أخبار مواقع التواصل، مشاكلنا اليومية، مشاغل العمل.. بسبب كل هذا نعاني من فقدان قدرتنا على التركيز، وتحقيق الأهداف التي وضعناها على المدى البعيد.. هذا إذا أتيحت الفرصة لتذكرها أصلا !
قرار العزلة أو الاعتكاف، يطلق سراح أنفسنا، لماذا؟ لأننا أسرى واقعنا، وأحداث حياتنا اليومية، أسرى قطار الأحداث المتلاحقة التي لا تنتهي أبدا. نحتاج إلى التوقف والنزول منها بين محطة والأخرى. ولكن شرط ان تكون محطة خالية من البشر! والغاية أن نستعيد قدرتنا على السيطرة والتحكم بحياتنا.
سأسأل من يستمع لي الآن متى خرجت آخر مرة لوحدك وسرت في طريق زراعي أو غابة أو تمشيت على نهر؟
هل تتذكر الإحساس المذهل العذب الذي شعرت به آنذاك؟
أنا جربت ذلك كثيرا، أعيش قرب هذه الغابة وأسير في طرقها وحدي غالبا، هناك أشعر أنني خرجت من سجن هائل، عدت إلى حيث نفسي.. التأمل في مظاهر الطبيعة، يجلب الصحة ليس للسجين فقط بل للمريض والمقهور والمظلوم والمكلوم واليائس وكل المتعبين.
وبرأيي أن هناك سببين لهذا الإحساس… الأول إحساسنا بالتحرر والخروج من زنزانة الحياة اليومية، والثاني إحساسنا بجمال الطبيعة.. وهذا الإحساس يتولد لأننا نشعر بحياديتها معنا بالكامل، حتى أنها لا تعيرنا انتباهها، بل نحن من يعيرها الانتباه!
ولا أعرف السبب ربما هو إحساسنا بالعودة إلى حضن الطبيعة التي خرجنا منها بإرادتنا، حتى أصبحنا نزورها كما نزور المتاحف الفنية وحدائق الحيوان!
نعود إلى شوبنهاور.. ودرسه المهم لنا، وهو أن نهتم بعطلتنا مع أنفسنا أكثر من اهتمامنا بعطلتنا الدورية في العمل أو الدراسة.
ولكن كيف؟
أن نضع فقرة جديدة في جدول عملنا اليومي أو الأسبوعي ، وتحت عنوان محدد مثل وقتي.. لحظتي، ساعتي الخاصة أو الخالصة.
ماذا نفعل في هذا الوقت؟ نخرج لنتمشى في مكان هادئ.. نجلس في حديقة ونتأمل.. أو نكتب لساعات في شأن ما، أو نقرأ كتابا يساعدنا على التوغل بعيدا في دهاليز أنفسنا، واكتشاف ما هو جديد كليا داخلها،
المهم أن نرى العالم حولنا بشكل آخر لم نعتد عليه سابقا.
الدرس الثالث: السعادة وهم.. تخلص فقط من المعاناة!
في الأوقات العصيبة.. نعتقد اننا لن نجد أفضل من حكماء وفلاسفة الأمل لمساعدتنا.
في الحقيقة أن الأمر قد يكون عكس هذا تماما!
فالأفكار التي يقدمها لنا فيلسوف التشاؤم قد تساعدنا أكثر منهم!
لأن شوبنهاور، ومن بين جميع الفلاسفة، كان أكثر من صرف وقته في التفكير في حالاتنا الذهنية المتقلبة مثل: الملل ، والعزلة ، والوحدة – أو “استحالة الفوز بالسعادة”.
ورؤى شوبنهاور لهذه الحالات ربما ستساعدنا على التصالح مع أنفسنا وعلى الأخص حين نمر في ظرف استثنائي.
فكرة شوبنهور هي باختصار تقول: تخلص من المعاناة.. تعش سعيدا!
والسبب هو أن السعادة تكمن في غياب المعاناة!
ويوضح بان ما نسميه سعادة هو في الحقيقة أمر سلبي بالكامل ولا علاقة له بأي شيء إيجابي! لكنه لم يربط بين السعادة ومشاعر الفرح والسرور، فهذه يراها مجرد محاولة للهرب من الملل والسلبية والكآبة.
مثلا نحن لا نشعر بقيمة صحتنا، ولا حتى بوجود جسدنا، إلا حين نشعر بالصداع والألم! كذلك الحال حين نشعر بالضيق النفسي، نتيجة لمواجهة موقف عاطفي من حبيب أو حبيبة. عندها فقط نشعر بأننا كنا سعداء.
والحل أن نستعيد لحظاتنا السعيدة فنصبح عندها سعداء.. كيف؟
أن يتوقف كل احد منا الآن ويقول: أي أنا الآن؟ أين ذهبت تلك اللحظات السعيدة؟ كيف أسترجعها؟
نقارن بين الواقع السعيد السابق ومعاناتنا الآن. ثم نحاول التخلص من هذه المعاناة.
ولكن ماذا نفعل يا شوبنهاور إذا واجهنا موقفا سيئا ولا يسر أحدا؟ يقول يجب أن يعثر كل منا على طرقه الخاصة لإزالة التجارب المؤلمة التي يمر بها.
مشكلة البشر أنهم يركزون على قضية الاستمتاع بفرص الحياة وخلقها بأي طريقة. لكننا ننسى أننا نتجاهل مشاكلنا في الوقت نفسه، بل ربما نخلق مشاكل إضافية لها، بحجة الفوز بلحظات سعيدة.
يجب أن نواجه مشاكلنا، وإلا لحقت بنا!
يجب أن نواجه مشاكلنا لا أن نهرب منها بحجة السعادة.. وإلا فأنها ستلحق بنا مهما حاولنا الهرب منها ..وستقبض علينا بالجرم المشهود إن عاجلا أم آجلا.. وحينئذ لات مناص، كما تقول العرب!
بدلا من هذا يجب مواجهة مشاكلنا مباشرة، وحينها سنتمكن من قلع جذورها نهائيا، وإلا عادت لتنمو مجددا وتكون سببا أكبر بكثير مما سبق لمعاناتنا
هذه الطريقة سنضاعف من فرصنا في القبض على ثمرة السعادة! ولنضرب مثالا..
لديك عمل بالكاد يكفي لدفع تكاليف الحياة.. في يوم ما شاهدت سيارة أفضل من سيارتك، فماذا يجب أن تفعل؟.
أن تسيطر على هرمونات الرغبة بالاستهلاك داخلك، التي تحثك على التمتع بسيارتك الجديدة، أنت تعرف أن عمر هذه المتعة قصير، لتبدأ بعدها المعاناة من نتائج هذه الرغبة ..
الموقف الصحيح بدلا من ذلك ان تحافظ على سيارتك، وتخصص هذا المبلغ للدخول في مشروع جديد إضافي، أو كورس جديد تتعلم عبره خبرات جديدة تتيح لك الارتقاء في عملك..
هكذا تكلم شوبنهور !
افهم عقلك الباطن
يمكن للإنسان أن يفعل ما يشاء.. لكنه لا يستطيع أن يشاء ما يشاء!
بعبارة أخرى بإمكاننا أن نفعل ما نريد، لكننا لا نستطيع أن نريد ما نريد!
قلنا إن الإرادة هي اساس فلسفة شوبنهور.. ومن خلال كتابه إرادة وتمثل، نفهم ان الإرادة قوة نفسية خفية داخل الإنسان وكل شيء، قوة عمياء، لا عقلانية، ترغمنا على الحياة والتكاثر والحركة، نحن نظن عادة أننا نتحكم بأفعالنا ورغباتنا.
وهذا غير صحيح كما يقول شوبنهور ! فهناك شيء أكبر منا.
ول ديورانت وصف حالنا مع هذا الشيء مثل رجل أعمى قوي يحمل على كتفيه رجل أعرج مبصر، فنحن أشبه بفارس يقود حصانا أو فيلا ضخما اسمه اللاوعي.. نستطيع قيادته فقط، أما السيطرة عليه تماما فكلا!..
الحل الوحيد أن نصبح افضل أصدقائه، ولكن حاول اكتشاف نقاط ضعفه وقوته، ما يعجبه وما لا يعجبه.. ما يجعله خائفا أو غاضبا …لطيفا أو سخيفا !!
يجب أن لا ننسى استحالة إرغامه على فعل شيء لا يريده، يمكن فقط جعله يبلغ أهدافه أسرع ما يمكن.
أنت مثلا تحاول أن تخفض وزنك أو أن تقطع السكائر، وهذا بالطبع سيغضب الفيل المتطلب داخلك، وسيحتج بشدة!
ماذا تفعل؟ إنه يريد التدخين، وسينتقم منك إن امتنعت! سيجعلك تشعر بالصداع الغضب الانزعاج الأرق إلخ
الحل حاول أن تجعله يغضب قليلا كل يوم، على أن تمنحه مكافأة إلى أن يعتاد على الامر في النهاية. اجعل التغييرات منتظمة لكي تحقق نتائج واضحة في النهاية.
- قلّل توقعاتك
كيف نطمئن من اننا سوف لن نكون في أسوأ حال؟
أفضل حل هو تقبلنا لفكرة الفوز بأقل قدر ممكن من السعادة
نحن نتألم أكثر كلما كانت آمالنا أكبر..
من هنا يرى شوبنهور أن الحياة بدون معاناة افضل بكثير من الحياة بمتعة كبيرة.
نحن في مراحل شبابنا الأولى نحاول أن نكافح بقوة لتحقيق أحلامنا،
بمعنى آخر نحن نضع نفسنا تحت مطرقة الإجهاد والتوتر المستمرين، ذلك لأننا نرسم أحلاما كبيرة.
هذا يجعلنا نفهم مجريات حياة الناجحين والمشاهير حاليا، فهي مليئة بالتوتر، فهم يطمحون بتحقيق أهداف كبيرة جدا،
هذا يعني أنهم يكافحون من جهتين
الأولى لتحقيق مشاريعهم، والثانية مكافحة حالات الإجهاد والكآبة بتناول عقاقير للتهدئة وخفض التوتر،
الكفاح في الجانب الاول نستطيع مشاهدته، لكن الجانب الآخر وراء الكواليس مثل الادمان على المخدرات وغيرها.
والحل الكف عن هذا التوتر المبالغ به. والتركيز على تخفيض الألم.
الرغبات تهيمن على حياتنا.. وتضعف كلما كبرنا..
هذا ما يجعلنا نبحث عن ألم أقل وليس سعادة اكثر.. كلما تقدمنا في العمر،
عندها نبدأ ندرك كم كان سعينا المحموم مصدرا للتعاسة والألم.
تقليل الألم، أهم وأولى من الركض وراء الملذات!
شوبنهاور لا يلوم الناس هنا، بل يفسر الأمر ويقول، هذا ما تفعله الإرادة العمياء بنا. إننا نجعلها تهيمن على حياتنا. ولا يضعف دورها إلا حينما نتقدم في العمر.
هذا معناه أننا يجب أن نعمل على معرفة طريقتنا في رؤية وفهم العالم وأنفسنا طبعا.
نحتاج لن نكون واقعيين ونحدد اهدافنا على نطاق معقول، وكذلك أكثر تعاطفا مع الآخرين، لا أن نطالبهم بالتصرف بمثالية.
كذلك لا حاجة لن تغير علاقاتك، أو شريك حياتك.. لمجرد أن فيه شيء ما لا يعجبك.
الحياة في صحة وسلام وسعادة أهم بكثير من الشهرة وجمع الأموال.
هذا الدرس يقول باختصار: إن أسلوبنا في رؤية العالم وأنفسنا غالبا ما يكون هو المصدر الأكبر لتعاستنا
الدرس الخامس: كن عطوفا..لأن السعادة ليست هدف الحياة
يضفي شوبنهور أهمية كبيرة على التعاطف ويرى أن التعاطف هو اساس الأخلاق، ويربط هذا الأمر بمشكلة المعاناة
فهو يرى أن هناك طرقا عديدة للتحرر منها طريق الفن وطريق التقشف وعدم الرغبة وطريق الأخلاق، ويميز بين الفن والأخلاق ويقول إن الفن علاج مؤقت، أما الأخلاق فعلاج دائمي.
رأينا أن هذا هو الفرق بين الدين والأخلاق.. لأن الأخلاق تحتاج دينا لكي تصبح سلوكا وعادة وعرفا.. وهنا المشكلة. فحين يدخل الدين “وخاصة ذلك الذي يسمى صحيح”، يفسد كل شيء!
- السعادة ليست هدف الحياة، فهي ليست أكثر من لحظة عابرة
- لأن الحياة أصلا بلا هدف !
السعادة الحقيقية الوحيدة التي يعترف بها شوبنهور هي النوم فهو كما يقول ربما يكون أفضل لحظات سعادة الإنسان!
ولكن الحياة لا تطاق دون أخلاق.. ودليل أخلاقي. لذا يجب أن نعثر على معنى ما لحياتنا في هذا العالم
وهذا المعنى يكمن في تعلمنا كيف نكون رحماء تجاه الآخرين. وأفضل طريقة لذلك حسب شوبنهور ..أن نتعلم فن الرحمة.
ويؤكد أن سعادتنا على حساب غيرنا، ليست سعادة، والسبب كما يقول هو اننا جميعا مظاهر لتلك الإرادة
والقاعدة الاخلاقية الاساسية يقول: لا تؤذي أحدا، ساعد أي شخص بأقوى ما تستطيع.. وتأكد من ذلك دائما.
6 حارب الملل ولا تتركه مرتاحا!
الملل قاتل بمعنى الكلمة، ويمكن أن يعتبر عقوبة، وهذا ما يعرفه الذين جربوا السجن الانفرادي فهم سيمرون بحالة من الملل الرهيب إلى درجة أن سجانيهم لا يتركون لهم أي فرصة للانتحار. الملل قاتل حقيقي.
ولكن كيف ينشأ الملل؟. يجيبنا شوبنهاور: ‘من خلال الشعور بالوحدة والخمول’،
ثم يتساءل من هما اكبر عدوين للسعادة؟ إنهما الملل والألم.. وهما من أشكال المعاناة التي لا يمكن تجنبها في حياتنا
لكنهما يتبادلان الادوار: ويختصر قائلا إن ‘الحياة كالبندول تتأرجح ذهابًا وإيابًا بين الألم والملل،’ فنحن ‘نتألم عندما لا نفوز بشيء نرغب به بشدة، لكننا على النقيض من ذلك، نشعر بالملل عندما لا نجد ما يثير رغبتنا.
وتكمن أهمية الرغبات في أنها تجعلنا مشغولين، فهي تمنح للحياة ولوقتنا معنى، إنها تصرفنا عن الوقوع في فراغ الحياة الخالية من المشتتات.
فنحن حين نفقد الرغبة، نسقط في هاوية ذاتنا العميقة، حتى نلاحظ في النهاية أن الوجود اصبح عبئا لا يطاق.
فإذا غاب الألم.. حل الملل مكانه! ولا وجود للسعادة ولا المتعة كما نتوقع إلا للحظات!
لماذا؟ لأننا نطمح لشيء وحين نحققه لا نشعر بالسعادة المتوقعة منه! بل نطلب أكثر، لنصيب ما نطمح له ثم نعاني من الملل مجددا وهكذا !!
لماذا؟ العلة في الإرادة العمياء داخلنا.. إنها لن ترضى أبدا بما تحصل عليه!
هل تتذكرون الفيل؟ أنصح الذي نسيه أن يعود لبداية الفيديو، هذا الامر يفسر لنا الكثير مما نسمع به من مشاكل الناجحين والأغنياء، الذين يعانون من الكآبة وقد ينتحر بعضهم..
والسبب أنهم لا يعرفون مشكلة الإرادة داخلهم التي لا تشبع ولا تمل!
ولا يعرفون بالتالي كيف يصطادون السعادة كما شرحنا في الفقرات السابقة، وهذا هو سبب شعورهم باللاجدوى والعدمية، وكثير منهم يسقط في وحل المخدرات والعقاقير، تكثر في عوائلهم ظواهر الطلاق، وحالات الانتحار.
الحل وفقا لفيلسوفنا، التركيز على الداخل أكثر من الخارج !
التركيز أقل على الأملاك والعقارات والأموال والتفاصيل الخارجية، والقاعدة بسيطة.. تحاشى أي شيء يلمع ومثير لتلك “الإرادة” العمياء، فستعاني أقل وتسعد اكثر !
ركزر على علاقة عقلك بجسدك وروحك بمشاعرك
ركز اكثر على علاقة عقلك بجسدك.. روحك بمشاعرك،
تأمل أكثر فهذا يجعلنا ننتبه للتفاصيل الصغيرة.. نهتم بها ونكتشف أهميتها،
حاول أن تكون ممتنا مما انت فيه.. والغاية ليس الامتنان بحد ذاته، إنما تذكر النعم التي فيها.
مع هذا فإن قليلا من الملل قد يكون حافزا فهو عامل محرك للنشاط، بعضهم قال قليل من الملل مفيد ولا يضر.
غير إن شوبنهاور اشترط أن لا يكون الملل سببا لإلهامنا بالقيام بمهام يسميها تافهة مثل: لعب الورق، وتصفح مواقع التواصل، والمزاح أو القيام بأي شيء بأي شكل.
ويوضح السبب وهو ان الملل يقودنا إلى أسوأ الرذائل ومنها: الإفراط ، الإدمان، البذخ والفخفخة السمجة، الروعة. نحن نضاعف ملذاتنا من خلال تنويع احتياجاتنا.
وهنا سنكتشف ظاهرة غريبة يصعب تمييزها ظاهريًا، فليس من السهل تمييز حياة الملل عن حياة الرفاهية النشطة. (وقد يكون مرد هذا إلى أننا كنا نعاني بالفعل من الملل المزمن قبل وقت طويل من حالة “الملل” حاليا).
الملل شيطان العاديين وليس المبدعين
هناك ايضا علاقة وطيدة بين الملل والإبداع والمبدعين. ويقول شوبنهاور “إن عقل العبقري نشط باستمرار، ولا يحتاج هدفا آخر، لأن عقله يصبح نبعا ينضح باستمرار بأسباب المتعة، بحيث لا يمكن أن يقترب منه الملل. هذا الشيطان الذي يظهر باستمرار للناس العاديين”.
المستمدة من موارد داخلية غنية، ليس من النوع الذي يخفف من الملل ؛ يقاوم الملل. يسعد العقل النشط ، ليس من خلال دوران الرغبات ، ولكن في فعل التفكير نفسه.
لذا فإان بيئة قليلة الإلهاءات هي شرط مثالي لحياة فكرية مزدهرة. ولو افترضنا امتلاك المرء للقوى الفكرية الصحيحة في المقام الأول، فقد يسفر انخفاض التحفيز إلى زيادة النشاط الفكري.
يقول شوبنهور: تنشط مخيلتنا كثيرا كلما قل تماسنا مع العالم الخارجي الذي تستقبله وتنقله إلينا الحواس. العزلة الطويلة في السجن، أو في غرف المرضى، الهدوء والشفق والظلام مفيد لنشاطها؛ فعبرها تنطلق مخيلتنا بشكل تلقائي.
الدرس السابع: اخرج من الكهف!
يقول شوبنهور اننا نعيش كرجال الكهف المقيدين الذين وصفهم أفلاطون، لا يرون من الحقيقة إلا ظلالها
إرادة الحياة تريد منا أن نبقى سجناء هذا الكهف، كي تتلاعب بحياتنا كما تشاء بطريقة البندول المتحرك مرة باتجاه الامل وأخرى باتجاه الملل .
ولكن كيف نهرب من هذا الكهف المدمر؟ عبر الفن وحده : يقول أو ينصحنا شوبنهور !
علينا أن نخصص مكانا للعزلة وكذلك للفن ! الإنسان كائن مبدع بالفطرة.. الفن يمنحه الفرصة لأن يرتقي بذاته ونفسه
الموسيقى أيضا كفيلة بجعلنا نخرج من هاجس الملل والمعاناة.. فهو يجعلنا نتجاوز الواقع من جهة ونتواصل مع جوهرنا الإنساني والروحي الحقيقي.
قيل قديما أن الدين جدير بأن يوضع في موضع الفن .. من هنا أدرك شوبنهور أن الهرب من سلطة الإرادة عبر الفن، وتأمل الحقيقة الخالدة تصلح أن تكون ايضا نظرية للدين. ذلك الذي سماه في شبابه بميتافيزيقا الجماهير.
ورأى أن المسيحية ديانة متشائمة بامتياز.. وإلا ما معنى الصوم وقهر الإرادة والرغبات ومقاومة الشهوات؟
فلسفة شوبنهاور هنا تجد أن خطابها يتلاقى مع تدعو إليه الأديان بإخماد الشهوات ومقاومة الرغبات
وفسر ذلك بأن إرادة العالم اقوى من إرادتنا، وكلما خف تهييج إرادتنا خفت آلامنا ومتاعبنا.
الدرس الثامن: التشاؤم ليس امرا سيئا
التشاؤم أمر واقعي ونشهده يوميا، لكنه ليس سيئا بالضرورة. لأن هناك نوع من التشاؤم يسمى التشاؤم الدفاعي وهو استراتيجية يضع فيها الإنسان توقعات أقل من المتوقع لنتائج مشروع ما لديه، رغم العوامل المساعدة
هذا يساعدنا على الاستعداد للتحديات. وعادة ما يكون أداء الأشخاص الذين يستخدمون هذه الاستراتيجية جيدًا.
إنهم يدركون ما يمكن أن يعنيه الأداء السيئ بالنسبة لهم وهذا يلهمهم لبذل الجهد في الإعداد، من خلال توقع الأسوأ، فإنهم يحدون من القلق بشأن الفشل.
في ظل هذه الظروف، فإن التوقعات المنخفضة لا تحقق ذاتها. يمكن أن يؤدي التفاؤل غير الواقعي إلى سلوك مخاطرة والإقلاع عن التدخين عندما تصبح الأمور أكثر صعوبة مما كان متوقعًا.
يحتاج الناس إلى ما يكفي من التفاؤل لبدء شيء جديد والتشاؤم الكافي ليروا أن الطريق أمامهم قد يكون صعبًا.
الدرس التاسع: كيف تجعل أغبى الناس عبقريا
قلنا أن الإرادة هي الرجل الأعمى القوي، أو الفيل الغاضب المتطلب
وهذا فيما يتعلق بعلاقاتنا بأنفسنا.. فماذا عن علاقتنا بالآخرين؟
يختصر رأيه شوبنهور في هذه المقولة
نحن لا نريد شيئا لأننا وجدنا أسبابا له، ولكننا نجد اسبابا لأننا نريده.
أننا ابتكرنا الدين والفلسفة لأننا نرغب بأن نحجب عبرهما رغباتنا ، لهذا يسمي شوبنهور الإنسان بالحيوان الميتافيزيقي. لأن الحيوان يرغب بما يشاء مباشرة ولا يحتاج تبريرا منطقيا أو دينيا.
هذا معناه ان الإنسان تسوقه إرادته لا عقله، وهذا درس نستطيع تعلمه ..كيف؟
يقول لا شيء أكثر إثارة وتهييجا للأعصاب محاولة إقناع إنسان بالأدلة والبراهين المنطقية، فهو لن يفهم مهما حاولنا. يجب علينا أن نخاطبه بما يرغب ويريد أي عن طريق إرادته.
ويقول العقلانية والمنطق لا ينفعاننا في حياتنا
ولنا أن نلاحظ أن اغبى إنسان يتحول إلى عبقري زمانه بمجرد إدراكه ان الموضوع المطروح يخاطب مصلحته الشخصية ورغباته. وإرادته.. ويقول قد يبدو الناس وكأنهم مسحوبون من الأمام والواقع انهم مدفوعون من الخلف
لأننا مدفوعون بالغريزة التي لا ندرك عملها نصف الوقت، أما العقل فهو ليس أكثر من وزير للخارجية!
فقد أنتجته الطبيعة لخدمة إرادة الفرد. ولمعرفة الاشياء فقط. بما يخدم الإرادة وليس لإدراك حقيقتها.
أن العقل الناضج يستحق الاحترام ولكن يستحيل أن يحظى بالمحبة!
يقول حتى الجسم نفسه هو من إنتاج الإرادة ..حركة الدم وغيرها.
كما أن العقل يتعب أما الإرادة فلن تتعب أبدا!
ختام
أختم بقولين لشوبنهاور: كل سيرة لحياة هي تاريخ لا جدوى من روايته لمعاناة
وان تتزوج معناه أن نفعل كل ما في طاقتنا من أجل أن يشمئز كل طرف من الطرف الآخر!
لا قيمة للحياة هي متواصلة فقط بفعل الشهوة والاوهام، كل أمة تسخر من الأمم الأخرى وكلهم على حق!
كل مآسينا تقريبا تنبع من صلاتنا بالآخرين،
يُقال إن السماء تحاسبنا بعد الموت على ما فعلنا في الحياة الدنيا.. وأنا أظن أنه بإمكاننا أن نحاسبها أولًا عن «المزحة الثقيلة» للوجود الذى فُرِض علينا من دون أن نعلــم لمـاذا؟ وإلى أي هدف؟
عاش شوبنهاور مجهولا ووحيدا في شقة في فرانكفورت مع كلبه الذي سماه روح العالم وكان أطفال المنطقة يسمونه زوجة شوبنهور!
ولم يحصل على الشهرة إلا في نهاية حياته.
ولكن السؤال ليست عن سبب تأخر شهرته حتى شارف على السبعين .. إنما لماذا استمرت شهرته بالتصاعد حتى الآن؟
هل لأنه فتح اعين علماء النفس على قوة الغريزة؟ أم لأنه شرح لنا سر العبقرية وقيمة الفن وقيمة السعادة ؟
فلسفة شوبنهور التشاؤمية
كان ” شونبهور ” ينظر للحياة على أنها شر مُطلق وتعاسة وشقاء، فليس كل تعاسة إلى سعادة، بل كل سعادة إلى تعاسة، وليس كل شقاء إلى راحة، بل كل راحة إلى شقاء، وليس كل مرض إلى شقاء، بل كل صحة إلى مرض، فرأى أن الشقاء والعناء والمرض والألم والموت الأصل والأساس، وماعدا ذلك فهو الإستنثاء.
ورأى في الحياة أنها صراع مستمر وقتال متواصل لا يهدأ، وغض النظر عن صور التعاون الفائقة في الطبيعة، ولذلك فضل الانتحار عن الحياة.
ومما زاد من تشاؤم ” شوبنهور ” المزاج الغير سوي الذي لازمه، والحقد والكراهية اللذان ملأ قلبه، وفقدانه للود، فلا زوجة ولا أولاد ولا أصدقاء، ولم يكن له سوى كلب أطلق عليه اسم ” أطمأ ” وهو اسم يُطلق على الروح الكلي عند البراهما، أما سكان الفندق والقريبون منه فقد دعوا هذا الكلب باسم ” شوبنهاور الصغير”.
فكان ” شوبنهور “يشعر بالعداء للحياة والأحياء، وأيضًا زاد من شؤمه قراءته في كتب الديانة الهندوسية والبوذية، والتي تعتبر أن المادة شر والطبيعة شر والجسد شر، ولا يصل الإنسان للخلاص، إلاَّ بالوصول إلى حالة النيرفانا، وأيضًا زاد من تشاؤمه فشله في الدراسة الأكاديمية، وفي الاحتفاظ بمنصبه في التدريس بالجامعة وفي عزوف الناس عن كتبه.
وزاد من تشاؤمه انتحار أبيه وانشغال أمه عنه وإصابة جدته بلوثة عقلية، وأستاذه الذي كان يجله الفيلسوف ” جوته ” يصرف أوقاته مع أمه، وأيضًا عاش ” شوبنهور ” في فترة دمرت الحروب كل ما هو جميل في أوربا، وشردت آلاف الأسر، ونشرت الفقر والبؤس والشقاء، وهذا ما رآه شوبنهور في الحياة أنها تعاسة وشقاء وعناء وألم ومرض وموت.
وهكذا كان ” شوبنهور ” يعيش في قلق زائد وتوجس لا يأمن لأحد، فيغلق الأبواب بعناية شديدة، ولا ينام إلاَّ وسلاحه بجواره محشو بالرصاص، ولم يُسلم رقبته لموسى الحلاق طوال حياته، لئلا يتآمر مع الآخرين ويذبحه، فقد كان يسئ الظن بجميع الناس، ويرى نفسه هدفًا لتآمر الناس واللصوص.
ويقول عنه ” دكتور عبد الرحمن بدوي“: “ويقولون لنا أنه كان طوال حياته فريسة لكثير من المخاوف الشاذة التي تصل إلى حد الفزع المرضي، وفي سنة السادسة في أثناء تريّضه توقف مرة وشعر بالوحدة المخيفة وتخيل أن أبويه يريدان الخلاص منه.
وحينما كان طالبًا في جامعة برلين كان يتصوَّر أنه مصاب بالتدُّرن، ولا يكاد يسمع دنو الحرب من برلين حتى يولي هاربًا مذعورًا، وظل دائمًا يَحذر الناس، ويعتقد أنهم جميعًا أعداء واقفون لإيذائه بالمرصاد” (3).
هناك عالمان وليس عالم واحد
يقسم شوبنهاور العالم إلى قسمين: عالم التمثل وعالم الإرادة. ويقصد بالتمثل ذلك العالم السطحي والواضح، المليء بالمعنى والمعقولية. لكن الحفر تحت السطح المنظم لعالم التمثل، سيشق لنا عن حقل من القوى والغرائز العمياء، وهي دوافع بمثابة سراديب لا واعية، تظهر في الطبيعة الخام كقوة الجاذبية مثلا.
وتظهر كقوة حيوية لدى النباتات والحيوانات، وتظهر عند الإنسان في إرادة بقائه.
فنحن لا نريد شيئا لأننا وجدنا له أسبابا، بل نحن نجد أسبابا له لأننا نريده.
فالعقل مجرد مخطط ومبرمج وباحث عن الاستراتيجيات لبلوغ الرغبة. فهو خادم طيع في يد إرادة البقاء.
لكن كيف يمكن فهم أن الإرادة أي الرغبة الخفية المحركة هي سبب التعاسة؟ إننا نحن البشر نعطي المعنى لحياتنا ببذل الجهد في تلبية الرغبات، والرغبة هي شعور بالنقص تجاه شيء معين. وهذا النقص يحدث لنا توترا وقلقا، بل ألما يحركنا نحو الإشباع وسد الفراغ. لكن بمجرد تلبية الرغبة نسقط في الملل والضجر. وبهذا يكون المرء متأرجحا على الدوام بين الألم والضجر، وهو ما يسقطنا في اللامعنى.
إن قدر الرغبة هو أن لا تنطفئ، لأنها غير متعينة وهلامية كتيار دافق لا محدود وتحركنا دون وعي منا. وإشباعها يولد رغبة أخرى، وهكذا دون قرار. فالأمر مثل دون جوان (Don Juan) الذي يبحث دوما عن الفتيات، وبمجرد استهلاك واحدة منهن يتخلى عنها مباشرة.
إن الإنسان حينما ينساق وراء حركية الاستهلاك وتحقيق الرغبات، يصبح غير محب لما عنده وما بحوزته، فيتوق إلى ما لا يملك. فضلا عن أننا وللحصول على ما نشتهي نبذل جهدا ونهدر طاقة في التخطيط ورسم الحيل، ما يجعلنا في قلق دائم، بل في تنافس مع الآخرين، الأمر الذي يزيد من ألم الفراق مثلا، وأحيانا الفشل والمهانة وخطر الموت. كل هذا يجعلنا نفهم لماذا يؤكد شوبنهاور على أن الأصل في الحياة هو المعاناة.
إن هذه القبضة المستبدة للإرادة والباعثة على اليأس، والتي تجر الإنسان نحو دوامة الألم والملل، دفعت شوبنهاور إلى البحث عن مخرج، وعن سبيل للإفلات من سطوتها، أو ما يسميه بفن السعادة. فاقترح ثلاث طرق وهي:
أولا: السلوى عن طريق الفن، باعتباره لحظة خالصة نزيهة تفصل الذات عن جبروت الإرادة.
ثانيا: الخلاص عن طريق التحلي بأخلاق الرأفة تجاه كل أشكال الحياة، بما فيها النباتات والحيوانات. وبالفعل، أورث شوبنهاور ثروته لكلبه.
ثالثا: التحرر من عبودية الإرادة عن طريق الزهد، ووأد الرغبات والاتجاه نحو السكينة «النيرفانا». وهذا الحل الأخير، يعتبره مترجم كتابه، سعيد توفيق، حلا هروبيا، وفيه استسلام وانسحاب من الحياة.
إجمالا، نتعلم من فلسفة شوبنهاور أن الحياة ليست هانئة دوما، فمهما ابتسمت لنا فيجب أن نكون على استعداد لقبول الشقاء الذي تحضره لنا.
كما تعلمنا أيضا أن نقرأ الناس انطلاقا من دوافعهم، وإذا أردنا إقناعهم فلنخاطب فيهم رغباتهم قبل عقولهم.
وقامت فلسفة شوبنهور على:
- الوجود يقتصر على المادة، والمادة فقط، فكل ما هو في العالم المادة لا غير.
- الطبيعة هي التي تحافظ على استمرار الحياة، والوسيلة لحفظ النوع الإنساني العاقل بالإضافة للغريزة الجنسية، فقد رأى ” شوبنهور ” أن الجنس هو الركيزة الأولى عند الإنسان والحيوان، فتدور حوله حياة الفرد والجماعة والحياة كلها، وأنه مفتاح السلوك الأساسي، وعلى أساسه يمكن تفسير كل السلوك الإنساني من الألف للياء.
- رأى ” شبنهور ” أن الطبيعة تحافظ على استمرار الحياة بغض النظر عن الأشخاص الذين تطحنهم الآلام ويعذبهم الشقاء ويغرقون في بحور من المآسي والشرور، والموت هو العدو الأول للطبيعة، لأنه يحاول أن يقضي على الحياة والأحياء.
- الحياة في حقيقتها ما هي إلاَّ شرور وأحزان ومشقات ومآسي، فلا مكان للخير، ولا معنى للسعادة، وأقصى ما يوجد من خير في الوجود هو أن تقل الشرور بعض الشيء ، أو تخف الآلام شيئًا ما، فالتعاسة هي جوهر الحياة وحقيقة الوجود، والسعادة ليس إلاَّ التفسير السلبي، أي أنها تعني اختفاء الآلام والشقاء، والتعاسة بعض الشيء .
- لأن الحياة كلها شرور وشقاء وعناء لذلك ينبذ ” شوبنهور ” الحياة ويدعو للانتحار، مستهينًا بالموت، فالموت في نظره لا يسبب أي ألم للإنسان، ولكن ما يؤلم الإنسان هو فكرة الموت أكثر من الموت نفسه، لأن الإنسان لا يلتقي بالموت، وبالتالي فأنه لن يتألم منه، فطالما الإنسان يعيش حيًّا فهو لم يلتقي بالموت بعد، وبمجرد أن يقبل الموت على الإنسان يذهب الإنسان ويستريح من شقاء الحياة وآلامها.
كيف ناقض شوبنهاور نفسه بنفسه؟
إتسمت حياة شوبنهور بالتناقض مع آراءه وأفكاره، ومن أمثلة ذلك:
- مع أن ” شبونهور ” كان يحبذ الانتحار، وبالرغم من أنه عاش وحيدًا تنتابه الوساوس والمخاوف، وكان أحق إنسان بالانتحار، لكنه لم ينتحر، بل أنه كان يتمنى العمر الطويل.
- رغم أن ” شوبنهور ” نادى بالتشاؤم، لكنه لم يحيا حياة التشاؤم، ولم يقم بتمثيل البطل ولا أحد الأفراد البارزين في التشاؤم، فقالوا عنه أن ابن الجمعة (لأنه وُلد يوم جمعة) لم يعش ابن الجمعة حقًا (أي الجمعة الحزينة) وإنما عاش ابن الأحد (إشارة للحياة الناعمة والراحة).
- كان ينظر للقداسة باحترام ويبجل القديس لأنه استطاع أن يكبح لجام شهواته، ومع ذلك اعترف بأن لم يعش لا قديسًا ولا شبه قديس، ولم يمنع نفسه من الملاذ والشهوات والمغامرات الغرامية، فتارة تراه مع الممثلة المشهورة ” كارولين ياجمن ” في ألمانيا، وتارة مع فتاة تُدعى ” تريزا ” في إيطاليا، حتى أنه فكر في الزواج منها رغم أنه كان ينظر للزواج على أنه نقمة على العبقرية، وعندما كان شيخًا في السبعين من عمره جاءت فتاة تُدعى ” اليزابث نيه ” لتعمل له تمثالًا نصفيًا، فأبدى إعجابه بها، وقال: “لم أكن أتصوَّر وجود فتاة خليقة بالحب كهذه الفتاة” (4). وتناسى ما قاله من قبل عن المرأة بأنها ” إنسان ناقص أشبه ما يكون بالطفل، أو هي وسط بين الطفل والرجل” (5).
- مع أنه كان يعتقد أن الألم يساعد الإنسان على إنكار ذاته، إلاَّ أنه أمضى حياة ناعمة متنقلًا بين ربوع إيطاليا وهو يقول “هذا البلد الجميل الذي فيه يشع الغناء ” ورغم أنه كان يعتقد بأهمية الزهد والنسك إلاَّ أنه كان حريصًا على حضور الحفلات الموسيقية والمسرحية، وأيضًا كان حريصًا على أمواله، فعندما أستثمر أمواله في ” دانزج “.
وكذلك فعلت أخته وأمه لدى تاجر يُدعى ” ابراهام لودفيج مول ” وأفلس هذا التاجر قبلت أخته وأمه باسترداد ثلث الودائع.
أما هو فقد أصر على استرداد كل ما دفعه، وضغط على التاجر وهدَّده برفع الأمر للقضاء، حتى أستوفى كل ما أودعه بالإضافة للفوائد خلال عشرة أشهر، وقد قال له ” بوسع المرء أن يكون فيلسوفًا، دون أن يكون بسبب ذلك مغفلًا ” وكتب إلى ” يوهان أدوار ايرومان ” يقول “لقد كنت رجلًا موفقًا وذا حظ عظيم، أعلمُ كيف أؤمّن مصدر عيشي على الدوام، ولا أضطر للعمل من أجل النقود أو البحث عن وظيفة”.
قال عنه ” الدكتور رمسيس عوض”: “ومن الخطل أن نظن أن شوبنهوَر كان يضع تعاليمه موضع التنفيذ، فمن المعروف عنه أنه كان يستمتع بالطعام الهنيء والشراب الطيب ويلبي شهوات الجنس من آن لآخر” (6).
ومع كل هذا فقد قال البعض أنه لا يجب إدانة شوبنهور على هذه التناقض، وقال ” فاوست”: “أن في صدري تسكن، ويا للأسف! نفسان، كل منهما تريد أن تنزع نفسها من الأخرى، فأحداها تُنشب مخالبها في العالم بشهوة جامحة قاسية، والأخرى ترتفع من التراب بقوة إلى ساحة الأسلاف العالين” (7).
أشهر أقوال شوبنهور
أ – الضوضاء:
كان ” شوبنهور ” يتضايق جدًا من الضوضاء ويعتبرها معيار التخلف، وعندما ضاق ذرعًا من جارته التي تعمل بحياكة الملابس دفعها على درج السلم، فأُصيبت بعجز، ورفعت الأمر للقضاء، فحكم عليه بدفع جزء من تكاليف الحياة لها، فظل يدفع لها حتى موتها.
وقال عن الضوضاء أنها الأكثر وقاحة في كل أشكال الإزعاج، وهي ليست إزعاج، لكنها أيضًا إرباك الفكر.
ب- الشهوة:
قال ” شوبنهور ” في شبابه ” أيتها الشهوة، أيها الجحيم! أيها الإحساس، أيها الحب الذي لا يُشبع ولا يقوى على قهره شيء” (8)
وظل شيطان الشهوة يطارده كالجلاد في شبابه ورجولته، فكان يصبو للشيخوخة قائلًا ” ففيها يبلغ المرء حالة الهدوء الصافي التي يعانيها من فُكت عنه القيود بعد أن ظلَّ مكبَّلًا بها طويلًا، فصار الآن يتحرك حرًا مُطلقًا من كل قيد” (9).
ج- السعادة:
قال ” شوبنهور”: “كل شيء في الحياة الدنيا يدل على أن السعادة على وجه البسيطة محكوم عليها بأن تكون معكَّرة إن لم تُدمَر تمامًا.. كل الحياة خدعة، وهي لا تهبنا سوى الأوهام جملة وتفصيلًا”(12).
د – الحياة والموت:
قال ” شوبنهور”: “هذه الحياة محزنة جدًا، ولهذا فقد قرَّرتُ أن أقضيها بالتأمل فيها ” كما قال ” يالها من هوة بين بداية الحياة ونهايتها. تبدأ الحياة في الدفء وفي الإغتباط المبهج. ثم تنتهي بتدمير الأعضاء وسط رائحة تعفن الجثث ” وأيضًا قال ” نحن نعزي أنفسنا بالموت لمواجهة مصائب الحياة، وبمصائب الحياة لمواجهة الموت. ياله من وضع رائع”(13).
ظل ” شوبنهور ” مغمورًا معظم حياته، ولكن في سنة 1854م بدأت فلسفته التشاؤمية تلقى اهتماما، وصار معروفًا في إنجلترا وروسيا والولايات المتحدة، وأصبح له بعض الأتباع الذين يقدّسون أفكاره، فشعر ببعض الرضى، وفي 21 سبتمبر سنة 1860م بينما كان جالسًا في الفندق يتناول إفطاره.
وبعد ساعة من جلوسه لاحظت صاحبة الفندق أنه أطال الجلسة، فاقتربت منه، وإذ بالحياة قد فارقته، ومن أكثر من تأثر بفلسفة شوبنهور الفيلسوف الألماني “نيتشه”، والذي كان له تأثير كبير جدًا بدوره على الآخرين ولاسيما ” هتلر”، وهكذا تتوالى فلسفة الإلحاد ورفض وجود الله، وهكذا تسير الحياة بدون الله من سيء إلى أسوأ.